أ. د.لويس صليبا
التقيتُ الشيخ علي كاظم سميسم للمرّة الأولى في النجف/العراق في المؤتمر العلمي الدولي الثاني للسيدة فاطمة الزهراء أيار 2013، وكان هو مدير هذا المؤتمر ولولب الحركة فيه. وسجّلتُ له يومها انفتاحه ونفَسَه الحواري،ودعوتَه العديد من العلماء والباحثين المسيحيين من رجال دين وعلمانيين للمشاركة في أعمال هذا المؤتمر، رغم أنّه إسلامي الطابع عموماً. ولأنّه كان من أوائلِ رجالاتِ الدين والفكر العراقيين الذين عرفتُهم، حسبتُ أن أمثاله وزملاءه من أهل بلده حواريّون مثله بامتياز ومنفتحون، وكانت خيبتي لاحقاً كبيرة في هذا المجال. ولكن مَن كان مِن طينة الشيخ سميسم في الانفتاح والحوار من شأنه أن يكونَ كالخميرة تخمّرُ مع الوقت العجينَ كلَّه.
وعندما طَلبَ منّي لاحقاً، وبعد سنة، أن أُشرف على أطروحته في جامعتنا، لم أتردّد في القبول لأنّني عرَفتُ خامةَ الرجل، ومدى تمرِّسه في مجال البحث من محاضرتِه ومداخلاتِه في المؤتمرِ المذكور.
وفي الحقيقة فقد استهواني موضوعُه منذ البداية، فهو موضوعٌ حواريٌّ بامتياز، وقد يختلفُ مفهومي له ومقاربتي عن مفهومِه ومقاربتِه. نعم إن محورَ البحث الأساسي يدورُ حول قاعدةٍ رئيسة في أصولِ الفقه الإسلامي هي “قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد”. ولكن هل من مانعٍ أن تطبّقَ هذه القاعدة، أو يُتفحّص أمرُ انطباقِها على أديانٍ أخرى؟!
ورُحْتُ أتساءلُ إثرَ قراءتي لمشروعِ الأطروحةِ الذي أعدّه الطالب: قاعدةُ جلبِ المصالح ودرءِ المفاسد أليست هي التعبيرَ الفقهي الإسلاميّ عن القانون الطبيعيّ، أو بالحريّ النظامَ الكوني وما يُسمّيه المغبوط غوتاما بوذا داهامّا Dhamma، أو دهارما وفقَ تسميةِ معظم فلاسفة الهند وحكمائها. ففي داخل كلِّ كائنٍ حيّ فطرةٌ، بل غريزة، تجعلُه يبحثُ عن مصلحتِه أو بالحري استمرارِ حياتِه، وأن يدرأَ ويتجنّبَ ما يُفسِد عليه هذه الحياة وطولَ البقاء. فحتى الجراثيم والفيروسات تتصرّفُ بموجبِ هذه القاعدة، والتي يسمّونها غالباً غريزةَ الحياة، وتُدافعُ عن بقائها واستمرارِها بشتّى الوسائل. حبُّ الحياةِ بمنّتينِ يُنشد الشاعر العربي رشدي المعلوف([1]): والمقصود بالمنّتين حبُّ الحياة وحبُّ استمرارِ الحياة. وتوقّفتُ مطوّلاً، وأنا أتابعُ عملَ الطالب، عند إشكاليةِ هذه الأطروحة متأمّلاً متبصّراً في موضوعِها الأساسي، وكنتُ غالباً ما أردّدُ في داخلي: أجل كلُّ الأديان، إبراهيميّة كانت أم غير إبراهيميّة، نشأت بموجبِ هذه القاعدة، ونسجَتْ خيوطَها الأولى بموجبِها واستناداً إليها. فالفطرةُ المولودةُ مع الإنسان تدعوه عفويّاً بل غريزيّاً، وبإلحاح، لاستجلابِ المصالحِ واتّقاءِ المفاسد ودرئها ما استطاعَ إلى ذلك