قراءة نقدية في كتاب مهى عزيزة سلطان “الفنّ في لبنان من الانتداب الفرنسي إلى الاستقلال/دار كتب، بقلم لويس صليبا

مكتبة الأمن/أيار-2023

بقلم أ. د. لويس صليبا

مقالة بقلم لويس صليبا، نشرت في مجلّة الأمن/بيروت، عدد أيار 2023

1-الفنّ في لبنان من الانتداب الفرنسي إلى الاستقلال”

“الفن في لبنان من الانتداب الفرنسي إلى الاستقلال 1920-1943″، تأليف د. مهى عزيزة سلطان، صدر عن دار كتب في بيروت في 247ص بالألوان ومن القطع الكبير.

كتاب هو بالحري حدثٌ بحدّ ذاته، وكان يُعمل على أن يصدر بمناسبة الاحتفال بمئوية لبنان الكبير، لكن صدوره تأخّر بسبب الظروف. وهو الأوّل في المكتبة العربية الذي يؤرّخ للفنّ التشكيلي في لبنان في تلك الحقبة البالغة الأهمّية والتي أسّست لما بعدها. وعنها تقول المؤلّفة (ص11): “يحمل وجودنا من جيلٍ إلى جيل بصمات الانتداب الفرنسي التي ما زالت حاضرة في ذاكرتنا ومجريات حياتنا”.

ولأنّه لم يسبق أن أُرّخ للفن التشكيلي في لبنان في تلك الحقبة كان على المؤلّفة أن تتكبّد مشقّاتٍ عديدة لجمع موادّ عملها من وثائق ولوحات ومعطيات وغيرها، وفي ذلك تقول (ص17): “لم يكن سهلاً دراسة تأثير الانتداب الفرنسي على الحياة التشكيلية في لبنان بشكلٍ توثيقي (…) إذ إن البحث عن حيثيّات الزمن المفقود هو عملٌ مضنٍ، خصوصاً أن الحرب قد أودت بأرشيف مجلّة الرفو دو ليبان Revue du Liban، ولم يتبقَّ غير أعدادٍ قليلة يمكن الاستعانة بها عن تلك الحقبة”.

وهكذا فإرثنا الثقافي والفنّي عُرضة للضياع، ولا من يسأل. ومن هنا فبادرة مهى سلطان جديرة بالتقدير والثناء.

وتطول وقفاتنا عند فصول كتابها الأنيق وطروحاته ولوحاته، ولأنّه يستحقّ كلّ اهتمام فقد خصّصنا له أضعاف الحجم الذي نخصّصه لسائر الكتب.

ونبدأ بالملاحظات، وذلك كي لا ننهي مقالتنا بها. وأوّلها العنوان. وكان من الأوفق برأينا أن يكون: “الفنّ التشكيلي في لبنان زمن الانتداب الفرنسي 1918-1943” ما يعني أن العنوان الذي اختير للكتاب يطرح إشكاليّاتٍ ثلاث:

1-كلمة الفنّ عموماً غير مقصورة على الرسم والنحت أي الفنّ التشكيلي بل تشمل كذلك الموسيقى والغناء والرقص وغيرها ممّا لا يتعلّق موضوعه بهذا الكتاب.

2-الحقبة المدروسة والمؤرَّخ لها في الكتاب هي حصراً وتحديداً فترة الانتداب وهذا ما تؤكّده المؤلّفة في مستهلّ مقدّمتها إذ تقول: “يعود هذا الكتاب إلى زمن الانتداب الفرنسي الذي يُعتبر محطّة مفصلية من محطّات تاريخ لبنان”. وبالتالي فحقبة الاستقلال لا تشملها الدراسة، ولا يأتي ذكرها في العنوان برأينا سوى من باب “أدلجة” له وللكتاب عموماً.

3-صحيح أن الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان أُقرّ رسميّاً في مؤتمر سان ريمو 19-26/4/1920، بيد أنّه بدأ عمليّاً وواقعيّاً منذ دخول الجيوش الفرنسية إلى لبنان في تشرين الأول 1918، وكان فرنسوا جورج بيكو قد عُيّن أوّل مفوّضٍ سامٍ لفرنسا على لبنان وسوريا وكيليكيا في 9/4/1918. (صليبا، لويس، لمحات من تاريخ لبنان الحديث، 2021، ص412). والحكم الفرنسي المباشر للبنان يكون بذلك قد امتدّ من 1918 إلى 1943. وهي الفترة التاريخية التي تعتمدها مختلف المصنّفات التي درست هذه الحقبة.

والمدخل التاريخي الذي بدأت به المؤلّفة كتابها كانت برأينا بغنى عنه لا سيما وأنه حوى أخطاء تاريخية عديدة، ومنها: قولها (ص24): “كان المجلس العسكري الفرنسي قبيل ميسلون قام بنفي عدد من القادة السياسيين اللبنانيين من أعضاء مجلس النوّاب العثماني سابقاً إلى كورسيكا”.

والحقيقة أنّهم أعضاء مجلس إدارة متصرّفية جبل لبنان الذي صار اسمه مجلس إدارة لبنان مع بدء الحكم الفرنسي، وليس مجلس النوّاب العثماني. وشتّان بين الاثنين!!

تقول المؤلّفة وتكرّر (ص26): “كان أوّل مفوّض سامٍ فرنسي على لبنان هو الجنرال غورو”. وفي الحقيقة فغورو كان ثاني المفوّضين أمّا الأوّل فجورج بيكو كما ذكرنا!

تذكر (ص22) أن الجنرال غورو دخل إلى دمشق في 15 تموز 1920، وفي الصفحة عينها تقول إن معركة ميسلون وقعت في 24/7/1920 وهذا التاريخ الأخير صحيح. أما الذي دخل إلى دمشق إثر معركة ميسلون في 25/7/1920 فليس الجنرال غورو بل مساعده وقائد الزحف الفرنسي الجنرال غوابيه.

تروي (ص22): “سعى الكولونيل كاترو إلى عزل الدروز عن الحركة الوطنية السورية، فكان أول صدام في تموز 1922، هكذا دخلت الثورة السورية مرحلة من المواجهات تحت قيادة سلطان باشا الأطرش الذي قاد الدروز طوال عام في حرب عصابات ضدّ القوّات الفرنسية”.

هنا تخلط الباحثة بين حدثَين: تداعيات محاولة اغتيال الجنرال غورو قرب القنيطرة في 23/6/1921 والثورة السورية التي لم تندلع إلا ابتداء من 17/5/1925 وفي عهد الجنرال ساراي!! (صليبا، لويس، لمحات، م. س، ص420).

وكثيراً ما نجد المؤلّفة تتحدّث عن لوحات وتتبسّط في وصفها وتحليلها ولا أثر لهذه اللوحات في كتابها!! ومن الأمثلة على ذلك: 1-تحليل لوحة مصرع أدونيس لقيصر الجميّل (ص162)، 2-تحليل جدارية معركة عنجر للجميّل (ص161-162). 3-بورتريه الشيخ محمد الجسر للجميّل. (ص149). 4-الطابع البريدي الذي صمّمه فيليب موراني للرئيس إميل إدّه، وطوابع عديدة أخرى مثل هبوط أول طائرة في الكرنتينا 1938 وغيرها (ص89-90).

ولم يكن وضع صورٍ لكلّ هذه اللوحات بأمر عسير فيتابع من خلالها القارئ تحليل المؤلفة لها!

وإلى ذلك يفتقر الكتاب إلى فهرس للوحات الواردة فيه إسوة بفهرس الأعلام (ص243-247).

وثمّة ملاحظة أخرى في الشكل، فقياس الكتاب خاصّ: 26×22سم، ما أتاح هامشاً كبيراً بالعرض يزيد عن ثلث مساحة كلّ صفحة. وقد خُصّص هذا الهامش عموماً للوحات. إلا أنّنا أحصينا تحديداً 32 ص هوامشها فارغة وتخلو من أيّ صورة مثل ص 23، 25، 26، إلخ… ما يعني أن ثمّة فجوة حقيقية في قياس الكتاب وإخراجه. وإلى ذلك حوى الكتاب 5ص فارغة تماماً (ص4، 10، 230، 234، 248)، و3 صفحات شبه فارغة (8، 9، 242)، وكان من الممكن الإفادة من كلّ هذه المساحات الخالية لعرض المزيد من اللوحات دون أن يؤثّر ذلك بتاتاً على كلفة الطباعة وبالتالي سعر الكتاب!!

وقد رصدنا كذلك عدداً من اللوحات (من بينها لوحة الغلاف :الأرزة) وقد طُبعت على صفحتين متقابلتين (ص18-19، 94-95، 124-125)، ممّا شوّه اللوحة وحرم القارئ متعة تذوّقها!!

كثيراً ما تجمع الباحثة بين فنّاني زمن الانتداب الجميّل وفرّوخ والأنسي والدويهي وزميلهم رشيد وهبي (1917-1993) (ص163 مثلاً) وتتبسّط في الحديث عن تجربة كلّ منهم باستثناء الأخير!! وكان عليها أن تنصف هذا الأخير، أو أقلّه أن تبرّر إغفالها له!

وآخر ملاحظاتنا في الشكل أسلوب المؤلّفة وهو حافل بالجمل الطويلة الموصولة باسم الموصول كمثل قولها (ص229): “هذه السياسة التي تجلّت في لبنان الذي شهد على تأسيس مركز الآثار الذي أداره هنري سيريغ”. ما يجعل عبارة الكاتبة مملّة وركيكة، ويوحي بأنّها بالحري مترجمة! وكان يحسن بها أن تعتمد مدقّقاً ومنقّحاً لغويّاً لكتابها!

ومن أبرز ما استخلصنا من هذا الكتاب القيّم الإشكالية التي تطرحها سلطان في فاتحة دراستها وقبل المقدّمة فتقول (ص9): “ولئن قلّبنا المواجع في تاريخ لبنان لوجدنا أن الثقافة والآداب والفنون كانت وحدها ترتقي وتتعالى على الجراح محلّقة كطائر الفينيق في سماء لبنان”.

وقد نجحت المؤلّفة فعلاً في تبيان دور رسّامي زمن الانتداب في التأسيس لوحدة وطنية جامعة رغم تنافر الولاءات يومها وصراع الانتماءات. فلو أخذنا مصطفى فرّوخ (1901-1957) مثلاً، فابن بيروت (البسطا) هذا (ص133): “كان عروبيّ الهوى، ولبنانيّ الانتماء، وفّق بينهما في فنّه من غير ازدواجية”

وهذا التوفيق “الفرّوخي” الناجح واللافت بين تيّارَين كانا يتصارعان على الأرض اللبنانية يومها نجده واضحاً في لوحته الشهيرة الخليفة معاوية يركب البحر 1939، فالخليفة الأموي الأوّل بنى نحو 632م أوّل أسطول عربي في لبنان مستفيداً من حِرَفيّة اللبنانيين التاريخية في هذا المجال. وركب البحر انطلاقاً من لبنان ليقود حملته لاجتياح قبرص. وفرّوخ يصوّره مع زوجته وهو يهمّ بركوب البحر (ص143-144) وقد “أظهر فرّوخ السمات القياديّة لمعاوية، والمكانة السامية التي تحتلّها المرأة العربية إبّان نهضة العرب الماضية”.

بيد أنّه، وفي ما هو أبعد ممّا ذكرته المؤلّفة، فزوجة معاوية كانت شاعرة مسيحية هي ميسون بنت بحدل (ت80هـ/700م) وهي ابنة زعيم قبيلة بني كلب، ووالدة ابن معاوية وخليفته يزيد. وكانت باهرة الحُسن وتتزيّن بأبهى الثياب، وقد رافقت معاوية في عددٍ من رحلاته، وبقيت على نصرانيّتها كما تؤكّد المستشرقة نابيا أبّوت.

الخليفة معاوية وزوجته ميسون/مصطفى فرّوخ

ويبدو أن مصطفى فرّوخ أراد في لوحته الشهيرة هذه أن يؤسّس لوحدة وطنية راسخة عبر شخصيّة الثنائي معاوية-ميسون المنطلقان من أرضٍ لبنانية نحو فتح قبرص. وتتجلّى وطنية فرّوخ ولبنانيّته بأبهى صورها في لوحته علم الاستقلال (ص227) وفيها يصوّر أمّاً تخيط هذا العلم بحبّ وحنوّ فائقين وتبسطه بين يدي صغيرتها وكأنّها تنشّئها على حبّ لبنان.

وتبقى قضيّة المرأة اللبنانية والعربية عموماً في رأس اهتمامات فرّوخ. وقد جسّد ذلك في رائعته لوحة “السجينان” 1929 وعنها تقول المؤلّفة (ص61): “تكاد تكون أوّل دعوة مبطّنة لتحرير المرأة من قيودها الاجتماعية التي عفا عنها الزمن”. وتضيف محلّلة اللوحة: “توحي بأن المرأة في مرحلة تفكير وانتظار، ولعلّها فتحت القفص للكناري كي يطير، ولكنه لم يخرج بعد. فهي تدرك أنّها سجينة كالكناري إلا أن سجنها مصنوع ليس من القضبان، بل من الاستعداد المتأصّل فيها للاستلقاء كأي شيء آخر داخل حيّز الحريم”.

وقد أبدعت مهى سلطان في تحليلها هذا.

لوحة “السجينان”/مصطفى فرّوخ

وفي السياق عينه تتوقّف المؤلّفة عند لوحة أخرى لفرّوخ هي “السفور” 1929، وتروي قصّتها “الملحميّة”، فتنقل عنه (ص138): “عندما كان يدور الجدال بين طلّاب السفور وطلّاب الحجاب 1923 وقعت حادثة قرب منزلي بقيت عالقة في ذهني الفتيّ مدة من الزمن. فلدى مرور حسناء جميلة ترتدي ثياباً تُبرز مفاتنها هرع صوبها رجل ورماها بسائل الفضّة الحارق الذي ألهب جسدها. (…) لم أحبّ أن أمثّل الحادث كما وقع بقوّته وخشونته… بل أحببتُ أن أمثّل النتيجة، وهي انتصار الفكرة (تحرّر المرأة) ونجاح الدعوة”

رواية ولوحة تظهران رهافة حسّ الفنّان فرّوخ ورقيّه، فقد أحجم عن تصوير الواقعة الفظّة لما فيها من وحشيّة واضحة، واكتفى بتصوير النتيجة أي حرّية المرأة وتحرّرها!!

وتخلص سلطان في دراستها لفرّوخ إلى أنّه (ص137): “آمن بلبنان موطناً للجمال، فهام به حبّاً، ورسمه ساحلاً وجبلاً، من المدن إلى القرى النائية والأرياف حتى أضحت مناظره سجلّاً حافلاً عن لبنان”. وهي تنقل عن الناقد نزيه خاطر حكماً “نزيهاً” جاء فيه (ص146): “فرّوخ يدٌ ذكيّة، وعينٌ صادقة، وعاطفة تحت السيطرة، فهذا البيروتي في انتمائه الكامل لمدينته كان لا يملك سوى لوحته عتاداً وحيداً يطمح من خلاله أن يغيّر العالم”.

 علم الاستقلال/لوحة بريشة مصطفى فرّوخ

ولا يقلّ وطنيّة عن فرّوخ، وتأثيراً في الوحدة الوطنيّة الناشئة زميله الرسّام قيصر الجميّل (1898-1958) الذي عُرف ب”رينوار لبنان”. تنقل عنه سلطان (ص149) الحادثة التالية (1926): “لمّا بلغ صيته مسامع الشيخ محمد الجسر، وهو يومئذٍ ناظر المعارف، زاره في محلّ عمله وشاهد آثاره الفنّية فأعجب بها كثيراً، فاقترح عليه أن يسافر إلى باريس على نفقة الحكومة اللبنانية، فكان لاقتراحه أجمل وقعٍ في قلب المصوّر اللبناني”.

وليتنا نتعلّم من هذا الرعيل اللبناني الأوّل بعضاً من أسس الوطنية التي تتخطّى الطائفية والانتماءات الصغيرة. فهذا الشيخ المسلم، والمشايخ غالباً ما عُرفوا بتحريمهم لفنّ الرسم، يعرض على فنّانٍ مسيحيّ ناشئ السفر إلى باريس كي يدرس على حساب الحكومة اللبنانيّة!

ويعبّر الجميّل عن فائق امتنانه لهذا الزعيم الديني والوطني (ص149): “أنا مدين في إتقان التصوير والتعمّق في أصوله وقواعده، إلى الشيخ محمد الجسر، ولستُ مديناً لأحدٍ سواه، فهو وحده الذي شجّعني على متابعة العمل، وهو وحده الذي سهّل لي سُبل السفر إلى باريس”.

وتخلُص المؤلّفة: “وقد خلّد الجميّل وجه الشيخ الجسر في لوحة بورتريه تقديراً له، وهي من الصور القليلة التي يتموضع فيها رجل دين أمام فنّان”.

قصّة “الشيخَين” الجميّل والجسر تستحقّ أن تروى، لا بل أن تكون أيقونة لنا وعِبرة في زمن تأجّج الطائفية المقيت هذا وكأنّنا نتقدّم بالرجوع إلى الوراء.

وممّا تلحظه سلطان في تجربة هذا الفنّان وشغفه بالطبيعة ومذهبه الانطباعي (ص160): “إن صنّين بالنسبة للجميّل كان منبعاً للإلهام، وهو بأهمّية سانت فيكتوار بالنسبة لسيزان”

وتخلص المؤلّفة إلى ملحوظة مأساويّة (ص165): “كانت وصيّة قيصر الجميّل أن يتحوّل منزله إلى متحف لكي يذهب كلّ فنّان ويرى بداياته وصعوده (…) ولكن أمنيته ضاعت هباء، ومتروكاته الثمينة تفرّقت دون أن يحتويها متحفٌ وطني”.

وليست مأساة الجميّل هذه شواذاً عن القاعدة، بل بالحري، ومع الأسف الشديد، القاعدة العامّة بالنسبة إلى معظم فنّاني هذا الوطن الذي ما اعتاد أبناؤه بعد أن يقدّروا مبدعيهم حقّ قدرهم ويحفظوا إرثهم من الاندثار!!

 

ومن خلاصات المؤلّفة التي استوقفتنا وتستحقّ إطراقة وتبصّراً اعتبارها الانطباعية اللبنانية ترجمة عملية لما سمّي لبنان الكبير، تقول (ص128): “ارتبطت مرحلة الانتداب بصعود الانطباعية في الفنّ اللبناني. فجاءت كتفسير عملاني ميداني لمفهوم دولة لبنان الكبير ككيان مستقلّ بحدوده الجغرافية وتراثه وحضارته”.

وقد عمد فنّانو لبنان من مسلمين ومسيحيين إلى اكتشاف الطبيعة اللبنانية كما يكتشف المرء كنزاً مخبوءاً وتخليدها في لوحاتهم. (ص128): “فكان ذلك من أبرز العوامل التي ساعدت على انبثاق ذلك الشعور الوطني بأهمّية اكتشاف الطبيعة الجغرافية للبنان بشمسه وجباله ووهاده وريفه ومدنه وقراه”.

ولم يكن فنّانو لبنان مجرّد ناقلين لانطباعية أجنبية (ص130): “لم تكن الانطباعية الفرنسية التي تأثّر بها الفنّانون اللبنانيّون إلا قالباً خارجيّاً لفحوى الموضوعات التي تصف طبيعة لبنان الثلاثينات بنوستالجيا اللون الحارّ والنور الوهّاج للأمكنة وأوجه الحياة بحثاً عن هويّة”

ولا بدّ من أن نسجّل للفنّانين اللبنانيين هذا البحث الدؤوب والمستمرّ عن هوية بل ونجاحهم في العثور عليها وسط الصراع المتفاقم بين فينيقية مستعادة Néophénicianisme وعروبة ناشئة جاءت في البداية ردّة فعل على حركة التتريك الاستبدادية من جانب العثمانيين. وقد نجح مصطفى فرّوخ مثلاً، وإلى حدّ بعيد، في مسعاه التوفيقي وفي مشروعه التأسيسي والنهضوي كذلك. تقول الباحثة (ص216): “طالما تساءل مصطفى فرّوخ عن مشروعيّة بناء وطن بلا فنّ يعبّر عنه. لذا كان يلازمه شعور بمسؤولية التأسيس لنهضة فنّية تقوم على استلهام الطبيعة اللبنانية تعبيراً عن حرّية الأرض ويقظة الروح معتبراً لبنان ثمرة لقاء الحضارات فينيقيّة ومسيحية وإسلاميّة”.

وممّا أفلحت الباحثة في التركيز على أهمّيته وعمق دلالته وأبعادها أواصر العلاقة الوشيجة التي قامت يومها بين الفنّ التشكيلي والأدب بمختلف أنواعه (ص216): “لعلّ أبرز سمات المرحلة الانطباعية هي ارتباط الفنّ بالأدب. فالفنّانون والأدباء مشوا في دروب واحدة تجمعهم هواجس مشتركة يتقاسمون حبّ لبنان بالكلمات والريشة والألوان في مسارٍ متناغم الأوصال”.

ولا تغفل المؤلفة ذكر وتعداد ما واجه فنّانو لبنان من صعوبات وعقبات في مجتمع تغلب عليه النظرة المادّية والنفعية (ص226): “حاربوا من أجل الفن في وطن الدرهم والمصرف، وهيّأوا الطريق لمن سيأتي بعدهم ويحبّ ما أحبّوه”.

وكان لا بدّ لهم من أن يجهدوا ويضحّوا باستمرار (ص232): “كان قدر فنّانينا أن يعيشوا بصمت وعزلة مترهّبين للفن، مخلصين لمبادئهم الفنّية”

وكان لا بدّ لهذه التضحيات من أن تثمر على مستوى الوطن ككلّ وحضوره في محيطه (ص233): “بالرغم من كلّ المصاعب التي واجهها الفنّانون في لبنان نجد أن بيروت لعبت دوراً ثقافيّاً استقطابيّاً في الحقبة الجميلة من ثلاثينات القرن العشرين. حتى تحوّلت إلى مدينة كوزموبوليتية في أواسط الخمسينات والستّينات. فقد بادرت إلى احتضان مختلف تيّارات الحداثة في الفنّ والأدب حتى أصبحت ملتقى الفكر الإبداعي العربي وصلة الوصل بين الشرق والغرب”.

والملاحظ في رسّامي زمن الانتداب توزّعهم في مناصفة عددية بين مسلمين ومسيحيين وإجماعهم على انتماء لبنانيّ لا لُبس فيه، رغم تمايز كلّ منهم في فهم لبنانيّته وعيشها. فكانوا فعلاً السبّاقين إلى ميثاقٍ وطني غير معلن كان النواة الأولى وخير ممهّد لميثاق 1943.

وممّا قد يؤخذ على كتاب مهى سلطان طغيان الجانب التاريخي السردي على التحليل والنقد الفنّي الذي لم يغب بيد أنّه بقي خجولاً إلى حدّ ما إذا ما قورن بالمباحث التأريخية الطويلة.

وممّا لا شكّ فيه أنّه كتابٌ موسوعي جامع بُذل فيه الكثير من الوقت والجهد في التفتيش عن الوثائق واستنطاقها واستقرائها والبحث عن الصور واللوحات لا سيما وأن الكثير منها يعود إلى مجموعات فردية وخاصّة ليس الوصول إليها بالأمر اليسير.

وفي الخلاصة فقد جاء هذا الكتاب الشيّق والأنيق المميّز ليسدّ ثغرة حقيقية في المكتبتَين العربية واللبنانية، ويؤرّخ بنهجٍ أكاديمي راقٍ لحقبة من تاريخ لبنان الثقافي لمّا تزل مهملة ولم تأخذ حقّها بعد من الاهتمام والدرس. وعمل مهى عزيزة سلطان سيبقى بلا ريب رائداً وتأسيسيّاً في هذا المضمار.

«»«»«»«»«»([1])

[1]

شاهد أيضاً

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트 이 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *