قراءة نقدية في تجربة بيار شديد الفنّية/كلمة د. لويس صليبا في الاحتفال التكريمي لهذا الفنّان الراحل/جبيل/مسرح ثانوية راهبات الوردية 14 /1 /2023
بيار شديد الفنّان الذي أُولع ردحاً طويلاً من الزمن بالدائرة، وبما أسماه الحقيقة الدائرية للكون، وعبّر عنها مراراً وتكراراً في لوحاته، رسم بالحري دائرةَ حياته بريَشٍ عديدة وألوانٍ متنوّعةٍ وكأنّه يُنجز واحدةً من لوحاته. فبين اللوحةِ والحياة في مفهومه وعيشه وحدةُ حال.
بحثَ بيار عن ذاته الفنّية في كلّ المدارس فما ترك تيّاراً إلا وخاض غماره وكانت له فيه صولاتٌ وجولات: وبقي فيها كلّها لا يشبه إلا نفسه، لأنّه بالحري كان في فنّه يفتّشُ عن ذاتِه.
يذكّرني بيار شديد أحياناً ببيار ثانٍ هو أستاذي في الفلسفة الإغريقية في السوربون الفيلسوف بيار هادو (1922-2010) Pierre Hadot وطالما كان يكرّر أن الفلسفة القديمة كانت قبلَ كلِّ شيء أدبَ حياة، وتمريناً روحيّاً وبكلمة مختصرة كانت ممارسةً للوجود وطريقةً للعيشِ والموت.
أوليس هذا ما يمكن أن نستخلصه من تجربة بيار شديد الفنّية؟ فاللوحةُ كانت بالنسبة إليه وكما يقول: هي النافذة التي توصلني إلى أعماق الذات.
وبيار يَبعُد هنا عن شعارٍ حداثيّ يقول بالفنّ للفنّ. فالرسم عنده هو بالحري مِرانٌ ودُربة وارتقاء. وهو في تجربتِه ومفهومه وممارسته للفنّ يُعيدنا إلى شعار أفلاطون القائل: “أسمى الجمال طلبُ الحقِّ والخير”([1]).
وما كان بيار يساومُ في فنّه، ولا يقبلُ أن يرسِمَ طِبقاً لما يُطلب منه، بل بالحري وفقاً لما يرى ويُحسّ، وكم أضاع من فرصٍ كان من شأنها أن تُدِرَّ عليه ربحاً وفيراً لأنّه لم يقتنع بما طُلب منه أن يرسمَ أو ينحت، ولا هو حتى قَبِلَ بتدخّلِ طالبِ العمل الفنّي بتفاصيل ما يرسمُ أو ينحت. وما كان ذلك سوى تجسيدٍ لتقديسه لفنِّه. والأمثلة والأحداث في هذا المجال عديدة وقد روى لي بنفسه عدداً منها. ويومها تذكّرتُ وصيّةَ المعلِّمِ الأوّل أرسطو لتلامذته القائلة: “ليس على الفيلسوف أن يُطيع غيرَه، بل يجبُ أن يكونَ هو المُطاع”. (شيّا، م. س، ص28). فقلتُ لبيار إنه طرحٌ ينطبقُ على تجربتِك بمجرّدِ أن تُحلَّ كلمةَ الفنّان أو الرسام محلَّ عبارة الفيلسوف، وكم أعجبَه كلامي هذا وتأمّلَ فيه.
وبيار شديد مسيحاني الهوى والتجربة Christique في فنّه المقدّس، وأيضاً في ما رسم من دوائر بما في ذلك سيرتَه ومسيرته الفنّية. وأيقوناتُه التي تصوّر المسيح كانت بمجملها نتاجَ تفتيشِه الدائم عن حقيقة الوجود التي رأى في شخصيةِ يسوع ووجهِه تعبيراً عنها. ومِسكُ الختام في هذه المسيرة الفنّية الحاشدة كان بآخر لوحة رسمها: مسيح الرحمة الإلهية.
إنّها بحدّ ذاتها دائرةٌ أخرى وأخيرة ممّا رسم بيار شديد من دوائر. حَلقةٌ مسيحانية تجسّدُ على خير ما يرام قولَ الفادي في سفر الرؤيا 1/8: {أنا هو الألف والياء}. وتصوّرُ كذلك المسار الكوني الذي لخّصه بيار ثالث هو تيار دو شاردان في رؤياه الفلسفية والروحية بقوله: “المسيح هو نقطة الالتمام Point de Convergence الحقيقية كنقطة الألف Alphaأي الخليقة في المسيح والياء Oméga (تحقّق الكون في المسيح) وهو النقطة/الملاذ الأخير التي يتوجّه الكلّ نحوها”.
Le Christ est un vrai point de convergence, comme Alpha (création dans le Christ) et Omega (accomplissement du Cosmos dans le Christ), vers lequel, en dernier ressort, tout converge (Christo-Genèse) ([2])
وأيّاً يكن حكمُ الجمهور والنقّاد على تجربة بيار شديد الفنّية الغنيّة، يصعبُ على المرء أن يُنكر أنّه نجح بأن يضفيَ على نتاجه، وفي مختلف مراحله، مُسحةً مميّزة من جمالٍ وإبداع ترجمت انطباعاتِه بصدق وعشقَه للفنّ وسعيه لتطوير ذاته، وعبّرت عن بحثه الدؤوب عن سرّ وجوده والوجود.
«»«»«»«»«»([3])
[1] -شيّا، د. محمد، دراسات فلسفية وجمالية قضايا وأعلام، بيروت، منتدى شاعر الكورة الخضراء، ط1، 2023، ص85.
[2] -Figura, Michael, Teilhard de Chardin, Pierre (1/5/1881-10/4/1955), Article in Dictionnaire de la mystique, Paris, Brepols, 1993, pp735-736.
[3] –