سبيلاً. ولو قاربْنا الموضوعَ من زاويةِ العلم الحديث، ولا سيما بمصطلحاتِ الفيزياءِ الحديثة ومفهومِها لوجدناها تتحدّث عن مبدأ Anthropy أو Anthropic principle. والأنتروبي هي طاقةُ الفوضى واللانظام، وتزدادُ في الجسم والكائنات مع الزمن. وإنّما الحياةُ واستمرارُها هي ببساطة مقاومةُ ازديادِ الأنتروبي وتفاقُمِها في الكائن. وكأن الموتَ يعملُ في اتّجاه جلبِ المفاسد ودرءِ المصالح، في حين تعملُ الحياةُ في الاتّجاه المعاكس، أي جلبِ المصالحِ ودرءِ المفاسد. ولو عالَجَ ملحدٌ ناكـرٌ لكلّ تدخّلٍ إلهيّ في الأديان هذه الإشكالية لاستطاع أن يطبّقَها على كلِّ الديانات لا الأديان الإبراهيميّة وحدها. وهذا بالطبع حديثٌ يطول، ويتطلّبُ جهدَ سنواتٍ طويلة ولا بدّ في أيّ أطروحةٍ جامعيّة من حصرِ الموضوعِ للخروجِ بنتيجة، وإلا ضاعَ الباحثُ في متاهاتِ البحثِ التي لا تنتهي. ومن هنا وافقتُ الشيخ علي سميسم على أن يقصُر بحثَه على تطبيقِ هذه القاعدة وتفحّصِها في نشأةِ ثلاث دياناتٍ وتطوّرِها مع الزمن، وليسَ هذا في الحقيقة بالأمرِ اليسير.
إذ كان على الطالب الشيخ الحوزويّ أن يسيرَ درباً طويلة، ويلجَ غابةً عذراء، لم يسبقْ له أن وطئ أرضَها: اليهوديّة والمسيحيّة كلاهما بتقاليدِهما ونصوصِهما أرضٌ لم تطأْها قدماه في السابق، غابةٌ عذراء، أو أقلّه حديقةٌ مسوّرة. ومَن دخل حديقةً للمرّة الأولى لا بدّ له أن يقفَ عند هذه الزهرة يشمُّ عطرَها، وتلك الشجرة يتفيّأُ ظلَّها، وهاتيك النبتة يستمتعُ بزهوّها وتألّقِ ألوانها. وكنتُ معه كدليلٍ سياحيّ يصحبُ فتى يستكشفُ لأولِّ مرّةٍ جمالاتٍ ومعالمَ لا عهدَ له بها. فأستكثرُ وأستطْوِلُ وقوفَه عند هذه الزهرة أو تلك، وأحاولُ أن أثنيَه عن الإطالة، فانجحُ في مسعايَ تارةً وأخفقُ غالباً، فأتركُه على سجيّتِه يستكشفُ ويستطلعُ وما في اليدِ حيلة. وأكتفي بأن أذكـرَ في هذا الصدد أن فصلَ المسيحية الذي جاءني به بنسختِه الأولى كان يفوقُ بحجمِه وعددِ صفحاتِه حجمَ الأطروحة الحاليّة برمّتِها، فكيف ببقيّة الفصول؟! وهنا عملتُ معه بموجب المبدأ الأكاديمي الفرنسي القائل: Effacer souvent, ajouter parfois: أمحُ غالباً، وزِد أحياناً، فأطلبُ منه أن يزيدَ شرحاً كلَّ ما من شأنه إثباتِ انطباق قاعدة جلب المصالح على نشأة المسيحية وتطوّرِها وعلى عقائدِها وشرائعِها، وحذفَ الجوانبِ التاريخيّة والسياسية والعقائدية التي لا ترتبط مباشرةً بموضوعه. والأمرُ نفسه ينسحبُ على ما ورد في الفصل الأوّل ممّا أسماه: “ثبوت هذه القاعدة عقلاً عند العقل والعقلاء كافّة”.(ص18). فحذفنا من هذا الفصل أكثر من نصفه، ولا سيما تفاصيل نظريّات فلاسفة اليونان والإسلام في العقل الفعّال وغيره.
