العباس باب الحسين وأخوه
قراءة أنتروبولوجية وصوفية في سيرته وكراماته
نستهل بحثنا هذا بسؤال طالما حيّر الكثيرين، وتوقفوا عنده:
كيف يمكن مقارنة المقدس وطرق بابه بأدوات البحث العلمي والحيادي؟
أليس هذا بحد ذاته انتهاكاً لحرمته… إن لم يكن تدنيساً لها؟!
ينظر المؤمن بعين التقوى والخشوى… وينظر الباحث والدارس بعين أخرى تطرح التساؤلات وينتابها الشك أحياناً.
الظاهرة التقوية لها مقارباتها في الأنتروبولوجيا وعلوم النفس والاجتماع الديني… ولكن هذه المقاربات على أهميتها تبقى مجتزأة ومبتورة إذا تعاملت مع الظاهرة الدينية والتقوية ببرودة عالِم الفيزياء… إنها مسألة دراسة الدين من الداخل التي طالما تحدّثنا في كتاباتنا عنها.
وما كنا لنطرق الموضوع التالي لو لم نعش أياماً من العمر في كربلاء ونشهد هذه الظاهرة التقوية اللافتة حول مقامي الحسين والعبّاس، ع، بل ونشارك فيها.
شهادة الحسين.. قلنا ونعيد عالمية الأبعاد وتتخطّى المذاهب وحتى الأديان.. والعباس هذا القمر المتألق في سماء المشرق تقصد مقامه الجماهير من أرجاء المعمورة كافة وتطلب شفاعته. إنه ظاهره في علوم الأديان وتاريخها جديرة بأن تدرس وتبحث وتقارن بغيرها من تقاليد وروحانيات أخرى. وما بحثنا التالي سوى مساهمة متواضعة في هذا المشروع.
وسنبدأ أولاً بعرض أبرز ما استوقفنا في سيرة حامل لواء الحسين وأقواله. لنعود ونقارن ما روي عنه بسيَر شخصيات وأولياء من ثقافات أخرى و “أبي قربة” بعد موته العباس وكنيته “أبو الفضل” وكنّي بِزأبي قربة بعد وفاته هو ابن الإمام عليّ بن أبي طالب وأخ غير شقيق للحسن والحسين وزينب وأم كلثوم أحفاد رسول الإسلام وأبناء فاطمة الزهراء. ولد عام 26 ﮬ. أمّه فاطمة بنت خزام بن خالد وتعرف بأم البنين. وهو أكبر أبنائها الأربعة. وأشقاؤه هم جعفر وعثمان وعبدالله. وقد قتلوا جميعاً مع أخيهم الحسين في كربلاء، وكان للعباس أربعة وثلاثون عاماً.
أبرز ألقاب العباس
وللعباس ألقاب عديدة تدلّ على ما خُصّ به من إجلال وتقديس في حياته وبعد مماته. وقد أحصى له مصنّف “تنقيح المقال” ستة عشر لقباً( ) أبرزها:
1 – قمر بني هاشم: كان آية من آيات الجمال فعرف بقمر بني هاشم.
2 – السقّاء: وهو من أشهر ألقابه. ويعود إلى قيامه بسقاية عطاشى أهل البيت في كربلاء بعد أن حوصروا ومنع عنهم الماء رغم قربهم من الفرات. فقام العباس باقتحام هذا النهر مراراً وسقى مرافقي الحسين وأهله.
3 – بطل العلقمي: وهو النهر الذي استشهد على ضفافه أبو الفضل. بعد أن راده مراراً ليروي غليل مرافقي الحسين.
4 – حامل اللواء: يروي أبو الفرج الأصفهاني (284 – 356ﮬ) وغيره من المؤرّخين أن الإمام الحسين خصّ أخيه العباس بلوائه( ) ويعتبر منح اللواء في ذلك العصر من أهم المناصب الحسّاسة في الجيش. وكان أبوه غالباً ما يحمل لواء الرسول، صلعم، وكان اللواء الذي حمله أبو الفضل يرفرف على رأس الحسين مذ خرج من يثرب حتى انتهى إلى كربلاء. وقد قبضه بيد من حديد، فلم يسقط منه حتى قطعت يداه، ثم صرع على ضفاف نهر العلقمي( ).
