مقدمة وغلاف كتاب “سوريا الكبرى أم لبنان الكبير” /تأليف لويس صليبا

مقدمة وغلاف كتاب “سوريا الكبرى أم لبنان الكبير” /تأليف لويس صليبا

 

المؤلّف/Auteur: أ. د. لويس صليبا Lwiis Saliba

أستاذ محاضر ومدير أبحاث في علوم الأديان وتاريخ المشرق ولبنان

عنوان الكتاب: سوريا الكبرى أم لبنان الكبير؟

بحث في الأحداث والمعاهدات التي أسفرت عن سقوط الحكم الفيصلي وقيام لبنان الكبير 1914-1920

Titre:   Grande Syrie ou Grand Liban?

عدد الصفحات: 500ص

سنة النشر: طبعة ثالثة 2025، طبعة ثانية 2022، ط1: 2021.

الناشر:                              دار ومكتبة بيبليون

طريق الفرير، حي مار بطرس-جبيل/بيبلوس، لبنان

ت: 09540256     خليوي: 03847633       ف: 9619546736+

Byblion1@gmail.com                wwwDarByblion.com

2025©-جميع الحقوق محفوظة، يُمنع تصوير هذا الكتاب، كما يُمنع وضعه للتحميل على الإنترنت تحت طائلة الملاحقة القانونيّة.

 

ديباجة الكتاب

مدخل إلى بحوثه وطروحاته

 

 

يُجمِع معظم الباحثين والمؤرّخين على أن حقبة 1914-1920 من أهمّ الحقبات في تاريخ لبنان وسوريا المعاصر، وكذلك في تاريخ المنطقة العربية، ففيها تحدّدت المشاريع والخيارات، وقُسّمت المنطقة إلى بلدان وكيانات، ولا يزال المواطن اللبناني والعربي عموماً يعيش إلى اليوم تداعيات الخيارات والمشاريع التي نفّذت في تلك الفترة المصيرية.

ومن هنا اهتمام المؤلّف، كاتب هذه السطور، المنصبّ على تلك الحقبة. وهذا هو كتابه الرابع الذي يتناولها بالبحث. أما المؤلّفات السابقة فهي التالية:

1-المصنّف الأول “الدولة الإسلامية من منظور مسيحي([1]) تناول خيارات أرثوذكس سوريا ولبنان في زمن التحوّلات الكبرى 1908-1920، ومواقفهم ومواقف سائر المسيحيين، والمسلمين كذلك، من المشاريع المطروحة في تلك الحقبة. وتوقّف عند شخصيّتي البطريركَين الأرثوذكسي غريغوريوس حدّاد (1851-1928) والماروني الياس الحويّك (1842-1931) في جدليّة علاقاتهما مع الدولة العثمانية فالحكم الفيصلي من بعدها، والانتداب الفرنسي من ثمّ، وقارن بين الدورَين والأثرَين في الأحداث والتطوّرات.

2-والكتاب الثاني: “لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي([2])عرف رواجاً ملحوظاً

فتتالت طبعاته، وهو اليوم في طبعته السابعة. ويطرح هذا المصنَّف السؤال: هل كان خيار لبنان الكبير الذي عمل له البطريرك الحويّك يومها، ومعه معظم أبناء طائفته وسائر الكاثوليك، خياراً صائباً؟ كما ينسف العديد من الأساطير التي حيكت عن نشأة الكيان مثل أسطورة رفض ضمّ وادي النصارى/سوريا إلى لبنان وغيرها ممّا رُوّج ولا يزال.

3-والسِفر الثالث: “لبنان الكبير المخاض العسير([3]) يركّز على ما ألمّ بلبنان إبّان الحرب الكونية من ويلات، ولا سيما الشهداء الذين عُلّقوا على أعواد المشانق، ودورهم في التمهيد لنشأة الكيان. ويتوقّف عند إشكالية وثائق القنصلية الفرنسية في بيروت، وما سبّبته من مصير مشؤوم لعدد من أحرار العرب، كما يعرض لأدوار ملتبسة لعبها زعماء عديدون أمثال الأمير شكيب أرسلان وغيره.

فماذا يضيف هذا المصنّف الرابع إلى الثلاثة التي سبقته؟

إنّه يوسّع دائرة اهتمامه ودراسته لتشمل سوريا الطبيعية بما فيها فلسطين وشرق الأردن، ويتتبّع احتدام المنافسة بين مشروعَين: مشروع البطريرك الحويّك والموارنة في العمل على إنشاء لبنان الكبير وإعادة ما سُلخ منه من أراضٍ وسهول ومرافئ. ومشروع الأمير الهاشمي والشريف الحجازي وملك سوريا والعراق لاحقاً فيصل بن الحسين (20/5/1883-8/9/1933) في توحيد سوريا الكبرى تحت حكمه وفي ظلّ تاجه.

لبنان الكبير لم يكن المشروع الفرنسي الرئيسي

فخلافاً لما يؤكّده الكثير من المؤرّخين، فإن إنشاء لبنان الكبير لم يحظَ بالأولوية في السياسة الفرنسية بعد الحرب. إذ كان المخطّط الأول Plan A الذي دأبت فرنسا على تحقيقه يومها هو إنشاء دولةٍ سوريّةٍ كبرى موحّدة تخضع بصورة ما للنفوذ الفرنسي. وقد روّجت لهذا المشروع اللجنة المركزية السورية في باريس برئاسة شكري غانم (1861-1929) ([4])

ولم يكن لبنان الكبير، في نظر المسؤولين الفرنسيين يومها، سوى مشروع بديلٍ أو رديف Plan B يمكن اعتماده في حال فشل المشروع الأوّل

مشروع لبنان الكبير لُمّح إليه في رسالة رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو (1841-1929) إلى البطريرك الحويّك في 10/11/1919.

سوريا الكبرى كانت المشروع الفرنسي الأوّل

أمّا سوريا الكبرى تحت التاج الفيصلي فبلغت المساعي والجهود الفرنسية الفيصلية المشتركة ذروتها في اتّفاقية وقّعها كليمنصو نفسه في 6/1/1920 إلى جانب الأمير الهاشمي. وكانت هذه المعاهدة تهديداً حقيقيّاً ومباشراً بالقضاء على مشروع لبنان الكبير في المهد كما يبيّن ف1 من هذه الدراسة، إذ نصّت في أحد ملحقاتها على أن تكون بيروت مدينة حرّة، وأن يُستفتى أهالي الأقضية الأربعة والمدن الساحليّة في تقرير مصيرها انضماماً إلى لبنان أم إلى سوريا.

ولمّا كانت مراحل التوجّه نحو خيار لبنان الكبير قد دُرست بتوسّع في “لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي”، وكذلك في دراسة أخرى بعنوان “من سايكس-بيكو إلى لبنان الكبير”، بوشر بنشرها على حلقات متتابعة في مجّلة الأمن([5]) وستنشر لاحقاً في كتابٍ على حدة، كان لا بدّ لهذا السِفر أن يركّز بحوثه على ما لم يدرسه المؤلّف بعد، وعلى ما يستكمل به دراساته السابقة: مشروع سوريا الكبرى، والحكم الفيصلي في سوريا 1918-1920 وجدليّة علاقته بلبنان وبفرنسا، وكيف أدّى سقوطه إلى قيام لبنان الكبير.

حاول كليمنصو، وكان قد غدا سيّد الموقف بعد اتّفاق الإحلال الذي عقده مع البريطانيين في 15/9/1919، أن يوفّق بين أماني اللبنانيين كما عرضها البطريرك الحويّك والوفد اللبناني الثاني إلى مؤتمر الصلح ، وتطلّعات الحركات القوميّة في سوريا. لكن الأولوية عنده أعطيت لتركيز نفوذ بلاده في المشرق على قاعدة شرعيّة متينة، لذا رأى أن عقد اتّفاقٍ مع الأمير الهاشمي ضرورة ملحّة. ولكي يسهّل على الأمير هذه المهمّة، طلب من المندوب السامي الجنرال غورو أن يخفّف الضغط على السوريين، وأن يؤجّل احتلال البقاع الذي كان يقع داخل المنطقة الزرقاء (الفرنسية) بحسب اتّفاقية سايكس-بيكو (أيار 1916)، كل ذلك في سبيل اتّفاق مع الشريف الحجازي تمّ التوصّل إليه وتوقيعه فعلاً في باريس في 6/1/1920، وعرف غالباً باسم اتّفاق فيصل-كليمنصو.

اتّفاق فيصل-كليمنصو ذروة الجهود لأجل سوريا الكبرى

وتُقارب هذه الدراسة موضوع سوريا الكبرى من زاوية معيّنة محدّدة: اتّفاق فيصل-كليمنصو هذا، فهو، وكما ذُكر أعلاه يمثّل ذروة الجهود الفيصلية الفرنسية المشتركة في سبيل قيام سوريا الكبرى التابعة للنفوذ الفرنسي، وكان الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما تبقّى من مشروع سوريا الكبرى تحت التاج الفيصلي، وبسقوطه سقط هذا المشروع الذي سعت إليه باريس بدأب سقوطاً تامّاً ونهائياً، وإلى غير رجعة.

بيد أن اتّفاق فيصل-كليمنصو اكتنفه الكثير من اللُبس، فما أحيط به من سرّية أصرّ عليها الأمير الهاشمي كان السبب في أخبار متضاربة ومتناقضة بشأنه: فالأمير، كما يذكر مرافقه ومترجمه رستم حيدر في مذكّراته (ف22) أنكر تماماً أمام الوفد المرافق له أنّه وقّعه، وذلك ليتيح لنفسه هامشاً واسعاً من المناورة والتمهيد لإقناع السوريين به وبجدواه. واستمرّ العديد من المؤرّخين على هذا الإنكار، في حين تحقّق آخرون من مشاركين في الحدث، ومن مؤرّخين لاحقين، من حقيقة توقيع الأمير فيصل توقيعاً كاملاً لا لُبس فيه لاتّفاقه هذا المعقود مع الجانب الفرنسي ممثّلاً بكليمنصو في 6/1/1920.

وكان الباحث نفسه ممّن حاروا طويلاً في هذا الشأن، فذكر في دراسة سابقة أن الاتّفاق وُقّع بالأحرف الأولى([6])ولم تسمح له حدود بحثه يومها أي سنة 2005 بالمزيد من التدقيق في المسألة، ولا وقعت بين يدَيه المصادر والوثائق والشهادات التي توفّرت له اليوم، فنقل عن الأصول التي أتيحت له آنذاك ما نقل من معطيات تحتاج إلى المزيد من التدقيق والتمحيص.

إشكالية توقيع اتّفاق فيصل-كليمنصو

أما اليوم فشاء أن يحسم ما اكتنف أخبار اتّفاق فيصل-كليمنصو من تضارب، فكان لا بدّ من العودة إلى الوثائق والأصول، ولا سيما ما حُفظ منها في أرشيف الخارجية الفرنسية. والمفارقة الكبرى هنا تكمن في أنّه لم يطّلع، إلا قبيل الانتهاء من كتابة دراسته، على قصّة اكتشاف النسخة الأصلية من الاتّفاق، والتي تُثبت بما لا يرقى إليه أدنى شكّ أن كليمنصو وفيصلاً وقّعا الاتّفاق توقيعاً كاملاً، لا بالأحرف الأولى كما روى بعضهم. لذا اضطّر إلى إعادة الكتابة وتعديل الكثير من المقاطع ونتائج المباحث. فهذا الاكتشاف المهمّ لم يذكره سوى صاحبه أي المؤرّخ اللبناني الفرنسي جيرار خوري،([7]) والغريب أن أيّاً ممّن كتب لاحقاً في الموضوع بما في ذلك المؤرّخين اللبنانيين العاملين على أرشيف الخارجية الفرنسية أمثال د. أنطوان الحكيّم وجورج أديب كرم لم يأتِ على ذكره، وذلك رغم أهمّية هذا الاكتشاف. إذ من شأنه أن يقلب فهمنا لكثير من الأحداث التي وقعت في لبنان وسوريا منذ عودة الأمير فيصل الثانية إلى بيروت أي في 14/1/1920، وحتى نشوب معركة ميسلون في 24/7/1920 ودخول الجيوش الفرنسية إلى دمشق وسقوط الحكم الفيصلي فيها.

وبعد أن أثبت الباحث، بما لا يرقى إليه الشكّ، توقيع فيصل للاتّفاق توقيعاً كاملاً (ف2)، انتقل إلى صُلب موضوعه ألا وهو استعراض روايات شهود العيان والمشاركين في الحدث ونصوص المؤرّخين في هذا الموضوع وقراءتها قراءة تحليلية فاحصة ونقدية تفنيدية وتدقيقيّة.

وهم في مجموعهم 23 كاتباً ممّن شارك في الحكم الفيصلي أو في المفاوضات التي آلت إلى توقيع الاتّفاق، أو من مؤرّخي الثورة العربية الكبرى والحكم الفيصلي.

أما منهجه والطريقة المعتمدة في استعراض هذه النصوص فبسيطة وواضحة جليّة، إذ خصّ كل كاتب بفصل أورد فيه نصّه في موضوع البحث كاملاً، ثم عمد إلى قراءته قراءة تحليلية نقدية مظهراً نقاط القوّة والضعف فيه، وما تميّز به من وضوح، وما اكتنفه من لُبسٍ وغموضٍ كذلك

وهو غالباً ما كان يورد النصّ كاملاً دفعة واحدة ثم يعقّب عليه. أمّا إذا كان النصّ المذكور طويلاً أو مقسّماً إلى فصول، فقد عمد المؤلّف إلى التعقيب إثر كلّ فصلٍ أو مبحث دفعاً للإطالة، وميّز دوماً ونبّه القارئ حيث ينتهي نصّ الشاهد أو المؤرّخ بذكر المرجع أو إعادة ذكره، وحيث ينتهي تعقيبه ليستأنف الأخذ عن الشاهد أو المؤرّخ بإيراد عبارة: ونتابع رواية فلان مطبوعة بالحرف الأسود Bold وذلك دفعاً لأي التباس.