ولا بدّ لي من أن أشهدَ أن جلساتِ مناقشةِ ما كَتَبَ شيخُنا في الأطروحة، والتي كنّا نعقدها إثر نهايةِ تصحيحِ كلّ فصلٍ كانت جلساتِ حوارٍ مسيحيّ إسلامي بامتياز. وأن أسجّل له حشريةً علميّةً بنّاءة، بل نَـهَماً مستمرّاً لمعرفة الآخر يهودياً كان أم مسيحيّاً، معرفةً موضوعيّة ودون الحكم عليه: يسألُ مثلاً في العقيدة بل والخلافات العقائديّة بين الخلقَدونيين وغير الخلقدونيين، بل وبين الخلقَدونيين أنفسِهِم من كاثوليك وأرثوذكس، وغير الخلقدونيين من مونوفيزيين ونسطوريين، ما يجعلُني أعودُ إلى بطونِ الكتبِ والمصادر لأوثّق ردودي على أسئلته. وهو إذ لم يتَح له، لا في لبنان ولا في العراق، أن يلتقي حاخاماتٍ ورجالَ دينٍ يهوداً سافر إلى إيران خصّيصاً للقاء بعضهم، فحاور علّامةً من علمائهم ونقلَ بعضَ وقائعِ هذا الحوار في أطروحته: وافقه في أمورٍ وخالفه في أخرى، وناقش ما خالفَه فيه وما وافقَه، علماً أن النقاشَ لم يكن جدلاً وسجالاً حول صحّة عقيدةٍ أو بطلانها، بل كان في مسائلَ وتفاصيلَ في الشريعةِ الموسوية وطرقِ تطبيقِها، فبدا وكأنّه نقاشٌ بين عالِمَين لا يختلفان في الأصول بل يتحاوران في الفروع، ومن هنا ميزةُ هذا الحوار وأهمّيته. نقرأ (ص25): “مع أن الحاخام د. يونس حمامي لاله زار لم يشاطرْني هذا الرأي وقال إن هذا الخلاف [أي بين التلمودَين البابلي والفلسطيني في الموقف من الوثنيين] موجود في أصلِ المشنا، واستعان برأيه بكتاب موسى بن ميمون أحكام الوثنيين ج1/ف9بند1”. ونقرأ في الهامش تعريفاً بهذا العلّامة: “وهو الخبير في الشؤون الدينية والثقافية للمجْمَع اليهودي الرئيسي في إيران. التقيته في المجمع اليهودي الرئيسي في طهران في 11 حزيران 2015 س 10 صباحاً”. ونقرأ في متن الصفحة إياها ما ترجم له هذا الحاخام من قولٍ لموسى بن ميمون مع المرجع في الهامش.
والشيخ سميسم كما عهدتُه وعاينتُه محاورٌ لبقٌ يتعاملُ مع المصادر بذهنيّة منفتحة وعقلية أكاديميّة تَظهَرُ جليّاً في أطروحته، وقد ناقش علماءَ المسيحية ولاهوتييها فيما ذهبوا إليه كما ناقش الحاخامات. ودوّنَ واستخلص، ونجحَ في أن يكونَ دوماً بعيداً عن الأحكام المسبَقة والإداناتِ الجاهزة والمعلّبة سلفاً والتي نلحظُها في بحوثٍ عربية أخرى عديدة ومثيلة لدراسته، وهو يقولُ مؤكّداً على هذه الميزةِ في بحثه (ص405): “حاولتُ جَهدي أن أمتنعَ عن إسقاطِ قناعاتي وعقيدتي الشخصيّة على عقائدِ الآخرين، وبذلتُ قصارى الجهد في ذلك”. وهو بنظري جهدٌ قيّمٌ ومشكور.
وممّا سجّلتُه شخصيّاً وحفظتُه أنّني عندما كنتُ في جلساتنا الطويلة أحشرُه في الأسئلة عن إشكاليّته أي قاعدةِ جلب المصالح ومدى تطبيقِها وانطباقِها على هذا الحدث أو ذاك من تطوّر عقيدة أو ديانة كان يبادرُني بالقول يبقى توضيحُ الواضحاتِ من أصعبِ الأمور. فالمجامعُ الكنسية في المسيحيّة، أو النصوصُ التلمودية الطويلة والمفصّلة، أو موسوعاتُ الفقهِ ومطوّلاتُه، ليست في الحقيقة سوى محاولةٍ جادّة للتكيّف مع المستجدّات وما يطرأُ في كلِّ عصرٍ ومصر من قضايا لم تكن مطروحةً سابقاً وعند نشأة أيٍّ من هذه الأديان الثلاثة، وهي بالتالي تعبيرٌ عن قاعدةِ حبّ استمرار الحياة بالمفهوم الإنساني والفكري العام، أو قاعدةِ الانحياز إلى مبدأ البقاء على قيد الحياة طبقاً للتعبير العلمي الفيزيائي، أو قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد بمصطلح علم أصول الفقه ولغته، أي القاعدة التي سعى طالبنا إلى تطبيقها على نشأة كلّ من هذه الديانات الثلاث يقول مثلاً في مطلب أثر قاعدة جلب المصالح في المجامع المسكونيّة (ص219): “لقد بينّا أن التطوّرَ وتطبيقَ قاعدةِ جلبِ المصالحِ ودرءِ المفاسد شمِل التقليدَ بعامّة. ومن الجديرِ ذكـرُهُ أن كلّ ما ذكرناه من تطوّرٍ داخلَ النصوصِ وخارجَها هي براهينُ ناصعة على تطبيقِ قاعدةِ جلبِ المصالحِ ودرءِ المفاسد، وكان في ضمنِه التطوّرُ وتطبيقُ القاعدةِ ذاتِها على جزءٍ منه، وهي القوانين الكنسية التي نضجت في المجامع المسكونيّة والإقليمية” ، وأظنُّه وُفّق في مسعاه التبيانيّ هذا إلى حدٍّ بعيد، وأثبتَ أن هذه القاعدة طِبقاً لتعبيره هو (ص58): “قاعدةٌ عقلية تنتمي للعقلِ وحدَه، لا لدينٍ معيّن، ولا لشريعةٍ خاصّة”.
وقد يؤخَذُ على الأطروحة خلوُّها من المراجعِ الأجنبيّة، وهي مهمّة بلا ريب في هذا المجال. ولا حيلةَ لطالبِنا في هذا الأمر، ولا حولَ ولا… فهي مشكلةٌ يعاني منها كلّ زملائِه الطلّاب العراقيين، وتعودُ إلى تنشئتِهم المدرسيّة، بل هي مُعضلةُ أكثرية الطلّاب المشرقيين العرب من سوريين وسعوديين وخليجيين وغير ذلك من الجنسيّات فضلاً عن العراقيين. وأذكـرُ هنا على سبيل المثل قصّةَ طالبةٍ عراقية أصرّت أن يكونَ موضوعُ أطروحتِها الفلسفة المسيحية الوسيطية ولا سيما لاهوت معلّم معلّمي الكنيسة القدّيس توما الأكويني تحديداً، في حين أنها لا تعرفُ أيةَ لغةٍ غربية فضلاً عن اللاتينية التي كتب بها القدّيس توما، فعجبتُ من خيارِها، وأنا الذي كتب ستّة مؤلّفات في الأكويني، واعتذرتُ عن الإشراف على بحثِها نظراً للنقصِ الفادح الذي تعاني منه المكتبةُ العربية في مجال النصوص وكذلك الدراسات التوماوية.
