حكاية الشيخ أحمدحمّود والخوري فرنسيس صليبا/بقلم أ. د. لويس صليبا
(فصل من كتاب المسيحية والإسلام بين الأمس واليوم)
الخوري فرنسيس صليبا وخلفه الشيخ أحمد حمّود في استقبال الرئيسين شارل الحلو ورشيد كرامي عند مرورهما في جبيل نحو1965
لقطة أخرى للخوري فرنسيس صليبا والشيخ حمّود في استقبال الرئيسَين الحلو وكرامي
الرئيسان الحلو وكرامي في زيارتهما لجبيل
الخوري فرنسيس صليبا وعن يمينه صديقه الشيخ أحمد حمّود يتوسّطان عددا من وجهاء جبيل
الشيخ حمّود ينوب عن الخوري فرنسيس
روى الصحافي الراحل فؤاد قاسم، مدير البرامج في الإذاعة اللبنانية، الحكاية التالية: «حين قرّرت مديرية الدعاية والنشر إذاعة برنامجٍ ديني مسيحيّ صبيحة كلّ أحد، خصّصت أبرشية بيروت المارونية أحد كهنتها لإلقاء العظة هو الخوري فرنسيس من جبيل. وقد حرص الأب فرنسيس على الوصول صبيحة كلّ أحدٍ إلى الإذاعة قبل ربع ساعة من الموعد. لكنّه تأخّر في أحد الأيام عن موعده ما أثار ارتباكي. ولم تبقَ إلا دقائقُ معدودة من الوقت فاستعنتُ بفضيلة الشيخ أحمد حمّود الذي كان في استديو الإذاعة علّه يجد حلّاً لمشكلتي، فأجابني مطمئنّاً: لا تقلق يا أستاذ إن الخوري فرنسيس أنابني عنه في إلقاء عظة الأحد، ونحن أصدقاء وجيران في جبيل. وأصرَّ عليَّ أن أعلنَ أن الأب فرنسيس سيلقي العظة… وزادت دهشتي حين أجاد فضيلةُ الشيخ حمّود في إلقاء العظة. وأيقنتُ منذ ذلك الوقت أن لا طائفية في لبنان إلا في عقول تجّار الطائفية»([1])
الخوري فرنسيس من جبيل هو عمّي ومعلّمي الأوّل وأبي الروحي الخوري فرنسيس صليبا([2])، مَن في كنَفه نشأتُ وفي بيته ترعرعتُ متشرّباً مبادئ الحوار وقبول الآخر المختلف. أما الشيخ فهو الشيخ أحمد حمّود ([3])، إمام المسلمين في جبيل يومها، وابنه المهندس رشيد حاضرٌ بيننا اليوم وشاهد. شيخٌ إمامٌ قُرعت أجراسُ كنائسِ جبيل حزناً عليه وقد رحلَ وهو في شرْخ الشباب. وكان الشيخ أحمد حمّود والخوري فرنسيس صليبا على صداقة وودّ وتعاون دائمَين، أذكرهما اليوم عسانا من هذه العلاقة البنّاءة نتعلّمُ ونستعبر.
ميزة معرفية لافتة في الشيخ حمّود
وتستوقفني في الشيخ حمّود، ميزةٌ معرفيّة بحثتُ طويلاً عنها ولا أزال دون أن أجد لها أثراً في لبنان. فقد استطاعَ أن يلقيَ عظةَ الأحد مكان صديقه الخوري ويجيد، ودون أن يشعر أحدُ السامعين أن الواعظ ليس بكاهن بل بالحريّ شيخ مسلمٌ يؤمّ المصلّين. وهذا يعني أن شيخنا كان متمرّساً في مفاهيم اللاهوت المسيحيّ، ويحسنُ استخدام مصطلحاته وعرض تعاليمه وشرحها. ومعرفةُ عقيدةِ الآخر وأسسِ إيمانه كما يفهمُها هو ويعيشها ويعبّر عنها، لا تعني إيماناً بها، وتبنّياً لها. لكنّها على الأقلّ تُسقط مجموعةَ الأحكام المسبقة والأوهامِ المتخيّلة والراسخة في العقول عنها. ولا نزال حتى اليوم نقعُ فريسةَ هذه الأحكام والأوهام. فالصورةُ التي نرسمُها عن الآخر المختلف وإيمانِه وديانتِه هي في الجملة محصّلة إسقاطاتٍ مسبقة ورؤى مشوَّهة عنه ومشوِّهة لإيمانه.
في مؤتمر حوارٍ عقدناه في جنوب لبنان في 6/1/2015 طرحتُ على زميلي الشيخ الدكتور محمد النقّري أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعتنا اليسوعية السؤال التالي: هلْ تعرفُ في لبنان مسلماً واحداً متخصّصاً أكاديميّاً في الدراسات المسيحيّة؟ فحار في الجواب، وانتهى إلى القول لا.
هذا في حين نجدُ في موطن الأرز العشرات من المسيحيّين الأكاديميين المتخصّصين في الدراسات الإسلامية، ومؤلّفاتُهم تشهدُ لهم بطولِ الباع وبالنفَس الحواريّ كذلك. فأين نحن من عقليّة الشيخ حمّود ورصانته وانفتاحه؟! وقد حذّرت وثيقةُ الأخوّة الإنسانية التي نحتفل بها اليوم من خطر جهل الآخر وعقائده وإيمانه، ودعت إلى: “تبنّي التعارف المتبادل نهجاً وطريقاً”.
[1] -أرشيف مركز محمود الأدهمي للتوثيق والأبحاث والمعلومات.
[2] -الخوري فرنسيس صليبا (1916-1996) ولد في سبرين/جبيل، وهو ابن كاهن رعيّتها والوكيل عليها من البطريركية المارونية الخوري يوسف صليبا. درس اللاهوت في كلّية اللاهوت في جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين/بيروت، ورُسم كاهنا نحو 1938. جاء في كتاب الحقائق الجليّة في تاريخ العشيرة الصليبية عنه (ص285): “أرسله المطران عبدالله الخوري سنة 1939 إلى مدرسة الطائفة في يافا أستاذاً ومن ثم مديراً. ثم عيّنه البطريرك أنطون عريضة في المحكمة البطريركية الاستئنافية عام 1942. وأثناء أحداث فلسطين عاد إلى لبنان حيث عيّنه البطريرك عريضة واعظاً في بلاد جبيل لإلقاء الرياضات الروحية في المدن والقرى، ثم عيّنته اللجنة الرسولية عام 1947 مديراً أعلى على التلامذة الإكليريكيين في مدرسة عين ورقة البطريركيّة”. فخرّج جيلاً من الكهنة ترقّى بعضهم إلى الدرجة الأسقفية. أمضى أكثر من ثلاثين عاماً أستاذاً ومديراً للدروس العربية في مدرسة إخوة المدارس المسيحية المعروفة بفرير فرن الشبّاك، وكاهناً في أبرشية بيروت يخدم في رعية مار نهرا في فرن الشبّاك. بدأ بنشر مقالاته من الخامسة عشر من العمر، ومنها “كلّنا للرحيل من أجل الوطن”، “النملة والصرصور”، “إلى حضرة رئيس الجمهورية المقبل”. “ألَم ينقضِ عهد التجارب في لبنان”. جمعته بالرئيس الشيخ بشارة الخوري صداقة متينة، فجعله هذا الأخير معرّفه، وكان يقيم له القدّاس في القصر الجمهوري أثناء الولاية، وفي منزله بعدها. وأرسله الرئيس الخوري في مهمّات عديدة إلى الخارج وخصوصاً إلى سوريا. كما كان من المقرّبين إلى الرئيس اللواء فؤاد شهاب. بعد تقاعده من التدريس في مدرسة فرير فرن الشبّاك عيّنه المطران عبدالله البارد ثم المطران بشارة الراعي خادماً لرعايا عدد من بلدات جبيل لا سيما حصارات وشامات، كما تولّى الإرشاد الروحي والاحتفال اليومي بالذبيحة الإلهية في مدرسة فرير جبيل.
[3] -الشيخ أحمد مصطفى حمّود (1922-1972) : مواليد رأسنحاش 1922 هو من خريجي أزهر بيروت. بدأ رسالته التعليمية في مدرسة المقاصد في بلدة إجدعبرين –الكورة. انتقل الى جبيل في 1946 حيث كان إمام مسجد جبيل وتابع مهمة التعليم في جبيل. في 1960 عيّن مدرس فتوى جبل لبنان. وقد تميّز طيلة هذه الفترة بحسب كل من عرفه من أهالي مناطق البترون الكورة وجبيل وغيرها. بأخلاقه السمحة الرفيعة، في تعاملاته مع المسلمين وغير المسلمين على حد سواء. فهكان المربي والمعلم والإمام الذي يقتدى به في تعاملاته اليومية وفي كل المناسبات.
ولأنه كان على يقين أن الدين هو ما يعيشه المؤمن داخل وخارج المسجد، لم يتردّد بأن يدافع عن وحدة عيش المسلمين والمسيحيين في بلاد جبيل خلال الأحداث المؤلمة التي عمّت البلاد سنة 1958: فقد امتثل بقامته في سوق جبيل ليدرأ بجسده فتنة كادت أن تندلع بين المسلمين والمسيحيين آنذاك فاتحاً “جبته” ليطلب أن توجه أي رصاصة ضد المسيحيين نحو صدره أولاً. فكان هذا الموقف منه داعماً لوحدة الجبيليين الذين أعادوا وحدة كلمتهم والتفافهم على أي محاولة تهدم عيشهم المشترك. وكان الشيخ أحمد حمّود الحاضر الأبرز في المناسبات الدينية والاجتماعية الإسلامية والمسيحية وكان يؤمّ المصلين في مسجد جبيل من الطوائف السنّية والشيعية على حد سواء.
أما في التعليم الديني فكان الطلاب في مدارس جبيل يواظبون على دروسه مسلمين ومسيحيين ويقدّرون له حمله رسالة الخير في المجتمع والوطن.
وحتى يومنا هذا لا يزال الجبيليون الذين عاصروه يشهدون له ولدوره الحواري الفعّال في المنطقة. توفّي في 1 تشرين الاول لسنة 1972 تاركاً وراءه مثالاً للخير والعيش المشترك.