مع رحيل الشاعر الدكتور علي علامة يوم الأربعاء 5/ 5/ 2021 نتذكّره في أبرز إنجازاته ألا وهي أطروحته “القيم الدينية في زجل لبنان، وعلى رابطي اليوتيوب هذين التسجيل الكامل لجلسة مناقشة أطروحته هذه، وتقييم اللجنة الفاحصة لها.
وفي ما يلي النصّ الكامل لمداخلة المشرف على الأطروحة أ. د. لويس صليبا في جلسة المناقشة هذه.
أ. د. لويس صليبا
من حقّ زملائي الكرام، بل بالأحرى من واجبِهم، أن ينظروا ويروا القسمَ الفارغَ من كوبِ الماء، ومن حقّي، بل من واجبي، أن أنظرَ إلى النصفِ الممتلئِ منه. دورُهم وموقعُهم يفرضان عليهم أن ينتقدوا ويَلحظوا ويصحّحوا، في حين يُملي عليّ دوري أن أناقشَ وأوضح. ولا يعني ذلك أنّني لم ألعبْ دورَهم في النقدِ والتنقيح والتصحيح، فقد فعلتُ ذلك على مدى نحو أربعِ سنوات، وفي تصحيحاتٍ بلغ عددُها ستة كما أشرتُ في تقريري إلى حضرة العميد في 29/1/2019.
قرأتُ هذه الأطروحة، وأعدتُ القراءة مراراً وتكراراً حتى كدتُ أحفظها عن ظهر قلب، وقلبتُ وبدّلتُ وقدّمتُ وأخّرت، أضفتُ حيناً، وحذفتُ أحياناً، وكشفتُ عن سرقات أدبية ومحاولاتِ سطو، كلّ ذلك لنصلَ إلى الصيغةِ التي بين أيدينا. ويبقى السؤالُ الكبير: هل كانَ بالإمكانْ أحسن ممّا كانْ، وممّا هو عليه الحالُ الآن؟!
يصعبُ أن نقرأَ أطروحةَ الطالب علي علامة بمعزلٍ عن ظروفِها وحيثيّاتها، وقد يستحيل.
مشوارٌ طويل مشيتُه معه، ومنذ البدايات، وبدايةُ انطلاقته كانت الأصول السريانيّة للزجل اللبناني. وكان عليّ أن أقنعَه هنا أن الفكرة هذه ليست بجديدة، ولن تحمل محصّلة جولاتِه في مجالها وصولاتِه مادّةً تكون كافية لأطروحةٍ جامعية. فقد تكوّن فصلاً أو أكثر من أطروحة، ولكن ليس أكثر. فانتقلنا معاً إلى البحث في إشكاليّةٍ أوسع وأكثرَ جُدّة ألا وهي القيَم الدينية في الزجل اللبناني: إنه موضوعٌ، على أهمّيته، لم يسبقْ أن طرَقه باحث. والزجلُ حافلٌ بهذه القيَم. وقد وعى الطالب تماماً هذين الأمرين: أهمّية الموضوع ومركزيّته أولاً، وقلّة الأبحاث فيه تالياً. فعن الأول يقول (ص16): “وبدأتُ أتساءل عبر الزجل: هل نشأت هذه الأزجال لحاجةٍ دينيّة بادئ ذي بدء زمن ابن القلاعي في غُرّة التماع السريانية في أفق لبنان، واحتجاب العربية آنذاك؟ وبدأتُ افتّش باحثاً عن العلاقة الوطيدة الرابطة بين الزجل اللبناني والقيَم الدينيّة” ولنلحظ هنا بلاغتُه في التعبيرِ عن فكرته، وقوّةُ السبك في جُملته.
ولا يخفى على أحد ما للقيَم الدينية من أهمّية مركزية. فهي في الحقيقة نقطة لقاء أساسية بين المسيحيّة والإسلام، وهي بالتالي ركن أيّ حوار مرجوّ بينهما، فالقيَم الدينية تجمع، في حين أن العقيدة تفرّق!