5 – كبش الكتيبة: من ألقاب القائد الأعلى للجيش الذي يحمي كتائب جيشه ويفديها ويحسن تدبيرها. منح العباس هذا اللقب لما أبداه يوم الطفّ من شجاعة وبسالة في الدفاع عن الحسين ومعسكره.
6 – باب الحوائج: وهو من أكثر ألقابه شيوعاً بين الناس. إذ آمنوا أنه ما قصده ذو حاجة بنيّة خالصة إلاّ قضى الله حاجته، وما جاءه مكروب إلاّ فشّ الله كربه.
ومن ألقابه الأخرى: باب الحسين، ساقي عطاشى كربلاء، قمر العشيرة، العبد الصالح، العابد، الطيّار، الفادي، المواسي، الحامي والمحامي قائد الجيش، المستجار، الواقي، الساعي وغيرها( ).
ولا بدّ من وقفة قصيرة عند تعدّد ألقاب أبي الفضل. فكثرة الألقاب هي لوحدها مؤشر بارز على علوّ مقامه في الولاية ورسوخ تقاليد الاستشفاع به. وتعداد الألقاب ممارسة تقوية أساسية في مختلف التقاليد الروحية والدينية. في الهندوسية مثلاً للإله ألوف الألقاب يردّدها متعبّدوه مستخدمين سبحة تعينهم على حفظ هذه الألقاب وتعدادها، ومنها أخذت على الأرجح السبحة المستخدمة في الإسلام لتعداد أسماء الله الحسنى. وفي المسيحية “الطلبة” Litanie وهي مجموعة ألقاب المسيح أو السيدة العذراء أو أيّ من الرسل والقدّيسين يتلوها المصلّون والمستشفعون. فللعذراء مريم مثلاً مئات الألقاب تجمع وتتلى في طلبة خاصة بها.
أبو الفضل في أبرز فضائله ومحاور سيرته
وطبيعي أن تختلط الحكايات والأساطير بأخبار العباس وسيرته، فهو دائماً شأن الأدب التقوي أو الهاجيوغرافيا Hagiographie، فاللاحق من الكتّاب يزيد على السابق مضيفاً الغريب والعجيب من الأخبار، يبقى أن أهمية الكثير من الروايات تكمن في دلالاتها ورمزيتها أكثر من تاريخيتها.
ولما كنا في هذا البحث نتناول شخصية أبي الفضل من جانب أنتروبولوجي وديني-روحي، فلن نتوقف كثيراً عند نقد الروايات وتفنيدها والبحث في أسنادها ومصادرها، فلسنا نسعى في هذه العجالة إلى كتابة تاريخ موثق لبطل العلقمي، بل إلى دراسة هذه الظاهرة اللافتة في تاريخ الأديان والآداب التقوية في مقاربة مقارنة.
ونبدأ بذكر شهادتين لاثنين من الأئمة الإثني عشر المعصومين عند الإمامية في قمر بني هاشم.
يقول الإمام الرابع زين العابدين علي بن الحسين السجّاد( ت 94ﻫ) وكان شاهداً لمآثر عمّه في كربلاء والناجي الوحيد من الذكور في هذه الملحمة:«رحم الها عمّي العباس فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه، فأبدله الله بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل لجعفر بن أبي . وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبّطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة»( ).
ترسم شهادة زين العابدين أبرز ملامح الشخصية العبّاسية التي ستنمو وتتطوّر في الأدب التقوي والممارسات العبادية اللاحقة: إنه الفادي مَن افتدى أخاه بيديه قبل وفاته ومن ثم بروحه.
