مقدمة كتاب مدخل إلى علوم الأديان وسوسيولوجيا الدين وفلسفته/تأليف لويس صليبا
المؤلّف/Auteur: أ. د. م. لويس صليبا Lwiis Saliba
مستهند وأستاذ محاضر ومدير أبحاث في علوم الأديان والدراسات الإسلامية
عنوان الكتاب:مدخل إلى علوم الأديان وسوسيولوجيا الدين وفلسفته
Introduction to the Sciences of Religions, Sociology & Philosophy of Religion :Title
عدد الصفحات: 275ص
سنة النشر: طبعة أولى 2025
الناشر: دار ومكتبة بيبليون
طريق الفرير، حي مار بطرس، شارع 55، مبنى 53، جبيل/بيبلوس-لبنان
ت: 09540256، 03847633، ف: 09546736
Byblion1@gmail.com www.DarByblion.com
2025©-جميع الحقوق محفوظة، يُمنع تصوير هذا الكتاب، كما يُمنع وضعه للتحميل على الإنترنت تحت طائلة الملاحقة القانونية.
ديباجة الكتاب
مدخل إلى بحوثه وطروحاته
حكاية المؤلّف/الباحث، كاتب هذه السطور، مع علوم الأديان قديمة، وكانت من هوايات الصبا، قبل أن تصير تخصّصاً أكاديمياً له. ومن أوائل محطّاتها وحلقاتها وأبرزها، صحبته الطويلة للعالِم والفيلسوف العربي والإسلامي “أبو الريحان البيروني” (362هـ-440هـ/973-1048م) والتي بدأت أولى فصولها في التسعينات من القرن الماضي. إذ أعدّ أطروحة عنه في السوربون في باريس صدرت بعدها في العاصمة الفرنسية.([1])
وبين المؤلّف والبيروني لا مجرّد لقاء فكري وفلسفي وحسب، بل قصّة عشق! فقد بهره هذا العالِم الفيلسوف في مقاربته المميّزة والفريدة لأديان الهند، وكذلك في ترجماته للكتب الهندوسية المقدّسة إلى العربية، وهذا ما دفع الباحث كاتب هذه السطور إلى العودة مراراً وتكراراً إلى أبي الريحان، فحقّق ترجمته العربية لكتاب باتنجلي في أطروحةٍ أخرى، ونشر هذا النصّ مشروحاً ومدروساً ومحقّقاً ثم أصدره في كتاب. ([2])
والمؤلّف لم يتعب من ذكر وتكرار ما وجده من مفارقة كبرى في الثقافة العربية، فرغم أن علماء العرب والإسلام أمثال البيروني والشهرستاني وابن كمّونة وغيرهم كانوا روّاد علوم الأديان والأديان المقارنة، فالمكتبة العربية لمّا تزل تفتقر إلى مصنّفات جادّة وجدّية وأكاديمية في هذه العلوم! ومعظم ما يتوفّر فيها يندرج ضمن فئات المفاضلة والجدل والحجاج، وتغيب عنه المقاربة والمقارنة المحايدة والمنهج الأكاديمي الرزين والأسلوب التقريري!
وهذا ما كان أبرز الدوافع التي حدت بالكاتب إلى تنظيم مؤتمرات وندواتٍ تبحث في هذه العلوم، وتبيّن أهمّيتها وضرورتها في العالم العربي اليوم ممّا ذُكر برامجه وبعض بحوثه في ب4/ف1 من هذا الكتاب.
ومن المهمّ، يرى المؤلّف، أن يشير إلى أن الهدف الأوّل لهذا الكتاب، هو بالحري عرض نماذج عملية وتطبيقية لمنهجيّة علوم الأديان وطريقتها وتقنيّاتها في مقاربة الظاهرة الدينية، أيّاً تكن هذه الظاهرة، وإلى أي ثقافة أو مجتمع أو حتى دين تنتمي. وهذا ما تقدّمه بالأخصّ فصول ودراسات الباب الأوّل (ب1) من هذا السِفر. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن المؤلّف آثر الإحجام عن الاسترسال في التعريفات والتحديدات للمصطلحات، فهي لوحدها قد تستغرق وتتطلّب حيّزاً يفوق حجم هذا المصنَّف برمّته، لا سيما وأنّه سبق له أن خاض غمار هذه التجربة، ففي مؤلَّفٍ آنف([3]) استلزمت وتطلّبت التعريفات لمصطلحات مثل “الدين” والملّة والنِحلة وغيرها نحو 90 صفحة؟؟ كما سبق له أن ذكر أن التعريف بالمعرَّف وتوضيح الواضحات يبقى من أصعب الأمور. ([4])
“علوم الأديان” مصطلح أدقّ من علم الأديان
لذا، وبكلمة موجزة ومكثِّفة، فهو يكتفي بالإشارة إلى أنّه يؤْثر مصطلح “علوم الأديان” على “علم الأديان”، فهو ليس علماً واحداً فرداً، وما من علم واحدٍ ووحيد بالحقيقة يجمع كل هذه المعارف المتعلّقة والمرتبطة مباشرة بالأديان، فهناك فلسفة الدين، وتاريخ الأديان، وعلم العقائد، وعلم التفسير والتأويل للنصوص Herméneutique والأركيولوجيا (أو علم الآثار) الدينية وسوسيولوجيا الدين أو علم الاجتماع الديني والأنتروبولوجيا وهناك كذلك الماورائيات Métaphysique وعلم الظواهر الخارقة والمعجزات والكرامات وغيرها الكثير، وكلّها أقسام وجوانب وعلوم ومعارف لا يمكن فصلها ولا إقصاءها عن المقاربة أو البحث الأكاديمي في الدين أو الأديان. ومن هنا يبقى مصطلح “علوم الأديان” أدقّ وأشمل من “علم الأديان” الذي كان العالِم والمفكّر الفرنسي إميل بورنوف (1821-1907) Emile Burnouf أوّل من اقترحه في كتاب له بهذا العنوان صادر في باريس سنة 1870.([5]) وهو كذلك أدقّ من مصطلح “العلوم الدينية” المستخدم أحياناً([6]). ومصطلح “علوم الأديان” يوازي ويتناغم مع شقيقه الفرنسي مصطلح “علوم الإنسان” Les Sciences de l’Homme. وهو جزء من هذه العلوم. ومعلومٌ أن العلوم الإنسانية كالتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والانتروبولوجيا والأركيولوجيا تتداخل مواضيعها ومناهجها وتقنيّاتها وأدواتها، ويصعب الفصل التامّ بينها، بل قد يستحيل!
ذُكر أعلاه أن هذا المصنّف هو بالحري مدخل تطبيقي وعملي إلى علوم الأديان أكثر ممّا هو نظري، وهذا أحد أبرز أسباب تحاشيه الدخول في متاهة التعريفات وشرح المصطلحات وتحديد معانيها. وهو يقدّم (في ب1) نماذج وأمثلة تطبيقية في علوم الأديان وجدوى استخدامها واستلهامها واعتمادها في المناهج الدراسية المدرسية والجامعية لتدريب التلامذة والطلّاب على الوقوف على مسافة واحدة من الأديان. وهو أمرٌ ضروري في المناهج التربوية لكلّ كيانٍ أو وطن يسعى لإرساء أُسس دولة مدنية تحترم كلّ المكوّنات والأطياف الدينية الموجودة على أرضها، وتسعى وتعمل في الوقت عينه على أن تبقى على مسافة واحدة منها، فلا تنحاز إلى واحدةٍ على حساب الأخرى.
أما البابان الثاني والثالث ب2 و ب3 فيجمع كلّ منهما عدداً من المراجعات لمصنّفات حديثة عربية أو معرّبة في سوسيولوجيا الدين وفلسفته (ب2) وفي الأديان المقارنة (ب3). في حين يضمّ الباب الرابع ب4 مداخلات وبحوث للمؤلّف في مؤتمرات في علوم الأديان أشير إليها كلّ في مكانه.
ولمّا كان الكاتب لا يرى ضرورة ملحّة لعرض مضامين أبواب مصنّفه هذا وفصوله، لذا فهو يكتفي بعرض ومناقشة بعض الطروحات الواردة في هذه الأبواب الثلاثة. وذلك في سبيل مزيدٍ من الإيضاح وبلورة الأفكار والخواطر.
كارل ماركس ونقد الدين
ينقل ب2/ف2 عن كارل ماركس (1818-1883) معادلة لمّا تزل جديرة بالتفكّر والنقاش، وهي تقول إن نقد الدين شرطٌ شارط لكلّ نقد. والمنهج النقدي أساسي في علوم الأديان شأنها في ذلك شأن سائر العلوم الإنسانية: نقد المصادر والروايات والرواة والمقاربة النقدية للعقائد ومصادرها وغير ذلك، وعلوم الأديان كما ذُكر في ب4/ف1 لا يمكن أن تُبنى وتؤسَّس على مبدأ مصدر إلهي للعقائد ولا لسائر مكوّنات الدين من طقوس وعبادات ومعاملات. وهي وإن كانت تُقصي مبدأ المصدر الإلهي، فهي لا ترفضه بالمطلق، بل تعتبره مسألة إيمانية شخصية وبالتالي لا دخل للعلم فيها ولا حُكم، إذ لا مكان في العلم للغيبيّات الماورائية، وما من مناصٍ له من أن يدرس الأديان في تاريخها وتطوّرها وتفاعلها بل وحتى تداخلها بمعزل عن أيّ تدخّل أو عنصر إلهي فيها، أصحّت مسألة الوحي الإلهي أم لا، فعلوم الأديان تنأى بنفسها عن الدخول في جدلٍ كهذا لا يمكن فصل الخطاب فيه. ومن هنا يبقى نقد الدين ونقد الفكر الديني مسألة أساسية في علوم الأديان، فهذا الفكر مؤسَّس على الإيمان، وهذه العلوم تستطيع أن تدرس هذا الأخير وتجلّياته، بيد أنّها لا تستطيع أن تعتمده واحداً من أسسها وركائزها ولا حتّى مكوّناتها.
إميل دوركايم والتحذير من مقاربة الدين بعقلية لادينية
ومعادلة كارل ماركس، وقد توصم بما وُصمت به فلسفته أي أنّها مادّية، تقابلها في علم الاجتماع قاعدة أرساها إميل دوركايم (ب2/ف2) أحد أبرز آباء السوسيولوجيا ومؤسّسيها. وكان دوركايم (1858-1917) رائداً لما أسماه المؤلّف “دراسة الدين من الداخل”.([7]) وقد حذّر هذا العالِم من مقاربة الدين بذهنية لادينية، وشبّه من يفعل ذلك بأعمى يحدّث عن الألوان. وهو مُحقّ تماماً في تشبيهه هذا إذ لا يمكن دراسة الظاهرة الدينية كما تُدرس الظواهر الطبيعية في العلوم البحتة كالجاذبية على سبيل المثال. فالتجربة الدينية مسألة ذوقيّة، وهذا لا يعني بتاتاً وجوب إيمان الباحث بالدين الذي يدرسه، بل بالحري فهمه من الداخل، وكما يفهمه أهله ويعيشونه، ودوركايم يتحدّث في هذا الصدد عن: “موقف تفهّمي لا يمُتّ إلى الاعتناق بصلة، غير أنه يتيح الدخول في ما يقبل الإدراك من التجربة التي يعيشها المنتسبون”.
وإذ يوافق المؤلّف العالِم دوركايم عموماً في ما ذهب إليه في هذا المجال، يُقرّ ويؤكّد أنّه لم يأخذه عنه، ولم يكن له علمٌ في السابق بهذه القاعدة القيّمة التي أرساها مؤسّس السوسيولوجيا، بل هو استوحى منهجه هذا في مقاربة الأديان بالحري عن حكماء الهند ولا سيما راماكريشنا (1836-1886) Râmakrishna منهم([8])([9])
علوم الأديان وسائر علوم الإنسان
وجاء في ب2/ف2 أيضاً أن الدين اليوم يخصّ العلوم الإنسانية بمختلف تفرّعاتها. إنها حقيقة علمية راهنة وأساسية في المقاربة الأكاديمية والعلمية للدين. وهو ما أشار إليه المؤلّف مراراً في هذا المصنّف، وفي مطلع هذا المدخل أيضاً. فلم يعد جائزاً ولا مقبولاً أن يقارَب الدين بمعزل عمّا تقدّمه السوسيولوجيا والسيكولوجيا والأركيولوجيا والهرمنوطيقيا وغيرها من علوم الإنسان من أدواتٍ ومناهج ومعطياتٍ في هذا المجال. وعلوم الأديان لا بدّ لها حتماً من أن تستلهم كلّ هذه العلوم وتعتمد مقارباتها وأساليبها وتدمج Intégrer ما تراه مناسباً أو ضروريّاً أو مفيداً ومجدياً منها.
وفي ب2/ف2 كذلك حديثٌ عن النصّ المقدّس بين تأبيد المعنى وتأوينه. والتعبيران الأخيران هما في الحقيقة من المصطلحات الذي يُكثر الكاتب من استخدامها. ومسألة تأوين النصّ سبق أن درسها مراراً([10])([11]) وهو يرى فيها خير وسيلة لإخراج الخطاب الديني في دنيا العرب والعالم الإسلامي من دغمائيّته وتحجّره ولغته التي غدت بالحري خشبية ومكرورة.
حاجة الإنسان العربي إلى النسيان
وهنا تحديداً، وفي هذا السياق عينه، يمكن أن يُدرج ما ورد في ب2/ف3 من حديث عن حاجة إلى الذاكرة وإلى النسيان كذلك. وذاكرة الإنسان العربي هي في الحقيقة مشبعة Saturée أو “مفوّلة” بالتعبير العامّي Full أي ممتلئة كذاكرة كمبيوتر أو هاتف محمول قديم، ولا بدّ من إفراغها أقلّه جزئياً كي يتاح للمرء مواصلة استخدام هذه الآلة. إنها ممتلئة بمعرفة اكتسابية أو ما يعرف بـ “التراث” ممّا هو مفيد وأقلّ فائدة وعديم الفائدة. وأكثره إن لم يكن معظمه من الفئة الثالثة والأخيرة. والإنسان العربي يعيش غالباً في تراثه وماضيه وما يسمّيه أمجاد الأجداد والسلف!!
وطالما علّم الصوفية وكرّروا أنّه على المرء أن يكون “ابن وقته”. وميزة الصوفي يقولون أنّه ابن وقته. وفي ذلك يضيف القشيري (376-465هـ): “الفقير لا يهمّه ماضي وقته وآتيه، بل يهمّه الذي هو فيه”.([12])
هذا بالنسبة إلى الصوفي، أمّا الإنسان العربي المعاصر فيعيش غالباً في ماضيه وتراثه، وهو مثقلٌ بهذا التراث وكثيراً ما ينوء تحته ومن فرطِ ثقله ووقعه. ويسعى أن يطبّق ما أفتى به القدماء والأوّلون على مسائل زمنه ومشاكله ومعضلاته، غافلاً عن حقيقة قاطعة وواضحة وهي بالحري جزء من الناموس والقانون الطبيعي وتقول بأن لكلّ زمن وعصر مشكلاته ممّا لا تنطبق عليه حلول الأقدمين ولا فتاويهم!! فهل يتعلّم العربي المعاصر أن يُفرغَ بعضاً من الذاكرة المشبعة والمفوّلة بآراء الأقدمين والسلف كي يستطيع أن يعيش حاضره وراهنه كما يجب وينبغي؟! وهنا تحديداً يبرز دورٌ مركزي لعلوم الأديان في تأوين ما يمكن تأوينُه من معارف السابقين والاستغناء عن كلّ ما تجاوزه الزمن وبقي عصيّاً على التأوين.
هالة المقدّس المحيطة باجتهادات الفقهاء!
وفي سياق طروحات القدماء والأسلاف عينه يسلّط ب3/ف2 الضوء على حقيقة تاريخية غالباً ما يَغفلها الإنسان العربي ألا وهي المصالح المشتركة والخدمات المتبادلة بين الأمراء والفقهاء. وطالما كان الفقيه أداة من أدوات السلطة وسخّر اجتهاده وفتاويه لمصلحة الحاكم ودوام سلطته وبسط نفوذه. ومن هنا فكثير من اجتهادات الفقهاء إن لم يكن معظمها يبقى مرتبطاً بزمنه وعصره كما ذُكر آنفاً، ولا بدّ من كسر هالة المقدّس التي أحيط بها ولا يزال. وإلا بقي الإنسان العربي يعيش في ماضيه في حين يسير غيره بخطى ثابتة وواثقة من راهنٍ يعيشه بملئه إلى غدٍ يتطلّع إليه ويستشرفه ويُعدّ له بثقةٍ وأمل.
الإدانة هي القاعدة عند المؤرّخين العرب والحياد استثناء
ويسوق ب3/ف2 قاعدة للمؤرّخ يَحسن التبصّر فيها، إذ جاء فيه أنّه على المؤرّخ بالحري أن يروي ويسرد الوقائع لا أن يدين. ودأبُ المؤرّخين في دنيا العرب كان ولا يزال منكبّاً على الأمر الأخير هذا. وسبق للمؤلّف أن درس وفنّد الكثير من الأمثلة في هذا المجال. وله دراسة مونوغرافية Monographie تبيّن كم أن المؤرّخين العرب المعاصرين ينطلقون بالحري من أحكامٍ مسبقة منحازة وجاهزة، ثم يروون أو يُقصِرون رواياتهم على ما يدعمها ويؤكّدها ويصبّ في مجراها.([13])
فأحكام الإدانة هي القاعدة في الأعمال التأريخية العربية والسرد الحيادي استثناء! إنه واقع تتضاعف خطورته في علوم الأديان لا سيما وأن العمل التأريخي جانبٌ أساسي وجزء لا يتجزّأ منها. فلا بدّ حكماً ولزاماً من تصحيح هذا الخطأ المتفاقم والمستشري وتقويم الاعوجاج كي تقوم لعلوم الأديان قائمة في دنيا العرب المعاصرة!
وينقل ب4/ف1 عن المهاتما غاندي حقيقة مأساوية في تاريخ الأديان، ألا وهي أن أفظع الجرائم التي دوّنها التاريخ وأبشعها ارتُكبت باسم الدين! والسلسلة هذه لمّا تنتهي فصولاً حتى هذا اليوم! وما يحدث في الشرق الأوسط راهناً مثَلٌ على ذلك. فهل يعني ذلك أنّ الدين مولِّدٌ دائمٌ للعنف؟! لا يخفي المؤلّف ميله إلى إجابة سلبية عن هذا التساؤل المحقّ. إنّه بالحري الاستغلال السياسي والنفعي للدين، والاتّجار الفاضح والمؤسف به! وهنا أيضاً يبرز دور مهمّ لعلوم الأديان في الكشف عن هذه الممارسات المقيتة ووضعها في رقعة الضوء وفضح خلفيّاتها ودوافعها. وفي هذا السبيل لا بدّ من الإشارة بل والتركيز على حقيقتَين أساسيّتين في علوم الأديان والإنسان:
الأولى ترد في ب4/ف1 ألا وهي أن المصطلحات المنحازة أمثال “الأديان السماوية” والأديان الوضعية تكفير ضمني، وما أوّله تكفير آخره تفجير كما سبق للمؤلّف أن ذكر وذكّر مراراً وتكراراً([14])([15]). وذهنية التكفير، وإن كانت متجذّرة في هذه المنطقة من العالم، وهذه حقيقة واقعة فلا بدّ من تضافر الجهود وعلى مختلف المستويات والأصعدة للحدّ من انتشارها وتفاقمها. ولعلوم الأديان دور مركزي في ذلك.
والثانية وآخر ما سيتوقّف عنده المؤلّف في هذه المقدّمة هي المعادَلة الواردة في ب4/ف2 والتي طرحها سيغموند فرويد (1856-1939) والقائلة: “كلّ ما يُنمّي الثقافة ويطوّرها يحدّ من العنف، والثقافة أولى ضحايا الحروب”.
إنّها معادلة واقعية ومستوحاة من تاريخ طويل للبشرية يتأرجح بين حروب وسلام. وهي تعني، في أبرز ما تعنيه، أن العمل لنشر اللاعنف وثقافته يسير بالتوازي مع العمل لنشر الثقافة بمختلف جوانبها وأطيافها. وعلوم الأديان ركنٌ أساسي في ثقافة اللاعنف كما ذُكر مراراً في هذه المقدّمة. وفي هذا السياق طرح المؤلّف تحويل مكتبته الخاصّة الضخمة إلى مكتبة عامّة في علوم الأديان، وعسى هذا المشروع الغالي على قلبه يعرف قريباً طريقه إلى التنفيذ، فيصيب بذلك عصفورين بحجر واحد: يؤمّن لعلوم الأديان مركزاً وركيزة في هذا المشرق الذي يحتاجها بإلحاح، ويساهم في نشر ثقافة اللاعنف في منطقة حفلت ولا تزال بالصراعات الدموية وأعمال العنف بشتّى أنواعها.
وبعد… فهذه مساهمة متواضعة، وليست بالطبع بحجم الآمال المعقودة على علوم الأديان وتعليمها ودورها المرجوّ في العالم العربي. بيد أنّها خطوةٌ في الطريق الصحيح، ويحدو الباحث الأمل أن تتلوها خطوات من جانبه، وكذلك من جانب بعض من درس مؤلّفاتهم في هذا المصنّف من علماء ومفكّرين عرب معاصرين وأصدقاء.
والمؤلّف يبقى على يقين أن علوم الأديان هي الترياق الأساسي لسمومٍ وآفات تنخر أجسام المجتمعات العربية كالتعصّب الديني والتكفير والطائفية والفرز المذهبي والديني وغير ذلك.
بيد أن الكاتب ليس واهماً، وهو يعي تماماً أن الطريق شاقٌّ وطويل، ولكن ثمّة ضوء وبصيص نور في آخر النفق، ومهما كانت الظلمات حالكة فهي لن تقدر أن تطفئه. وهو كذلك يبقى على ثقةٍ وطيدة أن علوم الأديان لا بدّ لها أن تشقّ طريقها في المشرق ودنيا العرب أسوة بسائر أرجاء هذا الكوكب، لأنّها علوم اليوم… والغد.
QJCSTB
جبيل/بيبلوس في 30/12/2024
[1]-Saliba, Lwiis, l’Hindouisme et son influence sur la pensée musulmane selon al-Bîrûnî (m 1048), Paris, Dar Byblion, 2ème édition, 2009, (1ère édition 1995), 250p.
[2] -صليبا، لويس، اليوغا في الإسلام مع دراسة وتحقيق وشرح لكتاب باتنجلِ الهندي للبيروني، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2020 (ط1: 2016)، 350ص.
[3] -صليبا، لويس، عنف الأديان الإبراهيمية حتميّة؟ أم خيار؟ أعمال المؤتمر المسيحي الإسلامي في الصرفند، جنوب لبنان 2015، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2018، مقدمة في الدين والعنف وما بينهما، ص5-96.
[4] -صليبا، لويس، المسيحية والإسلام بين الأمس واليوم: بحث في تطوّر العلاقات بينهما من يوحنا الدمشقي إلى وثيقة الأخوّة، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2025، ص160.
[5] -بورنوف، إميل، علم الأديان، تعريب د. العروسي الميزوري، سوسة/تونس، دار المعارف للطباعة والنشر، 2006، ص13-15.
[6] -مثل “كلّية العلوم الدينية” Faculté des Sciences Religieuses FSR في الجامعة اليسوعية أو جامعة القدّيس يوسف USJ في بيروت.
[7] -صليبا، د. لويس، زرادشت وأثره في الأديان الخمسة الكبرى: إيران المجوس جسر عبور بين أديان الشرقَين الأقصى والأوسط، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط5، 2022، ب4/ف1، فق: دراسة الدين من الداخل، ص402-404.
[8] -صليبا، د. لويس، السنّة والشيعة مذهبان أم ديانتان: بحث في الخلافات بينهما لا سيما في المتعة، تقديم أ. عماد الهلالي، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2017، فق: حكاية دراسة للإسلام من الداخل، وفق: راماكريشنا وتجربته في عيش الإسلام، ص22-25.
[9] -صليبا، د. لويس، اليوغا في المسيحية: دراسة مقارنة بين تصوّفَين، تقديم د. بيتسا استيفانو، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2018، ص238.
[10] -صليبا، لويس، حوار الأديان وعلومها في العالم العربي: المسيحية والإسلام تاريخاً ومستقبلاً ومعتقدات وعلاقات في الفكر العربي المعاصر، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2025، ف1، فق: حدّاد وتأوين النص المقدّس، ص14-16.
[11] -صليبا، لويس، ثوّار من الجيش الأسود: رهبان لبنانيّون مشوا عكس السَير سِير وآراء مخالفة في المسيحية والإسلام والمرأة والأديان وغيرها، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2024، ب2/ف4: تأوين البيبليا، ص177-192.
[12] -صليبا، لويس، الوصايا الصوفية العشر: أدب الحياة في التصوّف الإسلامي مقارنة بالتصوّفَين الهندي والمسيحي، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2024، ب1/ف7، فق: الصوفي ابن وقته، ص181-185.
[13] -صليبا، د. لويس، سوريا الكبرى أم لبنان الكبير؟ بحث في الأحداث والمعاهدات التي أسفرت عن سقوط الحكم الفيصلي وقيام لبنان الكبير 1914-1920، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2025، 500ص.
[14] -صليبا، د. لويس، نحو الحوار المسيحي الإمامي: بحوث في نقاط الالتقاء بين المسيحية والتشيّع، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2018، ب1/ف2، ص87-88.
[15] -صليبا، د. لويس، حدّ الرِدّة ركن التكفير: بحث في جذور الأصوليّات التكفيرية في الإسلام، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2017، ب5/ف1، فق: التكفير أساس الإرهاب الديني، ص293-296.