مجلة الأمن/بيروت، زاوية مكتبة الأمن/تشرين الأول 2020 بقلم أ. د. لويس صليبا
-“دور السنّة في لبنان بعد اتّفاق الطائف”
“دور السنّة في لبنان بعد اتّفاق الطائف”، تأليف الدكتورة غريس الياس، صدر عن دار سائر المشرق في 358ص.
الدكتورة غريس الياس باحثة شابّة ومميزة، وباكورة نتاجها هذه أطروحة دكتوراه في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية
والدراسة بمجملها عرضٌ وسرد: عرضٌ للمواقف، وسردٌ للأحداث العرض حياديّ تقف فيه الباحثة على مسافةٍ واحدة من مختلف الفئات والأطراف، وقد نجحت في الحفاظ على هذا الموقع المميّز وجعلته يضفي على كتابها طابعاً أكاديميّاً واضحاً.
أمّا السرد فدقيقٌ ولا تفوته شاردةٌ ولا واردة من الأحداث التي كان لها أثرٌ في تطوّر المشهد السياسي محلّياً، وإقليمياً، ودولياً. تسرد د. غريس بنَفَسٍ جامعي موضوعي واضح، فتسجّل التواريخ، وتدقّق فيها، وتؤرشف المواقف، وتقارنها بسابقاتها أو بما يوازيها عند سائر الأطراف، وتسند رواياتها إلى مراجع ومصادر لا يفوتها أن تذكر أيّ منها.
وهي لا تتدخّل غالباً لتبدي رأياً لها في المواقف، ولا لتتبسّط في تحليلها، بل تكتفي بإلماعة هنا، وملحوظة موجزة هناك. وهي وإن كانت تركّز على حقبة ما بعد الطائف 1990-2016، فعرضها وسردها التاريخي المتسلسل يعود إلى لحظة إعلان الكيان (1/9/1920)، بل وإلى جذور نشأته في القرن السابق، فترصد موقف أهل السنّة من لبنان الكبير، وتمضي مستطلعة مواقفهم من الأحداث ولا سيما المحورية منها، وصولاً إلى اتّفاق الطائف.
نقرأ لها عن نقطة البداية (ص7): “إن التطوّر التاريخي للبنان ككيان سياسي ومجتمعي مركّب، يُظهر لنا أنّه منذ نشأة الكيان اللبناني 1920 كانت هناك إشكالية أساسية تتعلّق بمبدأ وجود هذا الكيان. فقد كان المسلمون، وبخاصّة السنّة منهم، معارضين لقيام الكيان اللبناني، فيما المسيحيّون، وتحديداً الموارنة تمسّكوا به”
وعن أهمّية موضوعها تقول (ص8): “إن جوهر النظام السياسي في لبنان قائمٌ على التوافق والتسويات بين الطوائف، غير أن هذا التوافق غير مستقرّ. ومن هنا فإن أية دراسة لتاريخ لبنان لا يمكنها تجاهل موقف الطوائف، وفي هذا السياق تكمن أهمّية الموقف السنّي”
وتشخّص د. غريس علّة لبنان، أو بالحري إحدى علل نظامه، كما يلي (ص322): “إن أحد أسباب الأزمات التي يعاني منها لبنان يكمن، إلى حدّ كبير، في عدم وجود قوّة ناظمة، حيث إن ذهنية الاستقواء جعلت هذا البلد لا يعيش بسلامٍ إلا إذا وقع تحت الهيمنة أو الانتداب. فأكثر الحقبات هدوءاً كانت فترة الانتداب الفرنسي (1918-1943)، ومن ثمّ حقبة الهيمنة السورية (1990-2005)، كأن اللبناني بحاجةٍ دائمة إلى من يسوسهم ويحكمُ بينهم، ويحكمُهم”
ملحوظة واقعية وبالغة الأهمّية، بيد أنها تنسى أو تتناسى أن حقبة الحكم الشهابي (1958-1964)، نجحت في إبعاد لبنان عن الخضّات الداخلية والخارجية، وفي تحقيق إنجازات بارزة على صعيد إنشاء دولة المؤسّسات والاستقلال.
وترى الباحثة بشأن الحقبة التي تدرسها (ص169): “شهدت مرحلة ما بعد الطائف خرقاً للقوانين، وانتهاكات للدستور اللبناني، وتفسيرات متضاربة لأجزاء من الاتّفاق، وعدم تطبيق بعضه الآخر، أو انتقائية في تطبيقه. فكانت الحصيلة إفراغ الاتّفاق من مضامينه الوفاقية”. وهي بلا ريب ملحوظة في محلّها.
وفي نظرتها المستقبلية تحذّر د. غريس ممّا يُمشرع في الكواليس ومن شأنه أن يقضي على الكيان (ص324): “لبنان المستقبل لا يُحكم من خلال حقّ الأقوى، بل من خلال حقّ الحرّية للجميع”. وتتابع بجرأة ومسؤولية: “الجماعات اللبنانية هي اليوم أمام المسؤولية التاريخية والخيار : فإمّا أن تتّفق على استمرار لبنان وطناً للإنسان، وإما أن تجنح كلّ واحدةٍ منها لتكون هي الوطن”
والخلاصة، فثمّة جانب مهمّ في عمل الباحثة، ليتها تكون فيه أسوة للآخرين: فهي تدرس برزانة وحيادٍ، وتعرض بنبرة هادئة بعيدة عن الانفعال، مواقف مجموعة لبنانية لا تنتمي هي إليها، وتحاول بدأب وصدق أن تتفهّم مواقفها وخلفيّاتها دون أن تحكم عليها سلباً أم إيجاباً. تسعى أن تَفهم وتُفهم، ولا تنطلق من أحكامٍ مسبقة، وعسى سائر الباحثين اللبنانيين في الشأن السياسي يفعلون فعلها.