تعريف وغلاف ومقدمة وفهارس كتاب “الصمت في اليهودية”/ تأليف لويس صليبا، تقديم أ. إميل عقيقي

تعريف وغلاف ومقدمة وفهارس كتاب “الصمت في اليهودية”/ تأليف لويس صليبا، تقديم أ. إميل عقيقي

المؤلّف Auteur: د. لويس صليبا Dr. Lwiis Saliba

باحث في الدراسات الهندية والأديان المقارنة/السوربون – باريس

www.thoughts.com/Lwiissaliba

عنـوان الكتاب        : الصمـت فـي اليهودية

تقاليده في التوراة والتلمود وعند النبي إيليا والحسيديم

Titre          :  Le  Silence dans le Judaïsme

Ses traditions dans la Bible

le Talmoud le Hassidisme et chez Elie  

عنوان السلسلة       : الصمت في التصوّف والأديان المقارنة 3

عدد الصفحات       : 367 ص

سنة النشر           : ط4: 2017، ط3: 2014، ط2: 2011،

ط1، 2009.

الناشر                    :      دار ومكتبة بيبليون

طريق المريميين – حي مار بطرس- جبيل/ بيبلوس ، لبنان

ت: 540256/09  –  03/847633  ف: 546736/09

Byblion1@gmail.com

www.byblion.com

2017   ©-  جميع الحقوق محفوظة

 

سلسلة الصمت في التصوّف والأديان المقارنة

يصدرها ويشرف عليها د. لويس صليـبا

صدر منها

1 – مقامات الصمت والمدن المقدّسة، ويليه ملحق في الصمت واليوغا تقديم المستشرق البروفسور بيير لوري.

2 – الصمت في الهندوسية واليوغا: تعاليمه واختباراته في الڤيدا وسيَر الحكماء المعاصرين.

3 – الصمت في اليهودية: تقاليده في التوراة والتلمود وعند الحسيديم. وإيليا نبي الإصغاء إلى الصمت، قدّم له أ. إميل عقيقي.

4 – الصمت في المسيحية: مفهومه الإنجيلي واختباراته في كنائس المشرق والغرب، تقديم الأب د. جوزف قزّي.

5 – شربل رفيقنا الصامت: حكاية قداسة لبنانية عنوانها الصمت، قدّم له الأب د. جوزف قزّي.

 

يصدر لاحقاً

6 – الصمت في الإسلام: آدابه في سِيَر الرسول وآل بيته والصوفيّة.

7 – الصمت في البوذية.

8 – التأمّل واليوغا.

مقدمة أ. 

إميل عقيقي

أستاذ وباحث في الدراسات العبريّة/جامعة الكسليك

الصمت في اليهوديّة

 

