الصليب مرقاة إلى الألوهة تاريخ أوجاع الصليب في الشرق
الأب ميشال حايك
إن جراحات المسيح، لم تبرح، منذ الجمعة العظيمة تنزف دماً من جسد المسيحيين المشرقيين، مسيرة هؤلاء، هي مسيرة درب صليب طويلة، تختصرها كلمة سريانية وردت مشوهة على لسان أحد الشعراء العباسيين هي سيرة ” حاشوش وماشوش”، أي أسبوع آلام.
لقد تمرّسوا بآلام التاريخ المسيحي، في كل زاوية من أربعة أقطار هذا المشرق، حيثما فتئوا، منذ قرون وقرون يسمَّرون ويصلبون، جسداً فكراً وروحاً:
من جبال طوروس إلى اليمن السعيدة طولاً،
ومن بحيرة إرميا وخليج فارس إلى البحر المتوسط عرضاً،
بسطوا أياديهم، فكانت هذه المساحات،
قياسات الصليب المشرقي، حيث علِّقوا، فاستمرت بهم مأساة الجمعة العظيمة الأولى من جيل لجيل: بينما تتغير الأطر، ويختلف الصالبون ويلبسون وجوهاً جديدة.
الحكم: وسواء، أكان الحكم رومانياً أو فارسياً أو إسلامياً، لم يهنأ للمسيحيين بالٌ في الزمن، بل ظلّوا يختبرون مرارة الاستبداد والطغيان.
وكالمسيح. الذي لم يطلب من العالم مُلكاً زمنياً، كالمسيح الذي لم يُصب من المجد الظاهر، إلا فترة عابرة في أحد الشعانين، رافضاً كل ممالك الأرض المهداة له في ساعة تجربة، هم، هؤلاء المسيحيون، بإرادة واعية، أو بضرورة باطنية محتومة، مارسوا تعرّي المسيح وزهرة، فلم يكن لهم ما أُعطي المسيحيون الآخرون في روما وبيزنطية، أي أنهم لم يغنموا من العالم سلطاناً، إلا في خطرات سريعة من الدهر، ولم يُنشئوا فيه امبراطوريات مظفرة، ولم يتوسعوا في مدىً جغرافي، بل إنهم كانوا، لأجل التعمق لا التوسع في المدى الروحي،
وهم أيضاً، بالمقارنة مع إخوانهم المسيحيين، لم يستهوهم مُلك الدنيا. بل التمالك عن الدنيا ولم تغررهم روائع العمران، على رغم مهارتهم في ما انجزوا، بل تخطفنّهم العزلة، في مغاور الأودية وفي صوامع الرهبان، بين كتب صلاةٍ عليها حتى اليوم اصفرارِ الشمع والدمع،
إن ما سَلِم من أثارهم، إذا قوبل بما خلقته روما وبيزنطية، يظهر روحانية من أنشؤها بالحشمة والاتضاع، انشأوها، لا لتكون قصوراً، لمسيح المجد الضابط الكل، ولا لظله على الأرض خليفته الرومي في روما، أو خليفته الزمني في القسطنطينية، بل لتكون، تلك الآثار، بيوت عبادة لشعب رهباني، وهي بيوت، بل معابد تُعد بالمئات، بين جنوب الجزيرة العربية، وجبال آسيا الصغري، حيث تتعاقب اليوم مشاهد الخراب وأوجعها، تلك المدن التي كانت زاهية مزدهرة، بين حلب وانطاكية، وقد سُمِّيت بالمدن الميتة، وقد بقي فيها كل شيء على حاله حتى الساعة، كأنما فارقها أهلها الليلة البارحة، إثر زلزال مفاجئ.
هذه المواريث، نتأملها، فلا نخجل من أن نسمّيها مسيحية. لا تنتسب إلى المسيح الذي ظهر في العالم، ما تنبأ عنه أشعيا، ظهر مضروباًُ، مجرّحاً، متمرّساً بالأوجاع، حاملاً الآلام، ليشفي الكثيرين بجراحه.
وقد امتد هذا التشويه والتجريح، من جسده إلى جسد تابعيه إلى الأشياء والأمكنة المشرقية، التي حملت إسم المسيح، كإنما كان لا بد أن تستمر في هذه المساحة المشرقية من الدنيا، وفي هذه الجماعة المسيحية من الناس، أن تستمر عمليّة الصلب، كضمانة للفداء الروحي للشرق وللعالم.
فالمسيحيّون هنا، حين كان لا يقسُ عليهم الآخرون، تعذيباً وصلباً، أو حيث كان يبطل الحكم الروماني المتنصِّر، الاضطهاد الدموي عليهم، كانوا هم يطلبون الاستشهاد الروحي في الترهّب، فيقسون على نفوسهم وأجسادهم، زهداً وجلداً وكفراً بالذات، فيساهرون المسيح في البستان، مشاركينه غصَّة النزاع، باكين مثله على خطيئة العالم حتى كاد الدمع يحفر مجاري في وجوه عبّادهم، كما قالت الصلوات القربانيّة، أو كما قال التقليد الماروني حتى كان يتجمّع الماء، نهراً في وادي قاديشا من دموع التائبين بينهم.
كالمسيح، الذي رهن حياته للعالم في تجسّده، ليفتدي العالم، كما رهن نفسه لقوى العتمة ولسلطان الموت، ليخلّص الإنسان من الموت. ويصرع الموت في نزوله إلى القبر والجحيم، مبيت الموت، كان هؤلاء المسيحيّون رهائن للأمم ولأحكامها الدنيويّة المتقلّبة؛
– كانوا رهائن للفرس وللرومان وللبيزنطيين وللعرب، وللأتراك وللفرنجة، ولقد تعمّقت فيهم روحانية الأنفس الرهينة، حتى غصت كتب الصلاة بالحنين إلى الانعتاق. بالتوق إلى الخلاص، بالترقب لتجلّي النور، فالمسيح عندهم مقرون اسمه في صلواتهم السريانية، بفعل حارار، المسيح عندهم هو المحرر، ومنه، اكتسبوا النزعة إلى الحريّة. الخلاص المنتظر عندهم له شكل حريّة. هو التحرر الباطني أولاً، والخارجي أيضاً، من قيود أرواح الشر الخفية، ومن سلاطين العالم المنظور. هم، مطالبوا التاريخ بالحريّة، ولذا فقد كانوا وما يزالون، كما تكون الرهائن، أشدّ الناس مطلباً للحرية، للحرية لهم وللآخرين، للنفس وللعالم، لأنهم عالمون إن لا فكاك لهم من سجن العالم ومن سجن الشرق إلا بافتكاك السجّان نفسه، أي بافتكاك الشرق نفسه من عبودياته.
وكالمسيح أيضاً، كم مرة ماتوا، وأي نوعٍ من الميتات لم يتمرسوا به؟! حتى ليصح فيه قول الكتاب في شهود الإيمان:
– منهم من عذّبوا ولم يقبلوا الفرار، وغايتهم أن يحرزوا قيامة أفضل.
– آخرون ذاقوا القيود والسجون، منهم من رجموا، منهم من نشروا.
– منهم من ماتوا بحد السيف، وتشرّدوا لابسين جلود الماعز والغنم، معوزين مضايقين مجهودين تائهين في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض. كذا قالت الرسالة إلى العبرانيين.
لكل شعبٍ في تاريخه، معابرُ عصيبة يختبر فيها القهر والهول والموت، ولكن التاريخ، لم يحفظ ذكرى لشعبٍ أصابه، ما أصابه المسيحيين من ضروب المحن، على طول هذا المدى من الزمن، فلم يكن لهم، كما كان لغيرهم من الشعوب، عصرٌ يمكن أن يسمى بعصر الازدهار، بل كان يطلع عليهم، مع كل جيل جديد، جلاد تلو الآخر يحرمهم الطمأنينة، إذا أعطيت لهم في غفلة من الدهر. وهؤلاء الجلادون يعرفونهم بأسمائهم، ويتحاشون ذكرهم، ويكادوا يتناسون الجراح، التي أنزلوها بهم، لو لم ينكأها في كل مرّةٍ، سفاحٌ جديد، بوسائل ترويع وتعذيب جديدة.
ولم يكن يبكي أحد، إلا فيما ندر، على ضحاياهم.
1- أكانت الضحية لغتهم الأولى اليونانية، أم لغتهم الثانية السريانية.
2- أم كانت الضحية أسفار الكتاب ومعابد القرية، وصوامع الرهبان.
3- أم كانت الضحيّة، الطفلة البريئة، والراهب العجوز فكم أحرق من كتب، وأبيد من آثار فكرٍ وروح لا تزال معروفة عناوينها.
وكم سُفِكت من دماء، وزهقت من نفوس لم يبكِ أحد من أهلها عليها، ولم يذكروا بها إلا فيما ندر، حتى ظُنَّ، أنهم كانوا يعيشون بنعم الخلفاء، وبسماحة السلاطين وعمالهم وولاتهم، وزمر الطغاة الذين بإسم الله تعالى، ظلموا المسيحيين وغير المسيحيين، وسفحوا، وذبحوا،
فكان منهم المتوكل والمعتمد عليه تعالى، والمهدي والمعتصم والمعتز والواثق به عز وجلّ والمطيع والطائع والظاهر له سبحانه تعالى، هؤلاء ، أباحوا لنفسهم بإسم ما نسبوا إلى الخالق من شرائع وأعراق،
وهؤلاء كانوا على المسيحيين أو على غيرهم، جدّ متسامحين، حين لم يمثلوا ولم يشنعوا، كما فعل العديدون منهم، دون تحرُّح ولا ندامة. ولكن، لا سبيل إلى سرد السيرة، بدقائق فصولها، مع أسماء الضحايا، وأنواع التضحيات من قطع، وبترٍ، وجدعٍ، وفصمٍ وقصمٍ، وحرقٍ وصلبٍ إلى ما هنالك الأساليب الرهيبة التي يبتكرها الإنسان بوحي الشيطان ليعذّب أخاه في الإنسان.
لا سبيل إلى سرد هذه السيرة الرهيبة، لأن الصفح عندنا من هذه الساعة إلى كل أمسٍ، مهما كان في الأمس من قيامات أو فظائع أو شناعات.
إذا كنا نُحي تذكارات موتانا، في خفوت الصلاة بلهجة سريانيَّة…
قصتنا هي مع المسيح أولاً.
إننا لا نريد تعويضاً من أحدٍ عن الأمس. لا نزعم بسبب شريعة إيماننا. إننا نحن نحن، المكلّفون أولاً، بدفع الضريبة عن الجميع، لتسلم مواعيد القيامات للجميع دون استثناء.
نصيبنا، أن نتحمل في سبيل القيامة، ما فرض علينا انتماؤنا المسيحي من غرامة صارمة. ولذا كنا، ولا نزال ندفع لهذا عن هذا، كلما طالب التاريخ شعباً ما، بضريبة ما، عن خطأ ما، ارتكبه الآخرون.
– كذا، كان يدفع الأشوريون والسريان والروم في سوريا، ضريبة لملوك الفرس، أو لخلفاء المسلمين، عن بيزنطية، كل مرة استطاعت بيزنطية، أن تصدَّ أو تدحر أعداءها الساسانين أو الأمويين أو العباسيين:
فعن كل فشلٍ عسكري تصاب به مدائن كسرى أو دمشق بني أميّة، أو بغداد بني العبّاس، تعويضٌ من دم الرهائن.
– كذا أيضاً، كان الموارنة والأرمن، يدفعون جزية لسلاطين المماليك وبني عثمان، عن غَيرة الغرب المشبوهة، كل مرةٍ فرض الغربيون على الباب العالي، الانصياع لأوامرهم أو لمصالحهم. وهكذا، كان الغالب يُسخِّر اسمنا، لتنفيذ أغراضه ومآربه.
وكان المغلوب يستعيض عن اخفاقه، بإزلالنا وضرب أعناق الرهائن.
وقد يوقع الغالب والمغلوب صلحاً، فيحتاجان معاً إلى كبش فداء، فيشار إلينا، لنتطوّع ولنتبرّع عنوة أو رضىً بالدماء لمهد العقد.
هذاهو، قدرنا المميز، المتصل في منطق الإيمان، بسيرة المسيح المشرقي، مخلّص العالم.
نادي الشرق، وفادي الكون.
فلا يمكن إذن، في منطق الإيمان، أن ندّعى على أحد، وإلا لوجب أن نفتح دعوى اتهام على الشعوب كلها. من الشرق والغرب، لكثرة ما تعدد الغزاة والصالبون، ولشدة ما أصابنا، من الرزايا، على يد الفرس والرومان، والإغريق والعرب والسلاجقة، والمغول والتتر، والفرنجة… وعلى يد كل طامع، بالأمس واليوم، بما في الشرق من عطور وحرير، ونفط وزفت وزيت. هؤلاء كلهم مرَّت جحافلهم في زروعنا، فأتلفت الحصاد، وداست سنابك خيولهم زروعنا كرومنا فهشّمت الدوالي، ولم يسلم، إلا في بعض المواقع النائية، في أعالي الجبال أو منحنيات الأودية، بقايا خبز وخمر لإقامة القربان.
أي يدٍ لم تتضرج بدماء هذه المسيحية المشرقية منذ بيلاطس الروماني، حتى عبد الحميد العثماني وإلى الساعة، نحن ضحايا العنف، وفرائص المطامع؛ فإذا اختلف الموجيك الروسي والبنكي الأميركي تطلب منا نحن الفاتورة. وإننا لدافعوها. فداءً عن هذا وعن ذاك.
فلا يحق لنا، أن نتظلَّم ونتشكّى، لأننا لم نكن معصومين عن كل عيب، أبرياء من كل زيف، ومن ذنب فكم أثرنا نحن البلايا بسبب ذنوبنا وعيوبنا.
أما الجلادّون والظالمون، فلم يكونوا سوى أدوات بيد من كلّفهم مهمة تذكيرنا، بمقتضيات دعوتنا الصارمة، في زمن تقاعسنا. كما كلّفهم، في زمن أمانتنا، بأخذ ضريبة الفداء منا عن الآخرين حسبما قدِّر لنا في حوض الغطاس المعمودي. فلو تظلّمنا منهم، لظلمناهم. إذا لو كانت من دعوى تقام على أحد، فعلى المسيح تقام.
والمسيح يقيم الدعوى على أبيه، على الله.
لأنه اختارنا، لمثل ما اصطفى لنفسه،
فبعد أن تشبه بنا، رجلاً منا في أرضنا،
شابهنا بنفسه، فما ظلمنا إذاً. بل شرفنا بأنه ختم على جباهنا، بعلامة الصليب، لنعكس للناس، ملامحه البشرية المبرّحة لما كان بيننا لابساً جسده النحيل، حاملاً صليبه الثقيل، صليب العالم، لافتداء العالم.
ولكن، إشارة الصليب هذه، علامة الهوان، هي أيضاً، شعار المجد والقيامة.
وبالنهاية، نحن لم نصنع للألم، بل للفرح،
لم نخلق للعار بل للمجد،
إنما على المجد ضريبة، وعلى الفرح جزية.
والصليب هو الضريبة، هو الجزية،
الصليب هومرقاة إلى السماء.
مرقاة إلى يمين الآب
مرقاة إلى الألوهة.