أما شيخُنا الباحث، فقد أدركَ هذا النقصَ في بضاعتِه العلميّة وأدواتِه البحثيّة، وسعى بجِدّ ونشاطٍ وهمّةٍ إلى التعويض عنه، فلم يتركْ مرجِعاً أو مصدراً عربيّاً أو معرّباً في المسيحية أو اليهوديّة وشرائعِهما وتاريخِهما وعقائدِهما إلا وبحثَ عنه واستحصلَ عليه. ومكتبةُ البحثِ أو البيبلوغرافيا في أطروحته شاهدٌ على ما أقول، ودليلٌ حسّي على ذلك. إذ تجاوز عددُ مصادرِها ومراجعِها الستماية، وقد أمضى سنواتٍ في مطالعتها وتحليلها واستخلاص المفيد منها. وحاول بهذا الجهد المضاعَف أن يعوّض عن هذا النقص، وكانت محاولتُه في محلّها.
والملحوظة الأخيرة هذه تقودني إلى الحديث عن الأطروحة عموماً من حيث الشكل والإخراج. فلغتُها عربيةٌ صافية سليمة لا يشوبُها خطأٌ نحويّ ولا إملائي، ولا طباعيّ إلا في ما ندر، والكمالُ لله لا لعبيدِه كما يقولون. ولا تنقصُها كذلك علاماتُ الترقيم وهمزاتُ القطعِ والتمييز بينها وبين همزاتِ الوصل، ولا يفوتُها إثباتُ الشدّات حيث يجب، منعاً للالتباس. وهي مشاكلُ يعاني منها الكثيرُ من مثيلاتِها. والهوامشُ في أسفل كلّ صفحةٍ نالت ما تستحقُّ من عنايةِ الباحث، فجاءت دقيقةً ومطابِقة للأسسِ والمواصفات المحدّدة في كلّيتنا، وقد بذل الطالبُ جهداً ملحوظاً في هذا المجال يُشكر عليه، لا سيما وأن المنهجيّة المعتمَدة في كلّيته هو، وفي بلاده، تختلفُ اختلافاً بيّناً عمّا نعتمدُ هنا.
أما التوثيق فحدّث ولا حرَج. فلا تخلو صفحةٌ من صفحات الأطروحة من الهوامش والمراجع المتعلّقة بالمتن. وقد اجتهدَ الطالبُ في أن يُسنِدَ كلَّ قولٍ إلى قائله، وحرصتُ معه على أن يكون تخريجُ كل الاقتباسات دقيقاً ويعودُ إلى المصادرِ الأساسية، ولا يكتفي بمراجعَ ثانويّة. فيَفي بالتالي بالغرضِ المطلوب في بحثٍ جامعيّ. وأسجّلُ له تجاوبَه في هذا الصدد. وأضربُ مثلاً واحداً على ذلك تحاشياً للإطالة، ففي المطلب الأول من ف3، الفرع الثالث: قَوامة الرجل على المرأة في الديانة المسيحية أوردَ الطالبُ رأياً لافتاً بل وغريباً لترتليانس أحد أبرز آباء الكنيسة الغربيين، ولمّا كان قولُه مأخوذٌ عن مرجعٍ إنكليزي معرّب طلبتُ منه أن لا يكتفي بذلك، بل أن يخرّج قولَ ترتليانس، نظراً لأهمّيته، من كتبه، وكلُّها باللاتينية، ولمّا تعذّر على الباحث ذلك، لعدم توفّر هذه الكتب، حذف كلام ترتليانس من أساسه من النصّ حرصاً على دقّة التخريج والعودة إلى المصادر، فلا يُستبعد أن يكونَ قولُ ترتليانس المترجم من اللاتينية إلى الإنكليزية ومنها إلى العربية غير دقيق، أو حتى مترجماً بمعنى معاكس Contresens
وكي أكونَ منصِفاً في تقييمي أرى من الواجبِ أن أنوّهَ بالحُلّة الأنيقة التي أُخرجت بها هذه الأطروحة، إن من حيث الغلاف الذي اعتُمدت فيه آخر التقنيّات الطباعية الحديثة، أو من حيث الخطّ fontالمعتمد في متنها والحواشي، والذي يُبرز أدواتِ الترقيم والشدّات دون أيّ التباسٍ كما هي حال العديد من الخطوط الأخرى المستَخدمة في سائر الأطروحات. وكلُّها أمورٌ تجعلُ النُسخة التي بين أيدينا أقربَ إلى إخراجِ كتابٍ أنيقٍ محترف Professionnel منها إلى كور جامعيّ كما هي حال أكثر الأطروحات الأخرى.
ولفتني في الأسلوب أن الطالبَ يتقنُ استخدامَ ضميرِ الغائبِ عوضاً عن الأنا، وهاكم بعض الأمثلة: البحث لا ينحاز (ص13) ولا يقول لا أنحاز، سيمرّ البحثُ على بعض الفرضيّات (ص17)، يركّز البحث على حيثيّة واحدة (ص21)، ابتعَدَ البحث عن الخوض في (ص143). عبارات تتكرّر عشراتِ المرّات بل مئاتِها وعلى مدى الأطروحة. وتذكّـرُنا بأسلوبِ القدماء وكبارِ الفلاسفة والعلماء والذي لخّص الفيلسوف الفرنسي موقفَهم وطريقتَهم في هذا المجال بمقولته الشهيرة Le Moi est haïssable: الأنا مكروه.
وأشيرُ في هذا الصدد إلى أن معلّمَ معلّمي الكنيسة توما الأكويني الآنف الذكر والذي تبلغُ مجموعةُ مؤلّفاتِه Corpus Thomiste عشرات الألوف من الصفحات، ورغم ذلك فهو لم يستخدمْ مرّة فيها عبارة “أنا”.
ولا أُخفي أنّني استحسنتُ لغةَ الخطابِ اللاشخصية هذه Impersonelle والتي اعتمدَها الشيخ سميسم، فأخذتُـها عنه في العديد من بحوثي ومؤلّفاتي، ولا أرى أيَّ ضيرٍ في أن نتعلّم من تلامذتنا وطلّابنا، فكلُّنا، في النهاية، تلامذةٌ وطلّابُ حقيقة.
وأخيراً، فكما كانت جلساتُ البحثِ المطوّلة بيني وبين الشيخ علي سميسم ها هي جلسةُ مناقشةِ أطروحتِه هذه حلقةُ حوارٍ مسيحي إسلامي من الطراز الرفيع، لا سيما وأن المشاركين فيها من أكاديميين وعلماء هم روّاد هذا الحوار في بلدنا. الشيخ القاضي الدكتور محمد النقّري مهندسُ عيد البشارة عيداً وطنيّاً جامعاً، وها هي اليوم دولٌ أخرى تستلهمُ بادرَته وتحذو حَذو ما فعل.
الإعلامي البروفسور خضر نبها وهو اليوم من أبرز المتخصّصين في تراث المعتزلة وناشري إرثِهم، وصاحب برنامج تلفيزيوني حواري شهير هو “أحسن الحديث”.
والأخت الدكتورة روز أبي عاد والتي جمعت الصرامة الأكاديمية إلى الانفتاح والحوار. وهي مرجعُ طلّابِنا ومَعينُهم في اللغات الساميّة القديمة وفي البيبليا. وزميلتي د. بيتسا استيفانو التي تترأس هذه الجلسة وتحسن إدارتَها، كما أحسنت المشاركة في العديد من مؤتمرات الحوار المسيحي الإسلامي بمحاضراتِها ومداخلاتِها العديدة والقيّمة، وكنتُ شاهداً على ذلك.
وما جلسةُ المناقشةِ الحواريّة هذه سوى مصداقٍ لما خلُص إليه الطالب في خاتمةِ بحثه حيث يقول (ص404): “الأطروحةُ تفتحُ آفاقاً جديدة في الحوار اليهودي المسيحي الإسلامي، وهي فرصةُ لقاء جديدٍ متاحةٍ في ما بينها، لأنّها، كما ذكرنا في متن البحث، تستندُ إلى أسسٍ واحدة”
ولا أخالُ فريقَنا الأكاديمي والحواري في آن، أي اللَجنة الفاحصة، إلا وأنّه سيُحسنُ بلا ريبٍ تقديرَ جهدِ طالبنا الأكاديمي والحواري حقَّ قدْرِه. وكم نحن بحاجةٍ اليوم في لبنان وفي العراق وغيرِه من البلدان العربية إلى هذا النمطِ المميّز من البحث ومن الحوار.
وفي الختام أتوقّفُ برهةً عند إقرارٍ مهمّ للباحث، حيث يقول (ص404): «كانت لي هذه الأطروحةُ بمثابةِ فاتحةٍ لمعرفةِ الآخر كما هو، وكما يَعرِّف هو عن نفسه، ففتحَت لي آفاقاً بعيدة وجديدة في معرفةِ فقهِ وعقائدِ الديانات الإبراهيمية الأخَر، ما سينعكسُ إيجاباً على عملي البحثي كأستاذٍ في جامعة الكوفة، لأنقلَ هذه المعارف إلى الآخرين بعد أن استوقفتني مليّاً.» معرفةُ الآخر كما هو وكما يعرّف عن نفسِه، يقول، وكم نحن بأمسّ الحاجة إلى هذا النمطِ الراقي والتفهّميّ من المعرفة.
ويَمضي الطالبُ فيعلنُ بحزمٍ في الصفحة التالية (ص405): “ومن هذه الأطروحة، نضجَتِ الأفكارُ التي كانت تراودُني في فتحِ فرعِ تعليمِ الأديان بطرقِها الصحيحة في جامعة الكوفة” وأضعُ هنا خطّاً، بل مجموعةَ خطوطٍ وبمختلف الألوان، تحت عبارة “بطرقِها الصحيحة” البالغة الدلالة، وهذا ما رميتُ إليه في بداية مداخلتي هذه حين تحدّثتُ عن خيبة أملي من كثيرٍ من العلماء وأساتذة الجامعات الذين تعرّفت إليهم في العراق.
فيا شيخ علي سميسم: مسؤوليّتُك كبيرةٌ في مواصلةِ البحث، وفي فتحِ أبوابِ الحوار في موطنِك، ولا سيّما في جامعتِك، وكنتَ عميداً لها. فهي والعالمُ العربيّ بأسرِه، ومن المحيطِ إلى الخليج، بحاجةٍ ماسّة إلى تطويرِ علومِ الأديان والأديان المقارنة وتحديثِ تعليمها، والخروجِ بالتالي من طورِ المفاضلة الذي غرِقَت فيه قروناً طويلة فكادت تختنق. إلى طور المقاربة المقارِنة والأكاديميّة، فمن شأنها أن تعالج الكثير من عللِ التعصّب والتطرّفِ والإرهاب التي نقعُ وتقعُ أوطانَنا كلّ يومٍ ضحيّةً لها. وإلى مزيدٍ من العطاء والإنجازات. والسلام عليكم جميعاً من حاضرين ومناقشين ورحمةُ الله وبركاتُه«»«»«»«»([2])
[1] -لبكي، منصور، رنّموا للربّ مجموعة من الأغاني الروحيّة والتراتيل الدينية، بيروت، منشورات دار الكرمة، د. ت، قصيدة الأم لرشدي المعلوف، ص21.