مقابلة مع المعلّمة البوذية الراهبة تينزين بالمو Tenzin Palmo
حاورها د. لويس صليبا في 14/4/2021
الدعوة الموزّعة لمشاهدة المقابلة
في إطار دروس اليوغا والتأمل (الدرس 35) التي ينظّمها الدكتوران Jacques Vigne و لويس صليبا يسرّنا أن نستضيف معلّمة اليوغا والتصوّف البوذي ومؤسّسة دير الراهبات البوذيّات في دارمسالا/الهند، ومساعدة قداسة الدلاي لاما الراهبة المتصوّفة
تينزين بالمو Tenzin Palmo
في مقابلة تتوجّه فيها للمرّة الأولى إلى العالم العربي ولبنان
الأربعاء 14 نيسان 2021، السادسة والنصف مساءً/توقيت بيروت
دروس اليوغا والتأمل على تطبيق Zoom
تينزين بالمو خلال المقابلة على Zoom مع د. لويس صليبا
القسم الأوّل من هذه المقابلة متوفّر على اليوتيوب Youtube ويمكن مشاهدته على الرابط التالي:
يمكن متابعة كامل هذه المقابلة فيديو على الرابط Link التالي:
https://drive.google.com/drive/folders/1VV9u6wkT-b7v7WTyEMdcX-ocTtk0fZxF?usp=sharing
مقدّمة تعريفية وترحيبية
يسرّني ويسعدنا جميعاً أن نستضيف في ما بيننا هذه الليلة وجهاً روحيّاً مباركاً ومشرقاً جيتسونما تينزين بالمو Jetsunma Tenzin Palmo([1]) الراهبة ورئيسة دير الراهبات البوذيّات قرب درامسالا. ولا أحتاج إلى الكثير من الكلام كي أعرّف عنها، فهي معروفة شرقاً وغرباً. وأوّل لقاء لي بها كان من خلال هذا الكتاب ([2])Un ermitage dans la neige الذي يروي سيرتها وجهادها العسير والمتواصل طيلة سنواتٍ عديدة في محبسة محاطة بالثلوج في الهملايا. بعدها حدّثني أستاذي البروفسور جاك فينيو Prof Jacques Vigne عنها. وعندما عقدنا المؤتمر الدولي الأوّل “اليوغا وعلم النفس” في 25 أيار 2019 كان لها كلمة في افتتاحه أثارت الكثير من الاهتمام، إن من حيث المضمون، أو الأسلوب السهل الممتنع، أو النبرة الهادئة السلامية. وبعدها نشرتُ حواراً معها في مجلّة الأمن/بيروت، وهي من أكثر المجلّات رواجاً في لبنان، ولعلّه كان النصّ العربي الأوّل الذي ينشر لها. وقد لفت انتباه الكثيرين، لا سيما ممّن يهتمّون بالشأن الروحي وحوار الأديان. وتناقله بعد ذلك عدد من المواقع على الإنترنت. واقترح الكثيرون علينا دعوتها إلى زيارة لبنان، فهو بلدٌ بأمسّ الحاجة لمن يحملون رسالة سلام داخلي من أمثالها. لكن الظروف العامّة منذ 17/10/2019، وما تبعها من جائحة كورونا التي عمّت أرجاء العالم حالت دون ذلك. وها نحن الآن في حوارٍ مباشر معها، عساه يعوّض بعض ما فاتنا من حضورها الموعود.
ل ص: عزيزتي جيتسونما([3])، أهلاً بك ضيفة كريمة، فهل من كلمة تستهلّين بها لقاءنا هذا؟
:TP لا شيء محدّد. وإنّما أكتفي بالقول إنني فخورة جدًا بالسماح لي بالتحدّث إليكم في لبنان، مباشرة من حيث أنا، في شمال الهند. التكنولوجيا الحديثة أوقعت العالم في الكثير من المشاكل، ولكنها بالمقابل قدّمت بعض الهدايا: على سبيل المثال إمكانية التواصل هذه: أن نجتمع من مختلف أنحاء العالم، ونتحاور، ويصغي كلّ للآخر، ونتناقل المعرفة والتعاليم في ما بيننا. لذا يسرّني ويشرّفني أن ألبّي دعوتكم هذه.
س: جيتسونما سؤالي الأوّل، كامرأة بريطانية من حيث الأصل، لماذا وكيف انجذبت إلى البوذية وخاصة البوذية التيبتية؟
إنها قصة طويلة، لكن باختصار، فمنذ الطفولة المبكرة، كان لديّ فكرة أن طبيعتنا مثالية بحدّ ذاتها، وأن طبيعتنا الحقيقية تتخطّى الأفكار، لكننا فقدنا الاتصال بها، لذا نحتاج إلى العودة مرة ثانية وثالثة ورابعة حتى نعيد اكتشاف من نحن في الواقع. لذلك، ومنذ ذلك الوقت، كنتُ أبحث عن طريق نحو هذا الكمال الداخلي. بيد أن كلّ الأديان التي عرفتُها يومها: المسيحية واليهودية، حتى إنني حاولت قراءة القرآن، لم تقنعني: لأنني لم أشعر كثيرًا بوجود كائن خارجي يشبه سيّد دمى، ويتحكّم بالحبال ويشدّ الأوتار، ويجلس في آخر المطاف كي يديننا. لم أصدّق ذلك، لكن معظم الخطابات الدينية التي كنت أعرفها كانت تتحدّث عن هذا. بعد ذلك، عندما كنت مراهقة، قرأتُ كتابًا بسيطًا جدًا وأساسيًا عن البوذية. ويتحدّث عن الحقائق الأربع النبيلة، المسارات الثمانية، وغير ذلك ممّا كنتُ أعرفه في الداخل، ولكنني شعرتُ بامتنان كبير لبوذا لشرحه الواضح لطبيعتنا الفطرية وكيفية الوصول إليها، ليس فقط ماذا تفعل، ولكن كيف تفعل ذلك. فالبوذية، كما تعلم، تحفل بتقنيات لتغيير أذهاننا. لذا، وحتى قبل أن أُنهي الكتاب، علمت أنني لم أصبح بوذية فحسب، بل كنت كذلك في أي وقت مضى، ومن دون علمٍ مباشر منّي.
