تريز سمعان صليبا واجهت الحياة كما الموت ببسمة، كلمة في أربعينها بقلم د. لويس صليبا/كنيسة مدرسة فرير جبيل-الأحد 26/6/2022
تريز سمعان صليبا وصورة الأربعين
جيلٌ مباركٌ يودّع، جيلٌ علّمنا القيَمَ يتوارى بفعل تقادم السنين ومرور الزمن.
تريز سمعان صليبا (12 /1 /1936-16 /5 /2022) من أواخر حبّات هذا العنقود الميمون. تريز النسيبة، والجارة الطيّبة المُحِبّة والتي تعملُ عفواً وبالفطرة بموجب المثل اللبناني القائل: “ريد الخير لجارك، بتلاقيه بدارك”([1])
كانت تريز بحبّها واهتمامها وبشاشتها بمثابة أمٍّ ثانيةٍ لي. منها تعلّمتُ أن أواجه الحياة وصعوباتِها بجدٍّ وبسمةٍ في آن. تقضي وقتها دائماً بما يفيد: خيّاطةٌ ماهرة، وكان مَشغلُها الصغير الملاصق لبيتها والمستقلّ عنه في آن مَلقىً لأهل الحيّ، ولا سيّما نسائه وصباياه وصغاره كذلك. وهذه الغرفة الصغيرة لا أزال أحفظ عنها أحلى الذكريات، فكلّما أضعتُ أمّي أجدُها في مشغلِ تريز. فكلاهما لا يطيقان إضاعة الوقت. والصبحيّات العامرة في مشغل تريز كانت تجمع الممتعَ إلى المفيد. وهذه الجارة الخيّاطة لم تكن تبخُل بأن تعلِّمَ أسرارَ مهنتِها لمن تهتمُّ جدّياً بذلك وتطرحُ السؤال. وقد تعلّمَتْ أمّي منها الكثير، وكانت تُمضي أوقاتاً مديدة في مساعدتِها بطيبِ خاطر، ودون مقابل، لأنّ تريز كانت كريمة النفس، وطيّبة المعشر.
وعن تعلّق تريز بالأرض وهي زهرةٌ من أزهارها، وابنةُ الأرض الطيّبة سبرين فحدّث ولا حرج. وكم كنّا ونحن صغار نستحلي أن نتجوّلَ في حديقتها، ونستمتِعَ بمشهدِ وأريج ما تزرع من أزهارٍ ونباتات، وتكادُ هذه الحديقة تكونُ من الجنائن المعلّقة.
وحتّى سهراتُنا الطفولية كانت تعمُر في بيتها المضياف، فنتابعُ البرامج والمسلسلات التلفزيونية معها ومع أبنائها ميرنا ومروان وديزيريه، فتحلو الجلسة، ويكون لهذه البرامج، في جوّ الجماعة الودودة هذا، طعمٌ آخر، ومتعةٌ أخرى.
تلك مشاهدُ وذكريات من الستّينات والسبعينات من القرن الماضي، لمّا تزل راسخةً في المخيّلة، ومحفورةً في القلب لعُمق تأثيرها. فماذا عن السنوات الأخيرة من حياةِ فقيدتِنا؟! وكانت كما تعلمون ونعلم سنواتِ بلوى ومصائب على الوطن.
كانت تريز ثابتةً في علاقاتِها، مخلصةً في صداقاتِها، وفيّة لا تنسى رفيقات الدرب. ولا تقصّرُ في واجبٍ تجاههنّ. كبُرت أمّي وشاخت قبلها، رغم أنّهما من جيلٍ واحد. فكانت تريز تزورها وتعودها باستمرار. وكم كنّا نعجب من جَلَدِها على المشي في ذاك العمر، وقطع المسافات على قدمَيها. أمّا هي فكانت في حركةٍ دائمة، لا تعرف الخوف ولا الغضب، ولا يعرفُ قلبُها حقداً ولا ضغينة. تعيشُ اللحظة الآنية بملئها، تذكرُ الأيام الخالية بحبّ ولكن من دون حسرةٍ وخيبة، فتفاؤلُها الدائم، وهو سمةٌ من سمات شخصيّتها الأساسية، كان يأبى أن لا ترى في الزمن الراهن سوى المصائبَ والفواجع. وكانت كلُّ زيارةٍ تقوم بها لأمّي بمثابة حُقنةٍ من التفاؤل والإقدام لهذه الأخيرة.
وهندوما كانت تسألُ دوماً عنها:
-قولك رح تجي ترّوزا عالصبحيّة اليوم؟! وكانت تدعوها بهذا الاسم تحبّباً. والقهوة لا تحلو إلا بحضورها. وصبحية الترّوزة يمتدّ أثرها ومفعولها الإيجابي طيلة النهار. وإن تأخّرت عن الزيارة يوماً أو اثنين تبادرنا:
-اتّصلوا بترّوزا انشغل بالي عليها.
وكانت قُدرة تريز على أن تُحِلّ الفرح والتفاؤل حيث تَحُلّ عجيبة، ذلك أن فرحَها كان ينبعُ من ذاتِها ومن تجربتها وفلسفتها الإيجابية في الحياة، ومن إيمانها المسيحي العميق المؤسَّس على الرجاء.
وكان موقفُها من الموت يسترعي دوماً انتباهي. تحزنُ لفَقد أحبّائها وأصدقائها وأبناءِ جيلها دون أن تتفجّع، وبالأخصّ دون أن تخافَ على نفسها من أن يصلَها الدورُ كما هي حال غالبيّة من هم في عمرها. وهكذا فقد تعامَلَتْ مع الموت تعاملَها مع الحياة أي ببسمةٍ وإقدام. وصورة الأربعين في هذا الاحتفال مثلٌ بيّن على ما أقول. فقد أُخذت لها في عُرس حفيدتها جسيكا عوّاد في 23 /9 / 2018. يومها رآها المصوّر بوجهها المشرق فقال لها ممازحاً:
-تريز تبدين متألقة وأنيقة، تعالي لنأخذ لك صورة الأربعين.
فلم تقلقها الفكرة، بل زادتها بشاشة على بشاشة، وواجهت الكاميرا ببسمتها المعتادة، وكأنها تواجه الموت، وتحتفل بمرور الأربعين على وفاتها!!
وبَعد… فكلّما ذكرتُ هذه الجارة والنسيبة الطيّبة تحضرُني آياتٌ من الكتاب المقدّس أشعرُ وكأنّها كُتبت عنها، وتصفها حصراً. ففي سِفر الأمثال (31/10-19) نقرأ: {المرأةُ الفاضلة أين تجدُها؟ إن قيمتَها فوق الجواهر} وتضيف آيات الكتاب واصفةً تلك المرأة: {المرأةُ القديرة تاجٌ لزوجها، إليها يطمئنّ قلبُ الزوج فلا يعوِزه مغنَمٌ. تحمِلُ له الخيرَ دون الشرّ طول أيّامِ حياتها}.
أفلم تكن تلك حال تانت تريز مع عمّو زخيا؟!
بل وحالها ليس معه وحسب، بل ومع أكثر معارفها وأحبابها حاملةً الخير ليس إلا لكلّ هؤلاء.
وتتابعُ آياتُ الكتاب المقدّس راويةً واصفة، فتقول: {تلتمسُ صوفاً وكِتّاناً، وتعمَلُ بحُذقِ كفَّيها. (…) تتأمّلُ حقلاً فتشتريه. تلقي يدَيها على المِكبّ، وتُمسِك بكفّيها المِغزَل. (…) تصنعُ ثياباً وتبيعُها، وتعرضُ أحزمةً على التاجر}.
ذاك كان دأب تلك الخيّاطة الماهرة الراحلة سحابة سنواتٍ طويلة: تخيط القطن والصوف وغيره، وتصنع ثياباً منها وتبيعها، وتدبّر أمورَ بيتها وعائلتها مع زوجها بحنكةٍ ودراية.
وماذا يكون جزاء امرأة كهذه؟! يختمُ سفر الأمثال آياتِه بتعظيم تلك المرأة الفاضلة، فيقول: {للمرأة التي تخافُ الربَّ كلُّ المديح. فأعطوها من ثمر يديها، ولتمدحْها أعمالُها في المجالس} (أمثال31/30-31).
أجل فلامرأة قديرة كتريز كلّ مديح، وثمارُ أعمالها، في الدنيا كما في الآخرة، طيّبة.
وكان آخرُ لقاءٍ لي بتريز في عيد الأمّهات في 21 أذار الماضي. أردتُ يومها أن أزورَها وأهنّئها بالعيد لأنّها خير من يذكّرني بالحبيبة الراحلة في عيدها. فاستقبلتنا ببسمتها المعتادة ووجهها المشرق رغم ما كانت تعانيه من آلام. وما كنتُ أدري أنّه سيكون اللقاءَ الأخير، إذ بدت وكأنّها قد تغلّبت على المرض والآلام! وبهذه الزيارة الختامية اكتملت الحلقة، وعادت إلى نقطة البداية والتي منها انطلقت:
-تريز المرأةُ الفاضلة والأمّ التي تعيدني إلى أحضان أمّي وتذكّرُني وتذكّرُ غيري بالأمّ بأبهى مزاياها.
وهكذا ماتت تريز كما عاشت، وواجهت الموت كما ألفت أن تواجه الحياة ببسمةٍ وأملٍ ورجاء. عاملة بموجب آية الكتاب القائلة: {لا تحزنوا كسائر الناس الذين لا رجاء لهم} (تسالونيكي4/13).
وبعد… أردتُ أن أتحدّث عن الأمّ وأن أتحدّثَ عن أمّي، فأدركتُ أنّني أمّي.
وأمّ كهذه التي نستذكرُ اليوم في أربعينها تبقى عصيّة على الوصفِ والتأبين!
تريز سمعان صليبا سلّمي على هندوما، وعلى ديبة وسمعان والدَيكِ وعلى عمِّك وامرأتِه جبّور وسيدة وعلى أخيك طانيوس الدبّوس وسائر الأحبّة الراحلين. وارقدي بسلامٍ، فالطيّبون من أمثالِك وأمثالِهم {لهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهار} (البقرة/25). أولم يقل الحديث الشريف “الجنّة تحت أقدام الأمّهات”([2])
فسلامٌ عَطِرٌ عليك وعلى سائر الراحلين.
«»«»«»«»«»([3])
[1] -طوق، أنطوان جبرايل، أمثال الأقدمين في جبّة المقدّمين، جونية/لبنان، بشاريا للنشر، ط1، 1993، ص24.
[2] -حديث أخرجه ابن عدي في الكامل من طريق موسى بن محمد بن عطاء عن أبي المليح عن ميمون عن ابن عبّاس أنه قال: قال رسول الله، ص: “الجنّة تحت أقدام الأمّهات”. وورد أيضاً من حديث أنس، ر، برواية أبي بكر الشافعي في “الرباعيّات” وأبي الشيخ في “الفوائد”، والقضاعي والدولابي، عن منصور بن المهاجر عن أبي النظر الأبّار عن أنس، ومن هذا الوجه رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي، وذكره السيوطي في الجامع الصغير.
[3] –