  1. الصمت، هي عبارة مدوّية كالصوت والنبرة والكلمة، تحمل في طيّاتها ”ظاهرة إنسانيّة“ تناولتها الحضارات والثقافات المتنوّعة، في آدابها، وفلسفاتها، جاعلة إيّاها بأهميّة الكلمة المتوسَّلَةِ للتخاطب والتواصل بين الإنسان وذاته، وبينه وبين آخرين من جنسه… يبرز الصمت في سلوك الإنسان في نواحي عديدة ومتنوّعة: ففي حياته الشخصيّة، يحتاج المرء إلى الصمت للتركيز في أعماله، وللخلوة مع ذاته، ولصفوة باله. وفي حياته العامّة، لا بدّ للمرء من أن تكون له مواقف تواصليّة مع آخرين، يكون فيها للصمت حيّز متى دعت الحاجة إلى ذلك: فهو قد يصمت إصغاء إلى حديث، وإن شاء، قد يترك للصمت الحقّ، إلى جانب النطق، بالتعبير عن ردّة فعله ونواياه؛ وقد يواجه أيضًا صمتًا عفويًّا مصدره عنصر المفاجأة، وهذا مألوف في الحياة، مثل سماع كلمة غير متوقَّعة، أو رؤية مشهد غير مسبوق، يُبكمه عن الكلام علّه يستوعب ما يسمع أو يفهم ما يرى… أو قد يواجه المرء عينه صمتًا قمعيًّا، وهو يتأتّى عن سياسة الاقتصاد في الكلام والتعبير عن الرأي، بسبب القمع الفكري والسياسي، وهذا ما نشهده في الأنظمة التوتاليتاريّة القمعيّة التي تفرض الصمت وتخشى الكلمة… أو قد يواجه صمتًا نفسيًّا مصدره حزن عميق، أو غضب شديد، أو خوف رهيب، حالات يعجز المرء أمامها عن الفهم والتعبير والحركة، فيلوذ إلى الصمت والسكون للدلالة عن حالته وشدّة تأثّره بها. ويبقى للإنسان أن يواجه لا محال صمتًا وجوديًّا هو الأخير، صمت الموت ورهبته، الدليل الساطع على مدى تأصّل الصمت في حياة الإنسان، فهذا الأخير إن بدأ حياته بصرخة استقبال، ينهيها بصِمْتَةِ وداع.
  2. وللصمت، هذه ”الظاهرة الإنسانيّة“، بُعد آخر روحاني يُدخل الإنسان في عالم المطلق، تبنّته الأديان المدعوّة سماويّة (اليهوديّة، والمسيحيّة، والإسلام)، وغيرها من الأديان الفلسفيّة والعرفانيّة (الأديان السريّة اليونانيّة، والبوذيّة، والتاويّة، والهندوسيّة…). فكان الصمت، بالنسبة لها، إلى جانب الكلمة، الحافز إلى تواصل أكيد وعميق بين الإنسان والله، كما شهد أحد فلاسفة اليونان البيتاغوريين قائلاً إنّ «التكريم الوحيد اللائق بالله، هو الصمت الخالص» (أبولونيوس التياني – القرن الأوّل للميلاد)، وكذلك شهد فيلسوف آخر من المدرسة الأفلوطينيّة أنّ ”الحكيم عندما يصمت، يكرّم الله“ (بورفيريوس الصوري – القرن الثالث للميلاد). لقد اعتمدت هذه الديانات والتيّارات الروحانيّة ظاهرة الصمت هذه الإنسانيّة، لتحوّلها وسيلة تصعيديّة تواجه من خلالها ضوضاء العالم وقرقعته، إذ بات المرء يظنّ أنّ العالم يقوم بضجيجه وبصخبه ليس إلاّ، وراحت تخفاه حقيقة أنّ عالمنا هذا، في سرّه وفي عمقه، إنّما هو ثابت بصمته وبهدوئه، وبالذين يصغون إلى هذا الصمت الأوّلي originaire، صمت الخليقة، في السماء، وعلى الأرض، وفي البحار، ويحنّون إليه ساعين إلى اكتساب هذه الحالة الأوّليّة، لتكون لهم وسيلة تسهّل عليهم ولوج هذا العالم فهمًا لأسراره، علّهم يصلون إلى علّة وجوده، ذاك المطلق الجاذب إليه الجميع ”بصوته الصامت الدقيق“ (1 ملوك 19)؛ وهذا ما حدا بالناسك المسيحي يوحنّا السلّمي إلى القول إنّ ”بداية الصمت هي العزلة عن كلّ ضوضاء مزعجة للنفس… ونهايته قلّة الاكتراث بأيّة ضوضاء وعدم التأثّر بها“؛ وكذلك المتصوّف المسلم الرومي (1207-1247 م.) يعلن عمّا خبره بالصمت ناصحًا وقائلاً:«أطبق شفتيكَ، وافتح قلبكَ، لأنّكَ هكذا تتمكّن من التحدّث إلى النفوس… إحفظ الصمت لكي تصغي إلى إلهامات الله»؛ فمن اختبر الضوضاء يهجع إلى الصمت ليمحوه من ذهنه وقلبه، ومن اختبر الصمت يهجع بعقله وبقلبه إلى الله. هكذا هو الصمت، عودة إلى الذات، إلى الأصول والجذور، إلى المطلق، إلى الله، ذلك الحاضر المستتر، والمتكلّم الصامت: هو الحاضر لأنّ العالم لا يقوم إلاّ به، والمستتر لأنّ الإنسان لا يستوعب رؤيته (”فستر موسى وجهه خوفًا من أن ينظر إلى الله“ خر 3: 6 )؛ هو المتكلّم لأنّ الإنسان ضلّ سبيله (فكانت الشريعة)، وهو الصامت لأنّ الإنسان صمّ أذنيه (لأنّه انجذب إلى عبادة غريبة).
  3. أمّا في اليهوديّة فعبارة ”الصمت“ هذه (שְׁתִיקָה)، هي محوريّة في علاقة الله الخالق بالإنسان المخلوق ”على صورته كمثاله“، نجدها في صلب أسفارها وكتبها المقدّسة، ومنها تنهل أسرار الوحي الإلهي، وتختبره تارة بالصمت، وطورًا بالكلمة (דָּבָר وهي تحمل أيضًا معنى الحدث الذي يرافق الكلمة). لا صمت مجّاني في اليهوديّة، بل هو مرتبط ومتبوع دومًا بالكلمة، يهيّئ لسماعها وللإصغاء إليها ولفهمها: فاليهودي لا يصمت إلاّ ليسمع الله يكلّمه كاشفًا عن ذاته وعن إرادته:«إسمع يا إسرائيل، الربّ إلهنا، الربّ واحد» (تثنية 6: 4). يمكننا أن نفهم معاني الصمت في اليهوديّة من خلال ثلاثة مصادر أساسيّة وهي التوراة الكتابيّة (الكتاب المقدّس)، والتوراة الشفهيّة (التقليد المقدّس)، والتاريخ اليهودي: فمن خلال معطيات هذه المصادر نفهم معنى الصمت في تفاصيل الوحي الإلهي المكتوب والمعاش من خلال صمت الله، وصمت إسرائيل، وصمت العالم:

