مقدمة وغلاف كتاب زجل لبنان: تاريخ وأعلام وآثار/ تأليف لويس صليبا

مقدمة وغلاف كتاب زجل لبنان: تاريخ وأعلام وآثار/ تأليف لويس صليبا

المؤلّف/Auteur: أ. د. م. لويس صليبا Lwiis Saliba

مستهند وأستاذ محاضر ومدير أبحاث في علوم الأديان والآداب والدراسات الإسلامية

عنوان الكتاب: زجل لبنان: تاريخ وأعلام وآثار

Titre:et Œuvres  Poèsie Populaire Libanaise: Le Zajal Histoire, Poètes

الغلاف: تصميم دة ندى الياس، واللوحة للفنّانة الراحلة ريتا طانيوس (ت2018)

عدد الصفحات: 450ص

سنة النشر: طبعة ثانية 2024، طبعة أولى 2021

الناشر:            دار  ومكتبة بيبليون

طريق الفرير، حي مار بطرس، شارع 55، مبنى 53، جبيل/بيبلوس-لبنان

ت: 09540256،        03847633،     ف: 09546736

Byblion1@gmail.com            www.DarByblion.com

2024©-جميع الحقوق محفوظة، يمنع تصوير هذا الكتاب، كما يمنع وضعه للتحميل على الإنترنت تحت طائلة الملاحقة القانونية.

إلى من أحبّ الزجل اللبناني وحبّبني به

إلى طانيوس الياس الخوري صليبا

والدي الراحل، تذكاراً لسهريّات “حفلات القول” التي كانت تفرحه وتطربه

                                                       Q.J.C.S.T.B

ديباجة الكتاب

مدخل إلى بحوثه وطروحاته

 

 

اللبناني والزجل رفيقا درب

بين زجل لبنان ومؤلّف هذا الكتاب، كاتب هذه السطور، حكاية قديمة، تعود إلى زمن البدايات. واللبناني، غالباً ما يكون شاعراً وزجّالاً بالفطرة أو أقلّه محبّاً ومتابعاً له، ويرافقه الزجل من المهد إلى اللحد. يولد فتزلغط النساء فرحاً بالقادم الجديد، ويردّدن بعض ما حفظن من أشعارٍ وردّيات زجلية في مناسبة مفرحة كهذه. يتزوّج، وللزجل موقع أساسي في هذه المناسبة المفرحة الثانية. ويودّع الدنيا عائداً إلى التراب الذي منه جُبل فيرافقه الزجل في رحلته الأخيرة هذه. إذ يندبه الندّابة ويرْثونه ويشاركون من ينوح عليه، ولا تزال ترنرن في أذن أذن المؤلّف مناحات الندّابين، وكانت تُنقل بمكبّرات الصوت والميكرفونات فتُسمع في طول القرية وعرضها، وفي أحياء المدن كذلك، ومنها مدينته جبيل. ولا تزال تلوح في مخيّلته صورة الندّابين ولا سيما حنّا موسي منهم، الواقف بقامته الفارعة وطربوشه الشهير يرتجل ما يندب به الميت، وينفرد من وقتٍ لآخر في زاوية أو في حديقة منزل الفقيد يستوحي ما يستأنف به الندب والرثاء. عادات وتقاليد في طَور الانقراض، أو هي انقرضت بالفعل وليت ما حلّ محلّها يحمل نذراً قليلاً ممّا كانت تحمل من دفء وقيَم. وبين المهد واللحد كم كانت تمرّ من أحداثٍ ومناسبات لا يغيب عنها الزجل، أو “القول”، كما كان يسمّيه اللبنانيّون. ومن نشأ نشأة كهذه أيمكن أن لا يكون للزجل في نفسه وقعٌ، وفي قلبه مكانة؟! والعلم في الصغر كالنقش في الحجر، يقول المثل اللبناني.

وليس ما يوضع بين يديّ القارئ اليوم كتاب المؤلّف الأوّل في الزجل، إذ سبقه آخر([1]) وقد لا يكون الأخير، فالبحث في هذا الموضوع أمرٌ يستهويه، ويحمل إليه من السلوى والفرحة ما كان يحمله المعنّى نفسه ولا يزال. ويبقى أن المهمّ والأساسي في هذا المجال أن يحمل الكتاب جديداً في مجاله، لا أن يكون تأليفه وإصداره مجرّد مناسبة مفرحة لكاتبه وحسب!

فما هو جديد هذا الكتاب إذاً؟

هو أولاً سِفرٌ لا يكتفي، كنظائره من الأسفار التي صدرت عن الزجل وجالت في حدائقه، بجمع القصائد وعرضها ونشرها وذكر مناسبتها، بل يغوص في مبانيها ومعانيها ويقرأها قراءة نقديّة مغربلاً هنا، وناخلاً هناك، ومظهراً ما لها، وما عليها، ومقارناً بينها وبين إبداعاتٍ أخرى للشاعر نفسه أو لغيره من الشعراء. سفرٌ يدرس ويحلّل الآثار الزجلية إذاً، ولا يكتفي بجمعها ونشرها وحسب.

وهو ثانياً مصنّف يجمع بين دفّتيه بحوثاً ودراسات ومقالات وحوارات نُشر أكثرها في مجلّات وصحفٍ أشير إليها، كلٌّ في مكانه. وهي بمجملها تؤرّخ لزجل لبنان ولثلّة من أبرز أعلامه وأساطينه، لا سيما في القرن العشرين من غرّته حتى نهاياته. ولم يغب عنه معظم الكبار والمشاهير في هذا المجال، على اختلاف في المساحة المخصّصة لكلّ منهم.

والباب الأوّل ب1، خُصّص للشاعر موسى زغيب. وله في تاريخ الزجل وفي تطوّره وازدهاره أثرٌ لا يمحى، ولن يزيده تقادم الأيّام إلا تألّقاً.

والفصل الأوّل ب1/ف1، دراسة تتوسّط الإسهاب والاقتضاب، وتظهّر لزغيب صورة ضمن اللوحة البانورامية والمشهد العامّ للزجل في موطن الأرز: ميّزات شعره، والسهل الممتنع فيه، مبارزاته الشعرية مع زغلول الدامور وغيره، وعلاقته بسابقه ورئيس جوقته خليل روكز.

أما الفصل الثاني ب1/ف2، فحوار بين المؤلّف وموسى زغيب، طرح فيه الأوّل على الثاني جملة أسئلة تناولت المواضيع الآنفة الذكر مضافاً إليها معالم أخرى من خصائص شعره وميّزاته. وكان موسى زغيب صريحاً ومباشراً في أجوبته، فتحدّث عن المرأة في شعره مقارنة بموقعها في شعر زميله ورئيس جوقته خليل روكز. واعترف أن هذا الأخير كان ولا يزال أفضل شاعر زجليّ، بمن فيهم هو! أما الزغلول فيبقى صديقاً له، وهو لا يطلق في شعره حكماً، وإن كان ضمناً يرى أنّه تفوّق عليه. ولا يفوته أن يلحظ أن أسراب فطاحل الشعراء التي أدخلت الزجل عصره الذهبي قد رحلت كما ترحل الطيور، ولم يبقَ منها حيّاً سواه، فمع مَن تريده أن يغنّي. وأكّد زغيب، في هذا الحوار، أنّه يؤمن بالتقمّص، ويحبّ بوذا وغاندي ويتبنّى نهج اللاعنف الذي علّماه ودعيا إليه، وهو على طريقهم نباتيّ يرفض ذبح الحيوان والتضحية به للذّة الإنسان وملء جوفه. ويتناول زغيب شؤوناً أخرى في الزجل وتاريخه، فيؤكّد أن خليل روكز هو من وَجْدَن المعنّى في حين أنّه هو أي زغيب من نقل المنبر من القوّال إلى الشاعر. أمّا أرجَل من ارتجل الشعر على المنابر فحنّا موسي.

والفصل الثالث من الباب الثاني: ب2/ف3 يقدّم قراءة نقدية لعددٍ من دواوين موسى زغيب. وأوّلها ديوانه قلم ودفّ. فيتوقّف عند إيحائية أبياته وغنائيّتها، ولوحاته الشعرية الباهية الألوان. أمّا الديوان الثاني “مبارح وبكرا“، ففيه مراثٍ مبدعة وبعيدة عن التقليد. والثالث “وصايا” يقود الباحث تلقائياً إلى المقارنة بين وحي الأنبياء ووحي الشعراء. وللتقمّص فيه وقانون الكارما أي الفعل وردّة الفعل موقع ونصيب. والديوان الرابع “ملحمة الانتشار اللبناني” تحفة شعرية مشوّقة في حبكتها وتسلسل أحداثها، وتفتح آفاقاً جديدة في الزجل. أمّا الديوان الخامس “خبرة زمن“، وهو آخر ما أصدر الشاعر، فخطوة إلى الوراء، مقارنة بسوابقه، إذ يُظهر تراجعاً إن في الشكل أو في المضمون.

والباب الثاني ب2 مخصّص لشاعر مبدعٍ آخر هو أنيس الفغالي.

والفصل الأوّل منه ب2/ف1، يرسم صورة تبرز ملامح هذا الزجّال الفذّ. ويتوقّف عند مسألة كثر فيها النقاش ألا وهي لقب “الشحرور الزغير” الذي عُرف به أنيس، فهل هو شحرور الوادي نفسه من منحه هذا اللقب، وجعله خليفة له؟ يغربل هذا الفصل مختلف الروايات وينقدها، ثم ينقل عن ديوان الشحرور الكلمة الفصل التي تؤكّد صحّة الحدث واللقب في آن، وما أنشده الشحرور يومها في هذا الصدد. ويبقى أنيس الفغالي شاعر الحداثة بامتياز إن في دعوته إلى العلمنة والزواج المختلط بين المسيحيين والمسلمين أو في موقفه التقدّمي من المرأة والذي تميّز فيه عن سائر زملائه وأقرانه الزجّالين.

والفصل الثاني ب2/ف2 ينقل حواراً مطوّلاً بين المؤلّف والمحامي رفيق الفغالي نجل الأنيس. ويؤكّد فيه هذا الأخير أن والده شاعر لم يتكسّب بشعره، وكان الارتجال من أبرز ميّزاته، أمّا حبّه للبنان فبلغ حدّ العبادة رغم أنّه وعى تماماً أزمة الوطن الصغير، والمخاطر المحدقة به.

والفصل الثالث ب2/ف3، يغربل دواوين الأنيس ويضعها في ميزان النقد. الأوّل “لبنان قبل وبعد” يظهر واقعيّة جذّرتها حرب لبنان، وجعلت الشاعر يثور على ما رأى في شعبه من فساد ودجلٍ وطائفية، ومن بطرٍ كذلك.