أما قطع يديّ أبي الفضل الذي يشير إليه السجّاد في شهادته فيرتبط في أخبار السيَر بمهمّته في سقاية عطاشى كربلاء. تروي السيَر أنه لمّا رأى العباس وحدة الحسين بعد قتل أصحابه وجملة من أهل بيته قال لإخوته من أمّه: تقدّموا لأحتسبكم عند الله، فتقدّموا حتى قتلوا. فجاء إلى الحسين واستأذنه في القتال. فقال له سيّد الشهداء أنت حامل لوائي فقال: لقد ضاق صدري وسئمت الحياة. فقال له الحسين: إن عَزمت فاستسق لنا ماءً. فأخذ قربته وحمل على القوم حتى ملأ القربة واغترف من الماء غرفة. ثم ذكر عطش الحسين، ع، فرمى بها. وعاد في طريقه، فضربه حكيم بن طفيل السنسبي على يمينه فبراها (قطعها). فأخذ اللواء بشماله. فضربه زيد بن ورقاء الجهني على شماله فبراها، فضمّ اللواء إلى صدره. هكذا تروي السيَر ومجالس العزاء الحسيني في عاشوراء. خبر قطع يديّ أبي الفضل في محاكاة لخبر استشهاد عمّه جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤته( ).
وتضع مجالس العزاء وكتب السيَر على لسان السقّاء أشعاراً وأراجيز عند استقائه الأخير للماء وعزوفه عن شربه،. لتذكّره عطش الحسين وعند قطع يمينه ويساره. وتروي مقتله بعد قطع يديه مباشرة كما يلي:«فحمل عليه رجل تميمي من أبناء أبان بن دارم فضربه بعمود على رأسه، فخرّ صريعاً إلى الأرض، ونادى بأعلى صوته أدركني يا أخي. فانقضّ عليه أبو عبدالله الحسين فرآه مقطوع اليمين واليسار مرضوخ الجبين مشكوك العين بسهم فوقف عليه منحنياً وجلس عند رأسه يبكي»( ) وتنسب بعض الروايات للحسين قوله:«الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي وشمت بي عدوّي»( ).
وتنسب روايات أخرى له، ع، قوله:«وا ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل»( ).
في حين تروي عن العقيلة زينب حفيدة الرسول وشاهدة كربلاء صيحتها نادبة:«وا أخاه، وا عبّاساه، وا ضيعتنا بعدك»( ).
ويؤكّد الإمام زين العابدين ونحن لما نزل بصدد التعليق على شهادته، على عمّه، أن شهادة العباس تسمو على شهادة غيره ممَّن بذل النفس، فهو في منزلة يمجّده بسببها جميع الشهداء.
والشهادة الثانية المهمّة عن العباس تنسب إلى الإمام السادس جعفر الصادق (80 – 148 ﻫ/699 – 765). يقول الإمام الصادق، ع،:«كان عمّي العباس بن علي، ع، نافذ البصيرة، صَلب الإيمان، جاهد مع أخيه الحسين، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً»( ).
يركّز الإمام الصادق على نفاذ بصيرة أبي الفضل. والبصيرة هي رجحان العقل ووضوح رؤيته وصفاء سريرته. نفاذ بصيرته جعله يلازم أخاه الحسين كظلّه لا يفارقه. وصلابة إيمانه جعلته صلباً في الجهاد راسخاً في الصمود والدفاع عن أخيه وحقه وفي دفع مظلوميته، ويؤكّد الصادق على حسن بلاء كبش الكتيبة وقدسية شهادته.
وتروي السيَر وكتب الأحاديث الإمامية أن الصادق، ع، زار كربلاء ووقف على ضريح حامل اللواء بعد وقوفه على قبر جدّه الحسين. وقال في زيارته لمقام أبي الفضل:«أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والتضحية لخلف النبي المرسل، والسبط المنتجب (…) فجزاك الهف(…) أفضل الجزاء بما صبرت واحتسبت وأعنت فنعمى عقبى الدار(…) وأشهد أنك مضيت على ما مضى به البدريّون والمجاهدون في سبيل الله، المناصحون، المبالغون في نصرة أوليائه، الذابّون عن أحبّائه، فجزاك الله أفضل الجزاء، وأوفى الجزاء، وأوفى جزاء أحد مِمَّن وفى بيعته واستجاب لدعوته وأطاع ولاة أمره(..) وأشهد أنك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود، فبعثك الله في الشهداء، وجعل روحك في أرواح السعداء (…) ورفع ذكرك في عليّين وحشرك مع النبيّين والشهداء والصالحين(…) وأشهد أنك لم تهن ولم تنكل، وأنك مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتّبعاً النبيّين، فجمع اله بيننا وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المنتجبين»( ).