أ – صمت الله نقمة ونعمة

يصمت الله لتأديب شعبه على قلّة أمانته من جهة، وليدفعه إلى البحث عنه، ليجده بعد توبة حقيقيّة، من جهة أخرى، فيدرك هذا الأخير عمق حاجته لله فيستغيث به مترجّيًا إيّاه أن يخرج عن صمته، ويعلن عن قدرته أمام الشعب، ويخزي الأعداء الشامتين القائلين:«أين الله إلههم؟» (مز 115: 2)، وذلك إنقاذًا لاسمه:«لا لنا يا ربّ لا لنا، بل لاسمك…» (مز 115: 1). وفي موضع آخر من التوراة الكتابيّة، يتوجّه حبقّوق النبي إلى الله صارخًا ومستغيثًا:«إلى متى يا ربّ أستغيث ولا تسمع؟ إلى متى أصرخ من الجور ولا تخلّص؟» (1: 2). وفي الوتيرة ذاتها يصرخ صاحب المزمور راجيًا الربّ قائلاً:«يا إلهنا لا تكن ساكتًا، لا تصمت ولا تهدأ يا الله. فها أعداؤك يضجّون، ومبغضوك يرفعون رؤوسهم…»(مز 83: 2-3)… لكن هذا لا يعني أنّ الله هو دومًا صامت، ولا يكلّم شعبه أبدًا، بل أحيانًا كثيرة يكلّمهم بأشباه شتى، ووسائل متنوّعة (عب 1: 1)، لكنّهم لا يجيبون إذ «لهم آذان ولا يسمعون، لأنّهم شعب متمرّد» (حز 12: 2)… كثيرة هي الشواهد الكتابيّة الدالة على هذا ”الصمت الإلهي“ الذي أقلق إسرائيل وحلّ عليه كالنقمة من جهة، وكالنعمة، من جهة أخرى، حاثًّا إيّاه للبحث دومًا عن وجهه وبشغف قائلاً: «وجهك يا ربّ ألتمس، فلا تحجب وجهك عنّي» (مز 27: 8)، إذًا، لا سبيل للتواصل مع الله لالتماس وجهه، لالتماسه في ذاته، سوى الصمت، والإصغاء، والفهم، فالعيش.

ب – صمت إسرائيل إصغاء لله وتجاهل له

في التوراة الكتابيّة شواهد كثيرة عن صمت إسرائيل أمام الله. فهو يصمت ليسمع كلمة الله، وقد أشرنا أعلاه أنّ الصمت في اليهوديّة لا يمكن أن يكون لذاته، بل يهدف إلى ما هو أسمى منه: سماع كلمة الله والإصغاء إليها لتبيان مشيئته والعمل بها (الوجه الإيجابي لصمت إسرائيل). نجد في النبي صموئيل مثالاً في ذلك، عندما دعاه الله، في صمت الليل والرقاد، أجابه:«تكلّم يا ربّ لأنّ عبدك سامع» (1 صم 3: 10)؛ وكذلك سليمان الملك الحكيم يشكر الله لأنّه وهبه ”قلبًا صاغيًا“ ليحكم شعبه مميِّزًا بين الخير والشرّ… (1 مل 3: 9). وإيليّا اختبر الله عندما سمع ”صوت صمت دقيق“ (1 ملوك 19: 12). ويقول سفر المراثي أنّه «خير أن ينتظر الإنسان خلاص الربّ بصمت» (3: 26). وصفنيا النبي كتب قائلاً:«اصمتوا أمام السيّد الربّ فيوم الربّ قريب…» (1: 7). والمزمور 65 يصلّي قائلاً:«لكَ الصمت تهليلاً يا الله في صهيون» (آ 2). لصمت إسرائيل أيضًا، ناحية سلبيّة، يعبّر فيها عن رفضه لكلمة الله، فيصمّ أذنيه عن سماعها، وقلبه عن فهمها، ليجذبه ويضلّله صمت الأصنام والأوثان القابعة على المرتفعات في هياكل الكنعانيين، فيكون صمته صمت الخائن والخائف والتائه عن التحدّث إلى الله، متحوّلاً عن عبادته الحقيقيّة في هيكله وقدس أقداسه.

أمّا في التوراة الشفهيّة فإنّنا نجد تواصلاً في المفاهيم حول الصمت مع التوراة الكتابيّة، إذ بتأثير مباشر من هذه الأخيرة (خاصّة الأسفار الحكميّة) أخذ الربّانيم، حكماء إسرائيل منذ سنة 70 م. يعتبرون الصمت مرادفًا للحكمة. فقد جاء في ”فصول الآباء“([1]) أنّ رابي شِمْعُونْ بِن جَمْلِيئِل قال:«ترعرتُ جميع أيَّام حياتي بين الحكماء، فما وجَدتُ أفضل من الصَّمت فائدة للجسد…» (1: 17). وكذلك قال رَابِي عَقِيبَا:«الضّحك وخفَّة الرّأس يُؤَدِّيان إلى التفلّت… وسِياج الحكمة الصَّمت» (3: 17)، وقد وافقه الحكماء قائلين:«جيّد هو الصَّمت للحكماء، وكم بالأحرى للجهّال…» (تلمود بابلي، فسحيم 99 أ).

ولكنّ للصمت وجه آخر مؤلم اختبره إسرائيل في تاريخه، وتحدّث عنه في كتاباته على مرّ أجياله، ونعته بصمت الجهل، وبصمت الاضطهاد والقمع والتمييز، إلى أن وصل إلى ذروته بصمت ”المأساة“ الذي تواطأ به الله إله إسرائيل، مع أعداء شعبه المختار ليمحوه من الوجود، لكن الله والمتواطئين معه، عادوا فندموا على صمتهم، فكانت كلمتهم ”لدولة إسرائيل“ وصمتهم ”لدولة فلسطين“!

ج –صمتالمأساة: تواطؤ الله، والعالم على إسرائيل

هذا الصمت، كثيرًا ما تتحدّث عنه الأوساط اليهوديّة عامّة والإسرائيليّة (كدولة) خاصّة، منذ الحرب العالميّة الثانية التي شهدت اضطهادًا واسعًا ضد اليهود أوّلاً، وضد كلّ من لا اعتبار له في عين العقيدة النازيّة العنصريّة ثانيًا، وصولاً إلى المسيحيّة في تعاليمها وثقافتها ثالثًا. ينظر اليهود بخشوع أحيانًا، وبنقمة أحيانًا أخرى، إلى هذا الصمت وقد تلاقى فيه صمت الله، وصمت إسرائيل، بصمت العالم: صمتُ الله تجلّى في أقسى معانيه، وكأنّه تخلّى، نهائيًّا، عن شعبه تاركًا إيّاه لقمة سائبة بين أنياب أكثر أعدائه شراسة وضراوة في تاريخه، وقد أوقد بحقده محرقةَ إبادةٍ وصلت ضحاياها إلى ستة ملايين يهودي من مختلف الأعمار (حسب إحصاءات يهوديّة)؛ صَمَتَ الله في كلّ هذا، ولم يفتقد شعبه، وكأنّه، في هذه المرّة، استبدله بأعدائه المنتصرين المنتشين. وقد تهيّئ لكثيرين من بين اليهود، أنّ الله مات مع من ماتوا في هذه ”المأساة“ (שׁוֹאָה)، في أفران الغاز، إثر قرار ”الحلّ النهائي“ الذي أبرمه هتلر ومجلسه العسكري بحق يهود أوروبا وصولاً إلى يهود العالم. صَمْتُ الله الرهيب هذا، ألزم إسرائيل الذي بات لا مصير له ولا نصير، بالصمت المؤلم والمكبّل، أمام جزّاريه لذلك «كشاة سيق إلى الذبح، وكحمل صامت أمام الذين يجزّونه ولم يفتح فاه…» (أش 53: 7-8)، تمامًا كعبد يهوه الذي اختير ليكون كبش محرقة عن البشريّة برمّتها (حسب التفسير اليهودي)، يقابله صمت يسوع على الصليب أمام صالبيه، راضخًا لله أبيه الذي كان ينظر إلى جهاده من السماء صامتًا، فكان يسوع يتماهى بعبد يهوه هذا الذي يفتدي البشريّة بآلامه وبموته العنيف (بحسب التفسير المسيحي). كذلك العالم، فقد تواطأ بصمته مع صمت الله، فصمت هو أيضًا شامتًا ناظرًا إلى من يتألّم، دون أن يفتح فاه مدافعًا عنه، وعن حقّه بالحياة، وقد سلبها منه النازيون؛ لذلك يتّهم اليهود الأوروبيين الذين أمام عيون حكوماتهم وكنائسهم الصامتة والشامتة، فعل بهم النازيون ما فعلوه من قبائح لا سابق لها في تاريخ البشريّة. وهذا ما يتقصّدون إعلامه وتعليمه، بحقّ أو بغير حقّ (لا مجال هنا للمناقشة)، لأولادهم ولزوّار متاحفهم حيث رفعوا أنصابًا تذكاريّة ”للمأساة“ أو ”للمحرقة الكاملة“ (Holocauste) كتبوا عليها:«… حدث كلّ هذا والعالم غافل وصامت عنه…». هذا الصمت الذي عانى منه اليهود، لربّما هو في أساس عنف الإسرائليين ضدّ الفلسطينيين الذين هم أيضًا، بدورهم، يعانون من صمت شبيه بنتائجه بصمت المأساة. من المسؤول عن هذا الصمت الذي يجرّع كأسه لأبرياء يموتون وهم يلتمسون الحياة؟ ألا من ”كلمة سواء“ تكسر هذا الصمت؟

  1. ننتقل من الحديث عن الصمت إلى الحديث عن كتاب هو جزء من سلسلة كتب تبحث في ظاهرة ”الصمت في التصوّف والأديان“. وعنوان هذا الكتاب هو ”الصمت في اليهوديّة، تقاليده في التوراة والتلمود وعند النبي إيليّا والحسيديم“، وقد شرّفني مؤلّفه حضرة الدكتور لويس صليبا، الباحث في الدراسات الهنديّة والأديان المقارنة، بقراءته وبتقديمه. فحاولت جاهدًا بعد قراءته بإمعان أن أقدّمه بما يليق به وبمؤلّفه المشكور على هذا الطرح في اليهوديّة وغيرها، فنادرًا ما نجد باحثًا يغامر بمواضيع باتت في عالمنا الحاضر من الهوامش أو من الكنوز العتيقة، إلاّ في أماكن مختصّة كدور العبادة والأديار والمناسك، وأيضًا في دور الكتب والمطالعة، لمَ لا! فهناك لا يزال الصمت يسود في خشعة المعرفة والعلم والبحث والتنقيب، والدكتور لويس صليبا نذر حياته للكتب وللبحث، ولمَ لا للصمت فالإبداع! فلا عجب إذًا، أن يختار المؤلّف الكريم موضوع الصمت ليعالجه في تيّارات روحانيّة مختلفة، ليكشف فيها عن سرٍّ مشترك يحرّكها جميعًا، هو سرّ الصمت الملازم للكلمة، فهما معًا يشكّلان سرّ التواصل مع المطلق، مع الله، في شتى كشوفاته.

قرأت الكتاب بشغف لأنّه يعالج الموضوع بطريقة شاملة شيّقة، وجدت فيه بساطة الطرح وعمق المعالجة، ممّا يجعل القارئ المهتمّ، ينجذب إلى قراءته، مكتشفًا معاني جديدة للصمت، نهلها الكاتب العارف من مخزون علمه وكتبه، فقدّمها لنا في كتابه هذا مخفّفًا عنّا مشقّة البحث الطويل والمضني. فقد اعتمد للدخول في صلب موضوعه، الأسلوب الكلاسيكي في معالجة مواضيع كهذه، إذ بادر إلى المصادر الإيمانيّة اليهوديّة دون غيرها، مستندًا أحيانًا على كتّاب ومؤلّفين يهود، ليحافظ على موضوعيّته، بعيدًا كلّ البعد عن الانجرار خلف الأحكام المسبقة، والنعوت المعلّبة. أراد أن يكون طرحه ”يهوديًّا“، ”توراتيًّا“، ”تلموديًّا“، و”حسيديًّا“ صرفًا، جامعًا بين معطيات التوراة الكتابيّة، والتوراة الشفهيّة، ركنَي العبادة اليهوديّة، وهذا ليس بالأمر السهل في محيطنا المشرقي العربي، للأسباب التي يعرفها الكثيرون، وأمّا الذين يتخطّونها بموضوعيّتهم فقليلون.

إنّنا في الختام، نهنّئ الدكتور لويس صليبا على ثمرة أتعابه هذه، ونتمنّى له المزيد من النشاط، ليقدّم إلى المكتبة العربيّة كنوزًا تحتاجها ليزداد غناها الفكري والإنساني…

الأب إميل عقيقي ر ل م

دير كفيفان في 29 آب 2008

[1]  – راجع فصول الآباء (פִּרְקֵי אֲבוֹת)، ترجمه عن العبريّة إلى العربيّة الأب إميل عقيقي، سلسلة ”الأدب الرابيني“ 2، منشورات كليّة اللاهوت الحبريّة، جامعة الروح القدس – الكسليك، 2008.

 

مقدمة المؤلف للطبعة الثانية

مرّة أخرى أعود إلى محيط الصمت في اليهوديّة، أغوص فيه محاولاً أن أستخرج مزيداً من النفائس والدرر. وكان لا بدّ لي من أن أجدّد العودة وأنا أحضّر للطبعة الثانية من هذا الكتاب، ولو شئت أن أستجيب لكل مغريات البحث والتنقيب لطالت وقفتي وتخطّت الوقت والجهد اللذين خصّصا لتصنيف هذا الكتاب في طبعته الأولى. لكن الزمن يلحّ، وقد مضى على نفاد الطبعة الأولى شهور، ولا بدّ من تلبية طلب العديد من القرّاء على هذا السِفر. وعلى الرغم من قصر الوقت المتاح، فقد رفدت هذه الطبعة الثانية بزيادات مهمّة انصبّت في الغالب في الباب الثاني المخصّص لاختبار الصمت عند النبي إيليا. فكانت لي خطرات جديدة في شموليّة الرسالة في المفهوم الإيليائي وعدم اقتصارها على شعب مختار وأرض ميعاد كما هو الحال في النظرة اليهوديّة الموسويّة التقليديّة. هذا البعد العالمي والشمولي في اليهودية، يندر الحديث عنه حتى بين اليهود أنفسهم ويغيّب غالباً. في حين أنه يستحق الكثير من العناية والبحث.

ووقفة مطوّلة جديدة تقارن بين إيليا/الخضر في القرآن وبعض الروايات التلمودية المشابهة، وما يمكن أن يستخلص من المقارنة بين التقليدَين الإسلامي/القرآني والتلمودي/اليهودي في هذا المجال. والبحث المقارن بين الروايات الإسلامية لقصص الأنبياء في القرآن والأحاديث والمأثورات من جهة والروايات التوراتية والتلمودية من جهة أخرى غابة شبه عذراء لا تزال بحاجة إلى المزيد من المستكشفين والمغامرين، لا سيما مِمَّن يكتبون بلغة القرآن. فآمل أن يلقى هذا المجال مستقبلاً المزيد من الاهتمام والتنقيب.

وإذ أعبّر عن عمق امتناني لما لَقِيَتْه الطبعة الأولى من هذا الكتاب من اهتمام القرّاء والباحثين، أتمنّى أن يلقى الطريق الذي حاول هذا البحث أن يشقّه في مقاربته المحايدة لليهوديّة، مزيداً من العابرين والرواد كذلك.

Q.J.C.S.T.B

باريس في 16/01/2010

المحتويات

– إهداء…………………………………………………… 5

– سلسلة الصمت في التصوّف والأديان المقارنة………………… 6

– مقدّمة أ. إميل عقيقي…………………………………….. 7

– مقدّمة المؤلّف للطبعة الثانية………………………………… 19

– مدخل إلى أبحاث الكتاب…………………………………… 21

الباب الأول/ الصمت في التوراة والتلمود……………… 33

الفصل الأول: صمت الله والإنسان في التوراة ومدلولاتهما…………………. 35

– التوراة كتاب الكلمة والصمت……………………… 37

– صمت الله علامة حُبّ…………………………… 38

– صمت الله دليل غضب………………………….. 39

– صمت الإنسان علامة تردّد أو خجل………………. 40

– الصمت صفة الحكيم……………………………. 43

– الصمت احتفال بالحضور الإلهي………………….. 45

الفصل الثاني: التوراة وتلقين الصمت…………………………… 47

– الله يعلّم أنبياءه الصمت………………………….. 49

– العزلة شقيقة الصمت……………………………. 51

– أليشع النبي يعلّم رسوله الصمت………………….. 52

– الأنبياء والإصغاء إلى الصمت…………………… 55

– سقوط أريحا وتعاقب الصمت والصوت……………… 57

– الصوت الداخلي والصمت……………………….. 59

الفصل الثالث: آداب اللسان والصمت في التلمود………………….. 63

– التلمود هو التوراة الشفهيّة………………………… 65

– آداب اللسان في التلمود………………………….. 68

– تقاليد الصمت في التلمود………………………… 73

– صمت النظر وسائر الحواس……………………… 73

– الصمت وحفظ الحواس في فلسفة ابن كمّونة………… 77

الباب الثاني/ إيليا نبي الإصغاء إلى الصمت……………. 83

الفصل الأول: إيليا قبل التجلّي على حوريب…………………….. 85

– إيليا النبي الغيور……………………………….. 87

– إيليا يمنع المطر وينعزل…………………………. 90

– إيليا ومحرقة الكرمل…………………………….. 94

– إيليا يهرب في البرّية…………………………….. 96

– إيليا منفّذاً لشريعة موسى…………………………. 97

الفصل الثاني: الإصغاء إلى الصمت على حوريب…………………. 101

– إيليا وصَوت الصمت المرهف……………………… 103

– بين تجلّيي سيناء وحوريب…………………………. 105

– قُل ديمانا دَقة……………………………………. 106

– تجلّي الله في الصمت…………………………….. 109

– إله موسى وإله إيليا………………………………. 111

– اختبار إيليا مقارنة باختبارات المتصوّفين…………….. 116

الفصل الثالث: مسار إيليا نحو اختبار الصمت…………………….. 119

– الموت عن الذات طريق الكشف……………………. 121

– إيليا يكرّر مشهد إسماعيل…………………………. 124

– سيرة إيليا تتمحوَر حول اختبار الصمت……………… 126

– إيليا لم يعُد إيليا………………………………….. 128

الفصل الرابع: إيليا بعد اختبار حوريب………………………….. 131

– شموليّة الرسالة والخلاص في العقيدة الإيليائيّة……….. 138

الفصل الخامس: النبوّة في إسرائيل بعد إيليا………………………. 145

– أليشع نقيض النموذج الإيليائي…………………….. 147

– إيليا وأجيال الأنبياء التالية…………………………. 149

– إيليا والنبي يونان………………………………… 151

– إيليا وتيّارات الأسينيين والمعمدان وغيرها…………….. 157

– العهد القديم محصّلة بين تقليدَين……………………. 159

الفصل السادس: إيليا في التقاليد اليهوديّة…………………………. 161

– التوراة تختتم بذكر إيليا……………………………. 163

– اليهود ينتظرون مجيء إيليا……………………….. 164

– إيليا في التلمود والقبالا……………………………. 167

– الانتظار الإيليائي اليوم…………………………… 170

الفصل السابع: مار الياس الحي في التقاليد المسيحيّة……………………… 173

– إيليا ويوحنّا المعمدان……………………………… 175

– إيليا ويسوع……………………………………… 177

– بين معراج بولس وكشف إيليا……………………… 184

– إيليا في التصوّف المسيحي……………………….. 189

– إيليا شفيع روّاد الفضاء…………………………… 193

– مار الياس الحيّ في لبنان والمشرق…………………. 194

الفصل الثامن: النبي إلياس في الإسلام…………………………… 199

– النبي إلياس في القرآن……………………………. 201

– النبي الياس في المأثورات الإسلاميّة………………… 202

– النبي الياس والخضر…………………………….. 203

– إلياس/الخضر هو معلّم موسى…………………….. 205

– موسى والياس بين روايتَي القرآن والتلمود…………….. 207

– دلالة التماهي بين الخضر والياس………………….. 213

الباب الثالث/الصمت في تقاليد الحسيديم………………… 215

الفصل الأوّل: بعل شيم طوب المؤسّس………………………….. 217

– بعل شيم طوب طبيب الأجساد والنفوس……………… 219

– معاريج بعل شيم…………………………………. 223

– بعل شيم يعلّم بالتخاطر الروحي……………………… 225

– وفاة بعل شيم وآثاره………………………………. 226

– تعاليم بعل شيم طوب…………………………….. 227

– ”الدبقوت“ حالة من الصمت المطلق………………… 232

الفصل الثاني: المغيد والصمت في تعاليم مدرسته…………………… 237

– المغيد وأبرز تعاليمه……………………………… 239

– الصمت في تعاليم المغيد وتلامذته…………………. 244

رابي وُلف والصراع بين الكلمة والصمت………… 245

رابي أليملخ: الصدق كافٍ للخلاص……………. 247

رابي ليفي واللقاء الصامت……………………. 248

– الحسيديم بعد زمن المؤسّس والمغيد…………………. 249

الفصل الثالث: رابي فنحاس: الصدق والصمت رفيقان………………….. 251

– رابي فنحاس وعلاقته ببعل شيم…………………….. 253

– رابي فنحاس بين الصمت والصدق…………………. 254

الغرور والشهرة أعداء للصدق…………………. 256

الصمت مرادف للصدق………………………. 257

– رابي رافايل يؤثر الموت على الكذب………………… 258

هل يختار المتحقّق ساعة وفاته……………….. 259

بين الصدق والمحافظة على حياة القريب……….. 260

استشهاد أَم هروب…………………………… 261

الفصل الرابع: رابي نحمان والصرخة الصامتة…………………… 263

– نحمان الصديق والروائي………………………….. 265

– الصمت والعزلة في سيرة نحمان وتعاليمه……………. 267

الصلاة صرخة صامتة………………………. 268

الشهرة طريق إلى الشهوة……………………… 270

الكلمة ودورها في المنفى……………………… 271

– نحمان راوي الحكايات…………………………….. 272

بين رابي نحمان وفرانز كافكا…………………. 273

الكتاب المحروق حاجز بوجه صنميّة الفكر……… 275

– نحمان صديقاً حيّاً وميتاً…………………………… 276

الفصل الخامس: رابي مندل من كوتسك، صمت يمزّق الليالي………………… 279

– خُلق الإنسان ليعرف الحقيقة لا السعادة……………… 281

– الكذب سرقة من الذات……………………………. 283

– العزلة في حياة رابي مندل…………………………. 285

– الصمت في تعليم رابي مندل………………………. 286

– حَرَقَ كتبه ولم يخلّف سوى صمته………………….. 288

الفصل السادس: رابي مندل، دموع خرساء وعِظات بلا كلام…………………. 291

– تراث الصمت إرث مشترك عند الحسيديم……………. 293

– رابي مندل من وركي وتراثه في الصمت…………….. 295

يطيع قبل أن يؤمر………………………….. 296

صمت في وليمة السبت……………………… 297

سهرة صامتة……………………………….. 298

درس بدون كلام…………………………….. 298

لقاء صامت………………………………… 298

صراخ بلا صوت……………………………. 299

الوضعيات الأساسيّة…………………………. 299

النوم الهادئ خير من الدرس الصاخب…………. 299

الموت الصامت…………………………….. 300

خلاصة في الصمت عند الحسيديم…………………………….. 301

– ملحق أوّل: صمت حوريب………………………………….. 309

كيف الكلام عن إيليا………………………… 311

إيليا صورة ابن الله وإيزابيل صورة الخطيئة………. 312

وهرب إيليا من إيزابيل……………………….. 314

وتعبَ إيليا…………………………………. 316

الملاك يحمل طعاماً إلى إيليا…………………. 318

مسيرة أربعين يوماً…………………………… 319

الصَوم…………………………………….. 320

حوريب……………………………………. 321

الريح والزلزال والنار…………………………. 323

واستعدّ إيليا للوحي الإلهي……………………. 325

كلام الربّ عذبٌ……………………………. 327

مهمّة إيليا………………………………….. 329

ومسح أليشع……………………………….. 331

السبعة آلاف……………………………….. 332

إيليا وحده عُرف…………………………….. 334

الإعجاب بالصمت………………………….. 335

– خاتمة البحث……………………………………………… 337

– مكتبة البحث………………………………………………. 343

– فهرس الصوَر……………………………………………… 355

– المحتويات………………………………………………… 359

 

 

شاهد أيضاً

مداخلة هشام أبو جودة ابن شقيق الصحافي ميشال أبو جودة في ندوة كتاب “فؤاد شهاب ما له وما عليه” لـ لويس صليبا، الجامعة الأميركية للتكنولوجيا AUT، الفيدار-جبيل، الخميس 20 شباط 2025

مداخلة هشام أبو جودة ابن شقيق الصحافي ميشال أبو جودة في ندوة كتاب “فؤاد شهاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *