مقدمة وغلاف ومواضيع كتاب “صديقان لدودان: نعيمه وجبران”/تأليف جبران
المؤلّف/Auteur: أ. د. م. لويس صليبا Lwiis Saliba
مستهند وأستاذ محاضر ومدير أبحاث في علوم الأديان والدراسات الإسلامية
عنوان الكتاب: صديقان لدودان: نعيمه وجبران
بحث في علاقتهما ومصادرهما الهندية مع نصوص غير معروفة لنعيمه وجبران
Title: Tow Disputers Friends: Naimy & Gibran
Study on their relationship and their Indian sources with unknown texts by Naimy & Gibran
صورتا الغلاف: جبران بريشته ونعيمه بريشة جبران
عدد الصفحات: 472ص
سنة النشر: طبعة أولى 2024
الناشر: دار ومكتبة بيبليون
طريق الفرير، حي مار بطرس، شارع 55، مبنى 53، جبيل/بيبلوس-لبنان
ت: 09540256، 03847633، ف: 09546736
Byblion1@gmail.com www.DarByblion.com
2024©-جميع الحقوق محفوظة، يُمنع تصوير هذا الكتاب، كما يُمنع وضعه للتحميل على الإنترنت تحت طائلة الملاحقة القانونية.
سلسلة أديان الهند وأثرها في المشرق وأرض الإسلام
تأليف أ. د. لويس صليبا
1–اليوغا في الإسلام، مع تحقيق وشرح لكتاب باتنجلي الهندي للبيروني. ط1، 2016، ط3، 350 ص
2-أديان الهند وأثرها في جبران، دراسة للمصادر التيوزوفية في أدب نابغة المهجر.تقديم د. بيتسا استيفانو. ط1، 2015، 390 ص
3-الهندوسية وأثرها في الفكر اللبناني: دراسة في فكر ميخائيل نعيمه
ط1، 2018، ط2، 440ص
4-حوار الهندوسية والإسلام والمسيحية جنبلاط اليوغي وعلاقته بنعيمه والحايك. ط1، 2020، ط2، 500ص
5-صديقان لدودان: نعيمه وجبران: بحث في علاقتهما ومصادرهما الهندية مع نصوص غير معروفة لنعيمه وجبران. ط1، 2024، 470ص
ديباجة الكتاب
مدخل إلى بحوثه وطروحاته
مخطوطة طال مكوثها في الدُرج
بقِيَت مخطوطة هذا الكتاب في دُرج مؤلّفه، كاتب هذه السطور، نحو عقدٍ من الزمن تنتظر أن يُفرجَ عنها فتسلك طريقها إلى المطبعة!
وكان من المقرّر لها في البداية أن تكون قسماً من كتابه الثاني في هذه السلسلة: “أديان الهند وأثرها في جبران (1883-1931)” بيد أن حجم الكتاب تضخّم أكثر ممّا كان مخطّطاً له، ما جعل المؤلّف يفصلها عنه، وكذا كانت الحال مع الكتاب الثالث من السلسلة: “الهندوسية وأثرها في الفكر الإسلامي: دراسة في فكر ميخائيل نعيمه (1889-1988)”.
وهكذا طال مكوثها في الدرج وكادت تقع فريسةً للنسيان لولا أنّها ذُكرت في مجموعة مؤلّفات الكاتب، فكان القرّاء والباحثون يذكّرونه بها من وقتٍ إلى آخر سائلينه عنها، وعن تاريخ صدورها في كتاب! وكانت هذه المخطوطة آخر ما سطّره من مصنّفات على الورق. فخمسون كتاباً من مؤلّفات الكاتب والتي بلغت اليوم الثمانين دُوّنت بالقلم على الورق، وبعدها انتقل إلى استخدام الكومبيوتر مباشرة من دون المرور بمن يصفّ وينضّد له أوراقه ونصوصه المسطّرة ويدخلها فيه.
وصوناً لهذه المخطوطة من الضياع كان لا بدّ من إخراجها من الدرج وتنضيدها. وكان في هذا الوقت الطويل الفاصل بين التدوين الورقي والتنضيد قد جمع كمّاً كبيراً من المراجع والمصادر التي لم تكن متوفّرة له في البداية ممّا وسّع نطاق البحث، ما حدا بالكاتب إلى أن يضيف إلى مخطوطه عدداً من الفصول ولا سيما الباب الأخير. وأبرز ما توفّر له في هذه المرحلة الأخيرة وثائق ومقالات لنعيمه وعن جبران غير معروفة ولم يسبق أن ضمّتها دفّتا كتاب، بيد أنّه لم يكتفِ بإدخالها في هذا الكتاب، بل قرن نصوصها بقراءة نقدية وتحليل.
هذه باختصار لا يُخلّ حكاية تأليف هذا الكتاب، وفي ب1/ف1 المزيد من التفاصيل، ولا سيما تلك التي تتناول أسباب ودواعي اختيار هذا الموضوع للدراسة والبحث والنقاش.
نصّ الكاتب أهمّ من سيرته
جاء في سياق هذه الدراسة أن سيرة جبران هي الإشكالية الكبرى لا أدبه (ب1/ف4)، وهي مسألة لافتة وتستحقّ إطراقة ووقفة، والناس بطبعها وبحشريّتها الدائمة تولي سيرة الكاتب وخفايا أحداثها، ولا سيما منها علاقاته العاطفية، أضعاف ما تخصّ مؤلّفاته ونصوصه من اهتمام! وجاء كتاب نعيمه في جبران بما سرد من روايات عن علاقات نابغة المهجر النسائية ليفاقم من هذا الاهتمام وذلك على حساب التركيز على النصّ والإبداع الأدبي. والمؤلّف لا يسعه إلا أن يوافق الناقد د. ربيعة أبي فاضل في ما ذهب إليه في هذا المجال إذ قال: “يجد النقّاد سهولة في تفسير حياة الكاتب وتحليلها والتوسّع حولها، فيهتمّون بعائلته وأحوال بيئته ويرافقونه في ليله ونهاره، في خصوصّياته وأسراره، ويظنّون أنّهم يفتحون فتحاً مبيناً أو يحقّقون المستحيل. كلّا إنّنا ندعو إلى إبدال البيوغرافيا والمهاترات التي تدور حولها بدراسات متعمّقة للنصوص، ومحاولة فهمها فهماً داخليّاً وتحقيق ما يصبو إليه الوعي الأدبي (…) فما يهمّنا ليس علاقة جبران بميشلين أو بماري هاسكل أو سلوك والد جبران، أو كذب جبران ونفاقه. ولا يهمّنا أن يكون جبران إنساناً أو نبيّاً أو إلهاً. إن همّنا هو اكتشاف ما يميّز جبران كجبران في “النبي”: تلك البساطة والطراوة والشفافية التي تجعله طيّب القلب، قريباً من الشعب، خالداً بخلود المحبّة”.([1])
سيرة جبران شغلت الناس عن أدبه!
والبيوغرافيا من حيث الأهمّية والاهتمام يجب أن تلي النصّ نفسه لا أن تفوقه وتتقدّمه وتتخطّاه، فضلاً عن أنّها يجب أن لا تحوّل الأنظار إليها وتستقطبها على حساب أن تكون هذه الأخيرة مركّزة على العمل الأدبي أو الإبداع الفنّي نفسه. وهذا ما حصل تحديداً بشأن جبران. ونعيمه في كتابه عنه يتحمّل قسطاً وافراً من المسؤولية في هذا الصدد، إذ حشاه روايات عن حياته ولا سيما علاقاته النسائية على حساب دراسة أدبه وفنّه. هذا علماً أن هذا الكتاب ليس بيوغرافيا بالمعنى الدقيق والصحيح بل بالحري قصة فنّية أو رواية تختلط فيها عناصر السيرة بروايات وأحداث متخيّلة أو مختلقة كما تبيّن بحوث هذا السِفر!
كما يجب أن لا تحتلّ البيوغرافيا في دراسة أديب الأهمّية المعقودة عليها في دراسة زعيم تاريخي أو روحي وديني أو وليّ، فأثرها في حالة الأديب يجب أن تتركّز على دراسته بالحري في نصّه. ولا يضير الأديب كثيراً أن لا تطابق أفعاله أقواله، طالما أنّه لا يطرح نفسه كمعلّمٍ وهادٍ، وليست هذه حال الزعيم الروحي أو الزمني. فلئن قصّر جبران في سيرته وأحداث حياته اليوميّة عن أن يعمل بموجب تعاليم نبي أورفليس فذلك لن يحطّ من قيمة تحفته “النبي” واستلهام الناس ما فيها من حِكم ووصايا روحية وعملية تُغني حياتهم، وتلهمهم في مسارهم.
شهرة جبران أنست الناس أدوار الآخرين
وممّا يرغب الباحث أن يذكّر به ويلفت مجدّداً النظر إليه هو أن جبران بما أصاب من شهرة ولا سيما في العالم الأنكلوسكسوني استقطب ولا يزال واجهة الاهتمام فبدا بدراً في ليلة مظلمة ما أن أطلّ حتى أنسى الساهرين ما في سمائهم من نجوم. وذلك في حين أنه كانت لآخرين أدوار مهمّة في النهضة الأدبية ومكمّلة لدوره، وعلى رأس هؤلاء الريحاني الذي كان له قصب الريادة ثم نعيمه. وفي ذلك يقول الناقد إسماعيل أدهم المأسوف على رحيله الباكر: “والذي عندي أن جبران لمع ذكره في الأدب العربي الحديث، فإن الرسالة التي كان عليه أن يقوم بها ما كانت لتستقيم لو لم يجد بجانبه تيّارات تسنده، وهل في الإمكان إنكار ما لنعيمه والريحاني ورشيد أيّوب ونسيب عريضة من أثر في تقوية حركة الجديد التي كان يحمل لواءها جبران؟”.([2])
وتبدو ملحوظة أدهم هذه في محلّها، ومن شأنها أن تسلّط أضواءً على أسباب الخلافات التي سادت العلاقات بين أقطاب مثلّث الإبداع المهجري: الريحاني وجبران ونعيمه. ففي المقابلة التي أجراها عبدالكريم الأشتر والتي ينقل ب1/ف6 نصّها الكامل يقول نعيمه: “الريحاني هو الذي شقّ الطريق، وجبران أراد أن يسير على خطاه، فيصبح مشهوراً مثله! فهاجم رجال الدين، كما فعل الريحاني، ليلفت إليه الأنظار!”
الريادة تعود إذاً إلى الريحاني لا إلى جبران، ولكن لم يطل الأمر حتى جاء يومٌ استقطب فيه جبران الأنظار وأنسى الناس الريحاني أو أقلّه جعلهم يسهون عن مساهمته! وخلاف الريحاني مع جبران والذي يعرض له ب3/ف2 لا يمكن أن يفهم بمعزلٍ عن هذه الواقعة!
نعيمه تيّار لا يصحّ أن يُغمط حقّه
ولا يمكن أن يُفهم كذلك موقف نعيمه من جبران بعد وفاته ومناظرته مع الريحاني من دون أن تؤخذ هذه العوامل بعين الاعتبار. فكلا الأديبَين الرائدين: الريحاني ونعيمه كان يشعر في قرارة نفسه أنّه قد غُمط حقّه أو شيء من هذا الحقّ! واستأثر جبران، رغم وفاته المبكرة، بالقسم الأكبر وحصّة الأسد من الاهتمام. وما كتبه إسماعيل أدهم سنة 1940 في هذا الصدد يستحقّ إطراقة وتأمّلاً إذ قال: “والواقع أن جبران، في نظر الكثيرين، ولو كان قطب المدرسة السورية المتأمركة ومدار رحاها، ذلك من حيث تقف شخصيّته أمام الأعين وترتكز قوّية، ومن هنا يُعتبر نعيمه تيّاراً من التيّارات الجانبية التي مضت بجانب التيّار الرئيسي أعني جبران وتأثّرت به حركتها. إلا أن قلّة على جانبٍ كبيرٍ من نفوذ النظر ورجاحة الفكر ترى أن نعيمه، وإن كان بالفعل تيّاراً جانبيّاً بجانب جبران، إلا أنّه لم يكن أقلّ قوّة من التيّار الرئيسي، بل كان يطغى عليه أحياناً، دون أن يترك للتيّار الرئيسي فرصة الطغيان عليه”. (أدهم، شعراء، م. س، ص559).
ردّة الفعل النعيمية والريحانية على طغيان الحضور الجبراني
وهكذا فالحركة التي قام بها ناسك الشخروب بإصدار كتابه عن جبران، وتلك التي ردّ فيها الريحاني على هذا الكتاب، لا يمكن أن يفهم كلّ منها بمختلف أبعاده بمعزل عن رغبة معلنة حيناً ودفينة غالباً بالتذكير، كلٌّ بدوره الفاعل، أمام طغيان الحضور الجبراني واستقطابه الاهتمام لردحٍ طويلٍ من الزمن. ورياض حنين لم يجافِ واقع الأمور في ملحوظته القائلة: “حظّ جبران من حيث الشهرة يفلق الصخر، كما يقال”. وهي التي ينقلها عنه ويناقشها ب3/ف4، فق: النبي ورواجه المتواصل.
وقد تكون شهرة جبران وذيوع صيته فاقت بالفعل أهمّية نتاجه ومحورية دوره! ولكن أوليس في هذه الظاهرة ما يثير غَيرة زملائه ممّن شارك بفاعلية في حركة النهضة والتجديد التي قيّض لجبران أن يقودها في المهجر الشمالي؟! ومن هنا فإن الباحث، كاتب هذه السطور، يميل إلى اعتبار ردّة فعل صاحب مرداد في كتابه عن جبران، وتلك التي قام بها فيلسوف الفريكة كذلك مجرّد تذكير أو بالحري تعبير عن غَيرة!
نعيمه أوّل مهجري مثقّف على الأصول الكلاسيكية
ولا يغربنّ عن البال هنا بعض الميّزات الأساسية التي كان يتمتّع بها مبدع الأرقش دون سائر المهجريين، وكان من شأنها أن تؤجّج في نفسه عوامل الغَيرة هذه. ويلخّصها الأديب الناقد إدوار حنين كالتالي: “إن ميخائيل نعيمه كان بين الأدباء المهجريين أوّل أديبٍ مثقّف على الأصول الكلاسيكية الصحيحة في الثقافة الإنسانية. فهو الذي أتمّ دراسته القانونية ابتدائية وثانويّة، وبنى عليها دراسته الجامعية في روسيا والولايات المتّحدة الأميركية وفرنسا. فكان إذا عالج القصّة أو الشعر أو النقد أو أيّة قضيّة اجتماعية أو فكرية أو روحية، كان وراءه التقليد الثقافي الكلاسيكي. وإذا كلّ آثاره تظهر بمظهر المنشآت المبنية. وإذا هو يبدو لنا في كلّ ما كتب مثال الكاتب النقّاد الفنّان، وإن كان رأيه مغايراً بعض الأحيان لما لنا من رأي”.([3])
وهذه المؤهّلات العلمية والميّزات الدراسية لا يملك أيّ باحثٍ في تراث نعيمه وأدبه إلا أن ينوّه بها، وبالتالي أن يوافق إدوار حنين على ما قال بشأنها. وقد ركّز عليها اتّحاد الكتّاب اللبنانيين في البيان الذي نعى فيه ناسك الشخروب، فقال مقارناً دوره بدور زميلَيه قطبَي المثلّث المهجري الآخرين ومثمّناً ما تميّز به في هذا المجال دونهما: “وإذا كان نعيمه وخاصّة في كتاباته الشعرية والنثرية الأولى يشترك مع الريحاني وجبران في التوسّل بالأساليب غير المألوفة من أشكال القول والتعبير تأكيداً على ضرورة التحرّر من نمطية الأساليب التقليدية، وإذا كان يتلاقى مع جبران في رسم ملامح عالم غرائبي يقف بصورة متوازية مع عالمنا الذي تألفه حواسّنا، ويقرّه منطق مداركنا ومفاهيمنا المتوارثة، فإنّه يتميّز عن رفيقَي مسيرته المهجرية بنزعة منهجية وتعليمية ساعدت في إعطاء تعاليمه وأفكاره التجديدية طابعاً أكثر رسوخاً وأبعد أثراً. وغربال نعيمه الذي يُعتبر أوّل محاولة لإرساء أصول النقد الحديث في العربية هو أحد الشواهد على تأصّل هذه النزعة المنهجيّة عنده، والتي تفتقدها أعمال جبران والريحاني”.([4])
وهذه النزعة التعليمية الناتجة عن تنشئة مدرسية وجامعية نظامية افتقدها زميلا نعيمه أي جبران والريحاني جديرة بتنويه اتّحاد الكتّاب اللبنانيين وغيره من النقّاد والعاملين في مجالي الفكر والأدب.
لغة نعيمه أكثر متانة من لغة سائر المهجريين
ويضاف إليها امتلاك ميشا، ومنذ إطلالته الأولى في عالم الأدب، ناصية لغة الضاد وتميّزه بأسلوبٍ متين، وهو ما ذُكر مع أمثلة عليه في ب3/ف3، وفي ذلك يقول إدوار حنين: “إن ميخائيل نعيمه صاحب أسلوبٍ من صنع يده، وهو أسلوبٌ يبدو عفويّاً، ولكنه مفعمٌ بذوق، ويبدو رومنطيقيّاً، ولكنّه مركّز على منطقٍ وأسلوب. كاتبٌ عارفٌ بمقدرة اللغة التي بها يكتب وبقصورها، ومدرِكٌ طاقات الكاتب الذي يستعملها، وبخاصّة مقدرته هو، فلا يحمّل لغته أكثر ممّا تحتمل. ميخائيل نعيمه يُحدث في لغته انفعالات عن معرفة بلغته وأسرارها، على عكس جبران الذي كان يُحدث في لغته ومضات عن جهله بعض أسرار اللغة التي يستعملها”. (حنين، إدوار، م. س، ص130).
ولغة نعيمه كانت بلا ريب أكثر متانة وسلامة من لغة جبران، وهو كان كذلك أكثر رسوخاً وتمكّناً من هذه اللغة من زميله نابغة المهجر، وإن كان كاتب هذه السطور لا يتّفق مع حنين في ما ذهب إليه من أن ومضات جبران كانت ناتجة عن جهله بعض أسرار اللغة!
وكُثر هم النقّاد والباحثون الذين نوّهوا بصفاء لغة نعيمه وسلامتها مقارنة بزملائه المهجريين ولا سيما جبران. وفي ذلك يقول الناقد عبّاس بيضون: “لم يشكّك الحريصون على نقاء اللغة العربية في سلامة لغة نعيمه، ولا في أصالتها. وكانوا طالما عابوا على جبران ومجايليه المهجريين ركاكةً وهُجنةً وخروجاً على اللسان العربي. وظلّ نعيمه أدنى إلى التراث العربي والعبارة العربية في إيقاعها وبنيتها وتتابعها. لذا لم يثر حوله الغبار الذي ثار حول كتابات جبران. لكن أسلوبه جمع بين عربيّة ناصعة، وروح مهجرية ووجدانية، ومجاز بعيد، وشاعرية”. (موسوعة نعيمه، م. س، ج3: آراء الكتّاب، ص222).
وقد توقّف المؤلّف، كاتب هذه السطور، في ب3/ف3 عند نماذج معبّرة وبيّنة من نصوص نعيمه تظهر متانة السبك لديه وطول باعه ومعرفته الواسعة للتراث العربي وأساليب التعبير فيه، ومن هنا جاء أسلوبه بعيداً عن أيّة قطيعة مع هذا التراث، رغم ما حمل من بذور تجديد.
دراسة لم تُكتب نصرةً لجبران ولا شجباً لزميله
تلك بعض ميّزات تحلّى بها ناسك الشخروب مقارنة بزميله نابغة المهجر وسائر المهجريين كان لا بدّ من الإشارة إليها في هذا المدخل، لا سيما وأن هذه الدراسة لم تكتب نُصرة لجبران ودفاعاً عنه كما قد يلوح للبعض، ولا هي كتبت إدانة لنعيمه أو شجباً لما فعل بشأن ذكرى زميله، وإنّما كُتبت في محاولة صادقة لاستبانة حقيقة العلاقة والتفاعل بين أديبَين فذّين نهلا فكرهما بمجمله من الفلسفة الهندية كما بيّن المؤلف في دراسات سابقة له، وكانت القرابة الفكرية والأدبية واضحة ولا تخفى على أحد في حين ساد اللبس طبيعة التفاعل بينهما!!
فماذا الآن في بنية هذا السِفر وتقسيماته وماذا عن أبوابه وفصوله ومضامين ومباحث كلّ منها؟
بعد طول تفكّر وتأمّل قرّ قرار المؤلّف على اعتماد العنوان التالي لدراسته:
صديقان لدودان: نعيمه وجبران
بحث في علاقتهما ومصادرهما الهندية مع نصوص غير معروفة لنعيمه وجبران
فممّا لا ريب فيه أن الأديبَين جمعتهما صداقة، بيد أنّها صداقة شابتها منافسة مديدة وشديدة لم ينهها رحيل جبران المبكر بل استمرّت بعده. وكانت السيرة التي كتبها نعيمه لزميله خير تعبير عمّا ساد علاقتهما من لُبسٍ وتنافس لم يُفلح حتى الموت في وضع حدّ له! إنهما صديقان ولكنهما شديدا الخصومة، واللدود لغةً هو الشديد الخصومة،([5]) ومن هنا جاءت التسمية وبالتالي العنوان.
والباب الأوّل ب1: جبران ونعيمه حكاية علاقة ملتبسة
يبحث تحديداً في هذه العلاقة وطبيعتها وخفاياها منذ ما قبل أن التقى الأديبان وحتى تواري أحدهما ثم لغاية رحيل الثاني.
والفصل الأوّل ب1/ف1: علاقة جبران ونعيمه بين المزاعم والحقيقة
يبيّن كيف اجتهد ناسك الشخروب خلال حياة زميله، ولا سيما بعد رحيله، أن يُظهر للناس أن العلاقة التي ربطت بين الاثنين كانت مثالاً للصداقة والمودّة الحقيقية بين رجلين تشاركا المثُل والأهداف. في حين أن الحقيقة كانت خلاف ذلك تماماً. فبالعودة إلى النصوص الجبرانية كان ميشا بالنسبة إلى جبران ناقداً يحابي، لذا كان يداريه ليتّقي لسانه، وكان يحرص بالأخصّ على أن لا يبوح إليه بأسراره! وهو لم يعرف شيئاً عن علاقته بماري هاسكل ولا عن سائر علاقاته العاطفية والنسائية في حياته. وكّل ما عرفه في هذا المجال وبعد رحيل نابغة المهجر مصدره واحد ووحيد: لقاء دام نحو ثلاث ساعات بماري هاسكل قبل أن تستقلّ القطار عائدة من مراسم دفن جبران إلى مسكنها!
والفصل الثاني ب1/ف2: نعيمه يروي سيرة جبران
يسلّط الضوء على اختلاف موقف ناسك الشخروب من زميله في حياته عنه بعد مماته! ثم يتبسّط في عرض الروايات النعيمية عن مغامرات جبران العاطفية فيفنّدها الواحدة تلو الأخرى منذ فتوّة هذا الأخير وإلى ما قبل رحيله بأيّام. وتبقى القصّة التي رواها عن ميلشين وحبَلها من جبران وإسقاط الجنين عقدة العقد. وهنا يعمد المؤلّف إلى استنطاق الوثائق ولا سيما مراسلات جبران وهاسكل ويوميّات هذه الأخيرة المتزامنة مع الأحداث وتسلسلها. وقد بيّنت، بما لا يحتمل اللُبس، أن هذه الرواية مختلَقة من أساسها! وكل الذين رووها بعد نعيمه استندوا إليه لا إلى أيّ مرجعٍ آخر. ولا تقلّ مزاعم ميشا عن هاسكل خطورة عمّا روى بشأن ميشلين: حبلها من جبران خارج الرحم، ورفضها لعرض جبران الزواج، وقد كذّبت يوميّات ماري هاسكل كل ذلك. وتبقى العلاقة الأخيرة في حياة جبران وكانت بطلتها جرترود ستيرن، وقد ظهرت هذه الأخيرة في السبعينات وأظهرت مراسلاتها مع جبران وكذّبت معظم مزاعم ناسك الشخروب ممّا يطول حديثه وهو مفصّل في المبحث الأخير من ب1/ف2.
والخلاصة فروايات نعيمه عن علاقات جبران النسائية لا يُركن إليها وهي بمعظمها مختلقة أو أقلّه خليط من واقعٍ وخيال.
والفصل الثالث ب1/ف3: نعيمه وطريقته في كتابة السيرة،
يقارن بين الأسس العلمية لكتابة السيرة ونظرية نعيمه في هذا المجال. ويبيّن، بعد ضرب العديد من الأمثلة والعودة إلى النصوص، أن السيرة التي كتبها ميشا لزميله ليست بيوغرافيا بالمعنى الدقيق والحقيقي للكلمة وإنّما هي رواية أدبية تختلط فيها الوقائع بالخيال. وقد لُفّقت رواياتها كي تصبّ في مستنقعٍ من الأحكام المسبقة فتكون دليلاً عليها!
والفصل الرابع ب1/ف4: بين مؤيّدي نعيمه والمدافعين عن جبران،
يتوسّع في عرض ردود الفعل على السيرة الجبرانية لنعيمه، وقد قسمت الأوساط الأدبية عموديّاً بين مؤيّد ومعارض. وكان فليكس فارس في طليعة المدافعين عن صديقه جبران، ففنّد روايات ناسك الشخروب ولا سيما ما نُسب إلى جبران وميشلين، ولعلّ دفاع فارس الشرس هو ما جعل مؤلف الغربال يسحب رواية حبل ميشلين من التداول ويحذفها من الكتاب ابتداءً من الطبعة الثالثة!
وإلى ذلك أثار الكتاب عاصفة شمالية فاتّهم الكاتب يوسف يونس ميخائيل نعيمه بدسّ السمّ في الدسم في حين دافع عنه فؤاد سليمان ويوسف النعيمي، وردّ عليهما أنطون عيسى الخوري، وكل ذلك مفصّل ومروي ومبيّن في ب1/ف4.
وينتقل ب1/ف4 بعدها إلى عرض طروحات أبرز الذين دافعوا عن نعيمه كالباحثة في أدب المهجر نادرة السرّاج، وكان دفاعها شاعريّاً وعامّاً لا يفنّد الردود. أما رياض حنين فكان دفاعه بالحري نفعيّاً وغير موثّق، وأحكامه تعميمية سريعة وغير دقيقة! ويبقى من المدافعين وفيق غريزي وقد بيّن أن جبران كان أوديبيّاً في علاقاته النسائية ووصوليّاً كذلك. والمؤلّف يناقش طروحاته فيأخذ ببعضها ويردّ أكثرها.
والخلاصة فالسجال حول هذا الكتاب استمرّ لأكثر من نصف قرن وهذا لوحده دليل على أهمّية هذا المصنّف وعمق تأثيره، أيّاً يكن الموقف منه.
والفصل الخامس ب1/ف5: مناظرة عبّاس والناعوري حول السيرة الجبرانية لنعيمه. وبه يبدأ عرض وتحليل وثائق جبرانية ونعيمية غير معروفة، وهو ما ذُكر في عنوان الكتاب الفرعي. فالكاتب والناقد المتخصّص في أدب المهجر عيسى الناعوري كتب مقالة مطوّلة يردّ فيها على صديقه وزميله الناقد المعروف د. إحسان عبّاس في تقييمه للسيرة الجبرانية. وب1/ف5 ينقل النصّين: ما كتب عبّاس وردّ الناعوري عليه ثمّ يناقش كلّاً منهما. فيرى أن عبّاس قد بالغ في تقييم كتاب نعيمه. في حين أن الناعوري اعتمد أسلوب نعيمه الذي انتقده ولامه عليه. فهو الآخر اختلق القصص والروايات كتلاعب ناسك الشخروب بالبورصة وقصّة حرق مؤلّفات جبران، والمؤامرة المزعومة بين الإكليروس ونعيمه على جبران وطمع نعيمه المزعوم بميراث جبران، وكان الناعوري بغنى عن كلّ هذه “النعر” الذي جاء على حساب الدراسة النصّية النقدية للكتاب المنتظرة منه كباحث ومتخصّص في أدب المهجر!
وينقل ب1/ف5 وثيقة ثالثة غير معروفة وهي مقالة خازن الرابطة القلمية وليم كاتسفليس “من حصاد الذكريات” وهي شهادة قيّمة في جبران ونعيمه والريحاني تأتي من مشارك في الحدث، وتجلو العديد من خفايا العلاقات بين أقطاب المثلّث المهجري.
والفصل السادس ب1/ف6: ردود نعيمه على منتقدي كتابه في جبران، يواصل نشر الوثائق والنصوص النعيمية غير المعروفة، فيورد، في إطار دفاع نعيمه عن كتابه، مقابلتَين معه الأولى أجراها الباحث في الأدب المهجري عبدالكريم الأشتر، وفيها تظهر النزعة الطاووسية النعيمية، ويقرّ ناسك الشخروب بمصادره الهندوية ويبدي رأياً لافتاً بعلاقة جبران ببرباره يونغ وبكتابها عنه.
أمّا المقابلة الثانية فأجراها متخصّص آخر في أدب المهجر: فريد جحا، وكان مقرّباً من نعيمه ومن المدافعين الدائمين عنه. ويُظهر المؤلّف في تعقيبه على هذه المقابلة كيف جعل نعيمه من جبران أرقش آخر!
ويُجري ب1/ف6 مسحاً عامّاً لردود نعيمه على منتقديه ولا سيما في سائر حواراته الصحافية والتي أكّد في بعضها أنّه رحم جبران كثيراً في كتابه، في حين تناول في بعضها الآخر ميزة جبران في الموازنة بين الرسم والأدب، وكذلك المشتركات والفوارق بين الأديبَين. ليختم بأن ناسك الشخروب بقي رصيناً في ردوده وتجنّب دوماً الجدل العقيم والسجال وأثبت أنّه مترفّع عنهما.
والباب الثاني ب2: نعيمه على خطى جبران.
ولعلّه المساهمة البحثية الأبرز للمؤلّف في هذا الكتاب. ففيه دراسة نصّية مقارنة لآثار الأديبَين ولا سيما تلك التي حاول فيها صاحب مرداد محاكاة صاحب “النبي”.
والفصل الأوّل، ب2/ف1: المعارضة في الأدب العربي وبين جبران ونعيمه.
فالمعارضة ظاهرة قديمة وتقليد راسخ ولا سيما بين شعراء العرب كمثل نقائض المثلّث الأموي: جرير والفرزدق والأخطل، ومعارضات البحتري لأستاذه وصديقه أبي تمّام، وغيرها…
أما معارضة نعيمه لجبران فلا تقلّ وضوحاً عمّا نجده عند قدامى الشعراء، ولعلّها تتخطّاها، وهي غير مقصورة على أثر أو اثنين بل تطال العديد من المؤلّفات النعيمية التي حاكت كتباً جبرانية سابقة لها: كرم على درب وقبلها رمل وزبد، مرداد وقبله “النبي” وغيرها. وكلّها دلائل على الأثر الجبراني الواضح في نعيمه رغم عدم إقرار هذا الأخير بذلك!
والفصل الثاني، ب2/ف2: مرداد نعيمه يحاكي نبي جبران.
ولعلّ أهمّية هذا الفصل وما يحمله من جديد ليست في التركيز على نقاط الشبه بين الكتابَين وحسب، إذ سبق لعدد من الباحثين أن توقّفوا عندها، بل هي في طرح الإشكالية البارزة التالية: لماذا نجح نبي جبران وراج وانتشر في حين فشل مرداد نعيمه أقلّه في تحقيق هذا الرواج والانتشار؟!
وهنا يأخذ المؤلّف نصوصاً من هذا وأخرى من ذاك. كيف تحدّث المصطفى عن المحبّة وكيف تحدّث عنها مرداد؟ وكذلك الموت في خطبتَي نبي أورفليس ومرداد، فيرى صوراً عفوية جبرانية هنا وأخرى نعيمية متصنّعة ومتكلّفة هناك. ويستنتج أن خيال جبران المجنّح كان أساس نجاحه، إذ كان يُبصر الأشياء والأمور في حين كان نعيمه يعقلها ويفكّر بها، وشتّان بين لذة التفكير ومتعة التخيّل، ولا سيما في تأثيرهما ووقعهما على القارئ.
وثمّة فرق آخر كان له الأثر الحاسم فجبران يحبّ الإيجاز ويسعى جاهداً إليه في جملته ونصوصه، ونعيمه يهوى الاسترسال ويفرط فيه حتى الإملال! جبران يؤثر الكتيّبات ونعيمه المطوّلات! وجملة جبران مضغوطة ومشحونة بالطاقة والإيحاء، وليست هذه حال الجملة النعيمية الطويلة الفضفاضة!
وإلى كلّ ذلك فأسلوب ناسك الشخروب في أكثر كتبه وعظي تقريعي وهو ما لا يستسيغه إنسان اليوم!
والفصل الثالث، ب2/ف3: نعيمه يحاكي جبران في مؤلّفاتٍ أخرى
فالمحاكاة النعيمية لجبران لم تكن مقصورة على مرداد، بل تعدّته إلى مؤلّفات أخرى: فقصّة “لقاء” لنعيمه حُبكت بخيوط جبرانية تقمّصيّة مستلّة من “رماد الأجيال والنار الخالدة”. وحِكم نعيمه في “كرم ودرب” بعضها مأخوذ من المقلع الجبراني! وأرقش نعيمه من سلالة يوحنا المجنون لجبران! أما يسوع جبران ومسيح نعيمه فكلاهما مأخوذ عن مسيح التيوزوفيّة شخصيّة ودوراً وعقيدة! وختام هذا الفصل وقفة تأمّلية عند المصادر الهندية المشتركة لجبران ونعيمه ولا سيما في “النبي” و”زاد المعاد” عبر مقارنة نصّية بين الكتابَين وتبيان الأثر الهندوي الواضح في كليهما.
والفصل الرابع ب2/ف4: عقدة التفوّق عند نعيمه
إنها عنصر أساسي في الشخصية النعيمية، ولا يمكن أن تُفهم المسلكية الشخروبية تجاه جبران والريحاني وغيرهما بمعزل عنها. ونعيمه يؤكّد مراراً في حكاية عمره أنّ الطموح إلى التفوّق والأوّلية، ومنذ الصغر، “يلازمه بشكلٍ عنيف”. في حين أنّه لم يستطع أن يحلّ ويحتلّ في الرابطة القلمية إلا المركز الثاني! فهل يرضى بذلك؟! وب2/ف4 يحلّل نفسية نعيمه على طريقته هو في تحليل نفسية جبران وسائر شخصيّاته الروائية! ويتوقّف عند فلتات لسانه ودلالاتها! ليخلص إلى أن جبران كان صديقه وعُقدة حياته في آن!
والفصل الخامس ب2/ف5: نعيمه يكرّر نفسه،
كم حذّر ميشا في غرباله وغيره الأدباء من التكرار، وأشاد بجبران لأنّه لم يُصَب بهذا الداء! فماذا عنه هو في مؤلّفاته العديدة؟! إنّه والحقّ يقال قد أسرف في التكرار، وقد أقرّ، إذ حُشر مراراً بالسؤال، بظاهرة التكرار في نتاجه، فجاءت كتبه العديدة وكأنّها كتاب واحد على حدّ قول بعض النقّاد! ذلك لأن مصادر الفكر النعيمي تقف عند أواخر العشرينات، وتحجم بعدها عن البحث عن جديد!
الفصل السادس ب2/ف6: نعيمه وجبران شخصيّتان متمايزتان
فاختلاف الأسلوب يعود أوّلاً إلى تمايز كلّ شخصيّة عن الأخرى، والأسلوب هو الإنسان Le Style c’est l’homme يقول المثل الفرنسي. ويرى المؤلّف مع مارون عبّود وعددٍ آخر من النقّاد أن نعيمه أديب مسكوني تناول مواضيع تهمّ الإنسان في كلّ قطرٍ ومكان وزمان بيد أنّه ليس بفيلسوف، وهو يقدّم أمثلة وأدلّة على ذلك. في حين يمكن أن يُعتبر شارحاً للفكر الجبراني إذ سار على طريق جبران وفصّل القول في الكثير ممّا أوجز فيه هذا الأخير وألمح إليه. وتبقى معادلة: “إقرأ نعيمه تفهم جبران” قائمة ومفيدة.
والباب الثالث: من كتابات نعيمه الأولى حتى الأخيرة في جبران
جمع هذا الباب عدداً من الوثائق والنصوص غير المعروفة لنعيمه في جبران، وقد حرص المؤلّف أن تضمّها دفّتا كتاب كي لا تضيع.
والفصل الأوّل، ب3/ف1: نرجسية نعيمه،
ويمكن أن يعتبر تكملة لـِ ب2/ف4، بيد أنّه يتناول الموضوع من زاوية أخرى. فهو يسعى إلى أن يطبّق على ناسك الشخروب ما فعله هو بجبران إذ زعم وكرّر الزعم مراراً أنّه بالحري وزنه بميزانه وهذا أوجب الواجبات تجاه صديقه!
ويتبيّن من النصوص أن نعيمه حاسب جبران على الكبيرة والصغيرة بيد أنّه غضّ الطرف في الغالب أو “طنّش” على حدّ التعبير العامّي عن محاسبة نفسه! وأنّه كثيراً ما وعظ ولم يتّعظ بما وعظ! وتعاليمه الطوباويّة في نكران الذات والتواضع وغيره مثل على ذلك.
أمّا ما استطيبه دوماً من حديث عن معجز بيانه فيصحّ فيه القول: “مادح نفسه يقرئك السلام”. وقد توقّف عدد من الباحثين عند نرجسية نعيمه الواضحة وشجبوا نزعته الطاووسية! وهو، وإن صحّ اعتباره أديباً مسكونيّاً، فليس بمعلّم ولا بحكيم والمعادلة التي طرحها مارون عبّود: “الفلسفة النعيمية أحبّها قولاً، وأكرهها فعلاً”، تبقى قائمة، ولا سيما بشأن المسلكية النعيمية تجاه جبران وأدباء آخرين! ومنهم الريحاني وهو موضوع الفصل التالي.
والفصل الثاني ب3/ف2: المناظرة بين أمين الريحاني ونعيمه،
وهي مسألة سبق أن تناولها عددٌ من الباحثين، فأوردوا نصّ فيلسوف الفريكة النقدي لكتاب نعيمه وردّ ناسك الشخروب عليه، لذا لم يجد المؤلّف كبير فائدة في تكرار إيراد هذين النصّين. بيد أنّه توقّف محلّلا مفنّداً لكليهما. فوجد أن الريحاني، من ناحيته، تحاشى أن يدخل في تفاصيل روايات نعيمه عن جبران واكتفى بإيراد أرقام صفحاتها، وبالتالي تعمّد أن لا يكسر الجرّة معه في حين أن نعيمه، ورغم حدّة نبرته في الردّ، أبقى للصلح مطرحاً على حدّ تعبير المثل اللبناني آخذاً بعين الاعتبار إطراء الأمين وتقييمه الإيجابي لعددٍ من فصول الكتاب. ويتبسّط هذا الفصل في عرض خفايا الخلاف الجبراني الريحاني والذي كان من مصلحة ناسك الشخروب أن يضخّمه فبيّن أن الوثائق الجبرانية تنقض المزاعم النعيمية في هذا الشأن، في حين يمكن أن يُحصر هذا الخلاف، واستناداً إلى شهادة الأمين نفسه بعنصرين: الانتقادات المتبادلة بين الريحاني وجبران كلّ لأسلوب الآخر، والخلاف في الموقف السياسي والخيار الانتمائي والكياني بعد الحرب العظمى. فجبران كان لبناني التوجّه في حين دعم الريحاني التيّار العروبي! وكان نعيمه وجبران متوافقان عموماً في الخيار اللبناني وكذلك في اعتزال العمل السياسي، في حين كان للأمين خيار مختلفٌ ومخالفٌ تماماً. ولا يستبعد المؤلّف أن يكون الريحاني في مناظرته مع الشخروبي قد تعلّم الدرس من تجربته المؤلمة مع جبران فلم يشأ أن يوسّع شقّة الخلاف، ولم يردّ على ردّ نعيمه عاملاً بشعاره المعروف: قُلْ كلمتك وامشِ. ونعيمه، من ناحيته، اكتفى بهذا الردّ ممّا ساهم في عودة المياه إلى مجاريها بين الأديبَين كما يروي ناسك الشخروب ويؤكّد ذلك مراراً. أما ما حُكي عن “حرب داحس والغبراء” بينهما فمجرّد مزاعم تهدف إلى تضخيم ما حصل والاصطياد في الماء العكر! ومقالات نعيمه وكتاباته بعد رحيل فيلسوف الفريكة عنه تكذّب كلّ ذلك.
والفصل الثالث، ب3/ف3: أولى كتابات نعيمه في جبران،
يقول ناسك الشخروب ويكرّر مراراً أنّه فقد المقالة التي افتتح بها مسيرته الأدبية وعنوانها “فجر الأمل بعد ليل اليأس” وكانت بالحري دراسة لرواية جبران “الأجنحة المتكسّرة” وصدرت في مجلّة الفنون في نيويورك. وبعد بحث طويل تمكّن المؤلّف من الحصول على نسخة من عدد هذه المجلّة، فعمد إلى إعادة نشر هذه المقالة كي لا تضيع، وأتبع نصّها الكامل بدراسة تحليلية نقدية لا سيما وأنها من صُلب موضوع هذا السِفر. وهي تُظهر رأياً لنعيمه في جبران قبل أيّ لقاء أو تعارفٍ بينهما، فكأنّما كان قدر الشخروبي أن يرتبط اسمه باسم صاحب “النبي” منذ بداية مساره الأدبي. ويبدو صاحب مرداد في مقالته هذه وكأنّه استكمل عدّته النقدية والأدبية والتراثية العربية، وكلّها ميّزات ستجعله في طليعة الأدباء المهجريين ولا سيما إذا أضيف إليها امتلاكه لناصية لغة الضاد. ومن هذه المقالة الفاتحة يمكن للباحث أن يستخلص معظم خصائص النقد النعيمي الذي تبلور لاحقاً في مقالات “الغربال”. كما يمكنه أن يعاين مدى عمق الأثر الجبراني في التوجّهات الأدبية النعيمية إذ كانت “الأجنحة المتكسّرة” دافعاً لمؤلّف الغربال لخوض المجال الروائي والإفادة من التجربة الجبرانية وتفادي عثراتها ونقاط ضعفها.
والفصل الرابع ب3/ف4: حوار بين جبران ونعيمه حول “النبي”،
كانت لمبدع الأرقش مقالات وبحوث عديدة عن جبران بعد كتابه عنه. وآخرها مقالة “كتيّب غريب” التي كُتبت بالإنكليزية ونشرتها مجلّة أرامكو 1964، وأعيد نشرها مراراً، دون أن تترجم إلى العربية. فعمد المؤلّف إلى تعريبها، لا سيما وأنّه سبق له أن ترجم قسماً منها. وهي بالحقيقة مقالة ناسك الشخروب الرابعة في نبي جبران. وعقّب المؤلف على نصّها الكامل بدراسة مقارنة بين مختلف النصوص النعيمية في جبران، وحاول أن يجيب عن سؤالٍ بارز يطرح نفسه في هذا المجال: هل يختلف ما كتبه صاحب مرداد بالإنكليزية عن جبران عمّا كتبه بالعربية؟ ولماذا؟ ثم قارنها كذلك بمقالة نعيمية عربية عنوانها “حدّثني جبران” وكل هذه المقالات من شأنها أن تكذّب ما رُوّج عن حقدٍ نعيمي على جبران!!
أما خاتمة الدراسة فتُقرّ أن حدس نعيمه بشأن علاقات جبران النسائية ربّما كان مصيباً في جانب منه وإن كان معظم رواياته مختلق وغير صحيح. فقد بيّنت الوثائق اللاحقة، ولا سيما مراسلات جبران مع ماري هاسكل ومع المرأة التي بقيت مجهولة لعقود طويلة أي جرترود باري، أنّه كانت لجبران علاقات عاطفية مع أكثر من امرأة في وقتٍ واحد، وهذا لوحده دليل على أنّه لم يكن مستقيماً في علاقاته النسائية!
ورأى المؤلّف أن دوافع نعيمه في كتابه عن جبران لا تتعدّى “الغَيرة” وأنّه في تصويره لجبران صوّر بالحري ذاته الأرقشية الممزّقة بين مودّته لصديق ورفيق درب وغَيرته وتضايقه من زميلٍ ومنافسٍ عنيد. وأيّاً يكن، فأفعال الأديب ومسلكيّته لا تضير بأدبه، وإن كانت تنقض أحياناً أقواله وتعاليمه!
ويبقى نعيمه، رغم كلّ ذلك، أديباً مسكونيّاً مبدعاً وطوداً بعظمة جبل صنّين الذي أمضى سحابة عمرٍ عليه!
مناظرات أخرى في بيروت حول جبران ميشا
ولا يرى المؤلف بدّاً من أن يذكر أنّه إذ كان بصدد إنهاء هذا المدخل لكتابه اكتشف تسعة مقالات في مجلّة المعرض/بيروت للأدباء عبدالله لحّود، فؤاد حبيش، إميل ضومط، فؤاد سليمان، كامل عيسى، وصلاح لبكي، نُشرت في الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 1935 وهي تناقش كتاب نعيمه في جبران الصادر للتوّ يومها، وبعضها يؤيّد طروحاته وأكثرها يعارض وينتقد. وهي تصلح مادّة لكتابٍ على حدة لا سيما إذا أضيف إليها عدد آخر من مقالات نعيمه المجهولة، فعساه يتفرّغ لجمعها ونشرها قريباً.
نزاعٌ أهرق الكثير من الحبر
تلك بإيجاز لا يخلّ أبرز مضامين أبواب هذه الدراسة وفصولها ومباحثها. ولا بدّ للمؤلّف من أن يوضح أو بالحري أن يذكّر أنه اختار منذ البدء أن يبقى، ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً، على حيادٍ إيجابي من الأديبَين موضوع دراسته، وكلاهما صار اليوم في ذمّة الله! وما خياره في عدم الانحياز المسبق لأيّ منهما إلا ليتيح لنفسه حرّية الضمير والوجدان وبالتالي الحكم الأقرب إلى العدل في دراسة نزاعٍ أُهرق فيه الكثير من الحبر والورق وشغل الأوساط الأدبية والفكرية ردحاً طويلاً من الزمن. وطالما كان خلال مقاربته للنصوص والوثائق وتفكّره وتأمّله في الآراء المتضاربة والمواقف المتناقضة يتمثّل قول ناسك الشخروب لابن أخيه الأديب والناقد نديم نعيمه الذي كان يعدّ أطروحة دكتوراه عن عمّه، وذلك في رسالة إليه في 16/9/1961 حيث جاء: “ما أظنّني في حاجةٍ إلى القول بأنّني أريدك في بحثك أن تُخلص لنفسك ولعقيدتك دون أن تلقي أيّ بالٍ إلى ما قد تحسب أنّه يرضيني أو لا يرضيني. فأنت لن تخلص معي إلا إذا أنتَ أخلصتَ مع نفسك. وأنت لن ترضيني إلا إذا أرضيتَ فكرك وقلبك وذوقك أولاً”. (نعيمه، م. ك، م. س، ص8/486).
إبداء الرأي المخلص لا يفسد في الودّ قضية!
فهذا كان دأب المؤلّف أولاً ودائماً: أن يُخلص لنفسه ولما يراه أو يعتبره الحق والعدل، بغضّ النظر عمّا إذا كان ذلك سيرضي هذا أو ذاك أم لا. وقد أكبر في ناسك الشخروب موقفاً مبدئياً من النقّاد عبّر عنه في رسالة إلى الباحث في الأدب المهجري عبدالكريم الأشتر إذ قال: ” دعني أنزعُ من ذهنك صورة ليست صورتي. فأنا غير مستاء أبداً من أي شيء قلته عني في كتابك، بل إنني لا أستاء حتى من الذين يتعمّدون الإساءة إليّ. فكيف أستاءُ من رجلٍ مثلك أعرف حق المعرفة أنه يكنّ لي من التقدير نظير ما أكنّه له من المحبة؟ وأنا إذا ما أبديتُ لك بعض الملاحظات البريئة فليس لأنكر عليك حقّك في أن تراني دائماً أبداً بعينك لا بعيني. وأيّ بأس إذا هي لم تتّفق وما تراه أنت الصواب؟ وأنا لست من السذاجة بحيث أتوقّع من جميع الذين يقرأونني ويكتبون عني أن يتقمّصوني، وأن يفهموني مثلما أفهم نفسي”.([6])
ولا يشكّ المؤلّف لحظةً في أن أديبه الحبيب والمفضّل صاحب مرداد كان سيكرّر على مسامعه الكلام عينه لو كان لا يزال حيّاً يُرزق وقرأ من ثمّ ما كتبه عنه في هذا المصنّف، وهو ثالث سِفر ودراسة يكتبها عنه. فهو يعلم علم اليقين ما يكنّه له من حبّ وإعجاب وتقدير عبّر عنه في المؤلّفات الثلاثة المذكورة هذه والواردة عناوينها في ص 6 من هذا الكتاب. وإبداء الرأي الصريح المخلص والمجرّد عن الغرضية لا يُفسد في الودّ قضية، ولا سيما إذا ما كان على مذهب أرسطو الشهير القائل: “إنّني تلميذ أفلاطون وصديقه ولكنّني أكثر صداقة للحقّ”.
ونعيمه بثقابة فكره ورهافة حسّه ولطافة ذوقه قد أدرك بالحري لبّ المسألة والإشكالية النقدية في رسالته إلى الأشتر: فناقده لن يرى في الأعمّ الأغلب فيه ما يراه هو في نفسه، وفي ذلك تكمن أهمّية الرؤية النقدية إذا كانت منزّهة عن الغرضية وجدواها فهي تتيح للكاتب نفسه وللقارئ عموماً أن يرى ويعي أن النصّ الحيّ هو الذي يتيح قراءات عديدة ومتجدّدة بل ومختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة، ففي هذا الاختلاف والتعدّد حياة النص والعمل الإبداعي والفنّي وبقاؤه.
التكريم الحقيقي للمفكّر هو دراسة آثاره
وهذه القراءة النقدية للنص والدراسة الرصينة للأديب والمبدع ونتاجه هي خير تكريم له وإحياء لذكراه، وهذا ما دعا إليه تحديداً ناسك الشخروب مراراً وكرّره وممّا قال: “أراك تقول مع القائلين إن الشرق لا يعرف قيمةً لكتّابه وشعرائه فلا يكرّمهم. والذي يقصدونه بالتكريم هو التطبيل والتزمير في الجرائد والأندية وإقامة التماثيل والحفلات وإغداق المال والأوسمة وما أشبه. وأنا أقول ليت الناس كلّهم لا يعملون شيئاً من هذا التكريم للممتازين من رجالهم. فهو يعميهم عن جوهر رجالهم الممتازين. ويا ليتهم بدلاً عن ذلك يدرسون آثار هؤلاء الرجال لعلّهم إذ ذاك ينتفعون بشيء إذ يظفرون بحقيقة أو شبه حقيقة”.([7])
للهّ درّك يا ميخائيل نعيمه ولا فضّ فوك، فالتكريم الحقيقي لأيّ كاتب هو في دراسة آثاره والانتفاع بها إن في الحياة اليومية أو في المسلك الروحي أو في أي بحث عن معنى.
وها هي صُحبة جبران ونعيمه الطويلة والممتعة قد شارفت الآن على نهايتها، ولا بدّ للمؤلّف أن يترك مكانه للقارئ كي يحلّ محلّه ويتابع الرحلة بنفسه، فعساه هو الآخر يستمتع بهذه الصحبة ويستخلص من هذه العلاقة الغنية والملتبسة في آن عِبراً لحياته.
Q.J.C.S.T.B
اللقلوق-جبيل في 3/8/2023
[1] -أبي فاضل، ربيعة، من تراثنا الفكري، بيروت، دار الجيل، ط1، 1985، ص141-142.
[2] -أدهم، إسماعيل أحمد، شعراء معاصرون، تحرير د. أحمد إبراهيم الهواري، القاهرة، دار المعارف، ط1، 1984، ص559.
[3] -حنين، إدوار، حنين رثى نعيمه ويقترح أصولاً لمنح الأوسمة، مقالة ضمن موسوعة ميخائيل نعيمه الأديب العملاق، ج1، ص130.
[4] -ثرى الشخروب ضمّ جثمان ميخائيل نعيمه، مقالة في جريدة الشرق في 2/3/1988.
[5] -المنجد في اللغة العربية المعاصرة، بيروت، دار المشرق، ط2، 2001، ص1278.
[6] -رسالة من ميخائيل نعيمه إلى عبدالكريم الأشتر في 14/7/1961 لم ترد في مجموعة رسائله في المؤلّفات الكاملة ج8، وهي متوفّرة ضمن: الأشتر، عبدالكريم، رسائل ميخائيل نعيمه إليّ، ملاحق دار المدى وكذلك رسائل الأدباء على موقع الأنطولوجيا: www.alantologia.com
[7] -في رسالة إلى الكاتب خليل هنداوي في 7/9/1931، نعيمه، م. ك، رسائل، ج8، ص564.