الله يكشف ذاته بالشكل الذي عُبد فيه/محاضرة لويس صليبا عبر Zoom الأربعاء 29/12/2021
الله يكشف ذاته بالشكل الذي عُبد فيه
وتبقى مسألة محورية، تبدو للوهلة الأولى مثار خلاف بين يوغا التقوى وتعليم تريزا. فالأولى تؤكّد أن الله يكشف ذاته لمحبّيه وعابديه بالشكل الذي أحبّوه هم فيه وعبدوه. فمَن عبده على صورة كريشنا ظهر له في هذه الصورة، وكذلك القول في يسوع… وسائر تجلّيات المطلق. تعلّم البهاكتي يوغا: «يظهر الله لمحبّيه مهما كانت مسالكهم وأديانهم وتقاليدهم. إنه يتّخذ الشكل ذاته الذي اعتاده أو اختاره المؤمن، مع أن الله يتجاوز الأشكال والأديان والتقاليد»([1]).
وهذا ما تسمّيه اليوغا أيشتا ديفاتا: Îshtâ Devatâ: أي الشكل الإلهي المحبوب المختار للعبادة والمحبّة([2]).
وفي الشيڤا سمهيتا (سوترا 6/70): «ما يرغب فيه الفكر، هذا ما يحصل عليه. يرى اليوغي، عبر ممارسة غير منقطعة، الربّ المعبود، العليّ الأسمى»([3]).
.
تريزا توافق باتنجلي في ما ذهب إليه
والغريب اللافت هنا، أننا وإذ نتوقّع أن تخالف تريزا نظرة اليوغا هذه لتقول أن الله لا يظهر إلاّ في شكل معبودها هي (الإله المتجسّد)، نجدها وعلى عكس ما ننتظر تؤكّدها، فهي تقول لِبَناتها الراهبات ناصحة منبّهة وموجّهة (في طريق الكمال): «وما أن تقبلن الربّ حتى تحظين بالشخص عينه أمامكن (…) فإنه ولو جاء مقنّعاً، فلن يمنعه ذلك من أن يكشف نفسه بأشكال شتّى، بحسب رغبتنا في رؤيته.
»وباستطاعتكن أن ترغبن فيه رغبة شديدة فينكشف لكنّ تماماً»([4]).
تبدو معلّمة التأمّل هنا وكأنها تكرّر عبارات حُكماء اليوغا عينها في مسألة مشاهدة الرب وفي أي شكل تتمّ.
وأبرز ميزة للبهاكتي يوغا كمسلك روحي يكمن في أنها، وطبقاً لتعبير سوامي ڤيڤيكانندا: «الطريق الأسهل والأكثر طَبَعية للوصول إلى الهدف الإلهي الذي نسعى إليه»([5]).
ويذكر نشيد المولى Bhagavad Gita كتاب الهندوس المقدّس أنماطاً ثلاثة من اليوغا: يوغا العمل للعاملين في المجتمع، ويوغا المعرفة للزاهدين، ويوغا التقوى Bhakti yoga ويعتبرها أسماها وللجميع»([6]).
التعصّب أبرز أخطار البهاكتي
ولكن يبقى للبهاكتي يوغا محذور مهمّ لا بدّ أن نعرض له ونناقشه. وفيه يقول سوامي ڤيڤيكانندا: «ولكن ضرر يوغا التقوى يكمن في أنها، في أنماطها الأقلّ تطوّراً، تنحطّ لتصير تعصّباً ذميماً»([7]).
ويشبّه الحكيم راماكريشنا البهاكتي بالنمر. فكما يفترس النمر الحيوانات، تفترس التقوى (بهاكتي) الرذائل كالغضب والشهوة»([8]).
وتبقى الطامّة الكبرى أن النمر الشرس هذا وفي أدنى مستويات البهاكتي، من شأنه أن يفترس الآخرين عوض الفتك برذائل النفس.
ويشرح ڤيڤيكانندا خطر البهاكتي الرهيب هذا فيقول: «عصابات المتعصّبين في الهندوسية والإسلام والمسيحية كانت تجنَّد دوماً وحصراً من بين المؤمنين الذين لا يزالون في مستويات البهاكتي الدنيا. فهذا التعلّق الحصري Nishta بغرض واحد محبوب والذي بدونه لا يمكن لأي حبّ حقيقي أن ينمو يقود غالباً إلى إدانة كل ما ليس هو هذا الغرض»([9]).
ويشرح ڤيڤيكانندا آلية ظهور التعصّب ونموّه حتى يصير آفة اجتماعية خطرة بل ومدمّرة. فأساسه محدودية التقوى Bhakti، يقول مستطرداً: «فكل أصحاب الأذهان الضعيفة والمحدودة التطوّر وفي كل الديانات والبلدان ليس لديهم سوى طريقة واحدة ليحبّوا مثالهم، وهي كُره كل مُثُل الآخرين. وهذا ما يشرح لنا كيف أن الرجل التقي المتعلّق بمثاله الخاصّ لله والمتكرّس له يتحوّل إلى متعصّب هائج بمجرّد أن يرى أو يسمع أي شيء يرتبط بمثال آخر»([10]).
ويضرب هذا الحكيم مثلاً بسيطاً ومعبّراً عمّا يقول: الكلب الحارس للمنزل. فيضيف: «وخاصّيه الحبّ هذه تشبه إلى حدّ ما غريزة الكلب الذي يحمي مُلك سيّده ضدّ المتطفّلين والسارقين»([11]).
والمصيبة يقول ڤيڤيكانندا أن غريزة الكلب البدائية تتفوّق على عقل الإنسان. فالأول قادر على أن يميّز سيّده ويعرفه مهما غيّر في شكله وملابسه ومظهره، أما الإنسان فيعجز عن معرفة ربّه إذا غيّر شكله، فيخاله ربّاً آخر وإلهاً آخر ويحاربه. يقول الحكيم الهندي: «فغريزة الكلب وحدها أقوى من عقل الإنسان، لأن الكلب لا يخطئ في تمييز معلّمه، حتى وإن تخفّى هذا الأخير. أما الإنسان المتعصّب فيخسر مقدرة الحُكم والتمييز. فالمسألة لديه ليست ما قيل، وإذا كان صواباً أم لا. فالشيء الوحيد الذي يرغب في معرفته هو مَن القائل؟»([12]).
هنا يلتقي ڤيڤيكانندا مع قول مأثور للإمام علي: «الحق لا يعرف بالرجال، وإنّما بما قاله هؤلاء الرجال»([13]).
ويتابع الحكيم الهندي مستطرداً: «فالرجل الوديع نفسه والطبيب الشريف والعطوف مع كل الذين يشاركونه رأيه، لا يتردّد بارتكاب أبشع الحماقات في حقّ الغرباء عن المجموعة التي ينتمي إليها»([14]).
إنه خطر جدّي فظيع ونحن جميعاً في مشرق الديانات هذا نقع اليوم فريسة له. ولكن ڤيڤيكانندا يعود ليلحظ في ختام تحليله ويحدّ من مخاطر التقوى: «ولكن هذا الخطر لا يوجد إلاّ في المرحلة الإعدادية للتقوى، فعندما تنضج البهاكتي وتنتقل إلى الدرجة العليا لا يبقى من مبرّر للخوف من مظاهر التعصّب البشعة هذه»([15]).
ولكن المشكلة بل المعضلة الكبرى تكمن في أن أكثر الناس يبقون في المرحلة الإعدادية للتقوى هذه، وقلّة منهم مَن يتجاوزها. فتنقلب هذه الأخيرة جحيماً.
رواسب التعصّب عند تريزا
وبالعودة إلى قدّيستنا ومعلّمة الكنيسة، فنحن لا نشكّ لحظة في أنها تجاوزت ”مستويات البهاكتي الأولى ومرحلتها الإعدادية“ وفق تعابير سوامي ڤيڤيكانندا، ولكن بقي عندها بضعة رواسب من هذه المرحلة. فقد كانت قاسية مع جسدها ومتعصّبة ضدّه أحياناً. وذكرنا في فصل سيرتها كيف كانت تجلده بالسوط، ولا تزال راهباتها إلى اليوم على هذا التعصّب.
ولا تُخفي مُصلحة الكرمل تعصّباً واضحاً ضدّ البروتستانت (اللوثريين) وهي تنعتهم أحياناً بأبشع النعوت. فهم الخونة وصالبو المسيح الجدد: «إن في نيّة هؤلاء الخونة [بروتستانت فرنسا] أن يصلبوا المسيح من جديد ولا يتركوا له موضعاً يسند إليه رأسه»([16]).
وهل من تهمة وصفات أقبح ممّا تقول هنا؟!
وقد حكمت عليهم بالنار الأبدية في جهنم. فجميع الذين يغادرون الكنيسة مصيرهم الهلاك([17]).
وقد رأتهم بالفعل في الجحيم، فهي في رؤيا الجحيم التي ترويها في سيرتها تقول: «انفطر قلبي من تلك الرؤيا شفقة على النفوس العديدة الهالكة، وخصوصاً نفوس اللوثريين لأنهم كانوا بالعِماد أعضاءَ الكنيسة»([18]).
وهنا تبدو رؤيا تريزا امتداداً لانفعالات التعصّب ضدّ البروتستانت. وهي المتحمّسة لمواجهة هؤلاء المنشقّين وتبيان ضلالهم. تقول في تقرير كُتب في دير القدّيس يوسف/أڤيلا 1563: «وأظنّني قادرة على أن أجابه وحدي جميع أتباع لوتير وأبيّن لهم ضلالهم. وأتأسف جداً لهلاك هذه النفوس الكثيرة»([19]).
وأسفها هنا لا يخفّف من تعصّبها وعنفه: إنها رواسب الدرجات الدنيا من التقوى لا تزال تفعل في وجدان تريزا وفكرها.
القِران الروحي ذروة العشق
والخلاصة، فالحبّ الإلهي أو بهاكتي مسلك أساسي في روحانية تريزا واختبارها. وقد بلغت ذروته في ما أسمته بالقران الروحي، وعرضت له في تقرير 35 (أڤيلا أواسط ت 2، 1572) حيث رَوَت: «تَـمَثّل لي الرب في رؤيا خيالية وأعطاني يده اليمنى وقال لي: «أنظري هذا المسمار إنه علامة بأنك ستكونين عروساً لي منذ اليوم. لم تستحقي هذا حتى الساعة، لكن من الآن فصاعداً، ستتعهدين شرفي ليس فقط كخالق وكملك، وكإله لك، بل كعروس حقيقية لي، شرفي هو شرفك، وشرفك شرفي»([20]).
هنا تذكّر تريزا/عروس المسيح بِـ رادها/ الراعية عروس كريشنا.
ولكن يوغا تريزا وروحانيّتها لا تقتصر على الحبّ الإلهي وحسب، فهي مُصلحة الكرمل، ومؤسّسة الأديار، والتي زرعت إسبانيا جيئة وذهاباً لتأسيس أديار الكرمليين الحفاة والتي بلغت عند وفاتها 1582: 16 ديراً للراهبات و14 ديراً للرهبان([21]) فهي ليست راهبة الحب الإلهي Bhakti Yoga وحسب، بل والعمل الإصلاحي الدؤوب والنشاط الرسولي المتواصل Karma Yoga يوغا الخدمة والعمل. وهذا ما سنعرض له في الفصل التالي.
«»«»«»«»«»([22])
[1] – كفوري، سرّ النجاح، م. س، ص 106.
[2] – كفوري، روبير، معرفة الذات للحكيم شنكارا (788 – 820م) دراسة وترجمة عن الأصل السنسكريتي، بيروت، حلقة الدراسات الهندية، ط1، 1997، ص 89.
[3] – كفوري، مجموعة الرحمن، م. س، ص 122.
[4] – تريزا، أ. ك، ط. ك، م. س، 34/12، ص 592 – 593.
[5]– Vivekananda, Yoga Pratiques, op. cit, p 139.
[6] – كفوري، روبير، نشيد المولى Bhagavad Gita، ترجمة عن الأصل السنسكريتي، بيروت، حلقة الدراسات الهندية، ط1، 1998، ص 186.
[7]– Vivekananda, yoga pratique, op. cit, p 139.
[8]– Ramakrishna, op. cit, p 205 – 206.
[9]– Vivekananda, op. cit, p 139.
[10]– Ibid.
[11]– Ibid.
[12]– Ibid, p 140.
[13] – صليبا، د. لويس، نحو الحوار المسيحي-الإمامي، بحوث في نقاط الالتقاء بين المسيحية والتشيّع، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2015، ص 458.
[14]– Ibid.
[15]– Ibid.
[16] – نور وحياة، م. س، ص 41.
[17] – م. ن.
[18] – تريزا، أ. ك، ك. س،م. س، 32/6، ص 316.
[19] – تريزا، أ. ك، التقارير، م. س، 3/8، ص 1182 – 1183.
[20] – تريزا، أ. ك، التقارير، م. س، 35، ص 1219.
[21]– Delignerolles, Philippe, et Meynard, Jean-Pierre, Histoire de la Spiritualité Chrétienne, Paris, Editions Ouvrière, 1996, p 155.
[22] –