بولس الفغالي : شهادة تلميذ

بولس الفغالي : شهادة تلميذ
نابغة… يقول عنه محبّوه
أما حاسدوه… وما أكثرهم فلا يتعبون من تلفيق الأخبار عنه…. وترويج الإشاعات.
هو لا يتعب من البحث والتأليف… وهم لا يتعبون من التلفيق… ومع كل كتاب جديد له… إشاعة جديدة:
ينقل النصوص عن ترجمات فرنسية، ويدّعي أنه يعرّبها عن لغاتها الأصلية، يزعم البعض.
وهل يستطيع امرؤ واحد أن يتقن كل هذه اللغات القديمة: العبرية واليونانية والسريانية واللاتينية والآرامية… ويترجم عنها؟! يتحجّجون.
يسطو على أبحاث تلامذته، وينشرها باسمه يقول بعض آخر. أو يعقل أن يكتب رجل واحد نحو مائتي وخمسين كتاباً لوحده… من دون مساعدة أحد؟! يردفون.
طبيعي أن يثير الخوري بولس الفغالي تساؤلات كهذه. فنتاجه الفكري بكمّه ونوعه تعجز عنه أحيانا فرق عمل من الباحثين… ومراكز أبحاث. فكيف لرجل بمفرده أن يقوم به:
ترجمة للكتاب المقدّس بعهدَيه ومختلف أسفاره عن اللغات الأصلية.
قاموس موسوعي للكتاب المقدّس “المحيط الجامع” حوى ألوف المداخل… والصفحات.
تفسير وشرح للكتاب المقدّس بعهديه قراءة رعائية.
ترجمة ودراسة وتقديم لعشرات الكتب المنحولة من العهدين…
ترجمة ودراسة عشرات الكتب من السريانة لنرساي ويعقوب السروجي وإفرام وغيرهم.
وفي كل مجلّة… تجد له بحثاً أو مقالاً: الرعية، المشرق، المسرّة، حياتنا الليتورجية.. وغيرها. يكتب لكل المستويات: للباحثين المدققين… وللمؤمنين البسطاء…
الكلّ يجد في نتاج بولس الفغالي ما يقرأه ويستفيد منه، لحياته الروحية… أو لبحثه العلمي.
عرفتُ بولس الفغالي قبل، أن أسمع به… كان آنذاك خادماً لرعية في باريس. وما كنت أحسب يومها أن هذا الخوري النشيط والبسيط هو هو… صاحب هذا النتاج الفكري… بل هذا التراث الضخم.
وعدتُ والتقيته ثانية يوم كان يسكن في حريصا عند الآباء البولسيين… يومها رسخ في نفسي عنه الانطباع إياه: البساطة والوقار.
ولكنني لم أعرفه حق المعرفة… إلاّ عندما قرأته… ومَن لا يعرفه عبر الورقة والكلمة المسطورة عليها… يجهله.
عرفته عندما باشرت البحث والتأليف في ميادين له فيها صولات وجولات… وأنا في الأساس أستاذ وباحث في الدراسات الإسلامية والأديان المقارنة. وعندما احتجت إلى ترجمات عربية للكتب المنحولة أمثال كتابات قمران… وأخنوخ وغيرها يومها أدركت فرادة مساهمة بولس الفغالي في دنيا الفكر العربي… فكثيرة هي النصوص التي لم تكن المكتبة العربية تعرف لها إسماً ولا رسماً وأدخلها هو للمرّة الأولى إليها. أما ما ترجمه هو… وسبق [أو لحق] لآخرين أن نقلوه مثل نصوص قمران وغيرها… فشتّان بين العملين. هو ينقل النصوص الأصلية… ويضعها بلسان عربي ألف لغة الكتاب المقدّس من فرط ما تعامل معه قراءة وترجمة وتفسيراً… فتخال نصّه العربي أصيلاً لا مترجماً… وعندما تقارنه بترجمات غربية إنكليزية وفرنسية للنص الأصلي عينه… لا أبالغ إذا قلت أنك تجده يضارعها أمانة… ويفوقها سلاسة.. وسكباً… لا سيما إذا كان أبونا بولس ينقل من لغة سامية كالعبرية والسريانية إلى أخرى: العربية.
أما الحواشي التي يضعها فهي أكثر من نفيسة للباحث. فمعرفته المعمّقة بالكتاب المقدّس يسّرت له إرجاعات مهمّة ومقارنات قيّمة بين النصوص المنحولة ونصوص الكتاب بعهديه… وكم فتحت لي حواشي الفغالي وتعليقاته من آفاق جديدة في البحث… حتى خلته مشاركاً لي في البحث والتأليف… لا سيما في كتاب لي، تكاد لا تخلو صفحة منه من إرجاع إلى واحد من كتبه( ).
وما كنت أحسب قبلها أن الباحث في الدراسات الإسلامية يمكن أن يحتاج لمساهمات الفغالي.. ويكون مديناً له إلى هذا الحدّ.
من يومها تاقت نفسي إلى أن أعرفه من جديد… كنت أقرأ له… وأسمع بعض ما يُقال عنه فأحار…. فثارت حشريتي ورغبت أن ألقاه شخصياً، وليس فقط عبر كلمات تحبّر الصفحات.
وما من أحد ليسعفني برقم أو بعنوان. لكأن عارفيه – يرغبون في احتكار هذه المعرفة. وكنت أتهيّب من لقاء علاّمة كهذا… فهل يتيح له وقته الثمين والمكرّس للبحث والتنقيب لقاء أمثالي؟
بقيت نحو سنتين أسعى لألقاه… ويخيب مسعاي. إلى أن أرسل هو لي يوماً يطلب من عندي كتاباً… فكانت فرصة ذهبية اقتنصتها لأعرف رقمه واهتف له… وأزوره.
ولا أخفي أنني فوجئت… بل صدمت عند زيارتي الأولى له. كنت أحسبني سأدخل مكاناً أشبه بمركز للأبحاث: كمبيوترات… ومجموعة مساعدين. ومَن يصدّق أن الفغالي مع هذا الكمّ الهائل من الأبحاث لا يزال يحبّر الأوراق… ويسوّدها بالقلم… ولم يعرف الحاسوب (الكومبيوتر) إلى منزله طريقاً!؟
لا يطبع… لا يملي على أحد.. لا سكرتيرات ولا مساعدين… وكل كلمة تخرج منه يخطّها قلمه على الورق. عرف الكلمة خبزها، وعجنها، فلا يحتاج بينه وبينها لأيّ وسيط، بشراً كان أم آلة.
وما لفتني فيه: بساطة في العيش… والاستقبال. وتواضع هو دائماً رفيق العلماء…
ورغم مشاغل البحث الدائمة والمتواصلة… فبابه مفتوح لكلّ زائر وفي أي وقت… ومن دون مواعيد أحياناً… وبمقدورك أن تهتف إليه حين تشاء. فهو جاهز دوماً جهوزية تامّة لإرشاد الطالبين… ونصح الدارسين ومساعدة الباحثين المدققين أمر مقدّس عنده… يترك شغله وبحوثه ليجيبك عن سؤال… أو ليبحث لك عن شرح لكلمة أعجمية.. أو تفسير لنصّ ملتبس… أو غير ذلك ممّا قد يطرحه عليه الباحثون… وفي المعضلات به يستنجدون…
يعرف الكتاب عن ظهر قلب… فرغم أن آياته بعشرات الألوف فما من آية تسأله عنها حتى يخرّجها لك فوراً… وغالباً من دون العودة إلى النصّ المكتوب.
عرف الكتاب بعهديه… وألِفَه. يفسّره لك فتخاله وكأنه أوحي له الآن… أو أقله ألهم استخلاص العبرة والأمثولة منه ليومنا.. فالتأويل والتأوين حرفته وشغله الشاغل. وكم يذكّرني بحرفته هذه بمقولة معروفة للصحابيّ  وكبير المفسرين وامامهم عبدالله بن مسعود تعلن : الزمن أفضل مفسّر للقرآن.
لم يلد الخوري بولس أبناءً من لحم ودم.. ابنه.. وحيده.. الكتاب. أفلم يقل الذكر الحكيم ومراراً:« الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم»، (البقرة 2/146) و (الأنعام) 6/20).
مئات الكتب كتب… وأكثرها يدور في فلك هذا الكتاب الوحيد…
أزوره فأراه غالباً غارقاً بين قواميسه ومراجعه. عدّة الشغل دوماً بين يديه: قواميس العبرية والسريانية واللاتينية واليونانية لا تفارقه. وترجمة بعض النصوص القديمة لا يستغرق عنده أحياناً أكثر من الوقت المطلوب لقراءتها قراءة متأنية. ولِمَ تعريب المتون السريانية والعبرية عن ترجمات أوروبية؟! فاللغات السامية متقاربة في بنية الجملة وتركيبها إلى حدّ التطابق. والنقل من لغة سامية إلى أخرى كالعربية أيسر وأسرع بمراحل من النقل عن لغة غربية.
هو خامة من الباحثين المدققين.. قلّ نظيرها في شرقنا. كفانا نقلاً عمّن نقلوا.. وآن لنا أن نقرأ بالعربية لباحثين أصيلين رجعوا إلى النصوص الأصلية وعرّبوا مباشرة عنها.. آن لنا أن نعرف ملافنة يُستشهد بهم… ويُنقل عنهم… ولا يقضون سحابة عمرهم ينقلون لنا ما قاله علماء الغرب… وبولس الفغالي رائد في هذا المجال… ولو كره الحاسدون.
لا يردّ بولس الفغالي غالباً على منتقديه… أو بالأصحّ حاسديه… فطالما أن القافلة تسير فالصراخ لا يعيق تقدّمها… ولا النباح.

د. لويس صليبا
أستاذ وباحث في الدراسات الإسلامية والأديان المقارنة – باريس ولبنان

شاهد أيضاً

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트 이 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *