زارا 1: زرادشت: موطنه وزمنه/محاضرة لويس صليبا على Zoom، الأربعاء 5/1/2022
Zoroastre: Son époque et son pays, Conférence de Lwiis Saliba sur Zoom, Mercredi 5/1/2022
أهمّية دور زرادشت في تاريخ الأديان
لا يمكن لأيّ عالم أديان أن يتعمّق في علمه ويتوسّع فيه إذا تجاهل مساهمة إيران في نشوء الأديان وتطوّرها. فإيران في موقعها مكاناً وزماناً بين المحورَين الجغرافيين الأساسيين في نشوء الأديان العالمية المعاصرة، وفي تفاعلها أثراً وتأثيراً معهما كوّنت نقطة التقاء بين الأديان الكبرى ومركز عبور من محور إلى آخر، لاسيما من خلال الذروة الكبرى في فكرها الديني: زرادشت ثمّ ماني وغيره من بعده. ولا تطمح هذه الدراسة الموجزة إلى أن تتناول المساهمة الإيرانية هذه من كلّ جوانبها، ولا حتى أن تتوقّف عند مختلف تفاصيلها. فحسبها أن تسلّط الضوء على المفاصل الأساسية، وعلى الأثر الفارسي الحاضر إلى اليوم في الأديان العالمية الكبرى. لتعود وتستخرج منها العناصر المهمّة في الشخصية الأساسية Personnalité de Base للإنسان الإيراني المعاصر.
سبق لنا أن أشرنا، في عدد من أبحاثنا ومقابلاتنا،([1]) إلى أننا، وفي نشأة كل دين، نجد فارسياً، وهي ظاهرة تسترعي الانتباه، وتستدعي التنويه. وسنذكر ذلك بسرعة هنا، ثمّ نعود لنفصّل الحديث في كلّ دين على حدة.
الأثر الزرادشتي في الأديان العالمية الخمسة الكبرى
1- الهندوسية: نجد تفاعلاً وثيقاً بين أقدم أشكال الهندوسية أي ديانة ريك ڤيدا والفكر الديني الإيراني القديم: زرادشت وكتابه الأڤستا. فبين ريك ڤيدا والأڤستا نقاط مشتركة عديدة، ولغتهما واحدة، كما سنذكر لاحقاً. ويؤكّد عدد من الروايات التاريخية أن هجرات الشعوب الهندوأوروبية كانت من إيران نحو الهند.
2- البوذية: قلّة من يعرف أن للإيرانيين دور أساسي في نشر البوذية في الصين عبر طريق الحرير. وأن البوذية عرفت انتشاراً وازدهاراً في بلخ وغيرها من مناطق إيران كما سيمرّ معنا.
3- اليهودية: في اليهودية أثر زرادشتي واضح، لاسيما في عقائد يوم الدين، والنعيم والجحيم، والشرير(الشيطان) والنبوّة وغيرها. والأمبراطور الفارسي قورش هو الوحيد بين ملوك الأمم الذي تمتدحه التوراة (أشعيا28/44)، وهو الذي فكّ أسر العبرانيين وأعادهم من السبي. وإلى ذلك فغالباً ما يسمّى التلمود البابلي التلمود الفارسي نظراً للأثر الإيراني فيه.
4- المسيحية: عند ولادة المسيح في مزود نجد المجوس الذين قدموا من إيران لتقديم الهدايا وآيات الشكر والخضوع للطفل الإلهي. وفي يوم العنصرة الذي حلّ فيه الروح القدس على التلامذة كان عدد من الإيرانيين من بين الحاضرين، فشهدوا المعجزة كما يروي سفر أعمال الرسل(9/2).
5- الإسلام: إلى جانب الرسول وآل بيته من بعده نجد الصحابي الجليل سلمان الفارسي الذي جاب أكثر الأصقاع بحثاً عن الحقيقة، ليجدها عند محمّد،صلعم، كما تقول قصّته. وفي الحديث النبوي:« سلمان منا أهل البيت». وجامعو الصحاح الستة عند أهل السنّة فرس. وفي نشأة التصوّف الإسلامي وتطوّره حضور فارسي واضح، وأبو يزيد البسطامي، والحلاّج وحافظ وسعدي وجلال الدين الرومي وغيرهم دليل على ذلك.
ومنذ ظهورها على مسرح الأحداث في التاريخ كانت إيران معنية بالظاهرة الدينية، ولا تزال هذه حالها اليوم. ونبدأ دراستنا بتحديد بعض الكلمات والمصطلحات الضرورية للبحث.
إيران: أرض النبلاء
من بين ألوف الكلمات الجذرية التي استعادها الباحثون في اللغة الهندوأووبية الأمّ، وهي لغة ضاربة في القدم ولم تكتب أبداً، نجد كلمة Airyo وتعني النبيل أو الأرستقراطي. ويبدو أن هذه الكلمة كانت تمثّل مفهوماً اعتبره المتكلّمون باللغة الهندية-الأوروبية بالغ الأهمّية، بل وربّما سمة جوهرية من سمات هويّتهم الذاتية، لأن عدداً من المتحدّرين من سلالتهم استخدموها اسماً لهم آريون Aryan أي النبلاء وإيران أرض النبلاء. وثمة بلد آخر يحمل اسماً بالمعنى عينه آرياڤارتا Aryavarta وهو في الجزء الشمالي الغربي من الهند في العصر الڤيدي([2]). إيران إذاً هي أرض النبلاء، وكذلك الهند في العصر الڤيدي. ووحدة الأسماء هذه تقودنا حتماً إلى البحث في الصلات الوشيجة والروابط العميقة بين البلدين، لا سيما على الصعيد الديني/الروحي ممّا سنعود إليه.
الدين الحقّ
كلمة دين لها بالعربية وبالفارسية معنى واحد. والملوك الساسانيون في إيران كانوا يطلقون على الزرادشتية أي الدين الذي تبنّته الدولة الإيرانية الساسانية من القرن الثالث ميلادي فصاعداً اسم ڤيه دين Veh-din أي الدين الصالح.([3]) أو الدين الحقّ. وقد توقّفنا مليّاً عند وحدة المصطلح الدالّ على الديانة في العربية والفارسية، وذكرنا ما يقوله اللغوي أبو هلال العسكري (ت395هـ) في تعليل ذلك في مصنّف سابق لنا([4]) . ورأينا فيه ما يسير في خطّ تأكيد أثر النموذج النبوي الزرادشتي في الأديان الإبراهيمية. ونكتفي هنا بهذه الإشارة.
إشكالية زمن زرادشت وموطنه
ويبقى أن أبرز شخصية في تاريخ الأديان في إيران، بل وفي نشأة الأديان القديمة عموماً وتفاعلها، هي زرادشت. وتطرح هذه الشخصية الحاضرة والفاعلة إلى اليوم إشكاليات عديدة، فما من أحد من مؤسسي الأديان يكتنف ظروف حياته الغموض مثل زرادشت. فنحن نكاد نجهل الزمان الذي عاش فيه والمكان أو الأمكنة.
ويعبّر المستشرق إدورد براون عن الخلاف الكبير في تحديد زمان زارا ومكانه كما يلي:« أما بالنسبة إلى شخصية زرادشت وتاريخ حياته ومسقط رأسه فالآراء متعدّدة ومتشعّبة إلى حدّ كبير. وبعضها ينفي حتى وجوده تاريخياً. في حين يرى بعضها الآخر أن شخصيته تظهر في الكاتا واضحة جليّة. والكاتا، في رأي القائلين بذلك، إن لم تكن تعاليم زرادشت وإرشاداته، فهي على الأقلّ كلمات أتباعه وحوارييه. ويرى بعض الباحثين أن تاريخ حياته يتّفق مع عصر الڤيدا أي عام 1800 أو 2000 أو حتى 6000 قبل الميلاد. وهناك حتى من يقولون إنه كان يعيش قبل المسيح بسبعة آلاف سنة.
»ويرى البعض أن زرادشت من بلخ في أقصى نقطة شمال شرقي إيران. بينما يقطع البعض الآخر بأنه نشأ في أتروپاتن في أقصى الشمال الغربي . ويصدق هذا الخلاف على الأڤستا بدورها، وهي كتاب أتباع زرادشت المقدّس. وليس هناك كبير خلاف حول هذا الموضوع فحسب، بل إن المشاعر لتلتهب إلى حدّ كبير بشأنه»([5]).
ويلخّص المستشرق ريتشارد فولتز (Richard Foltz)([6]) مختلف الآراء في زمان زرادشت ومكانه كما يلي:« ثمة افتراض يقول إن زرادشت عاش إما في الفترة التي عاش فيها إبراهيم)ق18ق م)، أو في الفترة التي عاش فيها بوذا (ق6-5 ق م). بينما تذهب بعض المصادر الإغريقية إلى أنه عاش قبل ستة آلاف سنة من زمنهما! وبالنسبة إلى المكان الذي عاش فيه فقيل إنه عاش في المنطقة التي يطلق عليها اليوم اسم كازاخستان، وراء الحدود الشمالية الشرقية من العالم الإيراني، بينما يقول آخرون إنه عاش في أذربيجان»([7]).
ويتساءل فولتز عن سبب هذا التباين الكبير، فيرى أنه يعود إلى حقيقة تاريخية تتلخّص في أنه: « عندما انتشرت الزرادشتية في العالم الإيراني عمد الكهنة في أنحاء مختلفة من إيران إلى ابتكار أساطير جديدة، أو تحريف أساطير موجودة تربط النبي بالمناطق التي ينتمون إليها»([8]).
ويميل فولتز إلى إعادة زرادشت إلى زمن الڤيدا، ما يعني أنه سحيق القدم، يقول: «الدليل الأقدم على زرادشت موجود في الأجزاء المعروفة باسم Gathas كاتا أي القصائد أو المقاطع الشعرية من الأفستا، التي يعتقد أنها كلمات زرادشت نفسه. ولغة هذه القصائد مُغرقة في القدم وقريبة جدّاً من لغة ريك ڤيدا. ومثل معظم الأعمال الأدبية القديمة، بما فيها ملاحم هوميروس والبيبليا، نقل هذان النصّان شفهياً من جيل لآخر على مدى قرون كثيرة قبل أن يدوّنا في نهاية المطاف.»([9])
وكنّا قد بحثنا في هذه المسألة وتوقّفنا عند التقارب اللافت بين لغتي الكتابين العريقَي القدم: ريك ڤيدا والأڤستا، وما يمكن أن نستخلص من ذلك([10]). ولكن رجّحنا أن زارا متأخّر عن عصر ريك ڤيدا بدليل أنه عرف ريك ڤيدا واستشهد بها كمثل قوله: «مثل شاعر الڤيدا، يضمّن أحياناً في ترانيمه دعوى بالأجر، هل سأتلقّى مكافأتي ، بواسطة الحقّ، عشرة مهور وجواد، مع جمل، التي وعدت بها.»([11])
والمشكلة هنا أن قصائد الأڤستا تعود إلى عصور مختلفة قديمة وأقلّ قدماً، وقد تفصل بينها فجوة زمنية تصل إلى عدة قرون!
وفي خلاصة بحث فولتز ما يعبّر عمّا نعرفه، أو بالحري جملة ما لا نزال نجهل، بشأن زرادشت التاريخي، يقول: «في الوقت الحاضر يجب الاعتراف بأن الأسئلة المتعلّقة بزمن زرادشت وموطنه لم تحصل على إجابات قاطعة حتى الآن. وليس هناك أي دليل يشير إلى تاريخ انتقال تعاليم زرادشت، وبأية وسيلة، من شرق العالم الإيراني إلى المناطق الغربية التي أصبحت موطن إمبراطوريات إيرانية عظيمة. وكلّ ما يمكننا تأكيده هو أنها، بطريقة ما وفي وقت ما، انتقلت.»([12])
أما نحن فنميل إلى الأخذ بمحصّلة بحث مؤرّخ الأديان مرسيا إلياد(1907-1986)Mircea Eliade ([13]) في هذا الشأن، لا سيما وأنه يستند إلى الأبحاث اللغوية/الفيلولوجية المقارنة للغة الأڤستا بمختلف أقسامها ومقابلتها مع مقاطع مشابهة في ريك ڤيدا. يقول إلياد: «طرح عموماً تحديد زمن زرادشت بين 1100 و 600 ق م. وإذا اعتمد التقليد المزدي الذي يتحدّث عن 258 سنة قبل الإسكندر، فيمكن أن نحدّد زمان زرادشت بين 628 و 551 ق م. والتواريخ الأكثر قدماً اقترحت استناداً إلى الخاصّية القديمة للغة الكاتا (أناشيد زرادشت)، ولا سيما نقاط الشبه بالڤيدا. وتحليل هذه اللغة وفقهها يتيح لنا أن نستنتج أن النبي عاش في شرق إيران، وعلى الأرجح في خوارزم، أو في باكثريان»([14]).
ولسنا في بحثنا هذا بوارد أن ندرس شخصية زرادشت وسيرته وتعاليمه من مختلف جوانبها، فهذا يحتاج إلى مصنّفات. حسبنا أن نركّز على أثره الحاسم في الديانات الأخرى، وعلى أبرز ميّزات عقيدته وتعاليمه.
«»«»«»«»«»([15])
[1] – آخرها مقابلة تلفيزيونية على قناة المنار اللبنانية بتاريخ 14/02/2016. برنامج أحسن الحديث.
[2] – فولتز، ريتشارد سي، الروحانية في أرض النبلاء كيف أثّرت إيران في أديان العالم،ترجمة بسام شيحا، بيروت، الدار العربية للعلوم، ط1، 2007، ص24.
[3] – فولتز، م. س، ص40.
[4] – صليبا، لويس، عنف الأديان الإبراهيمية حتمية أم خيار، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2016، فق: الدين والأصول الفارسية للعبارة، ص26-29.
[5] – براون، إدورد، تاريخ الأدب في إيران، ترجمة أحمد حلمي، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2005، ج1، 71-72.
[6] – ريتشارد فولتز مواليد 1961. مستشرق كندي من أصل أميركي. متخصّص في تاريخ الأديان، لا سيما الإسلام والزرادشتية، إضافة إلى التاريخ الإيراني. أستاذ في جامعة كونكورديا في مونريال ومدير الدراسات الإيرانية فيها. حاز على الدكتوراه في تاريخ الشرق الأوسط من جامعة هارفارد. درّس في جامعات: الكويت، براون، كولومبيا، وولاية فلوريدا/أميركا.له العديد من الكتب والمقالات في البيئة وموقف الإسلام منها وفي أخلاق البيئة وكذلك التعامل مع الحيوان في الإسلام. من مؤلفاته: 1- الروحانية في أرض النبلاء، وهو المرجع المذكور مراراً في الهوامش.2-إيران في تاريخ العالم، نيويورك 2015. 3-ديانات إيران منذ ما قبل التاريخ إلى اليوم،لندن 2103. 4- ديانات طريق الحرير: نماذج قديمة للعولمة، نيويورك 2010. 5- منغوليا الهند وآسيا الوسطى، نيويورك1998.
[7] – فولتز، م. س، ص39.
[8] – م. ن.
[9] – م. ن، ص41.
[10] – صليبا، لويس، أقدم كتاب في العالم ريك ڤيدا دراسة ترجمة وتعقيبات، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط4، 2016، ص127-128.
[11] – صليبا، لويس، م. س، ص126.
[12] – فولتز، م. س، ص 42.
[13] – صليبا، د. لويس، اليوغا في المسيحية دراسة مقارنة بين تصوّفين، تقديم د. بيتسا استيفانو، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2016، ص167-169. في هذا المرجع ترجمة وافية لِ إلياد.
[14]– Eliade, Mircea, A history of Religious Ideas, trans. Willard Trask, Chicgo, University of Chicago Press, 1978, Ch 17.
[15] –