23 كاتباً ومؤرّخاً وشاهد عيان توزّعوا على 23 فصلاً مستقلّاً. ويطول الحديث لو أتينا على ذكر أبرز ما ورد في كلّ فصل من معطيات وتحاليل. لذا سنقسم هؤلاء الكتّاب تبعاً لمواقفهم ومنهجية عرضهم إلى فئاتٍ ومجموعات خمس، مركّزين على عرض ميّزات كلّ فئة:

1-مؤيّدو فيصل: ويمكن إدراج 4 كتّاب ضمن هذه الفئة، وهم أحمد عارف الزين (ف4)، معروف الأرناؤوط (ف7)، أنيس النصولي (ف15)، عوني عبدالهادي (ف24).

ومؤيّدو فيصل يصحّ فيهم قول الشاعر الإمام الشافعي (150-204هـ/767-820م):

وعين الرضا عن كلّ عيبٍ كليلةٍ         ولكن عين السخطِ تبدي المساويا([8])

تراهم دوماً يغضّون الطرف عن سيّئات الأمير الهاشمي، وينكرون مسؤوليّته في الامتناع، أو التهرّب من وضع الاتّفاق موضع التنفيذ، ويحمّلون مسؤولية ذلك ووزر إسقاط الاتّفاق للمعارضة الشرسة وللزعماء، ولا سيما قادة العربية الفتاة، وبعضهم مثل أنيس النصولي يلقي بالمسؤوولية هذه على عاتق الجنرال غورو.

وهم يلتقون غالباً حول طرحٍ أساسي في تحليلاتهم السياسية والتاريخية، ألا وهو أن اتّفاق فيصل-كليمنصو كان إنجازاً دبلوماسيّاً وسياسيّاً للشريف الحجازي، وفرصة ذهبية لسوريا من شأنها تحقيق الاستقلال الذي تحلم به تدريجيّاً. بيد أنّه كان فرصة ضائعة، لم يعرف زعماء سوريا والمتطرّفون عموماً أن يستفيدوا منها. السوريّون خذلوا فيصلاً، يقول أحمد عارف الزين (ف4) كما خذل العراقيّون جدّه الإمام الحسين. وفي قوله هذا حسرة شديدة وألم وخيبة.

أما معروف الأرناؤوط (ف7) فيشدّد على أنّه لم يكن في الاتّفاق ما يُخجَل منه، أو ما يدعو لإنكاره، وتتميّز روايته بالتركيز على دور دوائر الاستخبارات البريطانية في دمشق ومصر المشبوه في إسقاط الاتّفاق.

في حين يبرّئ أنيس النصولي (ف15) فيصلاً، ويلقي بتبِعة الإطاحة بالاتّفاق على الجنرال غورو.

وينقل عوني عبدالهادي (ف24) وقائع اجتماعٍ عقده مع رئيس الوفد الأميركي إلى مؤتمر الصلح المستر فولك وخلاصة ما قاله هذا الأخير له أن فلسطين كانت هي العقدة الأساسية، ولولا إصرار الإنكليز على منحها للصهاينة لما كانت اتّفاقيّات سايكس-بيكو وغيرها ولا الانتدابات!

2-معارضو فيصل: وهم ثلاثة كتّاب: خليل سعاده (ف3)، عبدالعزيز العظمة (ف11)، أنيس صايغ (ف18).

وفيهم ينطبق ما قاله الشافعي في الشطر الثاني من بيته الآنف الذكر:

ولكن عين السخط تبدي المساويا.

يعتّم المؤيّدون على سيئات فيصل، في حين يضعها المعارضون في رقعة الضوء وينظرون إليها بالمكبّر، ويرسمونها كاريكاتوريّاً ومضخّمة. فهم لا ينظرون سوى إلى النصف الفارغ من كوب الماء، فيبالغون في ذكر سيئات الأمير الهاشمي، بل يخترعون له بعضاً ممّا ليس فيه، ويغالون في تحميله المسؤولية، وكأنه يتحمّل وحده وزر سقوط الاتّفاق. والمعارضون أقرّوا بواقعة إمضاء فيصل للاتّفاق، بيد أن إقراراهم هذا كان مجرّد مدخلٍ لقصفٍ مركّز تارة وعشوائي طوراً على الشريف الحجازي وسياسته ومشاريعه.

د. خليل سعاده (ف3) كان من أوائل الكتّاب والصحفيين الذين “تكهّنوا” بإبرام الشريف الحجازي لاتّفاق مع السلطات الفرنسية، بيد أنّه يمضي بعيداً في تكهّناته، فهو لا يرى في الاتّفاق المذكور سوى مقايضة بين الفريقَين: قبول فيصل بالانتداب الفرنسي مقابل موافقة الفرنسيين على اعتلائه عرش سوريا. وهذه المقايضة الوهميّة يستعيدها أنيس صايغ (ف18) بعده بنحو نصف قرن (1966)، ليهاجم فيصلاً من جديد وسائر أفراد أسرته الهاشمية، وكأنه يصفّي حساباتٍ قديمة مع هذه العائلة وسياساتها. ويقلب الأنيس الأبيض أسود في تحليلاته، فيستند مثلاً إلى تقريرٍ صهيوني ينتقد فيصلاً ويدينه، فينسبه إلى الجنرال كلايتون عوض نسبته إلى كاتبه الحقيقي الكولونيل مينرتزهاغن المعروف بميوله الصهيونيّة. ومتى عُرفت الهويّة الحقيقية لكاتب التقرير تحوّلت هذه البيّنة إلى وسامٍ يعلَّق على صدر الأمير الهاشميّ! وبين صايغ وخليل سعادة صلات وشيجة وعلاقة تأثرٍ وتأثير، فكلاهما استقى من نبع ديماغوجيّ قومي سوري واحد.

أما عبدالعزيز العظمة (ف11)، فمشى عكس السير، وفي الاتّجاه المخالف لولدَيه ولأخيه يوسف العظمة وزير دفاع الملك فيصل وشهيد ميسلون، وهو يحمّل الملك مسؤولية استشهاد أخيه وتفريطه بأرواح السوريين، كل ذلك بسبب شهوته الجارفة للحكم.

3-منكرو التوقيع: وهم: أمين سعيد (ف9)، أمين الريحاني (ف10)، ساطع الحصري (ف13)، سليمان موسى (ف20)، صبحي العُمري (ف23)، شفيق جحا (ف25).