يشدّد الإمام جعفر في عرضه لمناقب عمّه بطل العلقمي على وفائه (أشهد بالوفاء.. وفي بيعته) كان العباس وفيّاً للحسين حتى الشهادة. روى أبو مخنف في مقتل الحسين:«وجاء شمر بن ذي الجوشن حتى وقف على أصحاب الحسين، فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو عليّ فقالوا له: ما لك وما تريد؟ قال: أنتم با بني أختي آمنون. قال له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك، لئن كنت خالنا أتؤمّننا وابن رسول الله لا أمان له؟»( ).
وكان العبّاس آخر مَن قُتل من شهداء الطفّ قبل الحسين( ). هذه نماذج عن وفاء أبي الفضل: رفض الأمان، وآثر أن يربط مصيره بمصير أخيه الحسين، فلم يفارقه حتى قُطعت يداه واستشهد، ولزمه حتى الرمق الأخير.
وبلغت طاعة السقّاء لأخيه حدّ التسليم الكامل، فشهد له الصادق بالتسليم والتصديق.
كما شهد له بحسن النصيحة لأخيه (بالغت في النصيحة) وهذا دليل على رشده ورجاحة عقله ونفاذ بصيرته (بصرت من أمرك) وكذلك إخلاصه التامّ لأخيه. كما بيّن صبره والله مع الصابرين إذا صبروا.
رغم حداثة سنّه جمع أبو الفضل جرأة الشباب وإقدامه إلى حكمة الشيوخ وصبرهم. وهذه المناقب بمجملها متوّجة بشهادته جعلت منه وليّاً بارّاً. ويذهب الإمام الصادق إلى حدّ حشره مع النبيّين.
وما انتقينا من محطّات من سيرة السقّاء وما ذكرناه من عناوين كبرى من فضائل أبي الفضل ليس سوى مقدّمة ضرورية لنقارن هذا العابد الصالح الفادي بأولياء أخر من تقاليد أخرى.
العباس مقارنة بيوحنا المعمدان
يذكّرنا العباس في منزلته من أخيه وسبقه له بالشهادة بالنبي يحيى أو يوحنا المعمدان سابق المسيح.
أبو الفضل سابق أخيه والمعدّ طريق الشهادة له.
ويوحنا المعمدان صوت صارخ في البرّية أعدّوا طريق الآتي، (مرقس 1/3) «لي أن أنقص وله أن يزيد» (يوحنا3/30). والمعمدان يخشع أمام مجد المعلّم الآتي:«سيأتي من بعدي .. مَن لستُ أهلاً أن أحلّ سير حذائه»(مرقس 1/7). والقمر الهاشمي يقول في رؤيا لباني مشهده:«إنني أصغر من الحسين، وما أنا إلاّ تراب قدميه، فعليك أن تفرّق بين السيّد والعبد»( ).
ويقول يوحنا مقارناً ذاته بالمسيح:«مَن له العروس فهو العريس. وأما صديق العريس فيقف بجانبه يصغي فرحاً لهتاف العريس» (يوحنا 3/29)، يوحنا صديق وقف إلى جانب العريس وهكذا وقف العباس في حياته وعند مماته ولا سيما في عرس الشهادة في كربلاء إلى جانب أخيه الحسين.
يوحنا السابق استشهد مقطوع الرأس وأبو الفضل استشهد قطيع اليدين.
المعمدان ارتبطت بشارته ورسالته بنهر الأردن، فقضى سحابة عمره يعمّد بالماء ويبشّر على ضفاف النهر، والعباس قضى نحبه على ضفاف نهر العلقمي وصرف كبرى جهوده ليسقي عطاشى آل البيت ويروي ظمأ مَن سيشهدون فداءه أو سيستشهدون.
ورمزيةُ الماء عنصراً أساسياً في نشأة الحياة والكون عميقة والدلالة. كلا الرجلين يرتبطان بهذا العنصر الأولي المعطي الحياة والمسيّر نحو الشهادة.
هي بعض وجوه الشبه تجعل الأول يذكّر بالثاني وإن اختلفت تأويلاتها ورموزها ومعانيها في كل من التقليدين الروحيين لهذين الرائدين.
ويبقى أن المعمدان والسقّاء يختلفان في أن الأول ناسك حصور (بتول) والثاني بطل حرب وجهاد. وما فرّق بين القمر الهاشمي والمعمدان هنا يجمع بينه وبين سيّد مجاهد محارب من ثقافة أخرى. إنه الأمير لاكشمانا Lakshmana الأخ غير الشقيق للملك راما بطل ملحمة الرمايانا الهندية.
العباس والأمير لاكشمانا
الرامايانا ملحمة هندية ونص مقدّس عند الهنود. نظمها الشاعر الحكيم فالميكي Valmiki في بداية القرن الأوّل استناداً إلى أساطير سابقة تعود على الأرجح إلى القرن السابع ق. م. ( ).
وتروي هذه الملحمة سيرة الملك راما الذي يعتبره الهنود التجسّد السابع( ) لِز: ڤيشنو( ).
كان الأمير راما كبير أبناء أبيه ملك أيوديا ووريث عرشه وزوج الأميرة سيتا ابنة الملك جاناكا. ولكن مؤامرة حاكتها زوجة أبيه وأم أخيه بهاراتا حالت بينه وبين المُلك. ونفي الأمير راما بنتيجة ذلك إلى الغابات، فتبعته زوجته سيتا. وأبى أخوه غير الشقيق لاكشمانا Lakshmana المتعلّق به منذ الصغر ورفيقه الدائم إلاّ أن يرافقه في منفاه. وكان لاكشمانا يلازم أخاه كظلّه ويخدمه ويزود عنه.
وأوجه الشبه عديدة بين لاكشمانا وأبي الفضل. فالأول حامل العصا الذهبية رمز مُلك أخيه، والثاني حامل لواء أخيه الحسين. وكلاهما كان خادماً متفانياً لأخيه يرافقه ويزود عنه في الحرب والسلم. وكلاهما حمى عيال أخيه وأهله وكان كفيلاً لهم، وكان عنوان الحشمة والعفة، ويروي لاكشمانا أنه رغم مرافقته عشرات السنين لِزسيتا زوجة أخيه لم يرتفع نظره بتاتاً فوق قدميها، رغم أنها كانت أيضاً شقيقة زوجته أورميلا.
وكان لاكشمانا خاضعاً ومسلّماً تسليماً كاملاً لأخيه وعنواناً للوفاء له وبطلاً في الحروب تعرّض مراراً للموت دفاعاً عن راما. وكلّها مناقب وفضائل تذكّرنا بأبي الفضل. فكلا البطلان مثال ونموذج للأخ الوفـيّ والمحبّ الخاضع والساعد الأيمن لأخيه. وصفات الأخوّة الصادقة هذه كانت أبرز أسباب تقديس هاتين الشخصيتين عند الهنود والإمامية.
العبّاس باب الحوائج وأبو الكرامات
وثمّة ظاهرة بارزة ترافق دوماً اسم العباس وذكره. وهي الكرامات المنسوبة إليه. والتقليد الشعبي والتقوي يصرّ على هذا الجانب والميزة في أبي الفضل، حتى إنه منحه لقب “باب الحوائج”. وهو أكثر ألقابه شيوعاً بين الناس. فلا بدّ أن تكون لنا في هذه المسألة كلمة.
كرامات الأولياء وعجائب القديسين ظاهرة مألوفة ومنتشرة في الأدب الديني والتقوي لمختلف الأديان والثقافات، وليست حكراً على دين دون آخر.
ويميّز الفكر الديني الإسلامي عموماً بين الكرامات والمعجزات. فالكرامة هي الأمر الخارق للعادة الذي يظهره الله على يد وليّ من أوليائه إكراماً له وتبياناً لمكانته عند ربّه. أما المعجزة فهي التي تظهر على يد نبي ليثبت للناس صدقه، وكتحدّ فيما جاء به. والكرامة لا يدّعيها الولي ليثبت أنه من أولياء الله تواضعاً عكس المعجزة»( ).