-وماذا بالنسبة إلى البوذية التيبتية تحديداً، وكيف اهتديتِ إليها؟
أما بالنسبة للبوذية التيبتية، فلم أكن منجذبة إليها بعد، كنّا في العام 1961، ولم يكن يُعرف عنها يومها سوى القليل جدًا. كان الدالاي لاما قد هرب للتو من التيبت في عام 1959، ولم يكن أحد يعرف جيدًا ما كان يحدث، وكان التيبتيّون لاجئين، وكان الشيوعيون الصينيون قد استولوا على التيبت. لذلك، كانت المعلومات الموثوقة قليلة جدًا عن البوذية التيبتية. قرأت أن هناك تقاليد مختلفة داخل هذه البوذية، لذلك قال لي صوت بداخلي: “لا! البوذية التيبتية معقدة للغاية! ” وفي أيّة حال، أدركتُ أنني إذا أردت أن أدرسها، فسأحتاج إلى معلّم، لذلك غادرت إلى الهند بحثاً عن لاما أي عن معلّم لي.
–جيتسونما، ماذا بقي في تينزين بالمو الحالية من الحضارة والثقافة الغربية؟
كما تعلم، أنا في الأساس إنكليزية ولم أحاول أبدًا أن أصير تيبتيّة. بيد أنّني أريد بالطبع أن أكون بوذية حسنة الممارسة، ولكن كغربية تمارس الدهارما، وليس كتبتيّة. وعندما كنتُ في الأربعينيات من عمري، كنت في الهند منذ 24 عامًا، واضطررت إلى مغادرتها. فدعاني صديق إلى إيطاليا، وشعرت أنه بعد مغادرتي للغرب في سن 21، كنت بحاجة إلى إعادة الاتصال بالثقافة الغربية. كانت إيطاليا بالتأكيد مكانًا جيدًا لذلك. كانت ثرية للغاية. لمدة 24 عامًا، لم أكن أسمع سوى عن البوذية والثقافة التيبتية. هناك في جبال الهيمالايا، لم يكن أحدٌ يعرف شيئاً عن الفن والموسيقى والثقافة الغربية، وما إلى ذلك. درستُ في إيطاليا حتى عن المسيحية في العصور الوسطى وعصر النهضة. وكان ذلك أمراً مغذّياً جدّاً لي. الثقافة التيبتية رائعة جدًا ، والثقافة الهندية عميقة جدًا، ولكن الثقافة الغربية أيضًا ذات قيمة كبيرة. لذا ، دعونا نحصل عليها جميعًا!
-جيتسونما ماذا عن وضع النساء في المجتمع التيبتي ولا سيما الراهبات في هذا التقليد الروحي؟
رغم أنّه من المعلوم أنه لدينا جميعًا نفس الطبيعة الفطرية، فأنت تعرف أن البوذية، مثل أي ديانة تقليدية في العالم، هي بطركية البنية. ولطالما كان دور المرأة فيها ثانويًا. وحتى لو كانت المرأة التيبتية قوية جدًا، فهي مع ذلك تابعة للرجل. لا سيما وأن الراهبات لم يتلقين التعليم الذي كان الرهبان يتلقونه. نتيجة لذلك، فأنت مواطن من الدرجة الثانية. وإذا لم تكن قد حصّلت علوماً بعد، فأنت بحاجة إلى تعليم. ورغم كلّ هذه الصعوبات، ففي الوقت الراهن، في التربية للعلمانيين، فالفتيات يتلقيّن التربية إيّاها التي يتلقّاها الفتيان، وكذلك هي الحال بالنسبة للراهبات. إنهن يدرسن النصوص الفلسفية والدينية عينها التي كتبها الرهبان، وهن الآن مدرّسات. هذا مهمّ جداً. وفي دير الراهبات لدينا مدرّس واحد فقط من الذكور، وسائر المعلّمين الآخرين راهبات. لذا، فإنهن راهبات يقُمن بتعليم الراهبات، ولديهن في الوقت الراهن شعور هائل بالثقة بالنفس. وليس هناك أي أثر لأي عقدة نقص في هذا المجال. فهنّ يقمن بكلّ ما يترتّب عليهن من مسؤوليّات وواجبات. واللافت هنا أن الرهبان يقبلون ذلك ويحترمونه، فهم يحبونهن ويعلمونهن بالطرق التقليدية. لقد تغيّرت الأمور حقًا الآن، وفي وقت قصير جدًا. وكل هذا بسبب التعليم. وكما لاحظ رئيس وزراء بهوتان، كثيراً ما تكون النساء أكثر تكرّسًا وتركيزًا وأكثر ذكاءً من الرجل، بيد أنّنا أهملناهن وتجاهلناهن لفترة طويلة! أما اليوم فانتهى زمن تجاهلهن، وكل التركيز ينصبّ على تأهيل المرأة.
–جيتسونما، في الكتب البوذية المقدسة، هل من مساواة بين النساء والرجال، أم ثمّة فوارق واختلافات بينهما؟
هناك كتب مقدسة تناقش فيها النساء أنفسهن تجارب التحقّق الخاصة بهن، ويروين فيها كيف قابلن بوذا، وكيف علّمهن وكيف حصلن على النيرفانا، وما إلى ذلك… ولكن وبصورة عامّة، فالرجال هم من كتبوا الكتب. وعندما يكتبها الذكور، فسيكون لديهم بالطبع وجهة نظرهم الذكورية. وبعض النصوص كارهة للنساء، لكن ليس كلّها. ففي ماهايانا سوترا، تحظى الأسرة والنساء باحترام كبير، ويمدح الذكور النساء. لذا فالمرأة حاضرة في الكثير من الكتابات البوذيّة. ولكن بالطبع، وكما في العديد من الديانات الأخرى، تميل البوذية إلى المولود الذكر، فهم يعتبرون أن النساء أقلّ حظًا لأن لديهن كارما أدنى.
-جيتسونما، ما هي علاقتك بقداسة الدالاي لاما إن من الناحية الشخصية أم كمؤسسة لدير راهبات؟
إنه مصدر إلهام كبير لنا جميعًا. التقيتُ به لأول مرة عام 1964، ومذّاك التقي به من حين لآخر. وعندما يراني، يردّد: “آه، ها هي صديقتي القديمة!” لأننا نعرف بعضنا بعضاً منذ سنوات عديدة. إنه دافئ جدًا، محب جدًا، ويحضن الجميع. ويدعم النساء بالطبع. ويؤيّد السيامة الكاملة للراهبات. إلخ. هو ليس معلّمي، إذ ينتمي إلى تقليد رهباني آخر، ولكن بالنسبة لجميع التيبتيين، فهو الرجل الذي يوحّدهم. حتى لو لم يتّفقوا مع كل سياساته، فإنهم يعرفون أنه رجل طيب للغاية. يشجّع تعليم الرجال والنساء، والعديد من أعضاء حكومته من النساء. إنه أمر غير عادي حقًا، بالنظر إلى كلّ ما كان عليه أن يتحمّله، لنرى كم هو لطيف، ودافئ القلب مع الجميع. إنه الشخص الذي يعرف فيه جميع التيبتيين أنفسهم.
-جيتسونما، كيف يمكن للمشاكل الراهنة التي يسبّبها Covid-19 أن توقظ الوعي في الدول العربية وفي سائر أنحاء العالم؟
الشيء الوحيد الذي يظهر الآن هو ترابطنا كبشر. لا يهمّ إذا ما كنتَ ذكراً أم أنثى، أأنت عربي أو لبناني أو فرنسي أو بريطاني أو أمريكي أو ياباني، لا يهمّ كل ذلك، فالفيروس يربطنا جميعًا. إنه يظهر لنا بوضوح شديد أنه بالإضافة إلى كل هذه الاختلافات والانقسامات السطحية للغاية، فإننا جميعًا، في نهاية المطاف، بشر. نحن جميعًا نعيش في الكوكب نفسه، فأين الانقسامات عندما ننظر إلى ذلك؟ يجب أن نعي ترابطنا، وكيفية مساعدة بعضنا بعضاً، عوض خلق المزيد والمزيد من المشاكل على الأرض. لماذا لا نتعاون معاً؟ نحن لسنا أذكياء للغاية، كبشر.
– أين يكمن برأيك هذا الافتقار إلى الذكاء؟!
نحن نقاتل بعضنا بعضاً. نحن نقول: “أنا على حقّ، أنت مخطئ”. نحن نتنازع على أشياء غير مهمّة بدلاً من التعاون في ما هو مهمّ. نحن لا نطوّر ذكاءنا الحقيقي ونفتح قلوبنا وننمّي حبّنا وتعاطفنا مع جميع البشر. نحن لا نتعلّم من أخطائنا. نحارب بعضنا بعضاً، ثم نأخذ استراحة لفترة من الوقت لنبدأ بعدها من جديد. إذا لم يكن هذا غبيًا، أخبرني ما هو الغباء؟ علاوة على كلّ ذلك، فلدينا كوكب جميل فقل لي ماذا نفعل به؟ نحن ندمّره، ندمّر كل شيء. نحن لسنا أذكياء بتاتاً، وأنا جدّ آسفة لذلك.
-جيتسونما، ما الذي يجب أن يفعله الرهبان أو أي باحث روحي آخر لحماية أنفسهم من الآثار النفسية والروحية لهذا الوباء؟
أولاً، وقبل كل شيء، بدلاً من توليد المزيد من الخوف والبارانويا، يمكننا محاولة تنمية المزيد من التعاطف واللطف، وإرسال تلك المساعدة إلى العالم. في الواقع، أفكارنا قوية للغاية، وإذا واصلنا إرسال أفكار جنون العظمة والخوف والغضب، فإن هذا سيلوّث الجو النفسي للكوكب بأكمله. لذلك، كل من ينتمي إلى تقليد روحي، وحتى من لا ينتمي إلى أي تقليد، لا يهمّ، كلّ فرد منّا يجب أن يرسل الحبّ والرحمة من قلبه الطيب، ويرسل أفكاره الإيجابية وسط هذا الظلام. فحتى شمعة واحدة من شأنها أن تبدّد الظلام، كما يقولون. وهذا صحيح. يمكن للناس أن يجتمعوا في مجموعات ويتخيّلوا أنهم يرسلون اللطف والمحبة والرحمة وما إلى ذلك إلى الآخرين في جميع الأنحاء، بما في ذلك إلى البلدان التي تعتبر معادية، بل وخصوصاً إلى هذه البلدان. يجب أن يتمّ ذلك بجرأة، وأن لا نستسلم للخوف، يجب أن نمارس كل ذلك بلا خوف.
-جيتسونما، في الواقع، هناك ذعرٌ كبير في جميع أنحاء العالم من هذا الوباء. كيف يمكننا مساعدة الناس ومساعدة أنفسنا للتغلّب على هذا الخوف؟
إذا كنتَ تعرف أشخاصًا محتاجين، فيمكنك مساعدتهم. هناك مجموعات تساعد الناس. هناك أيضًا قوة الصلاة، وهي مهمّة جدًا، وقوة التأمل: إرسال أفكار إيجابية قوية جدًا بدلاً من الأفكار السلبية. لأن مجرد الشعور بالبؤس لن يساعد أي شخص. إذا لم نساعد أنفسنا، فلن نساعد أي شخص آخر. نحن مترابطون حقًا مع بعضنا البعض. عدوّنا الرئيسي هو ذهننا فقط. الكلّ يريد أن يكون مسالمًا، يريد أن يكون سعيدًا، لا يريد أن يكون حزينًا. يجب أن نتجاوز هذه الصناديق الصغيرة المنحازة التي نحتفظ فيها بأذهاننا وقلوبنا. دعونا نخرج من العُلب ونتوسّع، هذا مهمّ للغاية ويمكننا القيام به. هذا أفضل بكثير من الجلوس معًا لنصبح سلبيين للغاية.
-ما نوع الاحتياطات التي تتخذونها في ديركم؟
المبدأ الأساسي هو عدم خروج أي شخص، وعدم السماح للزوّار بالدخول، وذلك منذ الإغلاق الأول. كل فرد في الدير يقوم بعمله، حتى الآن لا أحد مصاب. تضغط الحكومة من أجل التطعيم في كل مكان، ولا يزالون الآن يقدّمون جرعات اللقاح فقط لمن هم فوق الستين. أكثر أفراد الجماعة هنا من الشبّان، بين 5 و 45 عامًا، ومعظمهم تتراوح أعمارهم في حدود العشرين عامًا، لذلك سيكونون آخر من يتمّ تطعيمهم، هذا إذا أرادوا. تركتهم يقرّرون بأنفسهم. على أي حال، سيكون هناك عدة أشهر قبل ذلك، لا توجد لقاحات كافية، لأن الهند أيضًا توزّع على البلدان المجاورة، إلى نيبال وبهوتان ، إلخ.
-هل تتحرّكين وتخرجين من الدير؟
أنا هنا منذ ديسمبر 2019. لم نخرج من هذا الدير منذ مارس من العام الماضي. في الواقع، من المفيد جدًا البقاء في هذا المكان، فهذا يتيح الاستمتاع بنظام الدير اليومي. عادة، أنا أركض في جميع أنحاء الكوكب. وأيضًا، الراهبات فرحات لوجودي معهن هنا. وهن لا يخرجن. لدينا أرض فسيحة تحيط بالدير ويعملن فيها، لذا فهن لسن محتجزات في المباني.