ولا بدّ من التذكير أولاً، وإنصافاً لهذه الفئة، أن فيصلاً نفسه كان أوّل من أنكر توقيع الاتّفاق، وبداية الالتباس كانت من هنا.

ومنكرو التوقيع هم رافضو الاتّفاق وشروطه التي اعتبروها جائرة ومجحفة بحقّ سوريا. لكنّهم غير مناوئين ولا حتى معارضين لفيصل. فالحلّ الذي أنقذهم من ورطة التهجّم على الأمير الهاشمي كان الزعم أنّه لم يوقّع هذا الاتّفاق بل حمله إلى سوريا لاستشارة الشعب وزعمائه وأخذ الرأي به، ولم يتعهّد بتنفيذه، هذا ما قاله أمين سعيد (ف9) وردّده الكثيرون بعده، وروايته حافلة بالمغالطات، وأمين غير أمينٍ أحياناً في ما يكتب، كما يقول محمد عزّة دروزة.

أما الأمين الثاني أي الريحاني (ف10)، فيشير إلى ضعفٍ في الأمير كان يؤلم المعتدلين، وهو السبب في امتناعه المزعوم عن توقيعه الاتّفاق!

وساطع الحصري (ف13) روايته تدليسيّة بامتياز، فهو أوّل العارفين بحقيقة توقيع الشريف الحجازي على الاتّفاق، إذ كان وزيراً في الحكومة التي أقرّته، ورغم ذلك فهو يتجاهل ما يعرفه معرفة اليقين، ويعتبر الاتّفاق وكأنّه لم يكن.

ورواية سليمان موسى (ف20) كارثة الكوارث، إنها في الحقيقة مرافعة محامٍ عن موكّل ثبتت عليه التهمة، ورغم ذلك لا يزال مصرّاً على الإنكار. فقد رأى بأمّ العين النسخة الأصلية للاتّفاق ممهورة بالتوقيع الكامل لفيصل، إذ أرسل إليه مكتشفها المؤرّخ جيرار خوري صورة عنها، ورغم ذلك بقي على تدليسه!

أمّا عادل إسماعيل (ف21)، فيحيّرنا بروايته، فهو تارة يقول “علّق الأمير موافقته على هذا الاتّفاق إلى حين عرضه على الشعب السوري” (ف21، فق: أفضل الحلول الممكنة)، وطوراً يتّهم غورو بالإطاحة بهذا الاتّفاق. فليته رسى على برّ واحد كما يقول التعبير العربي. وتبقى المفارقة الكبرى في تأريخه أنّه متخصّص في نشر الوثائق، ورغم ذلك فهو لا يستند إليها عندما يكتب التاريخ ويرويه.

وصبحي العُمري (ف23) لا يفعل سوى تكرار تلفيقات سبقه إليها أمين سعيد وأحمد قدري، لكنه يبزّهما في تشويه الحقائق، فهو مثلاً يمسخ مسألة تساهل كليمنصو، ويزعم، خلافاً للواقع التاريخي، أن الفرنسيين رفضوا اقتراح استفتاء أهالي الأقضية الأربعة، ويخرج بالنتيجة برواية هجينة متناقضة.

وشفيق جحا (ف25)، ظاهرة بحدّ ذاتها. ففي الطبعات الأولى، وحتى الرابعة على الأقلّ، من كتابه المدرسي الثانوي “المصوّر في التاريخ” أقرّ بتوقيع الأمير الهاشمي للاتّفاق، ثم عاد وغيّر رأيه، فأنكر ذلك كل الإنكار. ولا نعلم السبب، ولا هو أخبرنا لماذا هذا الارتداد عن الحقيقة التاريخية، لا سيما وأنّها أُثبتت باكتشاف النسخة الأصلية من الاتّفاق ممهورة بتوقيع فيصل الكامل، اكتشافٌ نشر 1990 أي قبل أن ينشر جحا كتابه معركة مصير لبنان 1995، وكتابه المدرسي المصوّر في ط 10، 1996، وكان من المفترض به كباحث في الموضوع أن يطّلع عليه!!

4-القائلون بالتوقيع بالأحرف الأولى: وهم عبدالرحمن الشهبندر (ف6)، محمّد عزّة دروزة (ف14)، د. أحمد قدري (ف16).

إنها بدعة اختُرعت ربّما للتوفيق بين تيّاري القائلين بالتوقيع ومنكريه.

عبد الرحمن الشهبندر (ف6) يذكرها ذكراً عابراً في معرض حديثه عن رضا فيصل على هذا الاتّفاق، ولا يحمّلها المعاني الناكرة للتوقيع كما فعل آخرون من معارضي الاتّفاق. فالشهبندر بدأ معارضاً لاتّفاقية فيصل-كليمنصو، ثم انقلب مؤيّداً لها بعد توزيره! ومن ميّزات شهادته تأكيده أن الأمير الهاشمي كان راضياً تمام الرضى عن هذه المعاهدة، قبل توقيعها وبعده، وقبل سقوط عرشه الشاميّ وبعده.

ومحمّد عزّة دروزة (ف14)، يجعل من زعم التوقيع بالأحرف الأولى مخرجاً لفيصل المتردّد، حسب ادّعائه، بين قبول الاتّفاق ورفضه. “وقّع بالحروف الأولى، على أن يحمله فيصل، ويعرضه على أهل الرأي في البلاد” يقول (ف14، فق: توقيع بالأحرف الأولى). وروايته عموماً لا تعدو كونها مجموعة مزاعم واهية فُنّدت واحدة تلو أخرى في الفصل المذكور (ف14).

أمّا رواية د. أحمد قدري (ف16) فهي في الحقيقة سيناريو سينمائي تشويقي أكثر ممّا هي رواية تاريخية. فهو يتمادى في تخيّل مشاهد مسرحية مثل كيف لحق بالأمير ورجاه الامتناع عن التوقيع، ونجاحه في مسعاه الصعب هذا، وفي اللحظة الحاسمة والأخيرة!! اختلاق بطولات دونكيشوتيّة، ومعارك مع طواحين هواء، كمعركة الجلاء، والتي يزعم قدري أنها ما كانت لتُربح سنة 1945 لو كان الأمير وقّع الاتّفاق مع كليمنصو في كانون الثاني 1920!!

5-أصحاب الروايات المحايدة: وهم رضا باشا الركابي (ف6)، إبراهيم سليم نجّار (ف8)، يوسف الحكيم (ف17)، محمد جميل بيهم (ف19)، رستم حيدر (ف22).

وهم أوّل من يعوّل عليه في كتابة تاريخ تلك المرحلة المفصلية من تاريخ سوريا ولبنان والمشرق العربي عموماً. يقفون على مسافة واحدة من المعارضين والمؤيّدين، ينتقدون بقدر، ويثنون بقدر. وهم في الحالتَين لا يغالون، ولا يؤدلجون التاريخ، ولا يطوّعون أحداثه لإثبات طروحاتهم الديماغوجيّة أو لتمريرها.

رضا باشا الركابي (ف5) يركّز على العلاقة المميّزة التي جمعت بين كليمنصو وفيصل. علاقة كانت ضمانة أساسية للاتّفاق. بيد أنّه يحمّل فيصلاً مسؤولية كبرى في إسقاطه، وذلك بإعلان ملكيّته الذي كان سابقاً لأوانه، وغير مغطّى أو محمي بموافقة أي دولة كبرى. فإعلان الملكية نسف أسس الاتّفاق، بل بالحري نسفه من أساسه!

وشهادة إبراهيم سليم نجّار (ف8) مميّزة وتأتي في طليعة الشهادات الموزونة والمفيدة. إذ تابع المفاوضات الفرنسية الفيصلية في باريس، وشارك في جلساتها، ونقل عنها أخباراً استند إليها أكثر الرواة التالين مثل تساهل كليمنصو وقوله لفيصل لن تجدَ بعدي سياسياً فرنسيّاً واحداً يوافق على توقيع معاهدة معك بهذه الشروط، وكذلك حادثة الجياد التي شاء فيصل أن يهدي اثنين منها إلى رئيس الحكومة الفرنسي. ونجّار لا يغمط الأمير الهاشمي حقّه، لكنه، في المقابل، لا يمتنع عن نقده حيث يرى ضرورة لذلك، كمثل قوله كان عليه أن يعرف ماذا يريد: إما الاتّفاق، وبالتالي الوقوف بوجه المتطرّفين، أو الحرب والمواجهة العسكرية مع الفرنسيين، وبالتالي التحضير لها!

وفي شهادة يوسف الحكيم (ف17)، معطيات لا نجدها في أي رواية أخرى، إذ كان وزيراً في الحكومة الفيصلية التي تلقّت إنذار غورو ثم حاربت في ميسلون، وكان بالتالي على اطّلاع عن كثب على خفايا هذه الساعات الأخيرة من الحكم الفيصلي، وهو ينفرد مثلاً بنقل خبر إقرار هذه الحكومة لاتّفاق فيصل-كليمنصو، بعد أن وافق عليه وزير الخارجية عبدالرحمن الشهبندر وسائر الوزراء، باستثناء وزير الدفاع يوسف العظمة. لكنّها موافقة جاءت متأخرة، إذ كان قد سبق السيف العزل.

وشهادة محمّد جميل بيهُم (ف19)، ممثّل بيروت في المؤتمر السوري لعلّها تُختصر بجملة واحدة: سقط العرش الفيصلي بسقوط الاتّفاق. فهذا الأخير كان فرصة سوريا التي أضاعها المتطرّفون. ولا يغفل بيهُم الإشارة إلى الدور المشبوه الذي لعبه الإنكليز في إعاقة مسار وضع الاتّفاق موضع التطبيق.

وتبقى شهادة رستم حيدر (ف22) أبرز الشهادات وأهمّها على الاطلاق. كان حيدر مترجم الأمير فيصل في المفاوضات ومندوبه في مؤتمر الصلح، وقد دوّن، أولاً بأوّل، محاضر اجتماعات الأمير بكليمنصو وبرتلو وسائر المسؤولين الفرنسيين، كما كتب يوميّاته بالتزامن مع كل الأحداث والتطوّرات التي رافقت هذه المذاكرات الفرنسية-الفيصلية. وهو عموماً لم يترك شاردة ولا واردة ولا تفيصل يتعلّق بهذه المفاوضات إلا ودوّنه، لا سيما وأنّه كان الرفيق الدائم للشريف الحجازي في مباحثاته وجولاته واتّصالاته. وحيدر معارضٌ خفيّ مستتر للاتّفاق، لكنه كان يلتزم بموقف رئيسه ويحترم هذا الموقف، وكان يبدي تفهّماً كاملاً لدوافع الأمير إلى الاتّفاق مع الفرنسيين، إذ لم يبقَ أمامه سوى هذا الخيار بعد أن تركه حلفاؤه الإنكليز في نصف الطريق، وأبوا أن يمدّوا له يد المساعدة. وقد شهد المؤرّخ جيرار خوري المطّلع على الأرشيف الفرنسي والأرشيفَين الأميركي والإنكليزي كذلك على دقّة المعلومات التي ذكرها حيدر، كما استخدم محاضر حيدر للقاءات فيصل-كليمنصو لا سيما وأنّها غير متوفّرة في أرشيف الخارجية الفرنسية!

ورستم حيدر اللبناني أو “فتى بعلبك” كما سمّي، يعرف الوضع اللبناني جيّداً، ويذكر مراراً في يوميّاته أن لبنان كان عقدة العقد في المفاوضات ومسألة المسائل: وضع بيروت وسائر المدن/المرافئ الساحلية، والأقضية الأربعة كذلك. كلّها مسائل عويصة سعت المباحثات الفرنسية-الفيصلية إلى حلحلتها. وكانت التسوية التي توصّل إليها الطرفان جعل بيروت مدينة حرّة، وتعليق مصير الأقضية الأربعة والمدن الساحلية باستفتاء يقرّر فيه أهلها هذا المصير.

ومن أبرز ما تحمِل يوميّات رستم حيدر من معطيات دور جبرائيل باشا حدّاد “الجاسوس” الذي زرعه الإنكليز في الوفد الفيصلي المفاوض في باريس. فيشير حيدر باستمرار إلى نقل حدّاد الدائم والمستمرّ لماجريات المباحثات وتطوّراتها إلى الطرف البريطاني. ممّا يُظهر أن الحكومة الإنكليزية التي دفعت الشريف الحجازي دفعاً إلى التفاوض مع الفرنسيين كانت تنظر بعين الريبة إلى هذه المباحثات، وتسعى، منذ البدء، إلى تقويض ما ينتج عنها: إنّها مفارقة غريبة من مفارقات موقف “بريطانيا الماكرة”، وطالما عُرفت في أوروبا، ولا سيما في الوسط الفرنسي، بهذا اللقب.

ورستم حيدر كان المفاوض الوحيد الذي رافق الأمير الهاشمي يوم 6/1/1920 عندما مهر الاتّفاق بتوقيعه الكامل إلى جانب توقيع كليمنصو. وروايته في هذا الشأن وثيقة تاريخية بحدّ ذاتها ينقلها ف 22 ويعقّب عليها.

والخلاصة فالمحايدون غالباً ما يكنّون لفيصل الاحترام والتقدير، من دون أن يمنعهم ذلك من توجيه سهام النقد إليه حيث يجب، أو حيث يجدون ضرورة لذلك. هذا ما فعله رضا باشا الركابي، وكذلك إبراهيم نجّار، ومحمّد جميل يبهُم، وحتى يوسف الحكيم، وهذا ما لم يُحجم عنه مرافقه رستم حيدر. وهؤلاء المحايدون هم من جلى الكثير من اللُبس والمسائل الغامضة. ويأتي في طليعتهم رستم حيدر الذي كان يكتب يوميّات آنية بالتزامن مع تطوّر المفاوضات وتعثّرها وتقدّمها، وكان يدوّن يوميّاته وملاحظاته لنفسه، لا للنشر ومن هنا مصداقيّته. فرستم حيدر مصدر أساسي يقطع الشكّ باليقين، لا سيما بماجريات المباحثات في باريس ولندن أيضاً. ولكنه لا يفيدنا الكثير بشأن ما حصل في سوريا، بعد توقيع الاتّفاق وعودة فيصل إليها، لأنّه بقي في باريس مندوباً للأمير في مؤتمر الصلح. وهنا تبرز أهمّية شهادات من شاركوا في الحدث أو أقلّه عاينوه وتابعوه. وعلى رأس هؤلاء رضا باشا الركابي رئيس الحكومة الفيصلية وشهادته الرزينة، وكذلك شهادة يوسف الحكيم الوزير في عدد من الحكومات الفيصلية المتتالية، والشهبندر وغيرهم.

وتبقى كلمة موجزة بشأن رواية جورج أنطونيوس (ف12)، فقد حار المؤلف في أي فئة بين الفئات الخمس يدرجها، إذ خلط هذا الباحث الرصين خلطاً عجيباً بين اتّفاق البقاع المعقود بين فيصل وكليمنصو في 27/11/1919 والاتّفاق المرحلي الموقّع في 6/1/1920 والمعروف باتّفاق فيصل-كليمنصو. وهي غلطة كبيرة لم يسبقه إليها أحدٌ من الرواة ولا الشهود ولا المؤرّخين.

ومعظم هؤلاء الرواة خلطوا، خلطاً عجيباً في التواريخ وتحديدها، فأوقعوا قرّاءهم في لُبس شديد وحيرة. ولا يستثنى منهم سوى رستم حيدر لسبب بسيط وهو أنّه كان يسجّل يوميّاته بالتزامن مع حصول الأحداث. وليت المسؤولين العرب بمجملهم يفعلون اليوم ما فعله حيدر منذ قرنٍ ونيّف، فتقليد تدوين يوميّات ومذكّرات أمرٌ جدّ مألوف عند السياسيين والزعماء الغربيين، في حين أنّه لا يزال ضعيفاً في الأوساط السياسية العربية، وهذا لوحده مؤشّر على الافتقار إلى الشفافية في هذه الأوساط.

 

مصنّف لم يكتب دفاعاً عن فيصل ولا ضدّه

ويبقى على المؤلّف أن يشير إلى أن كتابه هذا لم يُكتب تأييداً لفيصل ودفاعاً عنه كما فعل الكثيرون ممّن نقل شهاداتهم ورواياتهم هنا، بيد أنّه بالمقابل لم يُكتب ضدّه كما فعل آخرون غيرهم ممّن أوسع لهم أيضاً مكاناً في دراسته هذه. وإنما كُتب في محاولة جدّية صادقة لاستجلاء حقيقة أساسية ألا وهي حقيقة نشأة كيانَين: لبنان وسوريا أراد لهما البعض، من داخلٍ وخارج، أن يكونا بالحري كياناً واحداً موحّداً، وشاءت الظروف التاريخيّة وإرادة اللبنانيين وبعض السوريين أن يكونا منفصلَين!

ولم يُكتَب هذا السفر كذلك تأييداً للانتداب، ولا دفاعاً عنه، وأيّ وطنيّ يستسيغ أن يدافع عن نمطٍ من أنماط الاستعمار أيّاً يكن شكله؟! لكنّه بالمقابل لم يُكتَب بنَفسٍ عِدائي تجاهه. شاء الباحث، كما في دراساته في علوم الأديان وتاريخها، أن يفهم لا أن يحكم. أن يُدرك ما حصل، ويعي أبعاد الصراع المحتدم يومها بين مشروعَين متنافسَين ومتواجهَين: لبنان الكبير، وسوريا الكبرى، دون أن ينحاز، بداية وسلفاً، لخيارٍ معيّن بينهما.

تجربة الكتابة مرانٌ على النأي بالنفس

شاء عملية البحث والكتابة أن تكون تجربة وتدرّباً على النأي بالنفس عن الصراعات الديماغوجية والإيديولوجية والطائفية، والحياد الإيجابي في الكتابة، سطّر مباحثه وكأنه يكتب لنفسه، لا للنشر، تماماً كما فعل رستم حيدر، قاصداً الوقوف على مسافة واحدة من الأطراف المتنازعين أو المتنافسين، من دون التأثر بأحكامٍ مسبقة أو إيديولوجيّات ودماغوجيّات قوميّة أو طائفية لا تزال سائدة على الساحتَين اللبنانية والسورية. وعسى هذه التجربة الصعبة تكون قد نجحت.

تحديّ الخروج من دوّامة الصراع على تاريخ لبنان

فالتحدّي الكبير، يبقى الخروج من حلقة الصراع على تاريخ لبنان المفرغة، ودوّامة الحرب اللبنانية التي لا تزال مشتعلة بين المؤرّخين والباحثين في تاريخ الوطن الصغير والمنطقة. فهل تنجح تجربة الكتابة بأعصابٍ باردة وبعيداً عن تأجّج الصراع؟!

وهل يُفلح سعيه في أن يقطع مع الأسلوبَين الدفاعي والهجومي في آن؟! ليصل إلى أسلوبٍ تقريري محايد يقف على مسافة واحدة من المعطيات والمواقف والمواقف المضادّة؟!

وهل يصل الإنسان اللبناني، والعربي عموماً، إلى زمنٍ لا يعود يحزر فيه ماذا سيكتب المؤرخ ويعلن من مواقف بمجرّد معرفة اسمه وانتمائه الطائفي أو الإيديولوجي؟!

بل حتى هل يحلم مؤلّفٌ أن يصلَ القارئ العربي إلى يومٍ يكفّ فيه عن السؤال والبحث عن طائفة هذا المؤلّف أو ذاك قبل أن يقرأ نصّه؟ وليت هذا القارئ يستعبر ممّا روي عن فيصل ملك سوريا والعراق لاحقاً، فنقل أحد مؤرّخي سيرته: “أن بعض الأدباء زاروا جلالته مرّة في بغداد، فقدّم أحدهم إخوانه إلى جلالة الملك بقوله: هذا فلان وهو سنّي، وهذا فلان وهو شيعي، وهذا فلان وهو نصراني. فقال جلالته: حسبي أن يقال لي هذا عراقي، ولا أحبّ أن أعرف أكثر من هذا”([9])

فمتى، وأسوة بالملك الجليل، يقول القارئ في نفسه يكفي أن أعرف أن هذا الكاتب لبناني أو سوري أو… ولا أحبّ أن أعرف أكثر من هذا! أفيمكن الوصول إلى حالٍ كهذه، أم هي مجرّد أضغاث أحلام؟!

وهذا السِفر بما حوى من رواياتٍ متضاربة نموذجٌ بالغ الدلالة عن طريقة المؤلّفين العرب في كتابة تاريخهم القديم والحديث. وكثيراً ما كان المؤلّف يصاب بحالة غثيانٍ من فرط المزاعم والمزاعم المضادّة، الاتّهامية لفيصل، أو الدفاعية عنه. وكلّها أقاويل مرسلة لا سند لها ولا أصول يطلقها هذا المصدر أو ذاك غير آبهٍ بتوثيقها. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعدّ، وما على القارئ سوى العودة إلى متون هذا الكتاب ليجد منها العشرات.

أهمّية قراءة فيصل النقدية لتاريخه

لم يُكتب هذا السِفرُ لمهاجمة فيصل، ولا للدفاع عنه، يقول مؤلّفه ويكرّر. بيد أنّه لا يمكنه إلا أن ينوّه بالقراءة النقدية التي أجراها هذا الملك الجليل لتجربته الشاميّة ومساره السياسي عموماً. يقول عاهل سوريا، والعراق بعد ذلك في إقرارٍ لفارس الخوري في لقاء بينهما في باريس في 18/8/1931، نقل هذا الأخير وقائعه في مذكّراته: “الفرنسيّون غاضبوني. وأمّا أنا فاغتنمتُ كلّ فرصةٍ لإصلاحِ ذات البين معهم، وإحداثِ علائق جديدة تمكّنني من استرداد صداقتهم، لعلّي أتمكّن بذلك من خدمة سوريا. وهذا لأنّني أشعر بالأخطاء التي ارتكبناها قبلاً”([10])

موقف العاهل الجليل من الفرنسيين يستدعي إطراقة وتأملاً. فرغم الحرب الضروس التي نشبت بين الطرفَين، وإسقاط العسكر الفرنسي للعرش الفيصلي لم يحمل الشريف الحجازي حقداً على هؤلاء، وعمل دوماً على مصالحتهم خدمة لسوريا. والصلح سيّد الأحكام. ومتى نفعت الأحقاد أو أدّت خدمة في بناء الأوطان. فأين نحن من روحيّة هذا الملك وذهنيّته وكتبنا المدرسية والتاريخية ومسلسلاتنا التلفيزيونية حافلة بالأحقاد على الفرنسيين وغيرهم تحت شعار مهاجمة الاستعمار؟!

عاش كاتب هذه السطور ردحاً طويلاً من الزمن في الهند، وتسنّى له أن يعايش ويعاين نظرة الهنود إلى البريطانيين، فرغم أن انكلترا استعمرت الهند لأكثر من قرنٍ ونصف واستغلّت ثرواتها بأبشع صورة، واستخدمت شعبها بأفظع الطرق لمصالحها الاستعمارية ولحروبها، فالمواطن الهندي العادي لا يحمل حقداً على الإنكليز ولا على بلادهم. ويعتبر هذا الماضي الأليم صفحة قد طُويت، ولا يجب أن تؤثّر على علاقات الودّ والتعاون السائدة فعلاً بين البلدَين والشعبَين. أما منطقتنا العربية فلا تزال أحقادها على هذا المستعمِر أو ذاك تسودها وتستعمرها، ولن تعرف حرّية حقيقيّة إلا متى تحرّرت من هذه الأحقاد.

دروس من تجربة فيصل

لا شكّ أن في تجربة فيصل هذا الملك الجليل ومساره أمثولة يستوحي منها كلّ عربي. وأوّل ما يمكن أن يتعلّمه منه تسامحه، يقول في حواره الآنف الذكر مع فارس الخوري: “أنا مستعدّ أن أغمض العين والأذن عن أقاويل بعض السوريين واتّهامهم إيّاي بالمساومة وأستطيع ذلك. وها إنّي تقرّبتُ من عبد العزيز بن سعود وتودّدتُ إليه متغاضياً عن الماضي القريب، وما ذلك إلا لأجل خير العرب وخدمة أمّتي”.([11])

ومن يعرف ما جرى بين الشريف حسين وأبنائه من جهة، وبين ابن سعود من صراعٍ دموي طاحن، يدرك مغزى ما يقوله فيصل هنا! فليت موقف هذا الأخير من عدوّه اللدود يكون أسوة للكثيرين.

بين الفرنسيين والدنادشة

ودرسٌ آخر من تلك الحقبة يحمله إلينا موقف الفرنسيين من الدنادشة الذين ثاروا عليهم وكبّدوهم خسائر فادحة في الأرواح وفي العتاد. فعندما اقتيد زعيميّ الدنادشة مصطفى الأسعد وعماد الدين إبراهيم إلى حاكم لبنان الكولونيل ترابو صيف 1920 دار بينهم الحوار التالي:

“خاطبهما ترابو قائلاً:

-من منكما لا يريد أن لا تعفو فرنسا عنه؟

فأجابه عماد الدين: أنا!

فسأله ترابو: ولماذا؟

فقال: لأنّنا عرب، والعرب يحفظون المعروف والوداد، فإذا عَفَتْ الحكومة الفرنسية عنّي، يكون لها عليّ منّة، وأنا لا أريدها!

فقال ترابو: سنعفو عنكم، وسيكون لنا هذه المنّة”([12])

أفيعقل إذاً أن لا يكون لفرنسا في تاريخها الانتدابي على سوريا ولبنان سوى القمع والنقائص والسلبيّات؟ وهل كان الانتداب الفرنسي على سوريا أكثر وطأة وفتكاً من أنظمة محلّية وانقلابات حكمتها بعد الاستقلال، وفتكت بالبشر والحجر؟!

فيصل يراجع مواقفه من لبنان

وفي القرءاة النقديّة التي أجراها الملك فيصل لتجربته السياسية ولحكمه في سوريا 1918-1920 ما يستوقف كلّ لبناني ومؤرّخٍ جادّ، يقول في حواره الآنف الذكر مع فارس الخوري: “إنّني أشعر بالأخطاء التي ارتكبناها قبلاً عندما لم نقنع بسوريا فقمنا نطلب غيرها، فأضعنا ذلك الغير وسوريا معاً. والرجل المسؤول لا يجوز له أن يتمسّك بأكثر من الممكنات فيضيّعها”([13])

ويضيف العاهل العراقي، متوجّها إلى محدّثه الوزير السوري: “ثم ما هو موقفكم تجاه حدود سوريا خصوصاً لبنان. فإنّنا لا نستطيع أن نتجاهل هذا البلد واستقلاله، ولا أن نصرّ على ضمّه لسوريا، فإن هذا الإصرار قد يكون سبباً لفشلنا” (حماده، فيصل، م. س، ص113).

أليس ما يقوله ملك العراق هنا إدانة لمشروع سوريا الكبرى بفم كبير الساعين إليه؟! وبالتالي شجباً لمحاولات احتواء لبنان وضمّه، صلحاً أم عنوة، إلى هذا المشروع؟

“لم نقنع بسوريا، فقمنا نطلب غيرها، فأضعنا ذلك الغير وسوريا معاً” يقول الملك الجليل. أليس هذا تحديداً ما فعله المؤتمر السوري في قراره الشهير في 6 أذار 1920، والذي تضمّن إعلان ملكية فيصل، واعتبر لبنان مجرّد “مقاطعة” في سوريا، “أنعم” عليها بحق الإدارة الذاتية “ضمن حدودها المعروفة قبل الحرب”([14])

“إللي بيكبّر حجرتو ما بتصيب” يقول المثل اللبناني، وهذا تحديداً ما فعله المؤتمر السوري في قراره هذا، فتجاهلُ استقلال لبنان وإصرارُه على ضمّه كان سبباً في فشله طبقاً لتعبير الملك فيصل نفسه.

 

من أسباب نجاح التجربة الفيصلية في العراق

وإن نجاح التجربة الملكية الفيصلية في حكم العراق 1921-1933 تعود في جانبٍ كبير منها إلى القراءة النقدية للتجربة الفيصلية الفاشلة في حكم سوريا 1918-1920 والإفادة من الدروس العِبر التي حملتها! ويقول المؤرّخ العراقي علي الوردي في ذلك: “ولم يكن فيصل آنذاك قد تعلّم فنّ السياسة جيّداً (…) ولكن التجارب القاسية التي عاناها في تلك الفترة [1918-1920] علّمته دروساً لم يستطع نسيانها طيلة حياته. وحين أصبح ملكاً في العراق بعدئذٍ كانت الدروس التي تعلّمها في سوريا نصب عينَيه”([15])

فليتنا جميعاً، في هذا المشرق العربي، نعيد قراءة تاريخنا قراءة نقدية لنواجه مشاكل اليوم وأزماته على ضوء تجربة الأمس.

أهمّية دراسة الحقبة الفيصلية

في موسوعته التاريخية القيّمة “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” يقرّ د. علي الوردي: “إن الفصل الخاصّ بأحداث سوريا هو أكبر الفصول. ولا أكتم القارئ أن هذا الفصل أجهدني كثيراً، ولعلّه أكثر الفصول إجهاداً لي في جميع الكتب التي ألّفتها” (الوردي، لمحات، م. س، ص4).

ويفهم المؤلّف ويعي تماماً ما يبوح به الوردي، فالمعاناة متشابهة، والجهدُ المبذول في جمع الوثائق والمصادر والروايات والشهادات واستقرائها وتحليلها وتفنيدها كي يبصر هذا المصنّف النور كان شاقّاً ومضنياً بالفعل، واستغرق من الوقت ما فاق توقّعاته بأشواط. فالحقبة التاريخية وإن كانت محدودة 1918-1920 فهي، وطبقاً لتعبير الوردي نفسه: “كانت صاخبة ومليئة بالعبَر، ومن الجدير بكلّ قارئ عربي أنّ يطّلع على أحداثها ويعتبر بها” (الوردي، لمحات، م. س، ص4). ذلك أن، يتابع الوردي قائلاً: “سوريا كانت خلال تلك الفترة القصيرة أوّل دولة عربية في العصر الحديث تنال استقلالها، وتحكم نفسها على الطريقة الغربية” (م. ن). لذا فالفترة هذه، على محدوديّتها في الزمن، تستحقّ هذا العناء وما بُذل لفهمها من مجهود. ولن نفهم الأوضاع الراهنة المأزومة، إن في سوريا أو في لبنان، بمعزل عن إلمامٍ عميق بماجريات تلك الحقبة التأسيسية التي لمّا نزل إلى اليوم نعيش تداعياتها.

QJCSTB

جبيل في 1/8/2020

[1] -صليبا، د. لويس، أرثوذكس سوريا ولبنان في زمن التحّولات 1908-1920، جبيل/لبنان، ط3، 2014، ط1: 2005، 350ص.

[2] -صليبا، د. لويس، لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي نزاعات على الكيان نشأة وهويّة، تقديم أ. د. عبدالرؤوف سنّو، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط7، 2020، ط1: 2015، 421ص.

[3] -صليبا، د. لويس، لبنان الكبير: المخاض العسير شهداء لبنان في الحرب العظمى ودورهم في نشأة الكيان، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2020، ط1: 2020، 405ص.

[4] -صليبا، لويس، لبنان الكبير أم، م. س، ص136-137.

[5] -صليبا، د. لويس، من سايكس بيكو إلى لبنان الكبير: حكاية نشأة كيانٍ تعدّدي، بيروت، مجلّة الأمن الصادرة عن المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي، عدد 341، حزيران، 2020، ص72-78، وعدد 342، تموز 2020، ص56-63، وعدد 343، آب 2020، وأعداد أخرى لاحقة.

[6] -صليبا، لويس، الدولة الإسلامية، م. س، ص115-116.

[7] -Khoury, Gérard D, la France et l’Orient Arabe Naissance du Liban moderne 1914-1920, Paris, Armand Colin, 1993, pp311-319.

[8] -الشافعي، الإمام أبو عبدالله محمد بن إدريس (ت204هـ)، ديوان الشافعي، شرح وتقديم د. عمر الطبّاع، بيروت، دار الأرقم، ط1، 1995، ص123، من قصيدةٍ يقول فيها:

فإن تدنُ منّي تدنُ منك مودّتي        وإن تنأ عنّي تلقني عنك نائيا

كلانا غنيّ عن أخيه حياته                  ونحنُ إذا متنا أشدّ تغانيا

[9] -حماده، محمد عابدين، و ظبيان، محمد تيسير، فيصل بن الحسين من المهد إلى اللحد سجل عامّ لتاريخ القضيّة العربية وتطوّراتها، ج1: في حياة الفقيد الحافلة بجلائل الأعمال وصدى الفاجعة الكبرى في جميع أنحاء العالم، دمشق، المطبعة العصرية، ط1، ت1 1933، ص23.

[10] -حماده، فيصل، م. س، ص130.

[11] -حماده، فيصل، م. س، ص111.

[12] -دندشي، حسن نمر، الثورة السورية الأمّ الدنادشة في العام 1919، رسالة في العلوم السياسية قدّمت في الجامعة اللبنانية 1959، طرابلس، دار الإنشاء، ط1، 1985، ص158.

[13] -حماده، فيصل، م. س، ص130.

[14] -الحكيم، يوسف، سورية والعهد الفيصلي، بيروت، دار النهار للنشر، ط3، 1986، ص140.

[15] – الوردي، د. علي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ملحق الجزء السادس، بغداد، ط1، 1980، ص4-5.

 

شاهد أيضاً

Comment contrôler nos émotions/ VisioConférence de Lwiis Saliba sur Zoom, Mercredi 22 Janvier 2025

Comment contrôler nos émotions/ VisioConférence de Lwiis Saliba sur Zoom, Mercredi 22 Janvier 2025 La …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *