مراجعة لكتاب عتيق أنور صدّيقي “تاريخ الهند: ثقافتها وفنونها الجميلة”/منتدى المعارف/بيروت، بقلم لويس صليبا
“تاريخ الهند: ثقافتها وفنونها الجميلة”، تأليف عتيق أنور صدّيقي، ترجمة البروفسور حبيب الله خان، صدر عن مؤسّسة الفكر العربي ومنتدى المعارف-بيروت في 326ص.
دراسة بقلم لويس صليبا، نشرت في مجلّة الأمن/بيروت، عدد أذار 2023
يقول المؤلّف متحدّثاً عن ظروف وضع كتابه وميّزاته (ص15-16): “في أثناء عملي منذ [خلال] 16 سنة في المتحف القومي ودوائر الآثار في الهند، لم أكتفِ بالاطّلاع على المعلومات التاريخية من خلال الكتب، بل حاولتُ، قدر المستطاع، أن أقفَ على مصادر الآثار الحضارية، وكيفيّة العثور عليها ووصولها إلينا، فزرتُ تلك الآثار شخصيّاً، وكلّ ما استطعتُ جمعه من موادّ خلال هذه الفترة أقدّمه في هذا الكتاب”.
ما يعني أن الكتاب لا يكتفي بنقل ما في المصادر الأخرى، بل هو أوّلاً محصّلة عملٍ حقلي وخبرة وتجربة طويلة في حقل المواقع والآثار.
أما المترجم فيشرح أسباب اختيار هذا الكتاب بالذات وتعريبه عن الأُردية، فيقول (ص22): “لمّا بدأنا البحث عن كتاب جامع وقع اختيارنا، بعد بحثٍ حثيث، على هذا الكتاب الذي جمع بين دفّتَيه كلّ ما يمتّ إلى الهند بصلة من قريب أو بعيد، ولم يترك موضوعاً أو جانباً مهمّاً جديراً بالذكر إلا وأدخله فيه تفصيلاً أو إيجازاً، فجاء الكتاب مثل موسوعة صغيرة جامعة في هذا الموضوع”.
ونبدأ رحلتنا مع المؤلّف في تاريخ الهند العريق. نقرأ (ص28): “يعود تاريخ قصّة الحياة البشرية في الهند إلى نحو 500 ألف سنة أو ما نعرّفه باسم العصر الحجري”.
وعن تراث الهند الكتابي نقرأ (ص30): “يُعدّ الفيدا أقدم كتاب ليس في الهند فحسب، وإنّما في العالم كلّه”.
ويتوقّف المؤلّف مطوّلاً عند أقدم الآثار المكتشفة في الهند والتي تعود إلى عصر موهينجو دارو (نحو 4500 ق م)، فيسجّل ميزة للحضارة الهندية في اللاعنف تعود حتى إلى تلك الحقبة!! يقول (ص46-47): “تاريخ صنع الأسلحة يعود إلى عصر موهينجو دارو. وفي ضوء ما وصلت إليه البحوث والاكتشافات إلى حدّ الآن يمكن الاستنتاج أن الأسلحة التي صنعها الإنسان في ذلك العصر كانت تُستخدم لإنجاز الأعمال المنزلية، أو لصيد الحيوانات فحسب، ولم نعثر على ما يدلّ على استعمالها في الحروب أو القتال بين الأفراد والجماعات”
واضحٌ أن الهند عريقة في اللاعنف، وهو راسخٌ فيها ليس من زمن كبير معلّميه غوتاما بوذا ولا تلميذه المعاصر المهاتما غاندي، بل هو أقدم من ذلك بآلاف السنين، وكأنّه جزء من طبع إنسانها المسالم وطبيعته.
ونرافق المؤلّف في جولته على أديان الهند، فنقرأ له مقارنة مجدية بين ديانتَين ظهرتا فيها (ق6 ق م) (ص34): “ثمّة مماثلة كبيرة بين تعليمات [تعاليم] الديانتَين الجينية والبوذيّة. مع فارق بسيط وهو أن الأولى تشدّد على انتهاج النهج المتطرّف في كلّ الأعمال، في حين تفضّل الثانية انتهاج النهج الوسط أو المعتدل في الأمور جميعها”.
ونقرأ عن هارشافاردها أحد كبار ملوك الهند عبر التاريخ ما يلي (ص41): “تولّى الملك 606م. وفي غضون ستّ سنوات أخضع معظم مناطق الهند باستثناء الدكن أي جنوب الهند لسيطرته، واعتنق في أواخر أيّامه الديانة البوذية”.
نقاط شبه عديدة بأشوكا كبير أباطرة الهند وملوكها عبر التاريخ: كلاهما كانا قائدَين عسكريين كبيرَين ثم اعتنقا البوذية فأقلعا عن استخدام العنف!
ومثل أشوكا كان هارشافاردها متسامحاً دينيّاً (ص41-42): “ومع أنّه اعتنق البوذيّة كان يحترم الهندوسية وأتباعها احتراماً بالغاً. وكان أديباً بارعاً ومولعاً بالفنّ، ووضع عدداً من المسرحيّات، توفّي 647م”.
وأيضاً كأشوكا اهتمّ هارشافاردها بنشر العلم وفتَحَ المدارس والجامعات، وأكرمَ العلماء وحماهم (ص42): “وكان هذا الملك متعلّماً ومهتمّاً بترويج [نشر] التعليم بين رعيّته، فقام بإنعاش جامعة نالاندة وضمّن منهجها العلوم والفنون الحديثة. وفي عهده جاء الرحّالة الصيني الشهير هيون سانغ إلى الهند، وخرج الملك بنفسه ليستقبله. ودرس هيون سانغ البوذية في جامعة نالاندة. وكانت هذه الجامعة تؤمّن التعليم مجّاناً، وكذلك تسهيلات السكن لطلّابها”.
ويُبدي المؤلّف اهتماماً ملحوظاً بالآثار والكهوف الفنّية في الهند مثل كهوف أجانتا (ص87): “تقع في مدينة أورنغ آباد في ولاية مهاراشترا، ونالت شهرة عالميّة لما يوجد فيها من صور قديمة نادرة وللتصميم المعماري الرائع الذي تتميّز به. وكان البوذيّون قد بنوا في قرون ما قبل الميلاد معابدهم في شتّى أنحاء آسيا الوسطى لنشر ديانتهم، وشيّدوا الأنصاب التذكاريّة المعروفة بـ ستوبا Stupa. وتمثّل كهوف أجانتا مظهراً من مظاهر تلك الحركة الدعويّة للبوذية، وقد بُنيت خلال أربعة قرون (ق2ق م-ق2م)، وتصوّر الرسوم مشاهد وقصص من حياة بوذا”.
كما يخصّ الكاتب تراث الهند الأدبي والروحي بوقفةٍ مطوّلة لما فيه من غنى ولما يحوي من دروسٍ وعِبر لإنسان اليوم. ومن أبرز النفائس الشعرية الهندية وأقدمها ملحمة المهابهارتا (ص154-155): “يرى بعض المؤرّخين أنّها تمثّل أقدم الحضارات الهنديّة على الإطلاق. (…) وخبراء الآثار عثروا على ما يُثبت وجود المستوطنات البشرية منذ نحو ستّة آلاف سنة”
وهنا يطرح الباحث سؤالاً أساسيّاً (ص156): “هل فعلاً وقعت معركة المهابهارتا، أم هي قصّة خرافية؟”
تعدّدت الإجابات بين تأكيدٍ ونفي، بيد أن فصل الخطاب في هذه المسألة المحيّرة جاء من الأركيولوجيا (ص156): “للردّ على هذه الأسئلة قام كبار علماء الآثار في العقد الخامس من ق20 بالحفر ومن خلال العثور على بعض الصحون الطينية والزعفرانية والأسلحة استطاعوا الحصول على معلومات عن السكّان الذين ورد ذكرهم في المهابهارتا، ومعرفة الفترة الزمنية لذلك العهد”.
وحملت الاكتشافات الأركيولوجية الجواب القاطع (ص157): “يتّضح في ضوء هذه البحوث أن معركة المهابهارتا حقيقية وليست خياليّة ووقعت قبل ثلاثة آلاف سنة تقريباً” !
والغزو الإسلامي للهند كان حدّاً فاصلاً في تاريخها وتطوّرها (ص43): “بوصول الحكّام العرب والمسلمين إلى الهند تحت راية الإسلام انتهى عصر الهند القديم، وبدأ عصر القرون الوسطى”.
وأشهر حكّام الهند في العصر الإسلامي وأعمقهم تأثيراً كان الأمبراطور المغولي أكبر (حكم نصف قرن 1555-1605م)، (ص67): “خلال عهده شهدت الهند استقراراً سياسيّاً لأنّه قرّب إليه الملوك الراجبوت من خلال إقامة علاقات الصداقة والمصاهرة معهم وتعيين الهندوس في المناصب المهمّة، وانتهاج الوسطية في سياساته التي قضت على التطرّف”.
وكان محبّاً لتراث الهند الأدبي والفنّي (ص68): “اهتمّ أكبر بترجمة الكتب السنسكريتية إلى اللغتَين الفارسية والعربية، كما تُرجمت أهمّ الكتب الإسلامية إلى اللغتَين الهندية والسنسكريتية. (…) وكان أكبر ملكاً رفيع الشأن جعل الهند تتبوّأ مكانة بارزة في تاريخ العالم بأسره”.
وخلافاً لأكبر كان حفيده أورنغ زيب (حكم نصف قرن 1658-1707) الذي عُرف بتطرّفه وتعصّبه، فسادت في عهده القلاقل والاضطّرابات وآذنت شمس المغول إلى المغيب (ص70-71): “لم يتمكّن أورنغ زيب من الحفاظ على الحكومة التي أقامها أجداده. وبسبب قسوة مزاجه وتطرّفه الديني ضعف الانسجام الديني بين المسلمين والهندوس بعد أن كان أجداده قد عملوا على تعزيز الثقافة المشتركة بين المسلمين والهندوس. (…) والهند لكونها بلداً متعدّد الديانات كانت بحاجة إلى حاكم يحترم الديانات كلّها ويشارك في طقوسها وتقاليدها. فكلّ ما كان يجري على أرض الواقع كان عكس المطلوب، ولذا بدأت الأمبراطورية المغولية تضعف تدريجيّاً على جميع الصُعُد. وعندما توفّي أورنغ زيب 1707م كانت الحكومة المغولية قد بلغت من الضعف درجة كبيرة”.
إنها شهادة من مؤرّخٍ مسلم قيّمة وعميقة الدلالات تُظهر كم أن الاعتدال والتسامح وأخذ الرعيّة بالحُسنى أمور ضروريّة لحكمٍ ناجحٍ وعهدٍ مزدهرٍ ولا سيما في بلدان تعدّدية كالهند ولبنان وغيرهما. وكلّ حاكمٍ لا يسوس رعيّته بهذه المزايا مصيره أن يَتعب ويُتعبها بلا طائل، وأن يودي بدولته إلى الانهيار والزوال. وحُكم أورنغ زيب مثلٌ بيّنٌ على ذلك، ويبقى عِبرةً لكلّ معتبِر!!
وفي تقييم عامّ لهذه الموسوعة التاريخية والحضارية المصغّرة، فالمشاهدات والمعاينات الحقلية المباشرة في المواقع الأثرية والمتاحف وغيرها هي نقطة قوّه هذا الكتاب. في حين أن نقطة ضعفه الكبرى، والتي لا تقّل أهمّية وخطورة عن نقاط القوّة أنّه غير موثّق ورواياته معظمها مرسلة، ولا هوامش لمتونها. أما الترجمة فتبدو أحياناً غير دقيقة. والمثل البيّن على ذلك عند الحديث عن البيروني (ص232): “أطهر البقيّة” [الآثار الباقية]. وهو عوض أن يعود إلى نصوص البيروني المكتوبة بالعربية يعمد إلى ترجمتها عن الأردية ما يجعلها تحوي العديد من المعاني المعاكسة للأصل كمثل نصّ ص163.