حكاية ديك من المهد إلى اللحد/بقلم لويس صليبا
انتقل إلى رحمته تعالى صبيحة هذا اليوم ديكنا الحبيب عن عمرٍ يناهز العقدَين من الزمن. ووري الثرى في زاوية الحديقة التي فيها عاش وصاح فجر كلّ يوم.
متنزّهاً ومختالاً في الحديقة
من أعلى الشجرة يصيح موقظاً الحيّ
لا يقبل أن تشرق الشمس بدون أن يستقبلها بتحيّة وصيحة
لاحظتُ أول أمس أن حركته بطيئة جدّاً وهو متعبٌ، بل منهكٌ ويراوح مكانه، على غير عادته. أخذناه وفحصناه فتبيّن أنه غير مجروح، وبالتالي غير مصابٍ بأذى على الأرجح. تركناه لنرى إذا كان سيعود إلى زاويته في الحديقة ورغم تعبه وثقل همّته، عاد إليها وتسلّق الشجرة التي كان يقضي ليله نائماً عليها. وأمضى طيلة يوم أمس عليها. لم ينزل كعادته كل صباح. واليوم وجدناه وقد سقط ميتاً عن الشجرة التي أمضى لياليه عليها طيلة نحو عشرين عاماً. عاش على ذرى وعلوّ وبين الأرض والسماء. وأبى أن يموت إلا حيث عاش وأمضى لياليه، أي في العالم البرزخي إيّاه وبين الأرض والسماء. طلب دوماً العلى في حياته وجاور العلى في مماته. لفظ أنفاسه الأخيرة في السماء لتسقط جثته على الأرض وتوارى الثرى وتدفن في الأرض التي أحبّ وعلى جذع الشجرة التي منها كان يوقظ الحيّ بأسره، ويعلن إشراقة الشمس. فعسى الشمس تشرق عليه في عالم آخر. بعد أن وفى قسطه للعلى الذي أحبّ ونام بسكون وسلام واستراح.
علّمَنا ديكنا الحبيب هذا أن نفرح في حياتنا ونهلّل دوماً للنور ولإشراقته عند الفجر. وها هو يعلّمنا اليوم كيف نموت: ناظرين للعلى، قاطنين في العلى، ناطرين الإشراق دوماً، وعاملين له، ومنتظرين الساعة الأخيرة بسلام وسكون غير هيّابين ولا عابئين، ولا خائفين الموت فهو شقيق الحياة ووجهها الآخر. فكلاهما ينموان معاً في وجه الشمس التي كان ينتظرها فجر كل يوم، ويعلن بفرحٍ دائم قدومها للناس أجمعين.
أمضى سحابة عمرٍ كامل ناظراً إلى الشمس عند كلّ فجر، محدّقاً بشعاعاتها الأولى التي تلامس الأرض، وتقبّلها لتستيقظ، وكان هو أوّل المستيقظين والمنتظرين ساعة الإشراق المباركة هذه، وكأنّه مكلّف كلّ يومٍ بأن يسلّم الليل إلى النهار، ويا طيبه من تسليمٍ، ويا سعد من أمضى العمر شاهداً يوميّاً على بزوغ الفجر. وكما عاش ناظراً إلى العلى، مات وهو يتطلّع إلى السماء.
فليتنا نتعلّم من أحبّائنا الحيوانات الأليفة التي نجاورها كلّ يومٍ وباستمرار كيف نعيش، وكيف نموتُ كذلك. فهي تعطينا كلّ يومٍ، بل كلّ ساعةٍ دروساً في الحياة، وفي شقيقها التوأم الموت. وليتنا ننظرُ ونتطلّع ونستبصر ونستعبر. مات ديكنا، بل أبى أن يموت إلا كما عاش، أي على الذرى التي عاش فيها. فرغم عجزه، وقواه المنهكة تماماً في أيّامه الأخيرة، أبى إلا أن يصعد على الشجرة التي عليها قضى لياليه سحابة نحو عقدَين من الزمن، فأمضى عليها يومه الأخير بأكمله. مررتُ بقربه البارحة، فكان واقفاً على هذه الشجرة، وكأنّه يحمل ثقل الأيّام بين جناحَيه. كان عاجزاً كلّ العجز، وغير قادرٍ على أن يبسط جناحَيه ويرفرف ويصيح كما تعوّد أن يفعل كلّ يومٍ وكلّ آن. واكتفى بأن رمقني بنظرةٍ حزينة هادئة عبّرت عن سكونه وعجزه، وهو الذي كان منذ أيّامٍ قليلة يملأ الحديقة بحراكه، والحيّ بأكمله بصياحه. وفي نظرته الأخيرة تلك، لمحتُ شيئاً من حنوّ. وما عرفتُ آنذاك أنّها نظرة الوداع. فعلى هذه الشجرة عينها وجدته معلّقاً برجلَيه منذ نحو سبع سنوات، ويبدو أنّه انزلق يومها وعلق، وكان يختلج ويرفّ محاولاً الخلاص دون جدوى، فأنقذته معرّضاً يديّ لنقدات منقاره، وأنزلته إلى الأرض وداويته، وكانت قدماه مكسورتان، وأحضرتُ له الطعام. أنقذتُ حياته يومها، وفي اللحظة المناسبة، من هلاكٍ محتّم، وكانت نظرته البارحة، وفي المكان عينه الذي أنقذته فيه، بمثابة شكرٍ ووداع.
كان هذا الديك مهيباً، بل ومقداماً في استعداده للموت، مثلماً كان جريئاً وحيويّاً وديناميكياً في احتفاله اليوميّ بالحياة. احتضاره لم يطل أكثر من يومَين كان يقف فيهما عاجزاً وشبه جامد. وعندما نقلناه بعيداً عن زاويته كي نعاين ما به، لم يهرب، ولم يقفز ولا هو اعترض كشأنه في حالٍ كهذه. أخذناه وفحصناه جسداً وريشاً فكان مستسلماً بين أيديناً، خلاف ما كان يفعل في السابق. تركناه، عن قصدٍ، بعيداً عن زاويته وشجرته التي عليها يمضي لياليه، وذلك كي نرى ماذا سيفعل، فعاد بحركةٍ بطيئة أثقلتها وطأة السنين، وما أن وصل إلى شجرته حتى تسلّقها بصعوبة كبيرة. ورغم عجزه الظاهر، أفلح في الوصول إلى أعلى الشجرة حيث كان يرقد كلّ مساء. وفي هذه الذروة أمضى كامل ليلته ما قبل الأخيرة، ونهاره الأخير، وكان عندما تفقّدتُه البارحة وكأنّه ينتظر ذاك الزائر الذي لا بدّ أن يتفقّد كلّ حيّ لينقله من حالٍ إلى حال. قضى نهاره الأخير على الشجرة صائماً، وكيف له أن يأكل وهو معلّقٌ بين أرضٍ وسماء؟! فهذا الطائر الذي كان يمضيّ النهار برمّته ولا همّ له سوى الأكل والشرب اختار راضياً أن يقضي نهاره الأخير صائماً، وكأنّه أبى إلا أن يلقى وجه ربّه ببطنٍ جائع، ومعدةٍ فارغة!.
فهل ندركُ ونعي أن ما نحيا عليه، عليه نموت. وحكاية هذا الديك مثلٌ بل هي دليلٌ على ما نقول. عاش في الذرى والعلى، ومات كما عاش. ولعلّه من النقطة التي انتهى إليها سيبدأ من جديد!!
لويس صليبا
جبيل/لبنان في 10/3/2021