عنـوان الكتاب : الصمت في المسيحية
مفهومه واختباراته في الإنجيل وكنائس
المشرق والغرب.
المؤلّف/ المترجم Auteur: د. لويس صليبا Dr. Lwiis T. Saliba
أسـتاذ وباحـث فـي الأديـان المقارنـة/باريـس
Titre : Le Silence dans le Christianisme sa
conception et ses expériences dans
l’évangile et les églises d’Orient et d’Occident
تقديـم : الأب الدكتور جوزف قزّي
أستاذ في كلّية اللاهوت الحبرية/جامعة الكسليك
عنوان السلسلة : الصمت في التصوّف والأديان 4
عدد الصفحات : 414 ص
سنة النشر : 2009
تنضيد وإخراج داخلي : صونيا سبسبي
التوزيع : المكتبة البولسية
بيروت: 448806/01 – جونية: 911561/09 – زحلة: 812807-08
الناشر : دار ومكتبة بيبليون
طريق المريميين – حي مار بطرس- جبيل/ بيبلوس ، لبنان
Byblion1@gmail.com
2009 – جميع الحقوق محفوظة
مقدمة الأب الدكتور
جوزف قزي
أستاذ في كلية اللاهوت الحبرية/جامعة الروح القدس-الكسليك
باحث ومؤلّف في الدراسات الإسلامية والتاريخ الكنسي
1 – ليس الصمت بديلاً عن الكلام، ولا مناقضاً له، بل يكمّله، ويُعطيه معناه الحقيقيّ، بل قد يعبّر الصمتُ عن الحقيقة أكثر من الكلام… تصوّر كلاماً متتالياً من دون وقفة صمتٍ بين فكرة وفكرة، أو جملة وجملة، كيف يكون، وكيف تفهم المقصود منه وتميّز معانيه؟ تصوّر لحناً موسيقياً لا وقوف فيه، أليس هو أقرب إلى الضجيج؟! وتصوّر إنساناً دائم العمل والحركة، كيف يستطيع أن يستمرّ نشيطاً؟!.
2 – صحيح أن الله هو ”الكلمة“، كما يعلِّم لاهوتُ الكنيسة. وصحيح أن الله أوحى عن مشيئته بكلامٍ بشريّ لكلِّ حدَث. وصحيح أيضاً أنّ هذا الكلام الموحَى به أصبح متجسِّداً في يسوع المسيح، الذي به انتهى كلُّ كلامٍ إلهيّ مع البشر، ذلك لأن يسوع المسيح نفسه أصبح هو ”الكلمة“ الذي أغنانا عن الكلام كلّه.
3 – لقد كانت هذه ”الكلمة“، في السنوات الثلاثين من عمره، صامتةً، خفيّةً، مستترةً، لم يُعرف عنها أيّ كلام، «لكأن ثلاثة أعوام من إعلان البشرى السارّة، كما يقول د. صليبا، استوجبتْ ثلاثين عاماً من التحضير والصمت» (ص 37). وكذلك أيضاً أصبحتْ هذه ”الكلمة“في الأوقات الحاسمة من تاريخ الخلاص، صامتةً، ”لم يفتح فاه“، كما يقول أشعيا. فلكأنّ الخلاصَ، في حقيقته، يجب أن يتمّ بصمت. وقد تمّ فعلاً بصمت.
4 – لو لم يكُن اللهُ في البدء صمتاً، لما تجرّأ يوحنّا على القول بأنّ «في البدء كانت الكلمة»، أي: لو لم يكن قبل ”الكلمة“ صمتٌ لما كانت ”الكلمة“ كلمةً. وعندما أصبح الصمتُ كلمةً، كانت الكائنات. فلكأنّ الأساس كان الصمت، ثمّ الكلمة، ثمّ الكون. فالكون خرج من الكلمة، والكلمة خرجت من الصمت، والصمت هو الأساس.
5 – يقول القدّيس إفرام بأنّ اللهَ الآبَ هو ”العقل“ (هَونُا)، والابن هو ”الكلمة“ (مِلْتُا)، والروح القدس هو ”الصوت“ (قُولاُ). والعقل، من دون الكلمة والصوت، صامتٌ. لهذا نقول: أوّل ما خرج من ”العقل“، الذي هو ”الصمت“: ”الكلمة“، ومن الصمت والكلمة خرج ”الصوت“. ومن الكلّ خرجت الكائنات وانتشرتْ ونمتْ وتكاثرتْ. وكان بينها جميعها حوار وتفاعل وولادة. وبات الكون كلّه يتطوّر ويتقدّم ويترقّى بسببها.