–جيتسونما، ما رأيك بالمسيحيين، بمن فيهم بعض الرهبان والراهبات، الذين يستخدمون التأملات البوذية في ممارساتهم؟
لِمَ لا؟ إن ما يجذب المسيحيين في البوذية يكمن أساساً في أنها تقدّم تقنيات لتحقيق المبادئ الأساسية التي يتحدثون عنها هم أيضًا. على سبيل المثال، غالباً ما يتحدّثون في المسيحية عن الحب والرحمة، والبوذية لديها تقنيات لتطوير هذه الفضائل. فهي لا تكتفي بأن تقول: “كن لطيفًا ، كن محبًا”، بل تعطي طرقًا لتنميتها. على سبيل المثال، التأمل اللطيف المحب، البراهما فيهارا Brahma-Viharas مع اللطف المحب والرحمة والفرح المتعاطف والاتّزان. يوجّه المرء هذه الفضائل أولاً نحو نفسه، ويتمنّى أن يكون سعيدًا ومعافى، ثم يوجّهها نحو الأشخاص المتعاطفين معه، ثم نحو الأشخاص المحايدين، ثم نحو أعدائه: فيتمنّى لهم أن يكونوا بخير وسعادة، ويوجّهها نحو العالم كلّه. هناك العديد من الممارسات التي يقدّرها المسيحي حقًا: على سبيل المثال، كيف نجعل الفكر أكثر هدوءًا، وكيف نفتح قلوبنا. عندما كنتُ أعيش في إيطاليا، كنتُ أذهب أحيانًا إلى تلك المؤتمرات التي ينظّمها رهبان مسيحيون، وكان كل هؤلاء الرهبان من مختلف الطوائف الكاثوليكية، من البينديكتيين، الكبوشيين، الرهبان اليسوعيين، يمارسون بعض أشكال التأمل البوذي: فيباسانا، التأمل التيبتي، الزان، وكانوا يجتمعون لمناقشة ذلك والتأمل معًا. لم يفقدوا مسيحيّتهم من أجل ذلك، بل على العكس قاموا بتعزيزها. مساهمة البوذية في العالم تكمن في الممارسة: هذا لا يعني أنك بوذي، يمكنك أن تكون أي شيء أو لا شيء، إنها تعلّمك كيفية ترويض العقل وكيفية فتح القلب. هذا مفيد ومتاح للجميع، ولا يجعلك بوذيًا.
–جيتسونما، كراهبة تيبتية، كيف تنظرين إلى الصين والنظام الشيوعي فيها الذي لا يزال يحتلّ التيبت؟
زرتُ الصين مرات عديدة، ومعظمها في رحلات حج، أولاً في تايوان ثم في البر الرئيسي. كانت الصين دولة بوذية منذ 2000 عام، كما عانت من دمار كبير خلال فترة الثورة الثقافية. وعانى شعبها كما عانى التيبتيون. وتشهد الصين اليوم عودة كبرى إلى الاهتمام بالبوذية، ولا سيما البوذيّة التيبتية. وأعرف الكثير من الصينيين الذين يتتلمذون على معلّمين تيبتيين. كما يكثر ممارسو التأمّل البوذي بين الصينيين في أيّامنا. وأكثر طلّاب الدراسات البوذية التيبتية في الهند هم من الصينيين. معظم الأديرة التي أعيد بناؤها في الهند والتيبت كانت كذلك بأموال صينية، من تايوان في البداية، والآن من الصين نفسها. تسبّب الصين على الصعيد السياسي الكثير من المشاكل، لكن الصينيين أنفسهم محبوبون ومخلصون جدًا. ويتعلّم العديد من اللامات اليوم اللغة الصينية لأن الكثير من طلابهم صينيون.
-هل من الممكن أن ينتمي المرء إلى ديانةٍ ما من دون أن يعادي الأديان الأخرى؟ وكيف؟
أليس هذا سؤالاً غريباً؟ ليس الدين نادي كرة قدم، بحيث يتوجّب عليك أن تدعم فريقك ضدّ الآخرين. يجب أن يجمعنا الدين من خلال القلب. لدينا ديننا الخاص، لكننا نحب ونحترم دين الآخرين. إنه مثل الطعام. لديكم جميعًا طعامكم الوطني الذي يعَدّ في المنزل، وتعتقدون أن طعامكم هو الأفضل في العالم. لكن الآخرين لديهم طعامهم الخاصّ والأكثر ملاءمة لهم. لذلك لا يمكن للمرء أن يقول: “طعامي هو الأفضل”، لأنني أتناوله دائمًا!” إنه لذيذ بالنسبة إليه هو، ومغذٍ له ويحافظ على صحّته. وبالمثل، يجب أن يكون الدين شيئًا يساعدنا على التواصل مع الناس. إنه لأمر محزن للغاية أن يصبح العقل ضيّقًا جدًا، وعندما نقول: “أنا على حق، لذا يجب أن تكون مخطئًا!” فهذا كلام فارغ. هناك العديد من الطرق للوصول إلى الحقيقة، ولا أعتقد أن أي دين يستطيع أن يحتكر حقوق الملكية الفكرية للحقيقة ويحصرها فيه. الحقيقة تتجاوز كل ما يمكن أن نتخيّله.
-ولكن أليس هذا ما يزعمه الكثير من الأديان؟
دعني أروي لك هذه الحادثة، والتي من شأنها أن تشرح بعض ما نقول. كنتُ في زيارة للقدس بصحبة صديقة لي هي الأخرى راهبة بوذيّة، وكنّا نرتدي زيّ الراهبات الأحمر. فجاء حارس عربي إلى الأصدقاء الذين كانوا يرافقوننا كدليل سياحي وسألهم عنّا، فأجابوه:
-إنهما راهبتان بوذيّتان. فتساءل قائلاً:
-البوذية هل هي ديانة جديدة؟!
-لا، إنّها ديانة قديمة جدّاً.
-البوذيّون إذاً هم ضدّ من؟! فتخيّلوا هذا السؤال.
-لا نعتقد أن البوذيين هم ضدّ أيّ كان.
فعندها ركض هذا الحارس وراءنا قائلاً:
-هل يمكنكما أن تحدّثاني عن هذه الديانة، فنحن لم نسمع بتاتاً عن ديانة لم تحدّد نفسها على أنّها معادية للآخرين.
أوليس محزناً حقّاً أن نسمع كلاماً كهذا؟!
-جيتسونما، تقولين إن الألم من شأنه أن يعيننا على تنمية تركيزنا وتطويره. فكيف نستطيع أن نستخدمه لمثل هذا الغرض؟
عندما نشعر بالألم، فغالباً ما ينحصر ردّ فعلنا في رفضه ومقاومته. نحن لا نحبّ الألم. الألم موجع. ومع ذلك، فإذا كان الألم أمرًا لا مفرّ منه، فهو أمرٌ مفيد لإدراكنا، فطالما أننا لا نستطيع الهروب منه، فعوض أن نقاومه نستطيع ببساطة أن نسترخي ونراقب هذا الألم.
-هل يمكنك أن تعطي مثلاً يوضح ما تقولين؟
غالباً ما أروي هذه الحادثة مثلاً على ما أقول: عندما كنتُ أعيش في كهف في لاهول، كنتُ يوماً أقوم بقطع الحطب، فانزلقت الفأس وكادت تقطع إبهامي. فلففته بإحكام شديد في قطعة قماش، في كاتا (وشاح أبيض يُستخدم في طقوس التيبت). وبقيتُ حيث أنا، ولم يكن أمامي شيء أفعله، لذا جلستُ أراقب الألم. كانت مراقبة رائعة. كان هناك ألم طعن وألم شديد وألم موجع: كلّ نوع من المشاعر المختلفة التي تظهر. بقيت هكذا، دون أن أحاول التفكير: “هذا غير سارّ!”، فقط ألحظ هذه الأحاسيس. وقد ذكّرتني بأوركسترا، حيث هناك الكمان والأبواق والطبول وغيرها، وكلّها تعمل معًا. وكلّ آلة تساهم في إخراج اللحن العامّ. لذلك، كان تأمّلًا عميقًا للغاية. لم أكن أفكّر: “أنا لا أحبّ هذا الألم، أريده أن يزول”. كنتُ فقط ألاحظ أنه شعور. الألم هو فكرة قوية للغاية، ليس عليك البحث عنه. لذلك، بهذه الطريقة، يكون تركيزًا مفيدًا جدًا لليقظة الذهنية.
ولكنّنا وكما ذكرتِ لا نقبل الألم بتاتاً، بل نقاومه ونرفضه!
بالضبط. كما يقول البوذي، عادة، هناك نوعان من المعاناة: هناك معاناة جسدية لا مفرّ منها، وهناك معاناة نفسية يمكن تجنّبها. لذا، فإن المعاناة النموذجية لا يمكن تجنّبها عموماً، وعلينا أن نعاني. ومع ذلك، فإن المعاناة النفسية، حيث نشعر بالحزن ونرفض ذلك الألم، اختيارية. لا نحتاج أن نتعذّب بسبب معاناتنا، يمكننا أن نقبل، وأن نسترخي، بل حتى يمكننا استخدام الألم أداةً لتأمّلنا. بالطبع، إذا كان لدينا ألم ويمكننا إزالته، فلا يجب أن نتأخّر عن ذلك، ولكن إذا كنّا في موقف لا نستطيع فيه أن نلاشي الألم، فيمكننا استخدامه كأداة للتركيز. هنا تصبح العقبة فرصة. بيد أنّنا برغبتنا في الهروب من الألم، فإننا نضاعف من وقع المشكلة، أو بالحري نخلق مشكلة أخرى حول المشكلة الأساسية! أما إذا واجهنا الأمر بصبر، بل وبلطف، فلا يعود هناك من مشكلة. في الواقع، إن موقفنا هو المشكلة: ليس ما يحدث، ولكن الطريقة التي نواجه بها الحدث. وفي الغالب، فردودنا ليست حاذقة، فنحن نرفض الألم، ونستاء منه، ونضيف مشكلة عاطفية إلى الألم العاري، لذلك ينتهي بنا الأمر بمشكلة مزدوجة!
-جيتسونما، وماذا عن الخوف، والناس يهربون خصوصاً منه؟!
إنها ليست ردّة فعل صحيحة. فعندما يظهر الخوف احتضنه، وصادقه! وتحدّث إليه: “ما مشكلتك؟ ما الذي ليس على ما يرام؟ قل لي لِمَ أنت خائف؟ وهكذا اجعل من خوفك صديقًا.
-وماذا عن الغضب؟
أوه! الغضب بالتأكيد مشكلة. ويسبّب لنا وللآخرين المزيد من المتاعب. إنه حالة ذهنية حزينة للغاية. وهو لا يجلب السلام، ولا يجلب التفاهم، نعتقد: “أنا على صواب ، أنت مخطئ!” الغضب يزيد الضغط ويتحوّل إلى كراهية وينتهي به الأمر إلى فوضى عارمة! لذا، من المهمّ جدًا أن ننظر إلى غضبنا وأن لا نتغاضى عنه، وأن نسأل: “لماذا أنا غاضب؟”. هناك طرق عديدة للتعامل مع الغضب. قبل عامين، عندما كنت في كوستاريكا لإلقاء عدد من المحاضرات، وقع بين يديّ كتاب بعنوان: “كيف يمكن حتى للغبي أن يسيطر على غضبه”
Anger” Overcome “The Dummy’s Book to
وكان كتابًا ضخماً جدًا. فتصفّحته، ووجدتُ أن العديد من الأشياء التي تمّ شرحها فيه كانت من التعاليم البوذية، ولكن بالطبع، لم يتمّ تقديمها على هذا النحو، فهو كتاب علماني، ويمكن للمرء أن يجد فيه نصيحة مفيدة لا سيما لمواجهة المشاعر غير المريحة. ومن المؤكّد أن الغضب ليس حالة ذهنية سعيدة! وهو يسبّب الكثير من ردود الفعل السيئة على مستويات عديدة: الكلام والعقل والجسد. لذا فعلينا بالتأكيد أن نتعلّم كيف نتغلّب على الغضب.
-أية علاقة تربط بين الغضب والخوف، وكيف نتعامل معهما؟
يمكن أن نفصل بينهما، فما كلّ غاضبٍ بخائف. بالطبع، قد يكون الجمع بين الخوف والغضب ردّ فعل حيواني. فإذا كان حيوان ما محاصَرًا وكان خائفًا، فإنه يصبح عدوانيًا. هذا جزء من الطبيعة الحيوانية. ولكن للغضب البشري أسبابٌ أخرى عديدة، يغضب الناس لأن شخصًا ما لا يتّفق معهم، أو لأن لديهم أفكارًا مختلفة عن الآخرين، أو لأن هؤلاء لا يحبّونهم، أو لأنهم يحرمونهم من سعادتهم ويضايقونهم، أو لأنهم غاضبون عموماً من الحياة. وغالباً ما يكون ذلك نتيجة غضب المرء من نفسه. وفي الواقع، إن لم نكن في سلام مع أنفسنا، فلن نكون في سلام مع العالم. إذا كنّا في سلام حقيقي مع أنفسنا، وإذا كنّا أصدقاء مع أنفسنا، فإن الأمور والظروف الخارجيّة عموماً لن تقلقنا كثيرًا. فإذا نمّينا اللطف المحِبّ والرحمة تجاه ذواتنا، فعندها تسهل الأمور الأخرى. وإلا فسيكون هذا صعبًا. لهذا السبب، ففي البوذية، نوجّه أولاً كل هذه المشاعر الإيجابية نحو أنفسنا، وعندها يمكننا نشرها في العالم.
-المشاعر الإيجابية مثل ماذا؟
حسنًا، مثل اللطف المحبّ، وغيره. وأبرز المشاعر المودّة. ألا يحسن بي أن أكون سعيداً؟! ألا يحسن أن أكون مسالماً؟ ألا يحسن أن يكون قلبي مفعماً بالمشاعر الطيّبة؟ وأن أتمنّى كلّ ذلك لنفسي؟ ألا يحسن أن لا تعترضني المشاكل؟ وأن أتمنّى أن أكون بخير، وأن أكون سعيداً؟ علينا أولاً أن نعمل كي نكون أصدقاء لأنفسنا، وأن نقول أشياء لطيفة لأنفسنا، وأن نشجّع أنفسنا. ثم عندما نبدأ بالشعور بالراحة مع أنفسنا، وبالتسامح مع أنفسنا، وعندما نتيح لأنفسنا أن نكون أصدقاء لأنفسنا، فعندها نفعل ذلك مع من نحبّ: مع عائلتنا، وأقربائنا، وأعزّائنا، وكلبنا الأليف، إلخ ونتمنّى لهم جميعاً أن يكونوا بخير.
-في العربية مثلٌ يقول: المحبّة تبدأ من الذات ثم تتوزّع على الآخرين، فهل هذا ما تقصدين؟
قد تكون لدى الناس أفكار غريبة جدًا حول ما يجب أن يكون على ما يرام، ولكن بشكل عام، لا أحد يريد أن يعاني. لذا تمنى ذلك! تمنّاه أولاً للأشخاص الذين تحبّهم، ثم للأشخاص الذين تقابلهم للتو، ولم تفكّر أبدًا في ما إذا كانوا سعداء أو غير سعداء، ولزملاء العمل، أو ساعي البريد أو أي شخص آخر. فكلّهم يرغبون أيضًا أن يكونوا سعداء، كما أنهم يختبرون عالمهم الخاصّ. فدعهم يكونوا سعداء. ثم أعداؤنا، أناس نعرفهم ولا نحبّهم، أو أناس من أمة لا نحبّها، من أديان لا نحبها، تمنّى أن يكونوا سعداء! تخيّل كم سيكون الأمر رائعًا إذا كنا على ما يرام مع بعضنا بعضاً، لطفاء مع بعضنا البعض. أستحضر ذلك في قلبك. وتدريجيًا ستتغيّر الأمور.
-كيف يتمّ ذلك؟
أثبتت البحوث في علوم الأعصاب أنه إذا كان الناس يمارسون تمارين منتظمة لتوليد اللطف المحب وتنميته، فإن ذلك يغيّر المسارات العصبية في الدماغ. إنها تقوم بالعمل. هناك أيضًا تجارب تعرَض فيها مقاطع فيديو على أشخاص عاديين وليسوا من كبار المتأمّلين واليوغيين. فتثير غضبهم. ولكن بعد أن يتمّ تدريبهم على تأمّل اللطف والرحمة، فبمقدورهم مشاهدة الفيديو نفسه، فيثير فيهم التعاطف عوضاً عن الغضب. إنها حقيقة علمية، وهي تؤكّد أنّه بمقدورنا أن نغيّر أفكارنا من شيء سلبي إلى إيجابي. إنّها مسألة تدريب.
-جيتسونما: تنصحين تلامذتك عندما لا يكونون على ما يرام أن يردّدوا الصيغة التالية: Ok to not be ok. “لا بأس أن لا أكون على ما يرام”.
فكيف يمكن لهذه الصيغة أن تساعدهم في هذه الحالة؟!
المشكلة تكمن في أنّنا كثيراً ما نؤمن بأن: “يجب أن تسير الأمور على النحو الذي أريد”. وإذا لم تسر الأمور كما نريد، فعندها نشعر بالغضب والانزعاج. ونعتبر، وبطريقة ما، كما لو كنّا قد فشلنا. في بعض الأحيان، تخرج الأمور تمامًا عن الطريق الذي نريد أن تسير فيه. أرادت صديقة لي، وهي امرأة أسترالية إنجاز مشروع، لكنّه لم ينجح. فقال لها العمّال الهنود الذين معها: “سيدتي تريد، سيدتي لا تحصل”. هذا هو بيت القصيد! في بعض الأحيان لا نحصل على الأشياء التي انتظرناها. فإذا انزعجنا من ذلك، فسيؤدّي ذلك فقط إلى تضخيم المشكلة. ولكن إذا قلنا: “حسنًا، لا بأس أن لا تكون الأمور على ما يرام. وماذا في ذلك؟ حسنًا، أردتُ أن يكون يومًا مشمسًا ولكنه ممطر. لذا، لا بأس أيضًا. لا يتعيّن علينا الحصول على الأشياء بالطريقة التي يريدها الأنا. فهي تتبع مسارها الخاصّ. لذا، إذا استرخينا وتقبّلنا ما يحدث، وإن لم يكن بالطريقة التي يريدها “الأنا”، فعندها سيكون كلّ شيء على ما يرام. بإمكاننا أن نفعل ذلك. وسوف نستجيب للأشياء بمهارة، عوضاً عن المزيد من العبث بها. إذا سارت الأمور بالطريقة التي نريدها، فهذا جيّد، ولكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فماذا في ذلك؟ لا بأس أن لا أكون على ما يرام.
-جيتسونما كيف تنظرين إلى لبنان والدول العربية الأخرى؟ وخاصة إلى الدهارما (القانون الكوني) في مثل هذه البلدان الآن وفي المستقبل؟
أعتقد أن هناك العديد من التقنيّات في البوذية والتي قد تكون مفيدة جدًا لأي شخص. وليس لها أي علاقة بالدين”. لا علاقة لها بـ “المعتقدات” أو العقيدة. ليس عليك أن تؤمن بالكارما، ليس عليك أن تؤمن بالولادة الجديدة. ليس عليك أن تؤمن حتى بالسامسارا والنيرفانا. هذا ليس المقصود. نحن نهتمّ بأذهاننا غير المروّضة، يسمّيها بوذا عقل القرد. تسبّب مشاعرنا السلبية، مثل الجشع والغضب والحسد والغيرة، الكثير من المشاكل لنا وللعالم بأسره. إنه لأمر في منتهى الغباء: فعدوانيّتنا وجشعنا يدمران الكوكب. فبسبب تنافسنا وحسدنا وغيرتنا فنحن ندمّر كل شيء في الأسرة وفي البلد وفي العالم. من الذي يدمّر هذا العالم؟! من هي هذه الحيوانات البرية؟! إنها نحن للأسف.
-ما الحلّ برأيك إذاً؟
هناك طرق وتقنيات تمارَس منذ آلاف السنين قد تساعد في شفاء أذهاننا المريضة. هناك طرق يمكن أن تساعدنا على التعافي من غضبنا، ومن جشعنا وتعلّقنا، ومن غيرتنا، ومن إدماننا، ومن عدوانيّتنا. إذا كنت تتدرّب، فسوف تساعدك، بغضّ النظر عن كونك عربيًا أو أمريكيًا أو هنديًا: فكلّنا بشر! ولدينا المشاكل عينها. ولا يهمّ إلى أين ننتمي، فأيًا نكن، فلدينا الجشع إياه والغيرة، والجهل الأساسي بطبيعتنا الحقيقية. وبالمقابل فهناك طرق تساعدنا على العودة إلى طبيعتنا الحقيقية وتحويل مشاعرنا السلبية إلى مشاعر إيجابية. ولا علاقة لها بنظام، ولا علاقة لها بأي عقيدة، إنها طرق علمية. إنها مفيدة جدًا لأي بلد يحفل بالغضب وبالخوف. كم هو مهمّ ومريحٌ أن نعرف أن هناك طرقًا تساعدنا في التغلب على هذه المشاعر المؤلمة للغاية. هذا مفيد للغاية، ليس فقط لأنفسنا، ولكن للمجتمع عموماً، وحتى لعائلتنا، وعلاقاتنا، ولكلّ شيء. ولسنا بحاجة إلى أن نكون بوذيين من أجل ذلك. تنتشر هذه التقنيات الآن في جميع أنحاء العالم ولا يتمّ تصنيفها على أنها بوذية، وتسمّى العلاجات المعرفية وما إلى ذلك. ولا بأس في ذلك، فليست المسألة كما لو أن البوذية تمتلك حقوق الطبع والنشر. فأيّ شيء نفعله ومن شأنه أن يساعدنا هو أمرٌ جيد.
-هل إن تقنيات التأمل منفصلة تمامًا عن العقائد والشعائر البوذية؟
إنها متأصّلة إلى حدّ كبير في التقاليد البوذية. وجوهر الأمر يكمن في أن هذه المشاعر المتضاربة هي سمّ عقلي والمسؤول عن هذا هو الأنا. وكل شخص لديه مشاعر سلبية، لذا فإن التأمل للجميع، بغضّ النظر عمّا إذا كانت لدينا خلفية روحية أم لا. حتى غوغل Google تعلّم موظّفيها كيف يكونوا يقظين، وفي الوقت الحاضر عليهم أيضًا تعلّم كيفية تنمية التعاطف. أصبحت الرحمة اليوم كلمة السرّ الأكثر استخداماً. لا أعرف ماذا يفعلون بها، لكن الآن، يمكنك التحدّث عن التعاطف ولا تعتبَر غريبًا نوعًا ما. لذا، دعونا نفهم أن المشكلة تأتي من قلوبنا وعقولنا، كل هذه الاعتداءات، كل هذه الحروب، كل عمليات إطلاق النار هذه. لا تأتي من الخارج، نحن لم نولد بها، نحن نزرعها. وكل ما يأتي من أذهاننا له حلول في أذهاننا.
-تختلف المشاكل باختلاف البلدان. المشاكل السياسية والاجتماعية والدينية في لبنان مثلاً هل من نصيحة معيّنة تساعد على حلّها؟
كلّها ناجمة عن الجهل. إنها ليست بسبب المناخ، ولا بسبب الجغرافيا، إنها ناجمة عن الكائنات الحيّة التي تعيش في البلاد. هؤلاء لديهم عقل، لديهم عقلية وانحيازات. ومنذ الطفولة، تمّ تدريبهم على أن يكرهوا أعداءهم وأن ينحازوا لمن يشاركونهم إيمانهم. المشكلة هي الإنسان، إنها ليست الحيوانات، أو الريف، أو الماء، أو الهواء. السؤال هو كيف يقومون بتدريب عقولهم وقلوبهم؟ لذا، عليك أن تبدأ بالبشر، ولا سيما كيف تربّي أطفالك. إذا فعلت ذلك بدافع الكراهية، ستستمرّ المشكلة. أما إذا أنشأتهم على التعاطف والتضامن ومبدأ أننا جميعًا بشر نبحث عن السعادة، فستكون النتيجة أفضل بكثير. نحن، كبشر، من نخلق هذه المواقف. لبنان يواجه مشاكله الخاصة، وأمريكا تواجه مشاكلها الخاصة، والهند تواجه مشاكلها الخاصة، ولكن كل ذلك يأتي من غضبنا وجشعنا وجهلنا، ومن أننا نزرع الخوف.
-أي نوع من التغييرات الداخلية تنصحينهم به لمواجهة مشاكلهم؟
يمكنهم أن يلقوا نظرة على أذهانهم وأفكارهم، لأننا جميعًا، نسبح في محيط من الأفكار. علينا أن ندرك نوع الأفكار التي ننمّيها: هل هي الخوف، الغضب، الدوغمائية الضيّقة الأفق؟ وكيف تخلق هذه الأفكار المزيد من المشاكل، والمزيد من الصعوبات لأنفسنا ولكل شخص آخر في البلد وفي العالم. فكلّ شيء عائد هو في الأساس إلى أفكارنا. فإذا لم نتعرّف على هذه المشاعر السلبية ولم نجتهد لتحويلها إلى مشاعر إيجابية، فلن يتغيّر شيء، ولا أرى أيّ حلّ، ما دام الناس لن يجرّبوا حتى الحل الحقيقي. إنه دائمًا خطأ الشخص الآخر، “هذا ليس خطئي، أنا مثالي. عليك أنت أن تتغيّر، إذا تغيّرت فسيكون كل شيء على ما يرام “. متى نكفّ عن هذا الهراء!
-وماذا عن السياسيين الذين يديرون الدفّة في كلّ بلد؟
انسوا السياسيين. إنهم تجسيد للأفكار السلبية والغضب والجشع للسلطة وما إلى ذلك. الناس الطيّبون عندما يباشرون ممارسة السياسة يصابون بالإحباط الشديد لدرجة أنّهم يتركونها. لذا فالأشخاص الذين يديرون الحكومات هم في الغالب مجرمون.
-جيتسونما: بثّينا مقابلتك حول التأمل في بداية مؤتمرنا حول اليوغا وعلم النفس في الجامعة اللبنانية الفرنسية بيروت في 25 مايو 2019، وأبدى المشاركون اهتماماً كبيراً بما قلته. وطلبوا مني دعوتك لزيارة لبنان لأنهم هنا يحتاجون إلى مثل هذه المعرفة ورسالة التسامح والسلام.
أعتقد أنهم بحاجة إلى صوت من الخارج، ليسوا عالقين في التاريخ حيث هم متشابكون، بينما الجميع متوتّرون بشأن مواقفهم الخاصة.
–إذن، هل هم بحاجة إلى جرعة جيدة من الحسّ السليم المستنير؟
نعم، الحسّ السليم يمكن أن يساعد كثيرًا.
–زرتُ ريشيكيش/الهند مرات عديدة ودارمسالا كذلك، لذلك نأمل أن نزورك في مرة قادمة مع مجموعة.
(على الفور، مع ضمّ الأيدي بابتسامة): من فضلك تعال! بالطبع، بمجرد الانتهاء من هذا الإغلاق.
-جيتسونما ندعوك جميعاً إلى زيارة لبنان بعد انحسار هذه الجائحة، ونشر تعاليم الدهارما هنا
أودّ أن ألبّي دعوتكم هذه، بيد أنّني لستُ متأكّدة أنّني سأواصل السفر بعد اليوم. وكي أكون صريحة فإنّني لم أعد أعلّم اليوم ولا أسافر. وأنوي أن أتقاعد، فقد شارفتُ على الثمانين من العمر، وآن أوان التقاعد. لكن بالتأكيد إذا غيّرتُ رأيي، وكنتُ في هذه المنطقة من العالم فسأزور بلدكم. بيد أنني لا أتعهّد بذلك لأنّني أعرف الآن أننّي سأتقاعد عن السفر وإلقاء المحاضرات.
-جيتسونما: هل من كلمة أخيرة، أو رسالة أخيرة لك بعد هذا الكلام العميق والمؤثّر؟
رسالتي هي أن كل شيء يعتمد على أفكارنا وعقولنا. إذا أردنا أن نغيّر العالم، فعلينا أن نغيّر أنفسنا، علينا أن نغيّر قلوبنا. وإلا فإن مجرد سن القوانين ووضع القواعد لن ينجح. لذلك، فكل واحد مسؤول، ولكل واحد القدرة على التغيير. إذا غيّرت نفسك، فإنك ستغيّر عائلتك، وديناميكية عملك، وبهذه الطريقة سيعمّ التغيير. لذا، أشجّع الجميع على تكوين مجموعات من أجل دعم بعضهم البعض. إذا كنتَ مسلمًا، فيجب أن تكون مسلمًا صالحاً، لأن المسلمين أيضًا معنيّون بالحب والكرم والرحمة وما إلى ذلك. وهذا ما تفعله المسيحية واليهودية. منذ البداية، يعرفون أنه يجب علينا تنمية الأفكار الحسنة. وفي نهاية المطاف، فما نحتاجه هو قلب طيّب. لماذا نحارب؟ في حين أن كل الأديان تطلب منا أن نكون صالحين، أن نكون لطفاء؟
-ماذا علينا أن نفعل إذاً؟
أعتقد أنه يجب عليكم إنشاء مجموعات، إذا لم تكونوا قد قمتم بذلك بالفعل، وذلك لتشجيع بعضكم بعضاً وكي تدركوا أنكم لستم وحدكم في الطريق. من المهم أن نساعد بعضنا بعضاً في الممارسة، على القراءة، والدراسة، والمناقشة، وفتح قلوبنا لجميع الكائنات الحية البشرية، وخاصة في هذا الوقت. فهذا أمر سيساعد بالفعل.
-جتسونما آمل أن تساعدينا من ناحيتك كذلك. فإذا تعذّر عليك أن تحضري شخصيّاً إلى هذا البلد، فأقلّه أن تلتقي بنا عبر هذه المحاضرات أونلاين (عبر الإنترنت)
(بابتسامة عريضة) إذاً عليك أن تأتي بالمزيد من الأسئلة
-ما من مشكلة في ذلك بتاتاً، فلدينا المئات من الأسئلة الأخرى.
(بتحية من اليدين) إذاً أنا أشكرك جزيل الشكر على دعوتك لي، وعلى طرحك كل هذه الأسئلة للتفكير. وإنّني لأقدّر أنّك بحكمتك تخطّط للمزيد من التفكير في هذه المواضيع.
«»«»«»«»«»([4])
[1] – تنزين بالمو Tenzin Palmo بريطانية ولدت في 30/6/1943. رحلت إلى الهند ولها من العمر 20 سنة، وفي الثالثة والعشرين كانت أول امرأة غربيّة تصير راهبة بوذيّة. عاشت 12 عاماً على التوالي في كهفٍ في الهملايا حياة حبيسة منصرفة إلى التأمّل بحسب التقليد البوذي التيبتي. وكثيراً ما كانت الحرارة تصل في كهفها إلى 35 درجة تحت الصفر، وكانت الثلوج تطوّق هذا الكهف بين 6 و8 أشهر في السنة. خرجت من كهفها 1988 وسافرت إلى إيطاليا ودول غربية أخرى، وناضلت من أجل حقوق الراهبات البوذيّات ومساواتهن بالرهبان. وأمضت سنوات عديدة في السفر والتجوال لتأسيس رهبنة بوذية للنساء تنفيذاً لوصيّة معلّمها اللاما Khamtrul Rinpoche 8th. أسّست سنة 2000 ديراً للراهبات البوذيّات بحسب التقليد التيبتي قرب دارام سالا مقرّ الدلاي لاما في الهند. وفي 16/2/2008 منحها قداسة غيالوانغ Gyalwang الثاني عشر رئيس سلالة Drukpa لقب Jetsunma أي السيّدة الموقّرة (المبجّلة) تقديراً لإنجازاتها الروحية كراهبة وجهودها في تعزيز مكانة الراهبات في التقليد البوذي التيبتي. من مؤلّفاتها: 1-قلب الحياة، مجموعة من تعاليمها، 2011. 2-تأمّلات عند بحيرة جبلية: من تعاليم البوذية العملية. 3-ثلاثة تعاليم، مجموعة أحاديث لتنزين بالمو في سنغافورة، 1998. 4-كهف في الثلوج، مسيرة غربية صارت راهبة بوذية، سيرة تنزين بالمو بقلم الصحافية Vicki Mackenzie، لندن، 1998.
[2] -Mackenzie, Vicki, Un ermitage dans la neige l’itinéraire d’une Occidentale devenue nonne bouddhiste, traduit par Carisse Beaume-Busquet, Paris, Nil éditions 2000,
[3] -جيتسونما Jetsunma حرفياً “الأم يوغيني”، وهو لقب حصلت عليه من Gyalwang Drugpa في عام 1986 في كاتماندو وهو نادر بين النساء، حتى التبتيات منهن.
[4] –