“سوسيولوجيا الدين2: مقاربات منشقّة”
مراجعة بقلم لويس صليبا لكتاب “سوسيولوجيا الدين: 2-مقاربات منشقّة”، تأليف إروان ديانتايل ومايكل لُووِي، ترجمة يوسف طاهر الصدّيق، سلسلة مشروع نقل المعارف، منشورات هيئة البحرين للثقافة والآثار، ومنتدى المعارف/بيروت.
مقالة نشرت في مجلّة الأمن/بيروت، عدد كانون الأوّل 2023
يقول المؤلّفان عن علماء الاجتماع الذين يدرسونهم في هذا الكتاب (ص8): “إنهم تلاميذ مبتدعون وغير أوفياء، وفي مقاربتهم طابعٌ منشقّ بالنسبة إلى الكلاسيكيين الأوائل العظام، وذلك ما يمنح قيمة لأعمالهم التي لا تتبع أيّ أرثوذكسية مدرسية، وهي في مأمن من فخاخ التلمذة الاتّباعية”.
ويعرض المؤلّفان لسوسيولوجيا الدين عند عالم الاجتماع الألماني كارل مانهايم (1890-1943) Karl Mannheim، وهو الذي (ص37): “يُعرف اليوم خاصّة بوصفه أحد مؤسّسي سوسيولوجيا المعرفة”.
ويتوقّفان عند أبرز مساهمات مانهايم في علم الاجتماع الديني (ص46): “قد يكون تحليل يوتوبيا الألفية مساهمة مانهايم الأهمّ في سوسيولوجيا الأديان: يتعلّق الأمر بانتظار ألفيّة السلام والعدل والأخوّة على الأرض التي وعد بها الإنجيل مثلما وعد بها في أشكال أخرى أنبياء الكتاب المقدّس المسيحانيّون. ولا تهمّ مانهايم الأصول الدينية لهذه المسألة بل تهمّه تمظهراتها الحديثة”.
وممّا أُخذ على مانهايم (ص57): “الطابع الشديد الجمود للتمييز بين اليوتوبيا والإيديولوجيا، وهو ما لا يقدّم تفسيراً لحقيقة أن اليوتوبيا يمكن أن تصير إيديولوجيا، والعكس بالعكس”.
ولن نناقش منهجية مانهايم في مقاربة الألفية، ولا عرض المؤلّفين لها. المهمّ أن نقل كلّ ذلك إلى العربية جزيل الفائدة لدارسي علم الاجتماع، وذلك لقلّة ما يتوفّر بالضادّ في هذا المجال.
ويدرس المؤلّفان سوسيولوجيا الدين عند عالم الاجتماع إرنست بلوخ (1885-1977) Ernst Bloch اليهودي الألماني والماركسي الملحد الصميم (ص61). ورغم إلحاد هذا الأخير المعلَن، فهو (ص62): “يُدين، وهو يعلن انتسابه إلى ماركس، ما يسمّيه الإلحاد المبتذل والبائس للبورجوازية، ويُثني على بعض التقاليد الدينية التي ينبغي، في نظره، الإسراع في إنقاذها: فكرة الإنسانية في المسيحية القروسطية، وبوجه خاصّ الأحلام الهرطقية [الهرطوقية] القديمة بحياة فضلى”.
وهو موقف لافت وجدير بالتفكّر، لا سيما وأنّه يأتي من ملحد. ولكن أليست الشيوعية هي الأخرى حلم أو أقلّه سعي إلى مجتمع مثالي وطوباوي؟! ومن هذا المنظور تغدو الماركسية نمطاً من الإلحاد الهادف ينقض إلحاد البورجوازية المبتذل! لا ينكر بلوخ ذلك، بل هو يرى أن (ص63): “الحركات الألفية الماضية ليست مجرّد مواضيع للدراسة، بل هي إلهام للحاضر، ميراث ينبغي تقبّله، وتقليد يتعيّن إنقاذه. وينصرف اهتمام بلوخ بالأساس إلى التيّارات المسيحية الدينية، ولكن المراجع اليهودية ليست غائبة تماماً في كتابه، إذ تحلّ القبالة، والمسيحانية اليهودية والعهد القديم بخاصّة محلّاً مناسباً في تفكيره”.
ومقولة بلوخ هذه جديرة بالتأمّل. فهو رغم إلحاده لا يقف موقف الرفض والازدراء من تراثه الديني، بل يسعى جاهداً ليستلهمه عناصر وأدواتٍ لمشاكل يومه وغده. إنه برأينا موقفٌ جديرٌ أن يكون أسوة لكثير من العلماء والباحثين.
ويستعير بلوخ من ماكس فيبر مقولته في العلاقة السببية بين البروتستانتية والرأسمالية (ص72): “يمثّل كالفن بالنسبة إلى إرنست بلوخ حركة إصلاح سوف تدمّر المسيحية تدميراً، وستطرح عناصر ديانة جديدة هي ديانة الرأسمالية وقد رُفعت إلى مرتبة الدين”
بَيد أن بلوخ يمضي إلى أبعد ممّا بلغه فيبر (ص73): “إن تحليل فيبر الخالي من أحكام القيمة حول دور الكالفينية في صعود الفكر الرأسمالي، يغدو بقلم ماركسي منبهر بالكاثوليكية هو بلوخ نقداً شرساً للرأسمالية وأصولها البروتستانتية”.
ويرى بلوخ أن الطموحات والأهداف الطوباويّة هي المحرّك الأساسي لعجلة التاريخ ولا سيما للمسار التطوّري فيه (ص77): “إن رهان بلوخ الأساسي هو الآتي: الإرادة الطوباوية هي ما يقود جميع حركات التحرّر في تاريخ البشرية: المسيحيّون عرفوها هم أيضاً على طريقتهم، تارة بوعي غافٍ، وطوراً باهتمام متيقّظ جدّاً: أولم تنقلها إليهم مقاطع الكتاب المقدّس المتعلّقة بالخروج والمسيحانية؟”
وهذه المقاربة “الودودة” والمتفهّمة للدين وللإرث الديني من جانب ملحد هي بالحري عميقة الدلالة ومؤثّرة. ويبقى الدين بمفهوم بلوخ وتحليله ذا دورٍ أساسي في المنظومة الاجتماعية ويَحسُن تدبّره (ص77-78): “ومن بين أشكال الوعي الاستباقي كلّها يحتلّ الدين محلّاً مميّزاً [عند بلوخ] إذ يمثّل بنظره اليوتوبيا بامتياز، يوتوبيا الكمال وتمام الأمل. وغالباً ما يتعلّق الأمر في كتابه “مبدأ الأمل” بالدين. (…) ولا تهمّ بلوخ المسائل السوسيولوجية الموجودة عادةً في الأدبيات الماركسية –علاقة الطبقات الاجتماعية بالدين- بمقدار ما يهمّه المضمون السوسيو-طوباوي في العقائد الدينية”.
ويدرس المؤلّفان آخِر كتب بلوخ، وهو مصنَّفٌ يستوقف الباحث الاجتماعي إن بعنوانه أو بطروحاته “الإلحاد في المسيحيّة”، 1968. إنّه (ص84): “كتاب لا يقبل التصنيف، فهو ينتمي إلى اللاهوت والتاريخ والفلسفة معاً. ولا تخلو فكرته المحورية من طرافة: إن يسوع بوصفه ابن الإنسان قد حلّ بصفة مسيحانية في مَن كان قبله يحمل اسم الله”.
وفي هذا الكتاب يقابل [يقارن] بلوخ يسوع الأناجيل الذي كان يظهر باعتباره ابن الإنسان بالمسيحية الهلّينية التي جعلت منه ابن الله، والربّ والسيّد المسيح، وحاكماً أعلى ممجّداً مثل إله، بما يشبه تقليد عبادة الرومان للقياصرة. في حين أن يسوع المتمرّد المهرطق، والأخروي بصفة جذرية، كان يتوجّه إلى البسطاء والمظلومين فحسب، مانحاً إيّاهم الوعد بخلاصٍ سياسي وديني في آن مطابق لسنّة الأنبياء المسيحانية”.
وهذه القراءة الماركسية للإنجيل ولرسالة يسوع جديرة بالنقاش، لا سيما وأنّها تستلهم مفهوماً مسيحيّاً أساسيّاً (ص85): “المفهوم الأهمّ الذي يستخدمه بلوخ في هذا المجال هو ذلك الذي يركن إليه المسيحيّون أنفسهم: الفقراء. وهكذا يشير إلى الكتاب المقدّس بعهدَيه باعتباره “كتاب الفقراء المقدّس”، ووعده بمملكة الآخرة ينبو عن تعالي عرش سماوي، ليصير دين اليوتوبيا البشرية، وديناً ألهم ثورات الفقراء على مرّ القرون”.
واللافت في هذا المجال أن بلوخ ألّف كتابه هذا وأصدره في زمن المجمع الفاتيكاني الثاني وتشديد الداعي إليه أي البابا يوحنا 23 على أن تكون الكنسية “كنيسة جميع الناس وخصوصاً كنيسة الفقراء”.
وهذه القراءة المميّزة للمسيحية تاريخاً وعقيدة ونصوص جعلت من بلوخ أحد أبرز ملهمي مؤسّس لاهوت التحرّر الأميركي اللاتيني غوستافو غوتييريز Gutierrz. (ص86).
ويختم المؤلّفان بحثهما في هذا المجال بمناقشة معادلة بلوخ الجدلية بامتياز (ص84): “وحده الملحد مَن يستطيع أن يكون مسيحيّاً صالحاً، وبالعكس وحده المسيحي يمكنه أن يكون ملحداً جيّداً”.
وبلوخ يذكّر، كدليل على صحّة معادلته، بأن الشهداء المسيحيين كانوا يُنعتون في بلاط الأمبراطور نيرون بـ”الملاحدة”. (ص84)
وبلوخ هذا السوسيولوجي اليهودي الماركسي الملحد، ردم ببحوثه وبشهادته الهوّة السحيقة التي تفصل بين الإلحاد والتديّن، أو أقلّه ساهم في ردمها. ودراساته في سوسيولوجيا الدين تستحقّ أن تكون موضع تفكّر ونقاش ليس بين المسيحيين والشيوعيين، بل بين المتديّنين عموماً والملحدين.
ويدرس المؤلّفان سوسيولوجيا الدين عند عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موسّ (1872-1950) Marcel Mauss، ويعرّفان عنه بداية كما يلي (ص117): “كان مارسيل موسّ يُعَدّ، ولزمنٍ طويل، المساعد الأوّل لدوركايم. فقد كان تلميذه فعلاً، وأسهم مساهمة نشطة في أبحاثه. وكان عضواً فاعلاً في فريق [مجلّة] “السنة السوسيولوجية”، وكان موسّ ابن أخت دوركايم”.
والصلاة من أبرز ما درس موسّ في نطاق علم الاجتماع الديني (ص140): “الصلاة بالنسبة إلى سوسيولوجيا الدين مؤسّسة مهمّة لأنّها طقس واعتقاد في آن واحد. (…) والصلاة مؤشّر على حال تطوّر ديانة ما، فبمقدار ما تحوز أهمّية في دين ما نكون بإزاء نسقٍ ثقافي متطوّر”.
وتبدو ملحوظة موسّ الأخيرة على جانب كبير من الأهمّية: الصلاة معيار لتطوّر ديانة ما. وتتبلور مقولته هذه في التحديد الذي يقدّمه للصلاة فهي محصّلة جهد متراكم على مدى عصور (ص144): “ليست الصلاة دفق روحٍ ما فحسب، ولا صرخة شعورٍ ما. إنها مقطعٌ من دين. نسمع فيها تردّد صدى سلسلة من الصيَغ مديدة جدّاً، وهي قطعة من أدب، ونتاج الجهد الذي راكمه رجالٌ وأجيال”.
وغالباً ما تختصر الصلاة اللاهوت والعقيدة لديانة ما (ص144): “في صلاةٍ بسيطة بساطة “بسم الآب والابن والروح القدس” ثمّة لاهوت برمّته مكثّف ومركّز”.
وإضافة إلى سمتها الفردية الواضحة فللصلاة بُعد اجتماعي: “الصلاة اجتماعية من حيث محتواها، وهي كذلك من حيث شكلها. إن ما يضبط شروطها ويفرضها إنما هو مجتمع ديني”.
ويخلص موسّ إلى التعريف التالي (ص145): “الصلاة طقسٌ ديني، شفهي، يتّخذ الأشياء المقدّسة موضوعاً مباشراً”.
وقد أحسن المؤلّفان عرض نظرية موسّ السوسيولوجية في الصلاة بما قلّ ودلّ.
وتبقى كلمة في الترجمة، وقد جاءت عموماً برأينا دون مستوى الدراسة وأهمّيتها، لا سيما وأنّها تفتقر إلى مُراجعٍ وبالتالي رأي آخر. وكثيراً ما ينحت المترجم تعابير غير قاموسية يُفلح في بعضها ويُخفق في الآخر. مثل: “دهرنة المجتمعات المعاصرة” (ص8) والأوفق علمنة المجتمعات. هرطقي (ص298) هرطقية (ص62)، والمألوف هو هرطوقي في الاستخدام اللاهوتي، أو مبتدع في الاستخدام الإسلامي. معتقد تقليدي Orthodoxie (ص302) هنا كان من الأجدى استخدام التعبير المعرّب أرثوذكسي (نقيض هرطوقي) لا سيما وأنّه جدّ مألوف ومتداول بهذه الصيغة. أو مستقيم الرأي. “فترة إمساك عن الجنس” (ص124): استخدام غير مألوف والأجدى قول: امتناع عن الجنس، أو تعفّف. “المشكل الرئيس في هذه الصِنافة” (ص45) والأوفق: تصنيفية أو علم النماذج أو تصنيف. (حلو، معجم مصطلحات، م. س، ص174).
والخلاصة فهو كتابٌ أنيق في طباعته وإخراجه جليل الفائدة يسدّ ثغرة في المكتبة العربية، ويلبّي حاجة العديد من الباحثين والطلّاب العرب.