6 – فضيلةُ الصمتِ هذه لم يتقن الكتابةَ فيها إلا الذين مارسوها، والتزموا بها في حياتهم الفكريّة والروحيّة والاجتماعية. وقليلون هم الذين كتبوا عنها، وحسناً ما فعلوا، لأنّ في الكلام على الصمت تناقضاً. غير أنّ الذين يقضون معظم حياتهم في الصمت هم يخشون الكلام على الصمت. والذين لم يصمتوا كثيراً فكيف يستطيعون أن يعرفوا ما هو الصمت وما أهمّيته؟
7 – إنّ حضورَنا أمام الله في الحياة الآتية، لن يكون إلا صمتاً أبدياً متواصلاً، لأننا نكون، عندئذٍ، في حضرة مَن هو ”الكلمة“ ذاته، الذي يُغني عن كلّ كلام سواه. بل إنّ كل كلام سواه فقيرٌ جدّاً، ولا يفيد شيئاً. لهذا كان على الإنسان أن يمرّ أوّلاً في صمت الموت المطلق حيث يتلاشى كلّ شيء ويصمت كلّ كلام.
8 – فإذا كان الكلام لغة أهل الأرض، فالصمت، كما قال إسحق السرياني، هو «سرّ الدهر الآتي». لذلك سوف يكون الصمت فضيلةً مسيحيّةً بامتياز. وهو أيضاً في أساس الحياة الرهبانية، وفي منطلق كلّ رسالة فاعلة مثمرة…. إذ إنّ كل شيء مفيد ومجدٍ يتأسّس على الصمت والتأمّل، وينطلق من الصمت والتأمّل نحو اكتشاف غنى أسرار الملكوت.
9 – لهذا كان الصمت الذي هو من أجل الملكوت فضيلة النسّاك العظام. عندما لا يكون الكلامُ ضرورياً ومفيداً لهم فهم حكماً في حال صمتٍ دائم. والتعبير عن الحاجة – وقد جعلوها قليلة ونادرةً جدّاً – إنّما يكون عندهم بالإشارة، إذ إنّ الإشارة لا تشتّتُ الفكرَ، ولا تفسد التأمّل ولا تُقلق البال، ولا تهزّ مشاعر القلب.
10 – الصمتُ يعبّر عن الصمت أكثر من الكلام وأجدى، وقد يعبّر عن الكلام أيضاً أكثر من الكلام نفسه، بل هو يدوّي أكثر من الكلام. لهذا نرى اللهَ، في تعامله مع الإنسان، صامتاً، كأنّه لا يسمع ولا يرى. لهذا نقول بأنّ النعمة تفعل فيه فعلها عندما لا يشعر الإنسانُ بفعلها، وكأنّها تأتي من صميم طبيعته، فيما هي من خارج الطبيعة، فائقة الطبيعة.
11 – هنا تكمن معجزة الله الحقيقيّة مع الناس، التي هي، بسبب هذه النعمة الصامتة والفائقة الطبيعة مستمرّة فاعلة بصمتٍ وهدوء. نعمة تأتي من دون ضجيج، ومن دون تغيير في طبيعة الأشياء، وإلا يكون الله يناقض القوانين التي وضعها لهذا الكون، أو يكون يعمل متخطّياً حرّيّةَ الإنسان، ومتعدّياً على نظام الكائنات، وناقضاً له.
12 – لهذا، فصمتُ الله وحرّيّةُ الإنسان، ونظامُ العالم سواء، يعملون معاَ بانسجامٍ ونغمٍ كونيّ رائع.. فالله الصامتُ يحترمُ حرّيّةَ الإنسان ونظامَ العالم احتراماً عظيماً جدّاً. فهو لا يمانع، ولا يتدخّل، ولا يفرض ذاته، ولا يستعمل قدراته، ولا يلجأ إلى معجزات وخوارق. هذه هي نعمة الله الناعمة السلسة التي تنساب في الطبيعة من دون أن تزعجها، أو تغيّر مسارَها، أو تقضي عليها.
13 – لهذا يجب أن نستنتج من مسيرة الله هذه مع الإنسان، ونقول: إن الإنسانَ الصامت، في مجتمعٍ لا يعرف الحقيقة ولا يعبّر عنها إلا بكثرة الكلام، هو إنسانٌ حرّ أكثر من سواه، لا يستعبده أحد، ولا هو يستعبد أحداً. الصمتُ لغة الحرّية، وسحر الكلمة، وبحر الكلام المفيد، ولغز الوجود، وسرّ الحياة مع الله.
14 – فلولا الصمت لما كان كلام، ولما فُهم كلام، ولما استمرّ كلام، تماماً كما هو الليل بالنسبة إلى النهار، والراحة بالنسبة إلى العمل، والظلمة بالنسبة إلى النور… فلولا الليل لما كان نهار، ولولا الراحة لما كان عمل، ولولا الظلمة لما كان نور… هكذا هو الصمت بالنسبة إلى الكلام. فهل باستطاعةِ أحدٍ أن يسمع كلاماً إلّم يسبق الكلامَ صمتٌ، ويتبعه صمتٌ، ويُقال في صمت؟! وهل تخلّص ”الكلمة“ مؤمناً إن لم يصمت هذا المؤمن، ويسكت، ويصوم، ويتأمّل، ويتخلّى عن ذات ذاته حتّى الفناء؟!. فَز”الكلمة“ التي تخلّص لم تعد كلاماً وألفاظاً، بل وحياً وإلهاماً وشخصاً اسمه يسوع المسيح ابن الله الحيّ. إنّه أقنوم إلهيّ خارج من صميم الصمت.
15 – لقد كان الصمت، إذاً، في البدء، في الأساس، ولولاه لما كان ما كان… ومن هنا كان الصمتُ الفضيلةَ الرهبانيّةَ الأولى والأساس، في رأي روّاد هذه الحياة. إنّها صمت الإرادة والأميال والرغبات، وصمت اللسان والعين والأذن واليد والفم الذي يعني، فيما يعني، صوماً، لأنّ الصمت والصوم هما من جذر لغويّ واحد، ويعني الامتناع والانغلاق.
16 – لقد شدّدت القوانين الرهبانيّة في الرهبانيات جميعها، على حفظ الصمت. وعيّنتْ له أوقاتاً كثيرة في اليوم، كما حدّدتُ له أمكنةً عديدة في الدير، بل معظم الأمكنة المشتركة، كالكنيسة وبيت المائدة ، والمنامات، والمماشي الداخليّة، والغرف الخاصّة… هي أمكنة صمت. يحترمها الرهبان احترامهم للمقدّسات…
17 – وثمّة رهبانيّات في الكنيسة تنذر الصمتَ كنذر رابع أو خامس، بالإضافة إلى الطاعة والعفّة والفقر والتواضع. هي تمارسه وتقدّسه وتلتزم بموجباته. وإن كان من حاجة توجب الكلام، فإنّما يكون التعبير عنها بالإشارة والرمز لا بالكلام.
18 – ومثال ذلك هو أنّ الروح القدس، لكي يكلّم أحبّاءه، يذهب بهم إلى البرّيّة ليختلي بهم ويكلّمهم في خلوتهم. وهم يسألونه ما يريدون، فيسمع لهم ويستجيب طلباتهم.
19 – ولهذا أيضاً نجد في التقليد المسيحيّ نوعين من الصلاة: ”صلاة لفظيّة“ و ”صلاة عقليّة“. الصلاة اللفظيّة يتلوها المؤمن، وقد تعلّمها من الآباء، وورثها منهم، وقد نظّمتْها الكنيسة واعتمدتْها. أمّا الصلاة العقليّة فيقوم بها المؤمن في خلوته، وسكونه، وصمته، بينه وبين ربّه، من دون مشاركة أحد… هذه أعمق وأجدى وأفعل في تغيير الإنسان من الداخل. وهي للمتأمّلين في السماويّات، الغائصين في عالم الروح، أمّا الصلاة اللفظيّة فلتنظيم الجماعة المصلّية، وترتيب الاحتفالات الشعبيّة والصلوات العامّة.
20 – وأخيراً، وتعقيباً على هذه الخواطر في الصمت ومكانته في عالم الروح والفكر، ما كنتُ أعتقد يوماً أنّ إنساناً يعيش في خضم الحركة الفكريّة والاجتماعيّة تخطر في باله معالجة مثل هذا الموضوع، الذي لم أجد أحداً ممّن تُجبرهم قوانينُهم على عيش الصمت يقدّم لنا اختبارَه، ولا كنتُ أظنّ أنّ أعمال الدكتور صليبا تسمح له بأن يوفي الموضوعَ حقَّه، ويبرع، فيتناوله من جميع جوانبه، بدقّة وشموليّة وإتقان، وأن يرحل عبر التاريخ ليعيّن روّادَه في الكنيسة وفي الفكر العالمي.
21 – والحقّ أقول إنّ الدكتور لويس صليبا ما كان ليتجرّأ على معالجة ”الصمت في المسيحية“ لو لم يتشبّع عقله وقلبه من سحر ”الكلمة“ ومن سرّ ”المسيحية“ على السواء. فهو، بما كتب، تحدّى كلامَ المتكلّمين، وصمتَ الرهبان والزاهدين. هو الذي يحيا بين الكتب والورق والأقلام والكلام، ويعيش من التعامل معها، ويكتب السلاسل والمجموعات في كلّ علم واتّجاه. وما كان له ذلك إلا من بعد صمتٍ طويل، وتأمّلٍ عميق. وكلّ هذا من أجل أن يقدّم للناس اختبارَه وكلمتَه في أنّ الصمت والتأمّل مجديان فاعلان ومدوِّيان أكثر من الكلام، وفي أنّ ”الكلمة“ لا تفعل فعلها الخلاصيّ إلا في صميم الصمت والسكينة.
الأب جوزف قزي
كلية اللاهوت الحبرية/جامعة الروح القدس-الكسليك