ولا تميّز المسيحية بين الكرامة والمعجزة. بل على العكس، فالمسيح وعد تلامذته أنهم سيجترحون من المعجزات باسمه أعظم مما اجترح هو. يقول:«الحق الحق أقول لكم مَن آمن بي يعمل الأعمال التي عملها بل يعمل أعظم منها»، (يوحنا 14/12 – 13).
وغالباً ما تؤخذ المعجزة دليلاً على صحّة الديانة هذه دون تلك، ويستند إليها الوعي الشعبي الفردي والجماعي بيّنة على إيمانه بهذا الدين أو ذاك. والموضوعية والحياد يدعواننا أن لا نأخذها من هذا الباب. فغالباً ما تترافق الظواهر الدينية والتقاليد والممارسات التقوية والعبادية مع المعجزات والكرامات وتتحدّث عنها كما أسلفنا، وليس من شأننا هنا التمحيص والتدقيق العلمي بصحّة هذه الكرامة أو الأعجوبة أو تلك. وإذا كانت الكنيسة الكاثوليكية خاصة قد أظهرت حرفية عالية في دراسة عجائب القديسين ومعجزاتهم وتوثيقها تاريخياً وعلمياً وطبّياً، فهذا لا يعني بتاتاً غياب هذه الظاهرة في التقاليد الأخرى التي لم تتعامل مع الكرامات بأسلوب التمحيص العلمي هذا.
وكرامات أصحاب الأحوال والمقامات في الصوفية معروفة وتملأ أخبارها كتب الأدب الصوفي، أما عند الشيعة فهي غالباً ما تنسب إلى الأئمة وأهل البيت وكرامات أبي الفضل نموذج بيّن عنها.
وغالباً ما ترتبط الكرامات وتكثر حول مقامات الأولياء وضرائحهم. وهي حال الصوفية وأبي الفضل كذلك. وظاهرة ضرائح الأولياء ومقاماتهم منتشرة جدّاً في الهند. وتسمّى Darga دارغا ويؤمّها الناس مسلمين وهندوساً ومن أتباع ديانات أخرى ويستشفعون صاحب المقام في قضاء حاجاتهم. فمقام “نظام الدين” الولي الصوفي مثلاً في دلهي يستقبل الزوّار والحجّاج من كل الملل، ولا يقلّ عدد الهندوس من قاصديه عن المسلمين.
لِمَ ترتبط الكرامات المنسوبة إلى وليّ ما غالباً بضريحه أو تكثر حوله على الأقل.. يجيب بعض الباحثين في هذه الظاهرة بأن المسألة مسألة حضرة وحضور. فإذا كان الوليّ حاضر مع أتباعه ومستشفعيه حيث كانوا، فحضوره يتكثف ويستشفّ خصوصاً في مقامه. وغالباً ما يحفظ هذا المقام وعلى مستوى مرهف غير منظور ذبذبات Vibrations وتردّدات أدعية الزوّار وصلواتهم. لِمَ نحسّ في هذه الأمكنة الدينية والمقامات بخشوع لا نشعر به في الأمكنة الأخرى ولا حتى في بيوتنا؟ لأن في هذه المقامات حضرة وحضور لا نجده في غيرها. فحتى جدران هذه المقامات وسقوفها تحفظ ذبذبات الأدعية والبركات يقول بعض محلّلي هذه الظاهرة.
وفي العتبتين العبّاسية والحسينية يلفتنا أولاً التسمية:“مرقد الحسين”، و “مرقد العباس”. وكأن الإمام أو الولي راقد نائم وغير ميت. وبالتالي فله حضور خاصّ ومميّز في “مرقده”. والحضور هذا يشعر به الكثير من زوّاره. وهم غالباً ما يتوجّهون إليه في زياراتهم ويخاطبونه وكأنه حيّ. ويشرح باحثون آخرون مفهوم كرامات الأولياء بمقولة أو مفهوم يعرف بِز Egrégore إيغريغور( ).
كل وليّ والجماعة التي تنشأ حوله من أتباع ومستشفعين هي إيغريغور والطاقة الشفائية لوليّ تشحن من مصدرين أساسيين الأول سيرته وما فيها من فضائل ومكارم أخلاق وتقوى.. الخ. والمصدر الثاني هو صلوات المؤمنين والتابعين وأدعيتهم وذكرهم المتواصل له. كل هذه الممارسات التقوية والعبادية تعيد شحن الإيغريغور بمزيد من الطاقة الشفائية. وكل كرامة ينالها مستشفع تزيد من عدد المستشفعين والذاكرين والداعين وبالتالي تزيد من الطاقة. ويقول أصحاب هذه النظرية إن هذا الميكانيسم (الآلية) يفسّر حشد الطاقة وتكثفها خصوصاً في مقامات الأولياء وأضرحتهم.
يبقى أنها نظرية من شأنها أن تثير حفيظة الكثير من المؤمنين ورجال الدين من مختلف الملل. اما نحن فعرضناها من باب أخذ العلم، فالعلم بالشيء أولى من الجهل به.
وثمّة عنصر في ظاهرة كرامات أبي الفضل لابدّ من الإشارة إليه. وهو أنه ليس ولياً وحسب، وإنما شهيد أيضاً. لا بل إن شهادته جدّ مميزة. وهو في منزلة يغبّطه عليها سائر الشهداء كما سبق وذكرنا عن الإمامين السجّاد والصادق، ع. وغالباً ما يتميّز الشهيد عن سائر الأولياء بوفرة الكرامات. وهي ظاهرة واضحة بيّنة في عصور المسيحية الأولى. حتى إن الكتاب الذي يروي سيَر القدّيسين ومعجزاتهم يعرف بِزالسنكسار Sincsaire “وهي لفظة يونانية تعني مجموعة سيَر الشهداء وعجائبهم.
ثم أضيف لاحقاً إلى الشهداء غيرهم من القديسين( ).
ولكن هل يشرح كل ما ذكرنا أو يكفي على الأقل لشرح ظاهرة كرامات العباس هذه الظاهرة الراسخة ومنذ القدم في وجدان مستشفعيه وزائريه وقناعتهم. بالطبع لا. وهل بمقدور العقل البشري المحدود هتك السرّ الإلهي؟! عجيب الله في قديسيه” يقول المسيحيّون ردّاً على كل تساؤل بشأن معجزات الشهداء وسائر القديسين، ولعلّ هذه العبارة أوجز وأصدق ما يقال في كرامات أبي الفضل والفضائل وباب الحوائج العباس.
وكرامات العبّاس تكثر الأخبار عنها وتتواتر. وقد وضع العديد من المصنفات التي تحصيها وتروي أخبارها ووقائعها. وعسى المسؤولون عن عتبته يهتمّون يوماً بجمع هذه الروايات والتدقيق في بعضها.
وطبيعي أن تكثر عناصر الغلو والمبالغة في مصنّفات شعبية وتقوية كتلك التي تروي كرامات العباس. إنها الهاجيوغرافيا Hagiographie أو الأدب التقوي الذي يركّز على الغريب والعجيب والخارق في سيَر القديسين والأولياء. والحاجات التي يطلبها زائرو العباس ومستشفعوه تتنوّع وتمتدّ من أبسط الأمور والمشاكل إلى الأمراض المميتة كالسرطان وغيره، ولا نيّة لنا في تفحّص هذه الروايات والتدقيق فيها.
نظرة في بعض ختوم العبّاس
ونكتفي بعرض بعض الختوم (طريقة الطلب) وتحليلها. والختوم المجرّبة المتعلّقة بالعباس (وبسائر أولياء الإمامية وأئمتهم) ترتكز أساساً على الذكر، وهو ممارسة صوفية تقوم على تكرار إسم أو صيغة.
ومن هذه الختوم عن الشيخ مهدي المازندراني أحد خطباء العتبة العبّاسية:«ختم وتوسّل بحضرة مولانا أبي الفضل العباس، ع، لطلب الحوائج. وهذا الختم ليس له وقت وساعة ويوم معيّن ومحدّد. وطريقة هذا الختم كما يلي:
تبدأ بذكر اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد 133 مرّة، وتقول أيضاً “يا عباس” 133 مرّة. وبعد ذلك تقول: “اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد” 133 وتقوم بهذا العمل كل يوم حتى تقضي حاجتك»( ).
هذا الختم ليس سوى نوع من الذكر, والذكر طريقة في الصلاة والتأمل Méditation نجدها في كل التقاليد الدينية. وهي على الأرجح من أصول هندية، وتعرف بِزJapa . ويقوم الجابا على التكرار الداخلي لصيغة مقدّسة هي غالباً اسم إله أو ولي/تسمّى مانترا Mantra. ويستخدم لتعداد المانترا سبحة Mala هي الأصل لأنواع المسابح التي نجدها في المسيحية (مسبحة العذراء مريم عند الكاثوليك ومسبحة صلاة القلب عند الأرثوذكس) والإسلام (سبحة الذكر وأسماء الله الحسنى).
وفي التقليد الهندي أن معرفة اسم الإله هي معرفة مكثفة لكل شيء عنه. وتكرار اسمه بالتأمل والجابا يشحن المتأمل بطاقة كبرى تزداد مع التقوى والخشوع وتكرار الترداد.
وللمانترا طرق تكرار جهورية وصامتة. وغالباً ما يكون لظروف الحياة أنماط معيّنة وصيغ خاصّة، فللحروب مثلاً مجموعة مانترات (جمع مانترا) معينة. وينسب التقليد الهندي إلى المانترا دوراً مميزاً وأساسياً في حشد صفوف المحاربين وتعبئتهم ودفعهم باتجاه معيّن وغير ذلك، وهو ما نجده في تقاليد عديدة أخرى: صرخات الحرب مثل الله أكبر وغيرها… ويذهب التقليد الهندي إلى حدّ القول أن لمانترات في الحروب أمضى من أي سلاح آخر. لا بل إنها كانت في الحروب القديمة السلاح الوحيد.
والتقاليد الإمامية الحسينية ليست غريبة عن هذا الجوّ . فكم استخدمت صيغ مثل. لبيك يا حسين، أو يا لثارات الحسين، أو هيهات منا الذلّة. في الثورات والحروب وأثبتت فاعليتها في الحشد والهجوم .. والنصر.
يقول المؤرّخ فيليب حتي:«وكان من يوم كربلاء للشيعة فوق ذلك صيحة حرب جديدة “يالثارات الحسين”. وقد أثبتت الوقائع فيما بعد أن هذه الصيحة نفسها كانت من العوامل التي قوّضت بنيان الدولة الأموية»( ).
استخدم ثوار الحسين بفطرتهم وعبر التاريخ صيغ “مانترا” وخبروا جدواها. لا سيما عندما تردّد الجماهير بصوت واحد صيغة ما. إنها وسيلة بسيطة وفعّالة لشمن كل عنصر ومحارب بكمّ هائل من الطاقة والحماس. وفاعلية الصيغ هذه لا تقتصر على الحروب، فهي بما تختزن وتنقل من طاقة لها قدرة شفائية هائلة يقول التقليد الهندي، لا سيما إذا كان المتأمل وطالب الحاجة تربطه أواصر التقوى والمودّة والمحبة.. الخ بالولي الذي يستشفع به ويكرّر اسمه… الخ.
هذا الشرح لآلية الختوم وطريقة تأثيرها قد يعجب البعض ويثير استغراب الكثيرين واستهجانهم.
ولكنه في أية حال يدعو إلى التأمل والتفكير، ولا أخاله ينتقص ولو ذرّة واحدة من مقام وليّ مميز كأبي الفضل العباس.
وبعد،
لك يا قمر بني هاشم في ذمّتي دين وما أظن سطور هذا البحث قد وفته، إن هي سوى محاولة صادقة أردّ بها التحية على ما بادرتني به من سلام ولج القلب ورسخ في الوجدان.
د. لويس صليبا
أستاذ وباحث في الدراسات الإسلامية والأديان المقارنة – باريس