والثاني “ديوان الأنيس“، وفيه يدعو الشاعر مجدّداً: “كفانا اعتبار الكذب ذكاءً”، ويتوقّف الباحث عند غزليّات الأنيس، فيعرض قصيدة منها ويحلّلها، ويعتبر غزل الفغالي حالة برزخيّة بين العذري والإباحي.

والباب الثالث ب3، يدرس شاعر ندى، أو بالحري مجنون ندى الشاعر كابي اسكندر حدّاد، شخصيّة مميّزة إن في سيرتها أو في شعرها، أو في بحوثها. شعر حدّاد يقطر عاطفة ووطنيّة كذلك. بدّد ثروته وهو ابن صاحب مصرف، فتركته زوجته ندى مصطحبة معها ولدَيهما، وعادت إلى الشام مسقط رأسها، ولم تفلح كل المحاولات والوساطات في إعادة هذا البيت الزوجي إلى ما كان عليه، فقضى الشاعر ما بقي له من أيّام يحنّ إلى ندى، ويتغزّل بها. عاطفيّ شعره حتى العظم، وانسيابيّ، ومجبول بوجع المعاناة. أما وطنيّاته فصادقة ومرهفة، وكذلك وجدانيّاته.

والفصل الثاني ب3/ف2، قراءة نقدية لديوان كابي حدّاد “قصائد الوطن والحب”. وقصائده الغزلية في ندى، والوطنيّة في لبنان، من أجمل وأرقّ ما أبدع الزجّالون في هذين المجالَين.

والباب الرابع: ب4: يتناول شاعراً لم يلقَ بعد ما يستحقّ من اهتمام. إنه مخايل خليفة شاعر الحيرة والتساؤلات الكبرى. عاش، ولا يزال، بعيداً عن الأضواء، وهو يفتخر بأنّه شاعر الخاصّة وليس شاعر العامّة، ولا تهمّه الجماهير المصفّقة للزجّالين، ولا تعنيه. ومخايل خليفة حائرٌ هو بين الشكّ والإلحاد والتقمّص، بحث بدأب عن المرأة التي يهوى، فلم يجدها، فافترضها وتصوّرها في عالمه الشعري. وهو يقرّ أنّه، على تقدّمه في السن وطول رحلته في عالم الشعر، لمّا يزل في الإبهام. أمّا بديع شعره فغالباً ما يترجم ما يرى من رؤى. وهذا أبرز ما باح به في مقابلة أجراها المؤلّف معه في منزله في قريته إهمج.

والفصل الثاني ب4/ف4، يغربل دواوين مخايل خليفة ويسبر أغوار شاعريّتها أسلوباً ومضموناً. والديوان الأوّل “معاصر الطيب” يروي رحلة جوّانية قام بها الشاعر واجتاز فيها الأزمان والمجرّات. ولقي في سفرته معّازاً علّمه الكثير في مجال الماورائيّات!

والديوان الثاني “لهيب الرماد“، لغته برزخيّة بين الفصيح والعامّي، ما يعيدنا إلى زمن الزجل الفصيح الذي ساد في القرن 19 وغرّة ق20، وهنا يتوقّف الباحث ناقداً هذه الظاهرة. وفي “لهيب الرماد” تستمرّ حيرة الشاعر بين الفوضى والنظام، وتتواصل مع هذه الحيرة الغربة والتساؤلات الكبرى.

والباب الخامس يدرس شاعراً وفنّاناً له على تراث الزجل اللبناني أيادٍ بيضاء. إنّه جوزف أبي ضاهر حافظ تراث الزجل، ومحقّق العديد من دواوينه.

والفصل الأوّل ب5/ف1: ينقل حواراً أجراه المؤلّف معه. وفيه يعلن أبي ضاهر أنّه مؤمن هادئ وليس مؤمناً كرنفاليّاً، ويؤكّد أن الزجل من أصولٍ لبنانية وجذور لبنانيّة سابقة لزجل الأندلس وابن قزمان. أما زجل الاغتراب فزجل الحنين والعاطفة ولم ينل بعد ما يستحقّ من اهتمام ودراسة. في حين أن الزجل الفكاهي الذي جمع أبي ضاهر شتاته مدرسة من الظُرف والعفويّة. والزجل المنبري ما عادت شمسه في منتصف النهار، وخبتَ وهجُها. والخلاصة فأبي ضاهر الشاعر والفنّان والباحث وحافظ تراث الزجل كالنحلة يعمل بصمتٍ، ويبقى على القارئ الجادّ والجدّي أن يتذوّق الشهد والعسل.

والفصل الثاني ب5/ف2 يعرض ويحلّل صفوة من أبرز مؤلّفات جوزف أبي ضاهر. وأوّلها “حبر لأوراق الذاكرة“، وفيه يروي ذكرياته عمّن عرف من أساطين الأدب اللبناني. بولس سلامه الشاعر الملحمي المعروف كان زجّالاً، وله ديوان زجلي نشره في أميركا، وعمل المستحيل كي لا يصل إلى لبنان والدول العربية، إذ أبى أن يُعرف زجّالاً كي لا يؤثّر ذلك سلباً على صيت شاعر الملاحم!!

