مقدّمة وغلاف كتاب “ذكريات ومشاهد وشخصيّات من لبنان 1960-1980/ تأليف لويس صليبا
المؤلّف/Auteur: أ. د. م. لويس صليبا Lwiis Saliba
مستهند وأستاذ محاضر ومدير أبحاث في علوم الأديان والدراسات الإسلامية
عنوان الكتاب: ذكريات ومشاهد وشخصيّات من لبنان
في الستّينات والسبعينات 1960-1980
Title: 1980-1960Memories Scenes & Personalities from Lebanon in
عدد الصفحات: 490ص
سنة النشر: طبعة أولى 2023
الناشر: دار ومكتبة بيبليون
طريق الفرير، حي مار بطرس، شارع 55، مبنى 53، جبيل/بيبلوس-لبنان
ت: 09540256، 03847633، ف: 09546736
Byblion1@gmail.com www.DarByblion.com
2023©-جميع الحقوق محفوظة، يُمنع تصوير هذا الكتاب، كما يُمنع وضعه للتحميل على الإنترنت تحت طائلة الملاحقة القانونية.
إلى “البطلة الأولى” لهذه الذكريات
إلى هند يوسف الزيلع الحيّة دائماً فيّ
ولولاها ما كنتُ لأحمل قلماً يوماً لأكتب
لويس
المناولة الأولى وهندوما/حزيران 1969
ديباجة الكتاب
مدخل إلى بحوثه وطروحات
تاريخ أنام لا تاريخ حكّام
ليس التاريخ تاريخ حكّام وحسب، وإنّما هو بالأحرى تاريخ أنام. إنّه تاريخ الناس بمختلف أوجه نشاطهم، لا تاريخ ملوكهم فقط وزعمائهم ونزاعاتهم وحروبهم، وإن كان هذا الجانب الأخير هو ما يُكتب غالباً، دون غيره، ويدوّن ويؤرّخ له.
قاعدةٌ أولى عمل بها المؤلّف كاتب هذه السطور في غالبية ما سطّر من بحوثٍ ومؤلّفاتٍ تاريخيّة. وهي من الأسس التي يرتكز عليها هذا المصنّف.
وثمّة قاعدة أخرى لا تقلّ عن الأولى أهمّية وتكوّن معها “السيبة”([1]) التي يقوم عليها نهج هذا الكتاب وتحدّد نوعه الأدبي: إنها المبدأ الفرنسي القائل:
L’expérience de chacun est le trésor de tous
تجربة كلّ فردٍ هي ذخيرة (كنز) الجميع.
وهذا تحديداً ما يقدّمه هذا السِفر لقارئه: تجربة كاتبه ومسيرته الدراسية والروحية والفكرية ضمن إطارها، وفي سياقها الاجتماعي والبيداغوجي والثقافي اللبناني والعربي العامّ. وهكذا ينطلق المؤلّف من هاتين القاعدتَين الراسختّين في وجدانه، وفي ممارسته الفكرية والكتابية، ليروي ويسرد تجربته ومسيرته. وليس ما يرويه سيرة ذاتية محضة، ولا هو بيوميّاتٍ ولا بمذكّراتٍ متسلسلة صرف، وإن كان فيه من كل ذلك الشيء الكثير. إنّه يؤرّخ للبنان في الستّينات والسبعينات 1960-1980 من زاويةٍ فردية وضمن السياق والجوّ الذي عاش فيه وعايشه فعل فيه وبه انفعل ومعه تفاعل وكان شاهداً عليه. ومن هنا عنوان الكتاب:
ذكريات ومشاهد وشخصيّات من لبنان في الستّينات والسبعينات 1960-1980
والعمود الفقري العامّ، أو الجذع الذي تتشعّب منه الأغصان هو المسار الدراسي أو بالحري المدرسي بمراحله وأُطره المناهجية([2]) التربوية الثلاث: الابتدائية والتكميلية والثانويّة. لذا كانت هذه المراحل هي العناوين العامّة لمحاور الكتاب وأبوابه الثلاثة والتي منها تتفرّع فصوله الخمسة والعشرون.
وفصول هذا الكتاب بمجملها مجموعة سرديّات تحكي عن نشأة المؤلّف منذ الطفولة الباكرة وسنوات المدرسة الأولى وحتى السنة المدرسية الأخيرة. مروراً بصيفيّاته في الضيعة اللبنانية وأنشطته الروحية والفكرية في بعض الجمعيّات والمؤسّسات الاجتماعية والمسيحيّة.
خطّ تأليفي يوفّق بين التسلسل التاريخي والطابع الموضوعاني
أمّا تسلسل الفصول والسرديّات فيعتمد خطّاً يوفّق بين التتابع التاريخي والطابع المضموني أو الموضوعاني Thématique. ولمزيد من التوضيح فالكاتب عندما يؤرّخ لعلاقته بشخصية ما كالخوري أنطوان كامل أو الأستاذ عبدالله سرور أو أيّ عَلَمٍ آخر يبدأ من تاريخ معيّن ومحدّد هو نقطة انطلاقة هذه العلاقة، ومن هنا يأتي موقع حديثه تاريخيّاً وزمنيّاً في كتابه في هذه النقطة وهذا التاريخ بالذات. بيد أنّه يمضي في السرد حتى خواتيم هذا العلاقة لا سيما إذا كانت هذه الشخصيّة من الراحلين. فما يرويه عن الخوري أنطوان كامل مثلاً يبدأ من تاريخ تعرّفه عليه أي سنة 1974، ويتموضع بالتالي في السياق الزمني لأحداث هذه السنة. بيد أنّه يمضي في سرديّته عنه حتى وفاته في نيسان 2005 وإلى ما بعد هذه الوفاة إن لزم الأمر. وما يقوله عن الشخصيّات كالخوري كامل وغيره ينسحب على الجمعيّات والمؤسّسات كذلك. فالفصل الذي يتناول فيه نشاطه في الحركة الرسولية المريمية ينطلق من تاريخ انتمائه إليها 1974، لكنّه يمتدّ في خطّه الزمني حتى نهاية المرحلة التكميلية 1977. وهذا ما يسمّيه نهج التوفيق بين التسلسل التاريخي والطابع المضموني أو الموضوعاني.
ولا يرى المؤلّف موجباً لتقديم عرضٍ وإن موجزٍ لمضامين كلّ فصل وموضوعاته، كما كان شأنه في مقدّمات كتبه السابقة وديباجاتها. فهذه الفصول بمجملها كما ذُكر للتوّ مجموعة سرديّات مترابطة بتتابع وتسلسل ما، ما يُغني عموماً عن تقديم ملخّصٍ لها.
وممّا يجدر ذكره هنا أن فصولاً مثل ب2/ف2: درس في محبّة الوطن، وب2/ف8: الأخ فرنسوا جوزف المربّي النموذجي، سبقت وضع هذا الكتاب ومجموعة الفصول الأخرى التي تؤلّفه. وهي في الحقيقة ما مهّد لتصنيف هذا السِفر أو بالحري ما ورّط الكاتب في تأليفه!
مصادر الكتاب وأصوله
والسؤال البديهي الأوّل الذي يُطرح، ولا سيما من الناحية المنهجية، إلى ماذا يستند هذا السِفر من مصادر؟
النقر في الذاكرة وإفراغها
المصدر الأوّل والأبرز هو الذاكرة ومخزونها الواعي وحتى اللاواعي. ومع بدايات عودته إلى سبر أغوار الذاكرة السحيقة كتب المؤلّف في 20 كانون أوّل 2021 ما يلي: “النقر في الذاكرة مُفرِحٌ تارة، ومُحزنٌ طوراً، وموجعٌ في كثيرٍ من الأحيان. بيد أنّه، وفي أية حالٍ، لا بدّ منه، ولا غنى عنه. فهو عملية تطهير، وإفراغ للذاكرة من محتوياتها، تماماً كما ذاكرة الكومبيوتر التي تحتاج من وقتٍ لآخر إلى تفريغ، فهي عندما تمتلئ تعيق حُسن عمل هذا الأخير.
هو محزنٌ لأنّنا نتعلّق غالباً بالأيّام الخوالي، وبصورةٍ لنا رسمناها انطلاقاً من هذه الأيّام، وننسى أن قانون التغيّر الدائم Anicca، أو قانون: “كل حالٍ يزول” هو سُنّة الحياة وركنها الأساسي. وخيرٌ لي أن أفرغ هذه الذاكرة على الورق. وقد آن الأوان لهذا التفريغ، أقلّه لأن ما أعيه اليوم قد أنساه غداً، فيبقى هاجعاً في أعماق النفس، وينتقل من الوعي إلى اللاوعي، فيصعب عندها إخراجه من جديد وقد يستحيل!
أجل يحسن بي اليوم أن أُخرج ما لا أزال أعيه حتى الآن، وإلا فسيبقى يرخي بثقله على الوعي واللاوعي، ويبقى يحفر عميقاً في الوجدان دون أن أعي ماذا يفعل وتأثير فعله.
وفي 29/12/2021 عاد المؤلّف وكتب مؤكّداً على أهمّية تجربة إفراغ الذاكرة هذه ومفعولها: “إعادة تركيب الأحدث، أو بالحري ترتيبها زمنياً مثل لعبة Puzzle فما الجدوى من كلّ هذا التعب المضني؟!
إنّها عملية مفيدة للذات قبل أن تكون مجدية للآخر: الغوص في أعماق الذات، وتطهير الذاكرة وتنظيفها، كما تُفرَّغ ذاكرة الكومبيوتر لتُملأ من جديد. وإخراج كلّ المؤثرات العميقة، وسحبها من مستوى اللاوعي إلى الوعي، تمهيداً لإدراكها وتدبّرها، ومحو آثارها السلبية من الذات. أمّا الجدوى للآخر، أو بالحري للقارئ، فحياة كل فردٍ وتجربته المعاشة نموذجٌ مفيد لكلّ آخر”.
تجريد الماضي من إسقاطات الحاضر
ومع بداية العام 2022 كتب المؤلّف بشأن عودته إلى الذاكرة ونهجه في هذا المجال: إلى أيّ مدى نستطيعُ أن نرى الماضي، ونتصوّره مجرّداً من إسقاطاتنا الحاضرة عليه؟! وإلى أيّ مدى نستطيع من نجرّده من قناعاتنا الحالية؟! وقناعاتنا هذه أليست، بوجهٍ من وجوهها، محصّلة أحداث هذا الماضي وماجرياته؟!
يصعب في الواقع تجريد الماضي تماماً ممّا نحن عليه الآن، وعن الحاضر واللحظة الآنية، لكن لا بدّ من السعي إلى ذلك بموضوعيّة”.
منهج علم التشريح الوصفي
وعن طريقته في التذكّر ورواية الماضي كتب في الأيام الأولى من سنة 2022: “في علم التشريح Anatomie هناك منهجان للدراسة: علم التشريح الوصفي Anatomie Descriptive. فإذا درس هذا العلم عصباً أو شرياناً ما، فهو يتبعه من حيث يبدأ إلى حيث ينتهي. وعلم التشريح الطوبوغرافي Anatomie Topographique يصف كلّ ما هو موجود في منطقة ما من البدن كالبطن أو الصدر، وينتقل من منطقة إلى أخرى ليصف ويعاين كامل أجزاء الجسم جزءاً إثر جزء. وهذه المشاهد كتبتُها كما تذكّرتها. وكان تذكّري بحسب المواضيع Thématique، وليس بالتتابع الزمني الكرونولوجي، في حين أن العمود الفقري والتسلسلي لذكرياتي كان سنوات الدراسة وصفوفها”.
ما يعني أنّ الكاتب اعتمد في طريقة التذكّر نهج علم التشريح الوصفي أي أنّه لاحق الحدث أو الشخصيّة التي يتحدّث عنها من البداية حتى النهاية، وذلك دون أن يخرج تماماً عن السياق الزمني للفصول كهيكلٍ عام بنى عليه. وهو ما سمّاه أعلاه: خطّ يوفّق بين التتابع الزمني والطابع الموضوعاني.
الصوَر ودورها في إنعاش الذاكرة البصرية
وتأتي الوثائق كالصوَر وأكثرها نُشر في هذا الكتاب ودفاتر العلامات وغيرها كمنشّط للذاكرة أولاً، وكمصدرٍ أساسي وأصلٍ من أصول الكتابة التاريخية.
فالصور الفوتوغرافية تنعش الذاكرة البصرية Mémoire visuelle وتنشّطها. وتعيد إيقاظ انطباعات قديمة هاجعة في الجهاز العصبي. والمؤلّف غالباً ما اعتمد ذاكرته البصريّة في عملية التذكّر، أي أنّه أعاد إحياء المشهد الذي يرويه في ذاكرته ومخيّلته، وكأنّه فيلم سينمائي ينظر تتابع مشاهده على شاشة هذه المخيّلة. وتأتي الصور الفوتوغرافية العائدة إلى زمن الحدث المروي لتطلق عملية العرض هذه وتحفّزها.
ومع الصور كمنشّطٍ للذاكرة، تأتي جلسات تذكّر الأيّام الخوالي مع رفقاء تلك المرحلة والذين لمّا يزالوا من أصدقاء المؤلّف وأحبّائه من أمثال المهندسين بشارة مونّس وهنري غوش وناظم يزبك وطوني قزحيا خوري. فهؤلاء وغيرهم قرأوا فصولاً عديدة ممّا كتب، وأبدوا ملاحظاتٍ وذكّروا بتفاصيل مهمّة. والكاتب يغتنمها فرصة هنا ليشكرهم على ما فعلوا، وعلى ما خصّوا به رواياته من اهتمام وعناية.
الوثائق وأرشيف المدارس
وإضافة إلى الصور فقد احتفظ المؤلّف بعددٍ من الوثائق عن كلّ حقبةٍ أو حدث رواه في ذكرياته هذه: دفاتر العلامات، شهادات، إهداءات كتب، دفاتر الفروض المدرسية محفوظات الجمعيّات وغيرها. وكانت له خير معين وسندٍ في ما روى. وسيورد صوراً عنها في هذا الكتاب.
وقد عاد المؤلّف إلى أرشيف عددٍ من المدارس والجمعيّات ولا سيما ثانوية راهبات الوردية/جبيل، والفرير ماريست/جبيل وغيرها. وهو هنا يسجّل لها شكراً على تعاونها. كما أنّه لم يقصّر في الاتّصال بذوي من ترجم لهم من الأساتذة والشخصيّات الراحلة أمثال نبيل خوري، والياس عازار وعبدالله سرور وغيرهم لتوثيق المعلومات الواردة عنهم.
الدفاتر واليوميّات
ومن المصادر والأصول المكتوبة والمهمّة التي استند إليها المؤلّف: دفتر المطالعات المفضّلة، وقد دأب منذ الصف الأوّل تكميلي، وحتى الثالث ثانوي على حفظ أبرز كتاباته وملاحظاته وخواطره المتنوّعة فيه. وفي ب1/ف1 ذكرٌ وافٍ له وعرضٌ موجزٌ لما تضمّن.
ومن هذه المصادر كذلك وثيقة “مصطلحات صفّ المتلام”، والتي جمعها المؤلّف وطبعها ووزّعها على زملائه في آخر تلك السنة المدرسية المباركة أي في حزيران 1980. وكانت له بمثابة معين للذاكرة Aide mémoire ساعده في تذكّر الكثير من الأحداث ورواية العديد من الطُرَف والنوادر. ونظراً لأهمّيتها وطرافتها، وخوفاً عليها من الضياع، فقد أورد نصّها الكامل ملحقاً بالفصل الأخير من الكتاب.
ومن هذه المصادر كذلك وآخرها مفكّرة أو أجندة Agenda 1979 وقد حفظت يوميّات كتبها المؤلّف بالفرنسية في ذاك العام يوماً بعد يوم. وكتب إثر انتهائه من قراءتها في نيسان 2022 وتدوين ملاحظات منها وعنها ما يلي: الآن أنهيتُ قراءة يوميّات 1979. وكأنّني ركبتُ عربة عادت بي في الزمن إلى الوراء لأعيش مجدّداً تلك الأويقات الغالية. “وصف العيش نصف العيش” قيل. وهذ الروايات العفوية وبنت ساعتها أتاحت لي أن أعيشَ مرّةً أخرى تلك الأحداث. وهي قراءة أتاحت لي التداوي من آثار الماضي وأسقامه. وأن أفهم الكثير ممّا أنا عليه اليوم، لا سيما وأنّه نتاج ومحصّلة ما حدث بالأمس القريب ولا سيما البعيد منه.
ليتني كنتُ جلوداً وواصلتُ الكتابة!! وماذا ينفعٌ تمنٍّ متأخّرٍ كهذا؟!
ها قد كتبتُ بمواظبة ومثابرة منذ العام 2000 وأنا اليوم في المفكّرة رقم 53. فهل سأقرأ ألوف الصفحات المكتوبة هذه يوماً؟! أو هل ستجد لها من يقرأها في يومٍ من الأيّام؟!
كأن ما حدث حصل لامرئ آخر
وهل في سيرة هذا الرجل البسيط والمفكّر الكاتب ومسيرته ما يستحقّ أن يتفكّر قارئ به ويخصّه بكلّ هذا الوقت وهذه العناية؟!
ولماذا توقّفتُ عن الكتابة في 21/11/1979 ودون أيّةِ إشارةٍ إلى هذا التوقّف؟! وهل تعبتُ يومها من الكتابة اليوميّة المتتابعة والمتواصلة؟!
أحداثٌ كثيرة، قرأتُها في هذه المفكّرة، وعدتُ وعشتها، وكنتُ قد نسيتها تماماً. وأحداثٌ أخرى لم أستطع حتى تذكّرها من فرطِ ما هي غائرة وبعيدة ومنسيّة. قرأتُ عنها في هذه المفكّرة، وكأنّها رواية ويوميّات رجلٍ آخر لا علاقة لي به!
غريبٌ حقّاً هذا الشعور: أنا ولستُ أنا! أنا من يتحدّثُ ويروي ويكتب أحداثاً آنيّة وقعَتْ لي يومها. وأنا من يقرأ اليوم ولا يذكر ما حدث بالأمس، وكأنّه حدث لامرئ آخر. فسبحان مغيّر الأحوال!
لم أضع حتى نقطة ختامٍ Point Final لهذه اليوميّات. بل جاء الختام تلقائيّاً ودون وداعٍ أو حتى إشارة. انتهت هذه اليوميّات دون أن تُختم أو تُختتم. فهل أقلعتُ عن التدوين اليوميّ يومذاك إثر تعبٍ منه؟! أكان ذلك بنتيجة اهتمامات وانشغالات أخرى غرقتُ فيها من مدرسة ودروس وغيرها؟
القراءة العلاجية وفوائدها
وتبقى في النفس حسرة واضحة على إهمال التدوين والمواظبة عليه. ما أضاع الكثير من الأحداث وجعل النسيان يطويها إلى الأبد!
كم عرفتُ من أشياء من هذه القراءة، وكم فهمتُ من المؤثّرات. أمورٌ عديدة ما كنتُ أعرف لها سبباً سلّطت هذه القراءة أضواءً على جذورها العميقة. وكما يفهم المريض عُقده من خلال استرجاع ذكرياته ولا سيما أوقاته الصعبة، هكذا فهمتُ الكثير من خلال قراءة ما سبق لي أن دوّنتُ. أحداثٌ لم أُعِد قراءتها بتاتاً منذ 45 سنة، وها أنا أعيشها من جديد مرّة أخرى، فأفهمُ جوانب عديدة من نفسي وشخصيّتي والمؤثّرات العميقة فيها. كانت حقّاً قراءة علاجية Lecture thérapeutique.
وشعوري الآن شعور من يخرج لتوّه من جلسة تحليلٍ نفسي وقد فهم جذور الكثير من مشاكله وعُقده بسبر أغوار ذكريات عميقة وهاجعة في النفس. فبمجرّد أن استرجعتُ هذه الأحداث وهذه الانطباعات القديمة فهمتُ الكثير ممّا يحدث لي اليوم، وردّات فعلي وانفعالاتي الآليّة والتلقائية والعفويّة.
ولا بدّ من كلمةٍ بشأن التعريفات والهوامش عموماً التي يحفلُ بها هذا المصنّف. وهي في الغالب على أنواعٍ وأنماطٍ ثلاثة:
1-تراجم للشخصيّات والمعلّمين ممّن حكى عنه المؤلّف وكان على علاقة مباشرة به.
2-نبذات وتعريفات بالقرى والبلدات والأديرة والمدارس التي عاش فيها وكان لها أثر في نفسه ونشأته.
3-التعريف بالتعابير والكلمات العامّية المستخدمة في المتن.
1-تراجم الشخصيّات
يؤرّخ هذا المصنّف للعديد من المعلّمين والأساتذة والآباء الذين كان لهم أثر بيّن في نشأة الكاتب بعضهم من المشاهير أو أقلّه المعروفين في الشأن التربوي، ومعظمهم، أو بالحري كلّهم، من المربّين الفاضلين ممّن يتوجّب أن تُلحظ إسهاماتهم وأدوارهم وتدوّن كي لا تضيع. والمؤلّف بحديثه عنهم وترجمته لهم يشعر وكأنّه مريد يذكر مشايخه ممّن أخذ عنهم الطريقة. إنّه ببساطة يؤدّي تحيّة وفاء منوّهاً بجزءٍ وإن يسير من فضلهم عليه وعلى أترابه. وهكذا فقد روى في المتن ذكرياته عنهم وبعضاً من نوادرهم وأخبارهم وإسهاماتهم في الشأن التربوي والروحي وغيره. أمّا هامش كلّ متنٍ فخُصّص للترجمة لمن يتحدّث عنه، وذكر نبذةٍ وافية تحيط ما أمكن بمجمل نشاطه. وقد تقصّى الدقّة في ذلك ما أمكنه إليها سبيلاً، وذلك كي يرسم ما يقدّمه من متنٍ وحاشية معاً لوحة واقعية وتاريخيّة عن كلّ علمٍ من أعلام التربية والثقافة هؤلاء.
ولا بدّ للباحث أن يلحظ في هذا السياق أنّه قد أحجم عن ذكر بعض الأسماء في حالات معيّنة واستثنائية. وهو يردّد في هذا الصدد ما سبق له أن قاله في مصنّفاتٍ أخرى: “هذه الفصول لم تُكتب للتشهير بأحد. بيد أنّها كذلك لم تسطّر للتبخير لأحد. فلا التشهير هوايتي، ولا التبخير مهنتي ومورد رزقي كما هو شأنه عند الكثيرين ممّن يجعلون من القلم مهنة وحرفة”.
ومن هنا إحجامه عن ذكر أسماء بعضٍ ممّن لم تكن أفعالهم أو بالحري ممارساتهم ممّا يُفخر به. وكثيرة هي الوقائع والأفعال التي تُدرج في هذه الفئة الأخيرة غير المشرّفة ممّا غضّ النظر تماماً عن ذكره وروايته. أما ما ذُكر منها في ما يلي من فصولٍ وصفحات فممّا كان له أثر حاسم في نشأته أو في مسار الأحداث ما يجعل إغفاله بالتالي يُخلّ بالسياق العام ومثار لُبسٍ. وقد ابتغى الواقعية والدقّة في ما ذكر مستلهماً مبدأ عالم النفس مارشال برترام روزنبرغ (1934-2015) Rosenberg([3]) القائل: “كلّما كنّا أكثر دقّة وموضوعية، كلّما قام الآخر بتفسير ما نقوله كمحاولة مشروعة للتواصل، أكثر ممّا قد يعتبره نقداً ممكناً”([4])
والمؤلّف في ما سنّه لنفسه من امتناعٍ عن الذمّ والقذف والتشنيع يستنير بتعليم المغبوط غوتاما بوذا القائل: “الرجل الذي يفرح بشجبِ أخطاء الآخرين وسقطاتهم يغفل أنّه بذلك ينحطّ”([5])
2-التعريف بالقرى والأديار وسائر الأماكن
للضيعة اللبنانية بتراثها وقيَمها وطيب مناخها وأهلها مقامٌ مميّزٌ في هذا المصنّف. ورغم أن الكاتب ابن مدينة ولادةً ونشوءاً وتطوّراً، فقد كان للقرية اللبنانية أثر بالغ في نشأته: من الخنشارة/المتن حيث مدرسته الأولى وألعابه الطفولية على الثلج، إلى إهمج/جبيل التي تنزّه على دروبها وقطف من كرومها ولوّحته شعاعات شمسها، وصولاً إلى بسكنتا/المتن بدير راهباتها، وناسها، وناسك شخروبها، فغوسطا وبقعتوتا في كسروان: مسار قروي حفر عميقاً في الوجدان. وكان لا بدّ له، وفي سياق ما يروي عن هذه البلدات من أخبار وحكايات، أن يعرّف بهذه الأخيرة بالهامش بما يساهم في إيضاح ما يحكيه في المتن. وقد توخّى عموماً الدقّة في ذلك، واقتصر، ما أمكنه ذلك، على ما يرتبط بعلاقة ما بما يرويه.
3-شرح التعابير العامّية
لمّا كانت فصول هذا السِفر ترسم لوحة شبه متكاملة للحياة اليوميّة التربوية والثقافية والروحية في لبنان في الستّينات والسبعينات من ق 20، وتحكي عن شخصيّات ورجالات، وتنقل حوارات من ذاك الزمن، لم يجد المؤلّف، وفي كثير من الأحيان، مفرّاً من نقل الأحاديث والأقوال بدقّةٍ وأمانة، وبالتالي بلغتها المحكية، أو أقلّه بالتعابير العامّية المستخدمة. وإلا فقدت حكاياته وأخباره الكثير من رونقها. واستخدام التعابير العامّية أمرٌ لم يألفه الكاتب في مصنّفاته السابقة. ولمّا كان يتوجّه بما يكتب إلى القارئ العربي عموماً، وليس اللبناني حصراً، فهو لم يجد بدّاً من شرح وتفسير الكثير من التعابير العامّية التي يستخدم. فالأمانة لا تعني بعُرفه اللبس ولا الأحاجي. وما استخدم من كلماتٍ محكية يبقى في غالبيّته ألفاظٌ قاموسيّة مشروحة في عدد من المعاجم كمعجم أنيس فريحة وغيره. لذا جاءت شروحاته، في الهوامش وفي الغالب، نقلاً عن هذه المعاجم، مع ذكر المرجع. وقد لا يحتاج ابن المشرق العربي لأكثر هذه الشروحات والهوامش، في حين ليست هذه حال ابن المغرب.
من مدرسة الكتاب إلى مدرسة الحياة
وختاماً فهي سيرةٌ وصفحاتٍ دوّنها الكاتب للذات أولاً، وللآخر تالياً. للذات في محاولةٍ لفهمها وسبر أغوارها، ووعي مؤثّراتٍ هاجعة وفاعلة لكنّها غير منظورة. وللآخر في دعوة إلى فعل مماثل وإلى الإفادة من تجربةٍ من شأنها أن تسلّط أضواءً كاشفة على خفايا كلّ ذات.
وتبقى أيّام المدرسة أحلى الذكريات وأغلاها، ذلك لأنّها تجمع بين متعة الاكتشاف وفرحة التشارك بالمعرفة ودفء العيش ضمن جماعة متناغمة، وهي عوامل وعناصر أساسية قلّما تجتمع في ظروف أخرى. ومن هنا هذا الاهتمام المميّز بها في هذا المصنّف.
وفي الانتقال من مدرسة الدفتر والكتاب إلى مدرسة الحياة كان لا بدّ من وداعٍ، والوداع فيه انسلاخ، والانسلاخ موجعٌ، لا سيّما وأنّه يُبعد المرء، أو بالأحرى يحرمه من كثيرٍ ممّا ألِف وأحبّ. لكن التغيّر والتبدّل هو حال الدنيا وسُنّة الحياة. والحنينُ إلى الأيام الخوالي والنظر إليها كفردوسٍ مفقود قد لا يجدي، بل ومن شأنه أن يمنع الإنسان من أن يعيش حياته الراهنة بملئها. في حين أن وعي هذه الأيّام وأخذ العبرة منها أمرٌ جزيل الفائدة إذ يتيحُ تحاشي تكرار الأخطاء والهنّات وينمّي المعرفة الاختبارية وهي أسمى المعارف وأرقاها. وكلّ ذلك من أبرز مقاصد هذا السِفر.
QJCSTB
جبيل في 5/6/2022
[1]-سيبة: فارسية (سه باي) سلّم ثنائي الأرجل (الجمع سيبات). (خطاب، عبد الفتاح، الهادي في الألفاظ العامّية تعرّف على أصول ومعاني كلماتك المحكيّة، بيروت، الدار العربية للعلوم، ط1، 2010، ص148).
[2]-مناهجية: نسبة إلى مناهج ذلك أن النسبة بصيغة المفرد: منهجية تعني أمراً آخر Méthodique.. والمؤلف لا يرى ضيراً في النسبة باستخدام صيغة الجمع وإن كان ذلك غير مألوفٍ عند العرب. فاللغة كائنٌ حيّ وعليها أن تتطوّر وتنمو بتطوّر الحاجات وتغيّرها.
[3]-أنظر تعريفاً به وعرضاً لبعضٍ من طروحاته في التواصل اللاعنفي في كتاب: صليبا، لويس، المسيحية والإسلام بين الأمس واليوم بحث في تطوّر العلاقات بينهما من يوحنا الدمشقي إلى وثيقة الأخوّة، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2022، ب2/ف2، فق: تأثير الأدب على العنف، ص137-139.
[4]-Servain-Schreiber, David, Guérir le stress l’anxiété et la dépression sans médicaments ni psychanalyse, Paris, Robert Laffont, 2003, p212.
[5]-Crépon, Pierre, Les Enseignements du Bouddha Contes et Paraboles, Paris, Sully Editions, 1999, p92.