أستاذ العلوم عقل القدّوم وأسلوبه الراقي في شرح فيزيولوجيا الجنس/بقلم أ. د. لويس صليبا وملحق بقلم أ. كمال صفير
الأستاذ عقل القدّوم، درّسنا العلوم الطبيعية بالفرنسية Sciences Naturelles. في مدرسة فرير ماريست (الإخوة المريميين) جبيل، وكان بارعاً في مادّته، يتقن الرسم وهو من متطلّبات هذه المادّة. فيمضي أحياناً ساعة برمّتها في إكمال رسم بياني Schéma على اللوح وشرح الدرس من خلاله، وكنّا نأسف لاضطرارنا لمحو رسمه الجميل بدقائق قليلة بعد نهاية درسه، ونسعى كي نبقيه خلال فرصة الملعب الفاصلة بين حصّتين كي نتأمّل به، ممّا يساعدنا على فهم الدرس وحفظه.
وكان الأستاذ عقل القدّوم مواظباً على إجراء التسميعات الخطّية Récitations écrites. وغالباً بوتيرة مرّة كل أسبوعين على الأكثر، ما يضطّرنا إلى درس مادّته بانتظام، وما يسهّل علينا مراجعتها قبل الامتحانات العموميّة، وقد بلغ عدد هذه الأخيرة في تلك السنة الدراسية خمسة. فكان يَتعب معنا ويُتعبنا خلال السنة، بيد أنه يوفّر علينا تعباً ومجهوداً مضنياً في فترة الامتحانات.
وكان الأستاذ عقل يُحسن تشغيلنا في الأعمال التطبيقية، وممّا أذكر ممّا قمت به يومها: زراعة نبتة في علبة مظلمة، وفيها فتحة صغيرة للنور، نَمَت النبتة متّجهة بأوراقها نحو الضوء، وأخرجَتْها من هذه الفتحة الصغيرة، وقد ساعدتني أمّي على إنجاز هذا العمل والذي لم يستغرق أكثر من أسبوع. وفيه تعلّمنا أن الشمس عاملٌ أساسيٌّ للحياة، ومن دونها ما كان للكائنات الحيّة من وجودٍ على كوكبنا.
وممّا لا يزال راسخاً في الذاكرة من شروحات الأستاذ عقل درسٌ وموقفٌ حرجٌ يومها. فبعد أن شرح لنا أجهزة الجسم وبنيتها التشريحية Anatomique ووظائفها الفيزيولوجية واحداً تلو آخر، وكلٌّ في درس: الجهاز الهضمي، الجهاز التنفّسي، جهاز الدورة الدموية، إلخ… لم يبقَ أمامه سوى الجهاز الجنسي أو التناسلي!!
موقفٌ حرجٌ، فكيف سيتناول موضوعاً حسّاساً كهذا أمام تلامذة مراهقين وفي بداية تفتّحهم الجنسي؟! بدأ الدرس بمقدّمة عامّة مفادها أن لكلّ جهازٍ من الأجهزة الآنفة الذكر بُنيته المورفولوجية ووظيفته الفيزيولوجية، ودوره في المحافظة على الحياة أو في استمراريّتها. وكذا الجهاز التناسلي عند الرجل والمرأة، له دوره الخاصّ في ديمومة هذه الحياة. وطرح سؤالاً بسيطاً ومعبّراً:
-هل تعرفون مثلاً ماذا يفعل الديك مع الدجاجة؟
وهنا تصدّى التلميذ بشارة مونّس للإجابة: الموقف دقيق، ويصعب التعبير بالفرنسية عمّا يريد قوله، فقدّم بين الجدّ والمزح، وبشيء من السخرية جواباً كاريكاتوريّاً عن السؤال، يحوي وصفاً غير دقيقٍ أو بالحري مغلوط للمشهد!
-لم تفهم شيئاً ممّا يحصل، بادره الأستاذ عقل القدّوم. وبيّن له أن وصفه للمشهد الذي رآه يستندُ إلى رؤية خاطئة للأمر. وهنا بدأ يشرح لنا علمياً الجهاز التناسلي الذكري والأنثوي، ووظيفة كلّ منهما، والدورة الشهرية عند المرأة وغير ذلك من الأمور والوظائف البيولوجيّة. وهكذا استعاد القدّوم زمام المبادرة، ونجح بنقلنا في برهةٍ قصيرة من أجواء المزح وتعليقات المراهقين الساخرة والسخيفة إلى جوٍّ من الجد والانتباه التامّ. وساد صمتٌ مطبقٌ بيننا. فكنّا ونحن نتابع باهتمامٍ وتشويق Suspense ما يقول وكأن على رؤوسنا الطير، فالموضوع يثير حشريتنا (فضولنا) ويهمّ كلّ واحدٍ منّا، ومن شأنه أن يجيب عن العديد من الأسئلة التي كان يطرحها كلّ مراهقٍ منّا غالباً بينه وبين نفسه، أو في حلقةٍ ضيّقةٍ من الأصحاب والأتراب الذين لا يعرفون عن هذه المسألة الحيوية والحسّاسة سوى ما التقطه هذا من معلومةٍ هنا، وذاك من معلومةٍ هناك.
كان ذلك في العام الدراسي 1974-1975. وإذ يحضرني الآن كيف شُطب فصل الجهاز التناسلي من المنهج الدراسي الرسمي الجديد مع بداية الألفية الثالثة بضغطٍ من فئاتٍ سياسية ودينية محافظة أثارت المسألة في البرلمان اللبناني معتبرة أنه موضوع منافٍ للأخلاق والقيَم، ألحظُ بأسفٍ وحسرة أنّنا في هذا البلد التعيس نتطوّر بالرجوع إلى الوراء عوض أن نتقدّم. “كلّ مالنا لورا الورا”، كان أحدُ أساتذتنا الخوري سمعان القصّيفي يقول في تحويرٍ وتحريف مقصود وبالغ الدلالة لعبارة شهيرة من قانون الإيمان “النؤمن” تقول: “كلّ ما يرى وما لا يُرى”.
وممّا لمّا يزل عالقاً في الذاكرة من دروس الأستاذ عقل القدّوم درس تطبيقي في التشريح Anatomie. كان ذلك أوّل درسٍ تطبيقي أتابعه، وقد أجري في مختبر Laboratoire المدرسة. أتى الأستاذ عقل بهرّ إلى المختبر وخدّره أمامنا، ثم طفق بتشريحه، مظهراً لنا كلّ جهازٍ من الأجهزة الحيويّة، ومختلف أعضاء الجسم. واستغرق هذا الدرس التطبيقي نحو حصّتين، وجمع فيه شُعبتين. وكنّا نتابعه باهتمامٍ ملحوظ. وبعد أن أنهى الأستاذ شرحه لمختلف الأجهزة والأعضاء أعاد تقطيب جسم ذاك الحيوان المسكين، فقال أحدنا معلّقاً:
-هلّق بيقوم بيلاقي حالو مات!!
وأذكرٌ أنّني يومها شعرتُ بأسفٍ وحسرة على أن يذهب ذاك الهرّ التعيس الحظّ ضحيّة حشريّتنا العلمية، وإن كانت فضولاً مشروعاً. وهذا الدرس التطبيقي الأوّل في علوم الحياة انطبع في الوجدان والمخيّلة، وعدتُ لأذكره في السنة الجامعية الأولى 1980-1981 حين كان علينا في درس التشريح التطبيقي Anatomie، أن نشرّح جثّة إنسانٍ، لندرس تكوينها ومختلف أجهزتها وأعضائها!
ومن الأعمال التطبيقية التي شغلنا بها الأستاذ عقل القدّوم ردحاً من الزمن جمع أسماء السمك. فطفقنا نبحث ونفتّش عن أسماء السمك: هذا يسأل صيّاداً، وذاك يسأل بحّاراً. هذا جمع مئة اسمٍ، وذاك مئتين، وثالثٌ ممّن يمتهن أهله الصيد البحري مثل رفيق مارون جاء بلائحة تضمّ ألوف الأسماء. وبتنا نتنافس في جمع هذه الأسماء، حتى انشغل البعض عن سائر الدروس. فسخر منّا أستاذ الرياضيّات جوزف عون قائلاً: أي فائدة لعملٍ كهذا، لا سيما وأنّه يشغلكم عن دروسكم؟! وهل من معيارٍ واضح لمعرفة إذا ما كان هذا الاسم صحيحاً أم لا؟ فإذا قلتُ لك إن الكلمة الفلانية اسم للسمك فكيف تستطيع أنت أن تؤكّد ذلك أو تنفيه؟!
رسالة من الأستاذ كمال ميشال صفير تقيّم هذا النص
أخي العزيز وصديقي , د.لويس صليبا المحترم,
أنت تعلم جليّاً كم نحن نكنّ لك من الإحترام والمودّة, تحيّة لك من الأعماق القلبيّة, …
وبعد مطالعتي مقالتَك الجميلة, التي تناولَت موضوع حصّة أستاذنا الحبيب عقل القدّوم, أمدَّه الله بالصحّة والعافية, وأطال عمره.
ومع وصفك الدقيق والمفصّل لتلك الحصّة, حملتني ذاكرتي الى تلك الأيام, فكان شعوري وكأنني عدتُ إلى تلك المقاعد الدراسيّة, وأنا داخل الصف, في مدرستنا العزيزة, فتأرجح شعوري بين الفرح تارة والحزن تارةً أخرى, أما الفرح فبالذاكرة الحلوة وأيام الصبى البريئة, وأما الحزن على السنين التي مرّت بسرعة وكرفّة الجفن, وقد وصفتَها بحسب قول الأستاذ الخوري سمعان “كل ما يرى, وكل مالنا إلى الورا” , تذكرت الحصص في الصفوف والقصص التي كانت تحدث, وبكتابتك وحفظك لهذه الذكريات , فتطبّق القول: ” من علّمني حرفاً, كنت له ولجميله عارفاً وحافظاً . عظيم وجميل أن تحفظ هذه الذكريات التي سوف لن نرى مثلها بعد . كما وإنني وقد حصلت سابقاً على مقالة أخرى من كتاباتك تناولتَ بها أستاذنا المرحوم الياس عازار , رحمه الله, أود لو أستطيع قراءة مقالات عدّة مماثلة كل واحدة منها تطال أحد أساتذتنا الكبار, مقالات نكبر معها بقلبنا ونستذكرهم جميعاً , فنتمنى لمن رحلوا عن هذه الدنيا الراحة الأبديّة , وللباقين بيننا لهم الصحّة وطول العمر.
كذلك, حملتني ذاكرتي الى أيام الإمتحانات والمذاكرة , حينما كنّا نجتمع سويّة وبرفقة صهرك الحالي زميلنا الأستاذ وليد بشارة وغيره, وفي تلك الأيام كنا نمضي الوقت الطويل على أغصان الأشجار بالقرب من منزلك ,وكلّ منا يحمل كتابه بيده ونراجع الدروس … ولو أردت متابعة سرد كل ما خطر في بالي من خلال هذا النص الرائع فكنت لن انتهي من الكتابة ,…
تحيّة محبّة لك يا حبيب القلب, وعلى أمل اللقاء قريباً
كمال صفير
جبيل في 7 نيسان 2022