و”أنطولوجيا زجل الاغتراب” جمع فيه أبي ضاهر منتخبات من هذا الإرث الوطني معرّفاً بكلّ شاعر، ومرتّباً أسماء الشعراء بحسب تاريخ الولادة، وقد بلغ عددهم 124 شاعراً، ولعلّه أوّل عملٍ في بابه يصون تراث المهجر الزجلي أو جلّه من الضياع. ويجعله يتخطّى غربته القسرية والعزلة والانطوائية التي فرضتها المسافات عليه.

و”موسوعة الزجل اللبناني شعراء ظرفاء” يضمّ دعابات الزجّالين البريئة إلى جانب نكاتٍ زجلية من كعب الدست، وخصّ أبي ضاهر كلّ شاعرٍ بمبحث ممهّداً لظُرافاته بنبذة موجزة عنه لا تُخلّ ولا تُملّ. وأخرج بالتالي موسوعة تراثية طريفة تضيف إلى المكتبة اللبنانية تحفة قيّمة.

و”عَ البركة: تقاليد لبنانية وعادات” كتاب يبيّن أن العادات اللبنانية على تنوّعها وتعدّد أطياف المجتمع اللبناني واحدة وتؤسّس لميثاق عيش شفوي أمتن من وثيقة مكتوبة. ويخصّ أبي ضاهر الأمثال اللبنانية باهتمام تستحقّه، فيجمع ما تيسّر له منها شارحاً مفسّراً، وبعضه ممّا لا يتوفّر في مصادر أخرى. كما يورد وثائق تراثية مهمّة كحجج بيع الأراضي وهي تسلّط أضواءً كاشفة على طرق التعامل التي كانت سائدة في السابق بين اللبنانيين، ولا سيّما المقايضة التي لا تزال كبريات الدول تعتمدها في علاقاتها التجارية، في حين أسقطها اللبنانيّون من قاموسهم التجاري وجنوا على أنفسهم واقتصاديّاتهم ووطنهم بذلك.

و”جونيه مدينة الصحافة 1895-2018” يظهّر صورة مدينة عريقة في مجال الفكر والثقافة صدرت فيها، في سحابة قرنٍ ونيّف من الزمن، 75 مطبوعة في مختلف المجالات. وأبي ضاهر في هذا الكتالوغ الغني يحفظ تراثاً صحفيّاً قيّماً من الضياع.

و”قبل ما يفلّ الزهر” ديوان بالمحكية لأبي ضاهر تتنّوع قصائده بين شهقة وشطحة، وتذكّر بقصائد الهايكو اليابانية. أمّا غزله فإيحائي يلمّح ولا يصرّح. بيد أن تلميحات الشاعر الخصبة تُلهب خيال القارئ.

و”الغيم ناطور الوقت” ديوان آخر بالمحكيّة، لا يقلّ إيحاءً ولا خيالاً عن سابقه. فيه يحكي الشاعر عن موجة فسطانها مخرّم، وعن ذاك الذي آثر أن يتزوّج الكلمة، ومنها أنجب أولاده.

والباب السادس ب6 مكرّس لشاعر خصّه المؤلّف بدراسة وكتاب “من خبايا التراث اللبناني”. إنّه الياس بك الحويّك. وهذا الباب يدرس ذاك الكتاب تحديداً، وينقل وقائع ندوة عنه.

وفي الفصل الأوّل منه ب6/ف1 مباحث أربعة من الكتّاب في هذا الكتاب.

وفي الثاني ب6/ف2: ردود المؤلّف عليها، وعرضٌ موجز لبعض ميّزات زجل الحويّك مثل جدلية الصراع بين المقدّس والمدنّس في شعره، ومقدرته اللافتة على التقاط أدقّ الإشارات الكونيّة.

والباب السابع (ب7/ف1، و ب7/ف2) يحمل عنواناً يستوقف كلّ مهتمّ بالزجل: “القيَم الدينيّة في زجل لبنان”، وهو في الحقيقة عنوان أطروحة دكتوراه أشرف عليها المؤلّف ونوقشت في الجامعة اليسوعية/بيروت. أمّا مادّة هذا الفصل ولحمته وسداه فالبحث الذي قدّمه الأستاذ المشرف في المناقشة، وفيه يلحظ أن البحث في القيَم الدينية الزجلية جهدٌ حواريّ بامتياز لأن الزجل، ولا سيما بوجهه المنبري، نوعٌ أدبي جمع اللبنانيين من مختلف أطيافهم حوله. وهو، إلى ذلك، ديوان لبنان كما أن الشعر ديوان العرب. وهذا الجانب الأنتروبولوجي فيه يستحقّ أن يكون موضع اهتمامٍ أكاديميّ جدّي ومتواصل، وما هذه الأطروحة سوى خطوة في الطريق.

والباب الثامن والأخير ب8 أطول الأبواب. وفيه يدرس المؤلّف عدداً من أبرز “زجّالي لبنان ودواوينهم”. وجاء ترتيبهم تبعاً لتواريخ ميلادهم.

والبداية مع خليل سمعان، أو الخوري لويس الفغالي (1859-1944)، وهو والد شحرور الوادي. وفي زجله عنتريّات في النظم وعرض عضلات في فنون القريض، وعاطفة صادقة في رثاء ابنه الشاعر الفحل الذي قضى شابّاً وهو لمّا يزل في ذروة العطاء.

والشاعر الثاني أمين أيوب (1861-1933) “عروس المرسح“، وهو من مؤسّسي مرحلة ظهور المسرح الزجلي وانتقال الزجل من الهواية إلى الاحتراف. وفي زجله ظُرف وسرعة بديهة وعاطفة صادقة، وحواريّات مبتكرة كتلك التي بين القلب والعين.

والشاعر الثالث منصور صافي نصر (1864-1938)، وهو من رعيل الزجل الفصيح، فمعظم قوّالي القرن 19 جنح إلى استخدام الكلام الفصيح. ويعبّر نصر في شعره عن خشيته على لبنان الكبير الكيان الناشئ. وله في حقول الحكمة جولات، ومثلها في مجال تأريخ حوادث لبنان ووقائعه، كمثل تأريخه للمجاعة 1917.

والشاعر الرابع رشيد نخله (1873-1938) أمير الزجل، وله فيه أيادٍ بيضاء. فهو الذي انتقى الزجل فنقّاه، وخلّصه من ظاهرة الزجل الفصيح التي حوّلت الصُنعة فيه إلى تصنّع وتكلّف وقضت على ما فيه من ابتكارٍ وعفويّة وإبداع. ونخله صاحب معادلة: “الزجل والبيان لا يلتقيان”. وغزله مبتكَر مرهف يُظهر صُنعة لا تجافي العفويّة.

والشاعر الخامس مهجري هو الدكتور فريد جبّور (1873-1943)، ويحمل زجله نكهة الشعر المهجري وما تميّز به من حنين وعاصفة تثير العاطفة. ومن بديع شعره وتوفيقاته ما سرقه عنه ميشال طراد “عا طريق العين محلا التكتكي”، وغنّاه وديع الصافي.

وسادس الشعراء رئيس لبناني هو أيّوب تابت (1878-1947)، وخلافاً لما نرى ونعهد اليوم عاش هذا الرئيس العصامي فقيراً ومات فقيراً، أمّا أزجاله فمن وحي التجربة والمعاناة. غنّى كرْمه وأحبّه حبّ نابوت التوراة لكرْمه. أمّا صبره على مصائب الحياة، فكصبر سميّه أيوّب البيبليا، بل إن الصبر “من صبري اشتكا وما عاد صبر”، طبقاً لتعبيره.

والشاعر السابع يوسف بشارة الباحوط (1889-1955)، وهو منشئ أوّل جريدة زجلية واسمها “الزجل اللبناني”، وصدر عددها الأوّل في 29/5/1933، وكانت فاتحة لكثير من الجرائد والمجلّات المماثلة والتي بلغ عددها العشرين. أمّا زجله فتقليدي لم تتبلور هويّته بعد. وهو يتصوّر الزجل في إحدى قصائده حبيبة فيتغزّل بها، وهو تقليد درج عليه الكثيرون ممّن سبقه وتلاه. وله كذلك حواريّة طريفة بين عاشق وناسك.

وثامن الشعراء أسعد الخوري الفغالي (1894-1937) المعروف بـ شحرور الوادي. وهو مؤسّس المنبر الزجلي وخليفة أمير الزجل. مشى على نهجه في تكريس المحكية وإبعاد الزجل عن فصيح الكلام والتعابير، كما أنّه أبعده عن التكسّب، وجعل منه، بتأسيس المنبر، مهنة تكفي الشعراء مؤونة اتّباع الزعماء والوجهاء ومحاباتهم ومدحهم لكسب معيشتهم. وللشحرور خيال مجنّح في قصائده، وسرعة بديهة ومقدرة ملحوظة على الارتجال.

وممّا خلّف الشحرور من إرث زجلي تجربة ملحميّة بالزجل اللبناني شاركه في نظمها شقيقه جرجي والد الشحرورة صباح. وعمل على تحقيقها د. نبيل أبو مراد وأصدرها بعنوان “لبنان في الحرب العالميّة الأولى“. ولها قيمة مزدوجة: أدبية وتاريخية. فمن الناحية الأولى فهي محاولة أولى لكتابة الملحمة في لبنان سواء بالفصحى أمّ بالعامّية، وشعرها عفوي غير متكلّف. وهي، من ناحية ثانية، توثيق لحقبة من أخطر وأدقّ ما عرفه لبنان في تاريخه المعاصر، وتكفي المجاعة التي أودت بحياة نحو مئة وخمسين ألف لبناني دليلاً على خطورتها.

وتاسع الشعراء مهجريّ آخر هو ابن بسكنتا سليم لطف الله (1897-1961) صاحب “قصائد الغربة“. مُنح لقب أمير الزجل في احتفال في المهجر 1949. وفي زجله حنين جارف إلى الوطن الأمّ يُغرق الشاعر في دموع عينَيه، وغرام بضيعته بسكنتا “جارة القمر”. ولم يشفع له كلّ هذا الحنين، ولا أمهله قلبه المضنى كي يزور الجبل الذي يحبّ، فمات شوقاً في غربته.

والشاعر العاشر إميل مبارك (1901-1967)، صاحب “أغاني الضيعة“، وهو شاعرها بامتياز. نقل صورها التي شاهد وأحبّ، بأمانة إلى الناس. وأبدع في تصوير مأساة الضيعة اللبنانية التي هجرها أهلها إلى الغربة، ولم يبقَ في كنيستها سوى “نتفة خوري” يقيم القدّاس، وما من يستمع إليه إلا عصفور عشعش في طاقة الكنيسة.

والشاعر الحادي عشر يوسف أسعد غانم (1901-1965)، وله ديوان وحيد “البرج الأخضر“. وهو شاعر مهجري آخر لوّعته الغربة. وكان مجدِّداً حرّر القصيدة الزجلية من الوزن الواحد. حلم أن يموت في لبنان كي ينتقل من سماء إلى أخرى، وما تحقّق له هذا الحلم الغالي.

والشاعر الثاني عشر سمعان صالح (1901-1984)، أصدرت بلديّة ضيعته ديواناً له بعنوان “أغاني الضيعة“، وليتها اختارت عنواناً آخر غير الذي سبقها إليه إميل مبارك الآنف الذكر. ويروي صالح في أزجاله حوادث غرامية وقعت له زمن الصبا، ويحكي عن سهريّات الضيعة. وفي زجله لمعات غزلية وقرويّة مبتكرة.

والشاعر الثالث عشر شاهين حبيش (1904-1949) “الشيخ القوّال“. رأى أن شيبه ليس سوى رماد مجامر الحبّ. وكان زجّال الفكاهة والغزل. نعى على الزجّالين تكسّبهم بشعرهم ما أفسده والعفوية أفقده. ومن فكاهاته المحبّبة قصيدة “يضبط” فيها حبيبته وهي تتغزّل بكلب.

والشاعر الرابع عشر قيصر مرعي (1912-2014). وهو من روّاد منبر الجيل الأوّل، غنّى مع الشحرور. وأبدع في تصوير الفلّاح ووصف عطر الزهور الفائح من ثيابه، والوزّال الذي ترهّب على طرقات الضيعة والحبق والبنفسج. وعملق في توصيف الخمرة إذ جعلها مزيجاً من ندى الضيعة وعصير كرومها.

والشاعر الخامس عشر أمير الارتجال حنّا موسي (1919-1997)، اعترف له زملاؤه وعلى رأسهم موسى زغيب في ب1/ف2 بأنّه أخطر شاعر في الارتجال وفي المراثي كذلك. قدّم شعر الرثاء بأسلوب جديد أدخل فيه العتابا وأبو الزلف والسكابا. وفي وروده حلاوة تجعل النحلة جائعة إليها باستمرار. وفي غزليّاته حشدٌ من الصوَر واللوحات المبدعة.

والشاعر السادس عشر خليل روكز (1922-1962) “شاعر الحرمان” والكفر والإيمان. أشهر شعراء المنبر، والأكثر مبيعاً. سار على خطى سميّه خليل جبران وإن أعوزته ثقافة هذا الأخير. وبين ليل روكز وليل جبران قربى أدبية وتفاعل وطيد. وغنائية روكز تتفجّر عن وجعٍ ومعاناة فتدخل من الأذن لتستقرّ عميقاً في قلوب السامعين، وما أكثرهم.

والشاعر السابع عشر مهجري آخر واسمه أسعد كنعان مطر (1930-2015)، أجاد في العتابا، وديوانه “آفاق نسر” حافل بهذا النوع من الزجل. والعتابا محكّ مقدرة الزجّالين في اللغة والنظم. وفي شعر مطر بعض من صلابة صخور ضيعته تنّورين وصراحة سمائها وحرّية هوائها. وله في الغزل باعٌ طويل، فهو شاعر المرأة أوّلاً، ثم الضيعة والمهجر تالياً.

وآخر ما يحلّل ب8 ديوان أغانٍ فولكلورية وضعتها الأخت ماغالي مرعب على ألحانٍ تراثية مثل عالزينو ويا غزّيل وغيرها. والهدف تربوي. إذ تجعل، بعملها الرائد هذا، الأغنية التراثية اللبنانية بمتناول شبيبة لبنان، فتنشّئهم على القيَم، والعلم في الصغر كالنقش في الحجر.

وماذا بعد هذا العرض الوجيز لمواضيع الكتاب ومباحثه وأبرز طروحاته؟

زجل لبنان وجذوره السريانيّة

زجل لبنان وعلاقته بزجل الأندلس

كان في ودّ المؤلّف أن يبحث في هذا المدخل في تاريخ الزجل اللبناني، ومن أي تقليدٍ استقى. بَيد أنّه تبيّن له مع الغوص في هذه المسألة أنّه موضوع خلافي يحاكي الخلاف فيه الصراع على تاريخ لبنان بين المؤرّخين. لذا آثر أن يؤجّل الخوض في غمار هذا البحث إلى مناسبة أخرى، وهو يكتفي هنا بجملة إلماعات. فبعض مؤرّخي الزجل، وعلى رأسهم الشاعر والأديب أمين نخله (25/7/1901-13/5/1976)، يُعيد نشأته إلى زجل الأندلس وابن قزمان (1078-1160م) أوّل الزجّالين فيه. يقول الأمين في مقدّمة ديوان أبيه: “ومهما يكن من غمّاء في تأريخ الزجل، فالذي لا ظلّ عليه للريب أن هذه الطريقة العامّية ترجع إلى أصلٍ بعيد في القدم، وأنّه لم يُجعل لها اسم الزجل، ولا عُرفت به في الأقطار، ولا وُسّع مجالها للفنون والبلاغات، ولا صيح بعزّها في مغرب ومشرق، إلا منذ القرن الثالث للهجرة، وأن الأندلس، لذلك العهد، كانت بساطها وسامرها، وأن فنون الشعر الجارية على ألسنة عامّة الحضريين، في جميع البلاد التي غلب عليها اللسان العربي تنزع إلى عرقها”([2])

 

 

الزجل سرياني اللحن في بداياته

إلا أن أكثر مؤرّخي الزجل يرى أن أصول زجل لبنان ومصادره وجذوره تكمن في التراث السرياني، فعنه أخذ ألحانه وأوزانه. وبالمقابل فلا صلة واضحة له بزجل الأندلس الأقرب إلى اللغة الفصحى، ولا بابن قزمان.

والباحث يكتفي هنا، وجواباً عن هذه الإشكالية، بالحكم الذي أصدره شيخ النقّاد مارون عبّود (1886-1962) ([3]) إذ يقول في كتابه الشعر العامّي: “ولمّا كان لا بدّ من كلمة تاريخية أقول إن الناس يسألون من أين نشأ [الزجل] وكيف؟ فالجواب عندي بدون قيل وقالوا وزعموا: إنّه سرياني اللحن في أوّل عهده، وعربيّه فيما بعد”([4]) ويضيف عبّود مؤكّداً: “إن أبناء بلادي لم يَدَعوا لحنا سريانيّاً إلا نظموا على وزنه زجلاً عربيّاً” (عبود، م. س، ص360). ويخلص بعد بحث ونقاش إلى: “وبعد، فأظنّ أن صديقي قد اقتنع بأن هناك علاقة وثيقة بين الزجل والسريانية، ولعلّ هذا هو أحد الأسباب التي جعلت للزجل هذا الوقع في قلوب اللبنانيين القدامى، لأنّهم ألفوه جدّاً في بيَعهم، ونشأوا وشبّوا وشاخوا عليه، ثم لحق بهم إلى القبر، وإلى ما بعد القبر” (عبّود، م. س، ص396).

 

اختلاف القوالب والأوزان بين زجلَي الأندلس ولبنان

ويبقى أن الرابط ما بين زجل لبنان وزجل الأندلس ضعيفٌ وواهٍ ويكاد ينحصر في التسمية لا غير. أمّا القوالب والأشكال والأوزان واللغة والأنواع الأدبية فمختلفة، ولا صلة تواصل بينها. يقول فاضل سعيد عقل (1915-1999) مناقشاً طرح أمين نخله ومن يذهب مذهبه ثم ناقضاً له: “الرأي المرجّح يناقض رأي أميننا. إذ من الثابت، من خلال أنغام الزجل وأوزانه، أنّه سرياني النزعة والمنبع، وإن كان بعض مؤرّخيه خلطوا بينه وبين الموشّحات الأندلسية التي هي أقرب إلى الشعر الفصيح منها إلى الشعر العامّي المحكي”([5])

وينقض عقل حتى صلة التسمية بين الزجلَين اللبناني والأندلسي، ويرى أن الأوّل لم يُعرف بهذه التسمية إلا في القرن 19، بل عُرف في الأصل ولا يزال بمصطلح “القول”. وكان اللبنانيّون ولا يزالون يسمّون الزجّال: “القوّال”، يقول: “من هنا تسمية الزجل اللبناني ب”القول”، أي بالكلام والحوار والإنشاد، حتى سمّي زجلاً، أي غناءً وتطريباً. فكلمة “قول” هي التي عُرف بها الزجل اللبناني، لأن كلمة زجل من مستحدثات الذين بدأوا يكتبون عن الشعر اللبناني العامّي منذ القرن التاسع عشر من اللبنانيين والمستشرقين. وشعراء الزجل كان اسمهم “القوّالون” (عقل، م. س، ص23).

والصلة بين أوزان زجل لبنان وألحانه، والألحان والأوزان السريانية مسألة ثابتة وليست من باب التقدير والفرضيّات، وفي ذلك يقول د. إميل بديع يعقوب (ولد في الكورة 27/11/1950): “ولئن كان الشعر الشعبي نتيجة طبيعيّة لظهور اللغة العامّية، فإنّه من الثابت أنّه تطوّر بفعل تأثير الألحان السريانية، والصلوات السريانية، وخاصّة الميامر منها. ولذلك ترى أن أكثر شعراء الزجل اليوم هم من الموارنة”([6])

ويبقى البحث في البدايات والأصول والنشأة لأي علمٍ أو فنّ أمراً عسيراً وغير مضمون النتائج لجهة تبيان الحقيقة كاملة وفصل الخطاب فيها، ووضعها بين أيدي القرّاء. فمَن يكتشف الجدول جارياً ومرنّماً بين الصخور وفي شعاب الوديان لا يستطيع ادّعاء اكتشاف أصوله ونقطة انطلاقه. فقبل جريانه كان في باطن الأرض وفي أرحام التراب، ومن بمقدوره أن يسبر هذه الأغوار؟

الزجل من أبرز سمات الهويّة اللبنانية

وأياً يكن، فزجل لبنان سمة بارزة من الشخصية اللبنانية الثقافية والعامّة، وركن مكين من أركان الهويّة القومية، وفي ذلك يقول فاضل سعيد عقل: “الزجل اللبناني واقع يندر أن نجد مثله في أقطارٍ أخرى بخصائصه وممارساته وتنوّعاته وخلقه. إنّه عاصفة من الحرّية في لبنان. ومرآة لرسالة هذا الوطن. وعنصر أساسي من عناصر قوميّته واستمراره وفكره وجوهره. بحيث يمكن القول مع فؤاد حدّاد أن من تعريف اللبناني أن يقول الزجل” (عقل، م. س، ص25). وهذا الارتباط المستمرّ، بل الالتصاق الدائم بالهويّة اللبنانية والتماهي معها وتفاعل اللبنانيين وجدانيّاً مع زجلهم كل ذلك جعل من زجل لبنان الأكثر تطوّراً ورقيّاً بين نظائره وأشباهه في الدول المجاورة. وفي ذلك يقول الباحث د. جورج شكيب سعادة (ولد في الشوف 1947) ملخّصاً الآراء والطروحات في هذا المجال: “وفي مراجعة دقيقة للأبحاث والوقائع المتّصلة بالزجل في أصله ونشأته وحاضره، وفي مراقبة عينيّة للأعمال الزجلية المنبرية وغير المنبرية التي شاهدناها وسمعناها أو قرأناها، نجد إجماعاً على القول: إن الزجل اللبناني كان ولا يزال من أرقى الأزجال العربية، وأكثرها أناقة وحضوراً، خصوصاً في مشهده المنبري، وفي ما تحتوي الحفلات من تنوّع وألوان شعرية محبّبة. يليه الزجل السوري والفلسطيني والعراقي”([7])

زجل لبنان عامل توحيد

وزجل لبنان، إلى فرادته وبدائعه الخالدة هذه، هو مصهر للتنوّعات والتعدّدية اللبنانية، وعامل وحدة وتوحيد بين مختلف الأطياف، وهو في جانبه المنبري طاولة حوار مثمرة نجحت حيث أخفقت الحوارات بين السياسيين ورجال الدين، وهذا الدور الاجتماعي والأنتروبولوجي الذي لعبه الزجل المنبري جديرٌ بالتنويه والدراسة، ولم ينل كامل حقّه بعد من البحوث: “والمنبر منذ قيامه في لبنان أوجد نوعاً من اللحمة الوطنية والاجتماعية، أو عزّزها. ففي الأساس لا تجد جوقة ينتمي شعراؤها إلى طائفة واحدة. (…)  أمّا في تشكيل الجوقات فنشير إلى أن معظمها ماروني شيعي، ولمزيد من التدقيق، فالجوقات بمعظمها مارونيّة شيعية منذ شحرور الوادي حتى يومنا، وأحياناً يدخل في بعضها شاعر درزي واحد. كما أن الموضوعات المطروحة في الحفلات ظلّت منزّهة عن الفئوية والمناطقية، وبعيدة عن أي تعصّبٍ أو تطرّف إلا للبنان وللإنسان” (سعادة، م. س، ص30).

والجوقة الزجلية صورة مصغّرة للبنان بتنوّعه واختلاف أطيافه، وبشوقه إلى الإلفة والوحدة ضمن هذا التنوّع، وسعيه إليها.

وختاماً إذا كان الشعر حبس الحضارة في عبارة، فزجل لبنان نجح على مدى السنين وكرّ الأيام في أن يكون خير واجهة ووجه للثقافة اللبنانية في تعدّديتها وقيَمها وتوجّهاتها وطموحاتها، وأن يدوّن ويوصّف ويحفظ اختلاجات المجتمع اللبناني وصور حياته الناطقة. لذا، ورغم ما مرّ به من أزماتٍ وعثرات، فسيبقى ببقاء لبنان، وطالما أن لبنان حيّ فستبقى العافية تدبّ في عروق القافية.

Q.J.C.S.T.B

جبيل في 17/2/2021

[1] -صليبا، د. لويس، من خبايا التراث اللبناني صفحات مطويّة من الزجل والتاريخ وأدب المهجر، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2017، 553ص.

[2] -نخله، رشيد، معنّى رشيد نخله، جمعه وقدّم له أمين نخله، صيدا/لبنان، المكتبة العصرية، ط1، 1945، ص31-32.

[3] -أنظر تعريفاً وافياً به في: صليبا، لويس، من خبايا التراث، م. س، ب3/ف2: مارون عبّود وأدب المهجر، ص289-296.

[4] -عبّود مارون، المجموعة الكاملة، في الدراسة، ج2، بيروت، دار مارون عبود، د. ت، القسم الثاني: الشعر العامّي، ص358.

[5] -عقل، فاضل سعيد، تاريخ الزجل وهويّة الشعر اللبناني العامّي باللغة المحكية، مقالة في مجلّة صوت الشاعر: مجلّة زجلية جامعة، بيروت، سنة أولى، ع3، ك2/1989، ص23.

[6] -القاري، أمين، روائع الزجل اللبناني، تقديم د. إميل يعقوب، طرابلس/لبنان، جرّوس برس، د. ت، ص5.

[7] -سعادة، جورج شكيب، الزجل اللبناني بين جبل لبنان وجبل عامل خليل روكز وأسعد سعيد (نموذجان)، بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية، ط1، 2016، ص17.

 

شاهد أيضاً

분노 폭발을 다스리기 위한 연습과 실용적인 팁 / 2025년 4월 16일 수요일, 루이스 살리바 Zoom 강연

분노 폭발을 다스리기 위한 연습과 실용적인 팁 / 2025년 4월 16일 수요일, 루이스 살리바 Zoom …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *