د. لويس صليبا/بولس الفغالي مؤلف الأربعماية كتاب، كلمة في افتتاح مؤتمر: العلّامة بولس الفغالي وعلوم الأديان والبيبليا/ بكركي في 22 حزيران 2024
-ما بترتاح يا خوري بولس؟! ما بتنام؟!
سألته يوماً متعجّباً مندهشاً من غزارةِ كتاباتِه وسرعةِ إنجازها، ومن مثابرتِه الدائمة على العمل، فأجابني ببساطة: لاحقين ننام ونرتاح!
كان وكأنّه في سباقٍ دائم مع الزمن، ويرغبُ بإلحاحٍ أن يقول كلمته كاملة، لا نقصَ فيها ولا لُبس، قبل أن يمشي!
كانَ من نفْسهِ الكبيرةِ في جي شٍ ومن كبرياهُ في سُلطانِ
لعلّ الفغالي خيرُ من ينطبقُ عليه هذا الوصف. فهذه النفس الكبيرة التي حضنها ذاك البدن المحدود في إمكاناته والذي شاخ قبل أوانه قد أنجزت في دنيا اللاهوت والدراسات البيبلية والتاريخ الكنسي ما عجزت عنه مراكزُ أبحاثٍ عديدة مجتمعة! وكلّما ذكرتُ هذا العلّامة الجهبذ تذكّرتُ قولَ المتنبّي:
وإذا كانتِ النفوسُ كباراً تعِبت من مُرادها الأجسامُ
وهذا ما حصل فعلاً، فقد عجز الجسد يوماً عن مجاراةِ النفس في طموحاتِها الكبيرة ومشاريعِها الفكرية والعلمية والبيبلية التي لا تنتهي!
بعد وفاة المونسنيور الفغالي (في 20 /9 /2020) بنحوِ أسبوع كنتُ أزورُ أستاذي وزميلَه الأب جوزف قزّي في ديره في غوسطا، فبادرني قائلاً: هل عرِفتَ بوفاة العلّامة بولس الفغالي مؤخّراً. أجبته بالطبع. فأردفَ حزيناً مغتمّاً وقال: مفكّرٌ ولاهوتي مِلفان بلغ عددُ مؤلّفاتِه نحو أربعماية كتاباً، ولم نجد تلفيزيوناً واحداً أو وسيلة إعلامٍ تنقلُ نبأَ وفاتِه؟! وختمَ وكأنّه يتحسّرُ عليه وعلى نفسه في آن: لمن نكتبُ في هذا البلد التعيس الذي لا يعبأُ أحدٌ فيه بمفكّريه؟! ومن هو؟ وأين هو ذاك الذي سيقرأ؟!
يومها، وإثر تلك الزيارة وذاك الحوار المؤثّر، خطرَتْ لي فكرةُ هذا المؤتمر، فخيرُ تكريمٍ لمفكّر هي أن نقرأَه ونجعلَ من طروحاتِه ومقولاتِه منطلقاً لمزيدٍ من البحوث. قيل للقدّيس توما الأكويني يوماً: أنت تلميذُ المعلّم واللاهوتي ألبير الكبير Maître Albert، ولم نسمعْك يوماً تنوّهُ بمؤلّفاته وتشيدُ به. فأجاب: لقد استشهدتُ به وذكرتُ أقوالَه عشراتِ المرّات في مؤلّفاتي!
أجل هذا هو التكريمُ الحقيقي للمفكّر، وهو خيرُ إشادة. وهو ما نسعى إليه في هذا المؤتمر الذي نطمحُ أن يكونَ تقليداً سنويّاً ومناسبةً لالتقاء الباحثين والأساتذة في علوم البيبليا وعلوم الأديان وتاريخ المسيحية في المشرق والحوار المسيحي الإسلامي وعرضِ بحوثهم وتبادلِ الخُبُرات ووجهاتِ النظر والتشاورِ واستشرافِ مستقبل الدراسات في هذه المجالات. وقد قسّمنا هذا المؤتمر الأوّل إلى محاور ثلاثة توزّعت على ثلاث ندوات: 1-بولس الفغالي ومساهماته في علوم البيبليا والأديان. 2-العلوم البيبلية وتدريسها وتأوين النصّ المقدّس. 3-علوم الأديان والعلاقات المسيحية الإسلامية.
ويبقى تنويهٌ لا بدّ منه ببعضِ من كانت لهم مساهمةٌ فاعلة في إنجاحِ مؤتمرنا. وأوّلُهم من رافقَ الفكرة منذ البدء وشجّعها، وهو الجنديُّ المجهول في هذا المؤتمر، والرفيقُ الدائم للعلّامة الفغالي، ومن تولّى طباعةَ معظمِ كتبِه الأستاذ أنطوان الدكّاش، فألفُ شكرٍ له على وفائه وجُهدِه المتواصلِ والصامت وغيرتِه. وشكرٌ آخر إلى رئيس جمعية المونسنيور الفغالي الدكتور والمدير والفنّان جو خوري على تجاوبه وعمله الإداري الفعّال والبنّاء. وشكر لزميلتي الحبيبة الأخت الدكتورة روز أبي عاد على مساعدتِها القيّمة، والأب أيّوب شهوان والقسّ عيسى دياب على تجاوبهما السريع، وللشيخ د علي سميسم الآتي من النجف الأشرف، والشكر موصول لسائر المشاركين وللحاضرين جميعاً.
وختاماً، فإذا كان من حقِّنا جميعاً أن نفخرَ ببولس الفغالي هذه القامة الفكرية واللاهوتية الشامخة، فمن واجبِنا بالمقابل أن نحفظَ ذكراه ونحضُنَ إرثَه ونبقيه لا مجرّد خزّانِ مياهٍ راكدٍ بل ينبوعاً صافياً متجدّداً يروي الواردين.