مجلّة الأمن، مبدعون من لبنان/الشاعر موسى زغيب2
حاوره أ. د. لويس صليبا
عناوين مقابلة موسى زغيب:
عنوان رئيسي:
-خليل روكز يشهد: موسى زغيب بس يقلب المنبر ارتجالي بيصير متل نقطة الزيت بكبّاية ميّ ما بتغرق، وبتضلّ عَ الراس.
2-الرئيس رفيق الحريري متكلّماً في الاحتفال الذي كرّم فيه الشاعرين زغيب والزغلول.
4-يلقي قصيدة في الاحتفال التكريمي في السراي الكبير وعن يمينه الرئيس رفيق الحريري وزغلول الدامور.
عناوين فرعية:
-ما أن يحضر الشاعر الزغيبيّ حتى تحضر “ملائكة” رفيق عمره الشاعر خليل روكز، ولا يُذكر موسى حتى يذكر غريمه زغلول الدامور
– إذا لم يكن في حياة الشاعر العظيم امرأة فهو لا يستطيع أن يبدع
-حنّا موسي كان شاعراً منبريّاً ارتجالياً كبيراً، لكنه أبدع في المآتم. وكان أحسن شعراء الرثاء في زمانه
– خليل روكز كان سيّد المنابر وقد حلّق في القصيدة الزجلية والذي خلّده خصوصاً هو قصائده الوجدانية.
-الزغلول هو الذي رفع قيمة الزجل اللبناني. وجعل لبطاقات حفلات المنبر القيمة التي تستحقّ.
– الخيل التي كانت تركض مع موسى زغيب رحلت، فمع من تريدني أن أغنّي اليوم؟!
– أحبّ بوذا، وأحبّ غاندي هذا الرجل العاري الذي حرّر قارّة بأسرها من الاستعمار، من دون “ضربة كفّ”
-هل أبقى الصيّادون لنا طيوراً في لبنان؟! اخترعوا مئات الحيَل ليقطعوا دابر الطيور
تعليقات الصور:
2-الرئيس رفيق الحريري متكلّماً في الاحتفال الذي كرّم فيه الشاعرين زغيب والزغلول.
3-في آخر حفلاته المنبرية/كازينو لبنان 2009
4-يلقي قصيدة في الاحتفال التكريمي في السراي الكبير وعن يمينه الرئيس رفيق الحريري وزغلول الدامور.
7-في احتفال توقيع ديوانه “أنا والسهر” في جامعة اللويزة
درسنا في عدد سابق من مجلّة الأمن شاعرنا الكبير موسى زغيب. وكانت دراستنا هذه فرصة كي نلتقيه ونحاوره. وفي الحديث مع موسى زغيب شؤون وشجون. فما أن يحضر الشاعر الزغيبيّ حتى تحضر “ملائكة” رفيق عمره ومساره الشاعر المبدع خليل روكز، ويحوم طيفه. ولا يُذكر موسى حتى يذكر غريمه زغلول الدامور. فعنهما، وعن شؤون الشعر والزجل في ماضيه وحاضره وغده وغير ذلك كانت لنا مع موسى زغيب جلستان، ننقل في التالي أبرز ما جاء فيهما.
س: لو قارنّا علاقتك بخليل روكز، بعلاقة جبران وميخائيل نعيمه، فماذا تقول في ذلك؟
في نظرتي إلى خليل في حياته، ولا سيما بعد مماته تجرّدت من مسألة المفاضلة بيننا، وتعاليتُ عنها. أما جبران فكان يستحقّ من نعيمه غير ما كتبه عنه.
س: ما الذي تقوله في الأديبين الكبيرين جبران ونعيمه؟
تقرأ نعيمه فتجده يابساً لا يُبدع. وتقرأ جبران فإذا هو جذوة موهبة وإبداع
س: ما الذي بقي في الذاكرة عن خليل روكز؟
-خليل كان إنساناً مستهتراً ولا سيما بشأن صحّته. بعد عملية أولى أجراها في معدته جاء طبيب فرنسي إلى دير القمر، وشاء خليل أن يجري له هذا الطبيب عملية ثانية وقد حذّرتُه منها. وكان يعاني من قرحة في المعدة. وبقي تسع ساعات تحت العملية، ولم ينجُ منها. وذلك رغم أنه كان بإمكانه أن يستغني عنها.
س: لو سألتك أن تقارن بين شعرك في الغزل وشعر خليل فماذا تقول؟
من ناحيتي لم أحتقر بتاتاً المرأة، عاتبتها. شئتُ دوماً أن أحكي عن المرأة من دون أن أذلّها. أمّا خليل فكما أشرتُ كان مستهتراً بصحّته، وكذلك في علاقاته.
س: ما الفرق إذاً بينك وبين خليل روكز في النظرة إلى المرأة؟
نختلف تماماً في النظرة وفي التجربة. “خليل غرامو ذلّو”. ونظر دوماً إلى المرأة بعين الشك. ويلخّص نظرته هذه قوله:
ومؤمن بحرّة على الدني بدها تجي لكن بعد ما قرّرت مشوارها
أما أنا فتربيتي مختلفة. تربية قرويّة ولم أعرف المرأة في تجربة علاقة حتى العشرين أو الخامسة والعشرين، أي حتى تزوّجت.
س: ماذا عن علاقات خليل العديدة ومع نساء متعدّدات؟!
-أكتفي هنا بالقول أنه إذا لم يكن في حياة الشاعر العظيم امرأة فهو لا يستطيع أن يبدع.
س: وهل تذكر حادثة من حوادث استهتاره؟
-كان خليل يكرّر دوماً على مسمعي: في واحد اسمو يوسف وبيفهم؟! معرّضاً هكذا بعفّة حاملي هذا الاسم. وعلى فراش الموت رأيته يضع صورة القدّيس يوسف تحت مخدّته، فعجبتُ من ذلك وسألته عن الأمر، فأجاب: بدّي اعتذر من مار يوسف.
س: هل لك أن تعطينا تقييماً عامّاً عن خليل روكز؟
خليل كان سيّد المنابر. شاعر ذو موهبة فائقة. وقد حلّق في القصيدة الزجلية وكرّس لها مسيرة حياته. والذي خلّده خصوصاً هو قصائده الوجدانية، لا سيما عن المرأة. وكان عندما يغنّي قصائده لا تستطيع أن تزيح عينك عنه. “خليل كان شاعر وبسّ”.
س: أي موقع يحتلّه خليل إذاً في تاريخ الزجل اللبناني؟
خليل أحسن شاعر زجلي جاء بعد الشحرور وحتى زمننا هذا.
س: هل تعني أنه أحسن منك؟
أنا بدّي قول أحسن منّي وخلّي الناس يقولوا اللي بدّن ياه.
س: ما الذي تعلّمته من خليل روكز؟
ما من علم في الشعر. فالشعر لا تستطيع أن تعلّمه لأي أحد من الناس، ولا أن تتعلّمه. وبعض ما أخذته عنه كان عكسيّاً، بمعنى أنّني عرفتُ عاداته السيئة، وكم انقلبت سوءاً عليه فبعدتُ عنها وعن أمثالها.
س: سألناك رأيك في خليل روكز، فماذا كان رأيه هو فيك وفي شعرك؟
أكتفي بأن أذكر لك هذه الحادثة. خاصمتُ خليلاً مرّة وهجرته واعتزلتُ في منزلي في عمشيت. فأرسل لي صديقة له ليصالحني. وقالت لي خليل يطلبك وعنده حفلة زجل في فاريّا في مطعم عين الدلبة. فذهبتُ إليه، وصالحني وقبّلني. وقلتُ للشباب منظّمي الحفلة اقترحوا موضوعاً عليّ وعلى خليل تدور حوله حواراتنا الزجلية. فأجروا سحباً بالقرعة لاختيار الموضوع. وغنّينا الموضوع المسحوب بالقرعة أنا وخليل. وأبدعتُ فيه. واعتبر كثير من الحاضرين أن كفّتي كانت هي الراجحة. وبعد أن انتهت الحفلة سُئل خليل: كيف رضاك عَ موسى زغيب فأجاب: موسى زغيب بس يقلب المنبر ارتجالي بيصير متل نقطة الزيت بكبّاية ميّ ما بتغرق ولا حدا بيقدر يغرّقا، وبتضلّ عَ الراس.
س: ماذا الآن عن زغلول الدامور؟
الزغلول كان رجلاً إداريّاً ماهراً، طيّباً، وصوته جميل. ولا بدّ من كلمة حقّ تقال فيه، فهو الذي رفع قيمة الزجل اللبناني. وجعل لبطاقات حفلات الزجل القيمة المالية التي تستحقّ. لم يكن الزغلول يقبل في الرثاء بمبلغ أقلّ من مئتيّ ل ل. في حين كان غيره، وممّن يفوقه شاعرية يكتفي بـِ 25 ل ل.
س: ما الذي جعل لمبارياتكما الزجلية هذا الصدى وذاك الاهتمام الجماهيري الذي قلّ نظيره في تاريخ الزجل؟
-كان الزمن زمن موسى والزغلول. فخليل روكز كان قد مات. وكنّا نحيي على تلفزيون لبنان بالتتالي حفلات الزجل. أسبوع لي ولجوقتي، وأسبوع للزغلول وجوقته.
س: هل انعكست سجالاتكما المتواصلة على العلاقة بينكما؟
بتاتاً، كنتُ والزغلول صديقَين. وأذكر أنّني كنتُ أُقلّه مرّة في سيّارتي ووصلنا إلى زحمة سير في ضبيه. فرآنا أحد القبضايات وعرِفنا. فبادرنا غاضباً: “لعنكما الله. بدّي قوّصكن. الناس عم تتخانق عليكم. دخلتُ الحبس بسببكما. وها أنتما تترافقان كصديقين”.
وطالما قلتُ وكرّرتُ ليت السياسيّون في بلدنا يفعلون ما كنّا نفعل أنا والزغلول.
س: ماذا تقول في شاعريّة الزغلول؟
الزغلول رجلٌ أُحبّه، ولا أطلق في شعره حكماً. وأكتفي بتساؤل: شعري يدرَّس في الجامعات، وكُتِبت فيه بحوث أكاديمية ككتاب د. نبيل أبو مراد الذي تعرفه جيّداً، فهل يُدرّس شعر الزغلول؟!
س: لماذا توقّفتَ عن إنشاد الشعر على المنابر؟
عشتُ العصر الذهبي للزجل اللبناني وكنتُ الخيّال فيه. ودرتُ حول الكرة الأرضية بأسرها فأقمتُ حفلات الزجل في مختلف أصقاع الدنيا. ولكن الخيل التي كانت تركض مع موسى زغيب رحلت، فمع من تريدني أن أغنّي اليوم؟!
س: هل نستطيع القول إن ثقافتك هي ما يميّز شعرك عن أشعار سائر الزجّالين؟
بالطبع. فبين شعراء الزجل اثنان فقط عندهم في بيتهم مكتبة: موسى زغيب وأسعد سعيد.
س: شعرك المنشور في الكتب لا يوازي عِشر ما أنشدتَ في الحفلات وغيرها! لماذا؟
عندما أنشر قصائدي أختار من كلّ قصيدة أبياتها الأكثر إبداعاً. وفي شعر الحفلات والمناسبات ما يذهب مع كلّ مناسبة، ولا أرى ضرورة لنشره في كتاب.
*س: أودّ ان أسألك عن قراءاتك: لمن تحبّ أن تقرأ من أدباء لبنان والعرب؟
أوّلهم جبران، فهو استثنائي ولا يُقارن بغيره. عنده روحانّية جوّانية، وتشعر أنه يلمسك من الداخل.
س: هل تجد قرابة ما بينه وبين خليل روكز؟
خليل روكز يشبه جبران بمفاجأاته الفكرية.
س: ومَن غير جبران؟
بعض ما كتب الريحاني. ولنعيمه الكثير من النصوص التي أحبّ أن أقرأها له.
س: هل تؤمن مثله بالتقمّص؟
أؤمن بالتقمّص وسأقول لك لماذا: لماذا مثلاً تجد أمّاً وأباً أنجبا 15 ولداً، وواحد منهم فقط مختلف و”غير شكل”؟! وبرأيي الإنسان الذكي والعبقري لازم تكون روحو جايي شي خمسين مرّة عَ الأرض.
س: طالما نحن نتحدّث عن التقمّص، فإنّنا نرى ملامح أثر للفكر الهندي في شعرك: اللاعنف، الامتناع عن قتل الطيور والحيوانات لأكلها… ما سرّ هذا الأثر؟
أحبّ بوذا، وأحبّ غاندي هذا الرجل العاري الذي حرّر قارّة بأسرها من الاستعمار، من دون “ضربة كفّ”. والتقيت معه أو بالحري استنتاجاتي الشخصية قرّبتني منه. شو هالفلسفة أن تذبح الخروف وتأكل لحمه؟!
ومنذ الصغر كنتُ أذهب مع والدي أرعى الغنمات، وأمرّ على العصافير العالقة على الدبق، وأحرّرها كلّها منه.
أخذوني مرّة إلى الصيد في البقاع، لم افهم ما هي هذه الفلسفة، وأين الرجولة في هذا الأذى والتعدّي على العصافير؟!
س: ما الذي أحببته في غاندي؟
ما أحببته في غاندي روحانيّته، فهي تتفق تماماً مع مزاجي وفطرتي. وأذكر لك هذه الحادثة: ذهبتُ مرّة إلى سوريا، فذبحوا ثلاثة خواريف لم أقدر أن أتحمّل هذا الفعل، وغادرت ذلك المكان، ولم أستطع أن آكل عند ذاك الذي ذبحها، رغم أنه لم يشأ سوى أن يكرّمني! وإنّني أسأل بأي إحساس تذبح الخروف؟ يقولون لك “الله محلّل الخروف”. السبع إذاً مين محلّلو عليك؟!
س: ولكن ألا يقتل الذئب الخروف ليأكله أيضاً؟!
ما الفرق بين الذئب واللحّام؟ الذئب يقتل الخروف كي يحيا ويقتات بلحمه، أمّا اللحام فيقتله كي يربح مالاً! وهؤلاء الذين يذبحون الخروف ويأكلون نصفه وهم يذبحونه يموتون باكراً وقبل آوانهم. ومن ناحيتي لا أستطيع أن أتصوّر أنّني أذبح روحاً، وأقطّعها بالسكين وأغنّي عتابا، كما يفعل البعض.
س: هل أنت ضدّ الصيد إذاً؟
أنا أحبّ الطيور وضدّ الصيد. وهل أبقى الصيّادون لنا طيوراً في لبنان؟! اخترعوا مئات الحيَل ليقطعوا دابر الطيور، وما أبقوا لنا طيراً يغنّي!
س: نعود إلى الأدباء والشعراء، مَن تحبّ من الزجّالين من سابقيك؟
أحببتُ رشيد نخلة، ففي شعره فكر. شحرور الوادي أحبّه وأحترمه لأنه أسّس المنبر. لكن الشاعر الحقيقي هو رشيد نخلة. الشحرور شاعر مناسبات مهمّ. وبعد الشحرور طانيوس عبده وعلي الحاج بالغزل. ولكن الذي وَجدن الزجل هو خليل روكز.
س: أنت تعيدنا دوماً إلى خليل روكز، فما سرّ هذه العلاقة الحميمة بينكما؟!
خليل روكز كان طبعه صعباً، وما من أحد فهمه غيري، وما من أحدٍ تحمّله مثلي. ومن ناحيتي لم أجد وجدانيّات قريبة وعميقة إلا عند خليل روكز. وأن تغنّي مع شاعر كبير مثله فهي فرصة استثنائية لكلينا. وكثيراً ما كنّا في الحفلات ما أن ننتهي من الغناء أنا وخليل روكز حتى تغادر الناس الحفلة قبل أن تستمع إلى بقيّة الشعراء.
*س: تقول عشتَ العصر الذهبي للزجل، فهل انقضى هذا العصر إلى غير رجعة؟
العصر الذهبي للزجل؟! كيف تأتي رفوف الطيور مع بعضها، هكذا يأتي رجال الأدب والشعر مع بعضهم. أم كلثوم، عبدالوهّاب فريد الأطرش، فيروز، أتوا كلّهم في زمن واحد، وهكذا الشعراء الكبار أتوا في زمن واحد! أوليس الأدب في الوقت الحاضر في مرحلة قحط أكثر ممّا هو عليه الزجل؟!
وما رأيك بالشعراء الشباب لا سيما أولئك الذين أطلقتهم في برنامجك التلفزيوني أوف؟
شهرتنا ونجاحنا نحن دفعنا ثمنهما. كنتُ مثلاً أذهب بسيارة الأجرة إلى البترون لأجل حفلة، ثمّ أعود إلى حراجل بنفس الطريقة. أما هؤلاء الشباب فظهروا على التلفزيون، واستسهلوا المسألة. الزجل يحتاج إلى طواعية أكبر ومسؤولية أكثر. المنبر يحتاج إلى حاسّة شمّ قويّة! عليك أن تعرف ماذا تريد الناس. أهم شيء الحسّ الشعبي، وعليك أن تكمشه. ولكلّ مكان ذوقه المختلف. لا يمكن مثلاً أن تغنّي في جبيل كما تغنّي في بنت جبيل.
س: أي أثر كان لموسى زغيب في المنبر الزجلي؟
كل الجوقات اليوم تمشي على برنامج موسى زغيب. موسى زغيب نقل المنبر من القوّال إلى الشاعر. وما من أحد غيّر المنبر الزجل سوى هذا الرجل الجالس معك الآن: التخت الموسيقي، استخدام الألحان والأغاني اللبنانية التراثية، إلخ…
س: هل اغتنى موسى زغيب من الزجل؟
نعم، أقولها وبكلّ فخر. ربّيت مهندسين وأطبّاء، اشتريت بنايات، وعمّرت أخرى. كل ذلك من الزجل. وكلّ الشعراء الذين غنّوا معي في جوقتي اغتنوا وربّوا عيالهم من الزجل.
*س: أين موسى زغيب اليوم من الشعر؟ هل لا تزال قريحته على ما كانت عليه؟ أم أن هجره للمنبر أثّر سلباً على غزارة هذه القريحة؟
عندما أريد أن أكتب الشعر أكتب، فعندي مخزون كبير. بيد أنّني لم أعد سريع العطاء كما في السابق. كنتُ في الشهر الواحد أغنّي في ثلاثين حفلة وثلاثين مأتماً. فأنا رجل تعب كثيراً في حياته. تراجعتُ في بعض الأمور، ولم تعد عندي سرعة العطاء السابقة. الغزارة قلّت ولكن النوعيّة لم تتغيّر. ولا تنسى أنّي نظمت 35ألف قصيدة رثاء. وأتحدّى أن يكون في لبنان كنيسة واحدة لم أقف وأرثِ على عتبتها. ونظمتُ كذلك 30ألف قصيدة افتتاح. وكنتُ أحيي ما لا يقلّ عن مئة حفلة في السنة.
*س: إضافة إلى المنبر كتبتَ دواوين شعرية غير منبرية مثل ديوانك “ملحمة الانتشار اللبناني” فما الفرق بين موسى الشاعر المنبري وموسى الشاعر الملحمي وشاعر الدواوين؟
الشاعر الملحمي يصوّر أشياءً موجودة، أما الزجل فإبداعٌ منك أنت: قلم وورقة بيضاء. الشعر الملحمي مجاذفة تروي فيه قصّة حدثت في التاريخ ولا يمكن أن تبتعد عنها.
وأي النوعين أحبّ إلى قلبك وأقرب إلى قريحتك؟
الشعر المنبري يعطيك العزّ. أما الشعر الكتابيّ فيمنحك الطمأنينة أن الناس ستبقى تتحدّث عنك.
*س: ما هي نسبة الارتجالي في أشعارك المنبرية؟ وأيهما تؤثر: تحضير الشعر أم ارتجاله على المنبر؟
كنّا في البداية نصعد إلى المنبر من دون أن نحضّر. ولكنّنا بعدها صرنا نحترم الناس الآتين ونحضّر ما سنغنّي.
س: وهل تعتبر أنك تفوّقت على أقرانك في الارتجال؟
كنتُ خطراً جدّاً في الارتجال. ولكن لا بدّ أن أقرّ أن حنا موسي كان أرجلنا كلّنا بالارتجاليّ.
س: ما الذي تقوله اليوم في حنا موسي؟
حنا موسي شاعر الرثاء، إنه شاعر المأتم. خدم المأتم أكثر ممّا خدم المنبر. كان شاعراً منبريّاً ارتجالياً كبيراً، لكنه أبدع في المآتم. وكان أحسن شعراء الرثاء في زمانه. ومن ميّزاته أنه لم يكن يغار من زملائه الشعراء.
س: شاعرنا الكبير موسى زغيب نأمل أن لا نكون قد أتعبناك بأسئلتنا!
بتاتاً. وأقرّ لك أنها المرّة الأولى التي يحاورني إنسانٌ فيها، وقد نجح في الدخول إلى أعماقي كما فعلتَ أنت.
وسألنا الشاعر جورج لطَيف الذي رافق موسى زغيب في هذه الجلسة رأيه فيه، فقال:
أنا صديق موسى زغيب منذ أكثر من أربعين سنة، وقد عايشته فيها ورافقته. موسى زغيب عملاق من عمالقة الزجل. ومن دونه لكان الزجل قد أفَلتْ أيّامه. فهو صانع النهضة الشعرية الزجلية بإقامته لبرنامج أوف الذي أطلع نحو أربعين شاعراً، ما نشّط الزجل اللبناني وأحياه.
-ماذا عن موسى وخليل روكز برأيك؟
لم يتأثر موسى زغيب بخليل روكز ولا بغيره. فلخليل روكز عالمه الخاص ولزغيب عالمه. خليل أبدع في الوجدانيّات والغزليّات فقط لأنه كان مجروحاً من عائلته وزوجته وصديقته… أما موسى زغيب فأبدع في كلّ المجالات: في الموشّح والعتابا والمراثي وغيرها “ووين ما شلحتو بيجي واقف”. له 400 شروقيّة يحكي فيها عن المرأة: المرأة في ألوهيّتها وجمالها لا في أباحيّتها كما فعل سائر الشعراء.
-وماذا تقول في موسى زغيب الصديق وربّ العائلة والإنسان؟
موسى زغيب صديق لا يطعن بأصدقائه. وهو رجل ناجحٌ اجتماعيّاً وعائليّاً. فهو ربّ عائلة مميّزة، وقلّة هم الشعراء الذين ربّوا عائلة كما فعل موسى زغيب. والعنفوان الذي عند زغيب لا تجده عند أي شاعر آخر. وهو لا يتعاطى السياسة. وهو قبل كلّ ذلك إنسان بكل ما لهذه الكلمة من معنى. فليس المهمّ أن يكون المرء شاعراً وحسب، بل أن يكون إنساناً أولاً. وموسى زغيب إذا أخبرته قصّة مؤثّرة تراه يبكي من فرط إنسانيّته.
-وماذا عن موسى زغيب وزغلول الدامور؟
في زمن شحرور الوادي ورفاقه الذين أسّسوا المنبر الزجلي كان الزجل في عصره البرونزي. وعندما جاء خليل روكز والزغلول صار الزجل في عصره الفضّي. أما في زمن التنافس بين زغيب والزغلول فقد صار الزجل في عصره الذهبي. فكانت أغلى بطاقة دخول بطاقة حفلات زغيب والزغلول. وكانت بطاقاتهم تنافس بطاقات حفلات صباح ووديع الصافي وفيروز. كان زغيب والزغلول أعمدة الزجل والفنّ اللبناني. ففي كلّ أقطار العالم عندما تتحدّث عن الزغلول وموسى فكأنك تتحدّث عن بعلبك وصيدا وصور وجبيل والأرز. هؤلاء هم موسى والزغلول بالنسبة إلى الزجل اللبناني.
-من الأشعر برأيك: زغيب أم الزغلول؟
لا نستطيع أن نفرّق واحداً عن الآخر، ولا أن نقول هذا أفضل من ذاك. صحيح أن الزغلول كان جميل الصوت، لكن موسى كان صوته صوتاً زجليّاً وكان عنده هذا العنفوان على المنبر الذي كان يفتقر إليه الزغلول. جمال الصوت الذي كان عند الزغلول لم يكن عند موسى زغيب. ولكن لا بدّ أن نعترف أن موسى زغيب من ناحية الفكر والعمق والوجدانيّات والحجج القويّة لم يكن يضاهيه أي شاعر آخر. أقول هذا بكلّ شفافية. فأنا كشاعر عمري 61 سنة ومسؤول في نقابة شعراء الزجل لا أستطيع أن أسخّر ضميري. هذا هو الواقع.
-أفهم من كلامك أن لا مجال للمفاضلة بين الشاعرين؟
موسى زغيب وزغلول الدامور لكلّ خامته، ولكلّ عالمه. وكلّ واحدٍ منهما من معدنٍ معيّن.
-ماذا عن حضور كلّ منهما على المنبر؟
من ناحية الحضور موسى زغيب كان حضوره أهمّ من حضور الزغلول، رغم أن الزغلول كان أكبر منه سنّاً. وموسى زغيب عمره اليوم 81 عاماً، وكأنه عاش في الزجل اللبناني 162 سنة، كلّ نهار بنهارين. لذا قلتُ وأعيد هو ظاهرة لا تتكرّر. أقول هذا لأنّني حضرته بالارتجال والرثاء وكلّ المناسبات.
-ماذا عن موسى ورفاقه في جوقته جوقة القلعة، وكيف كانت علاقته بهم؟
جوقة القلعة كانت جوقة ناجحة جدّاً. كانوا أربعة شعراء بشخصٍ واحد! فإذا كتب موسى مثلاً ردّة وتبيّن أن فيها ضعفاً في سطر معيّن كان أنيس الفغالي يتدخّل كونه كان أستاذاً شأنه شأن أسعد سعيد. لم يعرف أحدٌ منهم الكبرياء وحبّ الذات. بل على العكس من ذلك تماماً. كنتُ أحضر حفلاتهم فإذا وفّق أنيس الفغالي في ردّة كان الثلاثة الآخرون يرفعون دفوفهم ويهيّصون له. والأمر عينه يتكرّر إذا وفّق موسى في ردّة. وهذا أمرٌ كان ظاهراً للعلن وأمام الجمهور، وكنّا جميعاً نعاينه.
س: هل كانت لقاءاتهم الشعرية تقتصر على المنبر؟
أخبرني موسى وأنيس وجريس وبطرس أنهم كانوا عندما يعودون من حفلة كحفلات الجنوب والطريق تستغرق ساعتين ونيّف كانوا يقيمون في السيّارة حفلة أخرى “من الزنّار ونازل” أي ممّا لا يقال على المنبر.
-س: أية علاقة شخصيّة كانت تربط بينهم؟
كانوا في ودّ ومحبة في ما بينهم. أذكر أني ذهبتُ مع موسى لنعود أنيس الفغالي في مشفى سيّدة المعونات في جبيل. فعندما رأى أنيس موسى شهق بالبكاء وتعانقا وكأنهما أخوان شقيقان.
س: وماذا عن علاقة موسى بسائر الشعراء؟
كما قال لك موسى، أكرّر فهو لم يصنع أي سوء لأحد. ومن لا يحبّ موسى يغار منه ويحسده. كالشجرة المليئة ثمراً، فكلّ الناس ترشقها بالحجارة. ولأن موسى شجرة مليئة بالثمار لذا فكثر هم من يرشقونه بالحجارة. أما هو فكان يحبّ رفاقه ورفاقه كانوا يحبّونه.
*س: هل دخل موسى زغيب عالم الأغنية اللبنانية؟
لم يشتغل موسى على الأغنية، ولم يعنَ كثيراً بها.
س: لماذا برأيك؟
لم يكن لديه متّسع من الوقت: مأتم في النهار، وحفلة زجل في الليل. والأغنية لا تحتاج إلى هذا العمق والصورة والقوافي المترابطة. ولو أن موسى زغيب تفرّغ للأغنية ما كان حدا استفتح!
س: من مِن المغنّين غنّى لموسى؟
غنّى له وائل كفوري: سبحان الله لمن صار بدّك. وغنّت له نجوى كرم…
س: يقال إن موسى طوّر أوزان الزجل وأدخل جديداً فيها، فما هي؟
أدخل موسى زغيب في الزجل المنبري أوزاناً لم تستخدم قبله فيه مثل: جملو، دلعونا، الندّى والمخمّس والقلّاب… وهي بمجملها عشرة ألوان جديدة على المنبر كسر فيها الروتين القديم.
س: ماذا كان أثر هذا التطوير؟
طوّر موسى المنبر عموماً، وجعله يتعايش مع الجيل الجديد. لم يعرف المنبر الرقص قبل موسى، ومعه صار الشباب والصبايا يقومون للرقص. وصارت المرأة تذهب مع زوجها إلى حفلة الزجل. وما كان أحدٌ قبل موسى ليجرؤ على إدخال ألوان كهذه في الزجل.
س: ما الفرق بين موسى شاعر المنبر وموسى صاحب الدواوين الشعرية؟
موسى زغيب هو هو على المنبر وفي دواوينه ولا أجد فرقاً بين الاثنين. وقد اختار في كتبه عصارة شعره والمقتطفات الحلوة من قصائده.
س: قلت عن موسى: “هو بين شعراء الزجل الرقم واحد، ونحن كلّنا الرقم 5 . خلقه الله ظاهرة فريدة، ونحن كلّنا تأثرنا به”. ألا تجد في قولك هذا بعض المبالغة؟
-هذا هو الواقع. لو اعتبرنا أن في الزجل 15 باباً فأنت تجد أفحل الشعراء تفوّق في اثنين أو ثلاثة أو أربعة بالأكثر منها. أما موسى زغيب فقد تفوّق فيها كلّها من دون استثناء. فقد كتب في كلّ لون من ألوان الزجل وأبدع فيه. كلّ هذا علماً أن موسى لم يتابع الدراسة في المدرسة، ولم يحصل على شهادات، وإنما طوّر ثقافته بالمطالعة، وهو يقرأ جريدتين أو ثلاث كلّ يوم.
س: وماذا غير المطالعة؟
حضور الأفلام ولا سيما الهندية
س: لماذا الهنديّة تحديداً؟
كلّها عواطف.
س: أعود إلى خليل روكز، ما سرّ هذه الشعبية الساحقة التي يتمتّع بها حتى أنه لا يزال الشاعر الزجلي الأكثر مبيعاً؟
-لأنه مات شابّاً تعاطفت معه الناس. ولو عاش خليل لعمر 81 سنة لكان انفضح!
س: ماذا تقصد؟
موسى زغيب بالمقابل مُهرة أصيلة على المجال الطويل لم يتغيّر لونها. وكان متفوّقاً بالقرّادي والمعنّى على سائر زملائه.
س: إلى ماذا يعود هذا النتاج الغزير لموسى؟
لا شغل لموسى في حياته إلا الزجل. ينهض الساعة الثامنة صباحاً يشرب قهوته ولا همّ عنده غير الزجل. وكانت زوجته رحمها الله امرأة فاضلة أمّنت له المساحة الكبيرة لكي يكون شاعراً كبيراً. وكانت تقوم بمهمّة الأب والأم في الأسرة ما أتاح له التفرّغ لموهبته في الشعر وتنميتها.
خاتمة
والحديث مع موسى زغيب وعنه لا ينتهي. وموسى زغيب الإنسان لا يقلّ جاذبية وأثراً وتأثيراً عن موسى زغيب الشاعر. وفيّ هو، بل نموذج للوفاء. وحبّه لخليل روكز وما قاله لنا عنه دليلٌ على ما نقول. لا تعرف الغيرة ولا العنجهيّة طريقاً إلى قلبه. لذا تراه لا ينكرُ لأحد من زملائه فضلاً حيث يجب، ولا يستغيب أحداً. يعبّر عن إعجابه دون تحفّظ، وحين لا يعجبه شيء أو شاعر، يكتفي بالصمت. وقديماً قيل عن الشاعر العربي: يمدحك بمال، ويهجوك مجّاناً. أما موسى زغيب فيمدح المستحقّين مجّاناً، ويمتنع تماماً عن الهجاء. إنه شاعر القيَم، تربّى على القيَم اللبنانية والقرويّة الأصيلة ومعها كبُر. أحبّها وأحببناها فيه. وهو الإنسان الودود وصاحب اللسان الدافئ. والأذيّة، بالقول كانت أم بالفعل، نقيض طبعه وفطرته. عصفور غرّد داخل سربه وخارجه، وأبدع في الحالتين. وهل نعجب بعدها من حبّه المبكر للعصافير ودفاعه المحقّ عنها!
إنه بكلمة شاعر قلّ أن يجود الزمان بمثله، بل هو علامة فارقة في تاريخ الزجل. ولن نفيَه حقّه لا بمقابلة ولا حتى بكتاب! حسبنا أنّنا سلّطنا أضواءً كاشفة على بعض مناحي إبداعه، ومهّدنا لمن سيأتي ليتابع الطريق.