مراجعة للقسم الأوّل من مجموعة “عبدالله شحاده شاعر الكورة الخضراء”/منتدى شاعر الكورة الخضراء، بقلم لويس صليبا
“عبدالله شحاده شاعر الكورة الخضراء المجموعة الكاملة” صدرت عن منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده (1910-1985) في ستّة مجلّدات فاخرة مع علبة وتجليد فنّي.
مقالة نشرت في مجلّة الأمن/بيروت، عدد حزيران 2023، زاوية مكتبة الأمن
مجموعة أنيقة فخمة تناديك كي تتصفّح محتوياتها وتقلّب صفحاتها، وتقرأ سطورها وما بين السطور. جلدٌ فاخر استمدّ من السماء لونها، وورق مصقول استعار من النجوم اصفرارها ولمعانها، وها نحن نقوم بنزهة تلو أخرى في هذه الحديقة الكورانية الخضراء نقطف وردة هنا، وأقحوانة هناك وسوسنة هنالك.
نقرأ في مجلّد التمهيد تصديراً لناشرة المجموعة ورئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء ميراي عبدالله شحادة تتحدّث فيه عن جهودها في حفظ تراث والدها، وممّا تقوله متوجّهة إلى أبيها (ص11): “لو تعلم، كم صارعتُ أيّامي ولاكمتُ أقداري وأبيتُ إلا أن أرصّع بأناملي كلّ ماسّة من قوافيك على صهوة الحرف وعرش الكلمة!”
ويضمّ مجلّد التمهيد سيرة موجزة للشاعر بقلم محقِّقة المجموعة ابتسام غنيمة مرفقة بعرضٍ موجز لنتاجه من نثر وشعر. وممّا تقول (ص23): “ولمّا كان الشاعر الحقيقي كما يقول أبو شبكة هو “تاريخ عصره ملحّناً” فإن شاعر الكورة الخضراء يخطّ تاريخ لبنان في كتاباته”.
وفي التمهيد كذلك صور عديدة لمخطوطات الشاعر وشهاداته المدرسية والجامعية والأوسمة والدروع التي حصل عليها، وأخيراً مجموعة مختارة من ألبوماته وصوره. وهي بمجملها وثائق ذات قيمة أرشيفية وتراثية لا تخفى على أيّ باحث. بيد أن الملحوظة البديهية تبقى أن هذه الصور برمّتها غير مرفقة ولا مذيّلة بتعليقات توضح ما هي!! في ص161-163 مثلاً مجرّد صوَر لأوسمة فما هي؟ ومتى وأين حصل عليها الشاعر؟! وفي ص 181: أسماء الفائزين بالسرتيفيكا، لأيّة سنة؟ ومن أيّة جريدة؟! ص199 مع مَن مِن الأدباء والشعراء؟ وما جدوى تخصيص نحو مئة صفحة (108-206) للصور إذا كانت كلّها تخلو من أي تعليق مرفق أو توضيح؟!
وننتقل إلى المجلّد الأوّل وفيه مزيج من أشعار المناسبات من مراثٍ ومدائح وقصائد عائلية وأخرى وطنية.
وأوّل ما يستوقفنا نشيد سوريا ص1/62-63. ننظر إلى تاريخ نظم هذه القصيدة فإذا هو 5/7/1935، والحزب القومي تأسّس في 16/11/1932، أي أنّها وضعت في حقبة البدايات والتأسيس.
وما وقفتنا عند هذه القصيدة بالذات إلا لمناقشة ما سيُنسب إلى الشاعر من فكرٍ قوميّ سوري لاحقاً وسيجهد في التنصّل منه كما سنعرض ونروي عند مناقشة يوميّاته في السجن (ص3/197-261).
ونقرأ في النشيد (ص1/63):
طوروسٌ تكنُفُها باليدَين
أبيضٌ مرشفها كاللجَين
وحجازٌ في الجنوب
وصحارى شرقها
سوريّا سوريّا”
إنها حدود سوريا الكبرى الممتدّة من العراق إلى الحجاز!!
ولن نغرق في التحليل والاستنتاج والاستخلاص، بيد أنّنا، ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن ننفي عن شاعر الكورة الخضراء تأثّراً مبكراً بالإيديولجيا القوميّة هذه.
وبعض قصائد ج1 ذو طابع عائلي كمثل القصيدة التي نظمها لابنته البكر ميراي ومنها (ص1/275):
عطّرتِ أزهاري في روضِ أشعاري
يا بَوحَ أسراري يا مُهجتي ميراي
قصيدة رقيقة سلِسة تنساب بنعومة كما النسمة الدافئة المنعشة.
وننتقل إلى المجلّد الثاني. ونتوقّف عند مقطوعة قصيرة يتحدّث فيها شحاده عن الشعر ويحدّد مفهومه له (ص2/318): “الشعر هندسةُ حروفٍ وأصوات نعمّر بها في نفوس الآخرين عالماً يشبه عالمنا الداخلي”.
نلمحُ في هذا التحديد نفحةً سعقلية، إذ طالما تحدّث سعيد عقل عمّا أسماه “هندسة القصيدة”، وعن العقل أو الذهن “المجمتر” من Géométrie أي المهندَس. بيد أن عمارة شحاده تبني في المتلقّي عالماً مشابهاً لعالمه الداخلي. وهنا يبرز دور الشاعر مشاركاً في الخلق. إذ لا يكتفي بنقل عالمه بل يعمّر عالماً آخر.
ونتابع مع شحاده حديثه: “الشاعر يمدّ يده إلى الأشياء فيحييها، كما فعل موسى تماماً، والفرق أن أداة موسى هي العصا، وأداة الشاعر هي الكلمة”.
في حديثه عن مفعول الكلمة السحري يقترب شاعر الكورة هنا من مقولة اليوغا بشأن الكلمة Mantra وتأثيرها الشفائي والمحيي للأجساد والنفوس.
وممّا لفتنا في ج2 مقالة “صدى المعجزة” (ص312-317)، وفيها يروي شاعر الكورة قصة واحدةٍ ممّا اجترح القدّيس شربل من معجزات. كُتبت المقالة في 2/6/1950 أي في الزمن الذي كثرت فيه معجزات قدّيس عنّايا واشتهرت. والكاتب ينقل لنا شهادة جولييت نصر وممّا جاء فيها (ص315): “أقبل المساء فدخلتُ الكنيسة [في دير عنّايا] لأبيتَ فيها، فراعني منظر المشوّهين الذين يطلبون الرحمة والشفاء، ودبّ الرعبُ إلى قلبي وأنا غريبة لا أعرف أحداً. وكان بالقرب منّي امرأة خرساء أزعجت راحتي بلغطها وحركاتها وتضرّعاتها (…) فوقف شعر جسدي خوفاً وتخشّعاً، وأخذتُ عندئذٍ بالصلاة الحارّة سائلة الله أن يشفي هؤلاء المشوّهين والمرضى، ويدعني لأنّني أحسن منهم حالاً. وتهتُ في ابتهالاتي بعدما تركتُ أنانيّتي”
شهادة مؤثّرة، وقد برع الشاعر في نقلها بأسلوب يجمع بين البساطة والبلاغة والدقّة في التفاصيل. فهل كان ترك جولييت أنانيّتها هو الجسر الذي عبرت عليه نحو المعجزة والشفاء؟ لسائل أن يسأل عندما يقرأ هذه الشهادة الحافلة بالتقوى والعِبَر.وممّا لحظناه في أشعار هذا المجلّد قصائد التشطير. والتشطير هو أن يعود الشاعر إلى قصيدة لغيره فيقسم البيت إلى شطرين يضيف إلى كلّ منهما شطراً من عنده. وقد شطّر شحاده ما يلي: 1-قصيدة علّموه للأخطل الصغير (ص16). 2-قصيدة جفنه علّم الغزل للأخطل الصغير (ص19-20). 3-قصيدة الهوى والشباب للأخطل الصغير (ص293-294). 4-قصيدة يا ناعماً لأحمد شوقي (ص152).
والتشطير تقليد مألوف وراسخ عند الشعراء العرب يحاكون فيه ما اشتهر وراج من قصائد. حتى إن نزار قبّاني تبرّم من هذه العادة واعتبرها واحدة من أسباب تخلّف العرب وهزيمتهم فأنشد في قصيدته الشهيرة “هوامش على دفتر النكسة”:
نقعدُ في الجوامعِ تنابلاً كسالى
نشطّر الأبيات أو نؤلّف الأمثالا
ونشحذ النصر على عدوّنا من عنده تعالى
وبالفعل فجدوى التشطير تبقى محدودة وكذلك حظوظ الشاعر فيه من الإبداع. ولعلّ أقصى ما يرجوه منه يبقى المران على قرض الشعر!!
وثمة نمط آخر من المحاكاة برع فيه شاعر الكورة ألا وهو المعارضة وهي محاكاة شاعرٍ لآخر في قصيدة يأتي بها على وزن قصيدة الشاعر المعارَض وقافيتها. ومن معارضات شحاده:
1-معارضة قصيدة الغوندول لعلي محمود طه والتي غنّاها واشتهر بها محمد عبد الوهّاب (ص75-76). ومطلع قصيدة شحاده:
يا عروس النور يا حلمَ الدوالي يا بتول الشعرِ يا فجرَ الخيالِ
وهو شبه منسوخ عن مطلع قصيدة الغندول:
أين من عينيّ هاتيك المجالي يا عروس البحر يا حلم الخيالِ
2-معارضة قصيدة الأخطل الصغير “نهر أنا متعب” (ص112-113): وهي بالحري قصيدة “ضفاف بردى”، وتبلغ محاكاة شحادة فيها أحياناً حدّ النسخ كمثل قوله (ص112):
تضرّجت بالحنين الحلو موجعةً واشوق منقادِ عصفورٍ لمنقادِ
فهو مأخوذ من قول الأخطل الصغير في قصيدته تلك:
متواثبين كطائرَين تشابكا وتضارب المنقادُ بالمنقادِ
وتمثّلُ شاعر الكورة بالأخطل الصغير والسير على خطاه معارضة وتشطيراً أمر واضح، ولا غرابة فيه فقد كان في زمنه أسوة لسائر الشعراء.
3-معارضة أغنية “يا أسمر” للأخوين رحباني.
لم يشر شاعر الكورة ولا محقّقة ديوانه إلى هذه المعارضة. فقصيدة “يا أسمر”
(ص91-92) معارضة واضحة لقصيدة للأخوين رحباني غنّتها فيروز ومطلعها
أسمرُ يا أسمرُ طاب بك العنبرُ
وفي لماك انجلى وشعشع الكوثرُ
وهنا نجد أن شاعر الكورة قد أبدع في معارضته هذه. فقصيدته لا تقلّ رقّة وانسياباً جميلاً عن تلك التي غنّتها فيروز. ومطلعها دليل على ما نقول:
ما الخمر يا أسمرُ في كأسها تُعصرُ
تروي ليالي الهوى ويسكر السُمَّرُ