وقد أحسن الطالبُ في مسألة القيَم الدينية في الزجل بالاستشهاد بالشاعر موسى زغيب القائل (ص68):
زجلنا احتلّ ذروة ازدهارو وفرض عا كلّ منبر إعتبارو
ومار افرام غنّى بكلّ معبدْ أناشيدو صلا للدين صارو
ففي بيتيّ زغيب هذين تلخيصٌ موفّق للقيَم الدينية في الزجل اللبناني، ولمصادر هذا الزجل السريانيّة في آن.
أمّا عن الثاني فيقول علامة (ص518): “كنّا ومنذ بداية اختيارِنا الموضوع نعي تماماً نُدرة الأبحاث التي تناولت موضوع القيَم الدينية في زجل لبنان حيث خِلنا هذا الموضوع غابةً عذراء، وما جرؤ أحدٌ على سبرِ أغوارها مدى سبعة عقودٍ من الزمن”
ولكن طرحَ هذا الموضوع وتقصّي عناصرِه ونماذجِه عبر ثلاثة قرون أو أكثر من تاريخ الزجل بدا أمراً عسيراً، ويتطلّبُ أطاريحَ عديدة، لا أطروحةً واحدة. فكان لا بدّ من حصرِ الموضوعِ للخروج بنتيجةٍ واضحة محدّدة، وتحاشي الضياع في متاهاتٍ لا نهايةَ لها. فوقعَ الخيارُ على شخصيّةٍ زجليةٍ دينية تربطُ نهاياتِ الزجلِ الراهنة ببداياتِه، وتذكّر بمن تُنسب أحياناً إليه هذه البدايات أي الراهب والأسقف ابن القلاعي. وقعَ الخيار على الراهب الحبيس وعالِم الكتاب المقدّس الأب يوحنا الخوند. ولهذا الكاهن الزجّال موقعُه ورمزيّتُه. وليس الزجلُ بأوزانِه السريانية وقيَمه المسيحية بغريبٍ عن عالم الرهبنة، فالقدّيس شربل نفسُه نُسبت إليه زجليّات عديدة.
فإذا كانت القيَم الدينية في الزجل اللبناني نلقاها مفرّقة لُمعةً عند هذا الشاعر، وبيتاً أو قصيدة عند ذاك، فهي مجموعة ومجتمعة في شخص الحبيس الخوند وفي نتاجه الشعري في آن. فسيرتُه وأشعارُه كلاهما تنضحان بهذه القيَم. وفي ذلك يقول الباحث علامة (ص518-519): “قد نجدُ شذرات قيمٍ دينيّة لدى خليل روكز أو موسى زغيب أو زين شعيب وغيرهم… أمّا الحبيس الخوند فقد كانت القيَمُ الدينية العمودَ الفِقري في شعره. فلو لم نخترْه لاضطررنا إلى البحث عن بديلٍ مكين، ولكن أيُّ بديلٍ نستطيعُ أن نلغيَ به الحبيس الخوند؟! إنّنا حيال رهطٍ من الشعراء كي نستطيعَ أن نستوفيَ بعض الشيء في هذه الأطروحة”.
ولكنّ علي علامة، ورغم حماسِه لموضوعِه الجديرِ بالتنويه بدا وكأنّه يطأُ أرضاً غريبة، ويحاولُ التوغّل في غابة عذراء!
فموضوعٌ كهذا يتطلّبُ معرفةً باللاهوتِ المسيحي والدراساتِ الكتابية البيبلية أقلّه في حدّها الأدنى، ففي هذا الجوّ العابق ببخورِ التقوى والخشوع غنّى الخوندُ زجليّاتِه، وأنشدَ مدائحه ليسوع والعذراء وسائر القدّيسين وأنبياء العهد القديم. وقد وعى الطالبُ علامة، ومنذ البدء، هذه المصاعب والمعوقات التي تقف دون أهدافه البحثية، وفي ذلك يقول (ص518): “فكان علينا أن ندخلَ عالماً جديداً لم نكن نعرفُه من قبل: ألا وهو عالم اللاهوت المسيحيّ والدراسات الكتابية البيبلية والليتورجية المسيحيّة عموماً، والمارونية منها على وجه الخصوص، ممّا لم تكن لنا به إلفةٌ سابقة”.
بيدَ أنّ هذه المعوقات الجدّية لم تثبط من عزيمةِ طالبنا. وجهدُه في هذا المجال جديرٌ بالثناء: شيعيٌّ جنوبيّ تخطّى السبعين بسنوات يشمّرُ عن ساعدَيه ليغوصَ في بحورِ اللاهوت المسيحي، وخفايا البيبليا بعهدَيها القديم والحديث. وما كنتُ، ومنذ البداية، أتوقّعُ منه أن يجترحَ العجائبَ في هذه المجالات، ولا أن يخلفَ توما الأكويني في اللاهوت، ولا أوريجانس في علوم التفسير. لكن مقارباتِه الودودة كانت جديرةً بالتشجيع. وهو يقول في ذلك (ص518): “فاجتهدنا، بما أمكننا، أن نكوّن لنا معرفة واضحةً في كلّ هذه المجالاتِ والمفاهيم”.
واجتهادُه هذا صادقٌ ومشكور. وفي هذا الصدد بالذات أذكر أنّني طرحتُ مرّة في ندوة حوار على صديقي وزميلنا في هذه الكلّية الشيخ الدكتور محمد النقّري السؤالَ التالي: هل تعرفُ مسلماً لبنانيّاً واحداً متخصّصاً تخصّصاً أكاديمياً في الدراسات المسيحية، أو بالحري في أي فرعٍ من فروعها، فحارَ في الجواب، وانتهى إلى الإقرار بلا. ومن هنا فجهدُ علي علامة يتّصفُ بمُسحةٍ من الريادة. وهو من حيثُ هويّةِ الباحث، وطبيعةِ موضوعِه وسماتِه عملٌ حواريّ بامتياز، وعساهُ يكون فاتحة خيرٍ وأسوةً لطلّاب آخرين.
تحدّث بعضُ الزملاء عن طابعٍ إنشائيٍّ وسمَ الأطروحةَ بسمته. والطالب شاعرٌ فصيح وزجّال في الأساس، وسبق لي أن نبّهت وحذّرتُ لا سيما عند مناقشة مشروع أطروحته في 21/12/2016 إذ قلتُ:
بين أن ندرسَ الشعر، وأن نقرُضَه وننظمَه بونٌ شاسع واسع، فهل يسهلُ اجتياز مسافة كهذه؟!
وهل يستطيعُ شاعرٌ كطالبِنا علي علامة أن يخرجَ من جلده ليكون باحثاً في الشعر، لا ناظماً له؟ إنه الرهانُ الكبير الذي واجهه، وواجهتُه معه.
«بين العالِم والشاعر مرجٌ أخضر (يقول جبران)، فإذا اجتازَه العالِم صار حكيماً، وإذا اجتازَه الشاعر صار نبيّاً.» ([1])
وهل النبوّةُ بالأمرِ اليسير؟!
غلبَ الطبعُ على التطبّع، فطغى الطابعُ الإنشائي على عدد من مباحث هذه الأطروحة. ولكن ما يشفعُ للطالب في هذه الهَنّة أن هذا الجانب الإنشائي زيّنَه على الأقلّ وزوّقَه لغةٌ سليمة، وجملةٌ صحيحة، وبلاغةٌ في الأسلوب.
وإنّني لأوافق القائل أن نقطة قوّة علي علامة هي في الوقت عينه نقطة ضعفه: خيال خصب، ولغة سليمة وقلمٌ سيّال كلّها عناصر وعوامل قد تقود الباحث إلى حيث لا يشاء، فهي سيفٌ ذو حدّين، وقد ينقلب سحر البلاغة على الساحر، وإن من البلاغة لسحراً، يقول الحديث الشريف.
ومن نتاجات القلم السيّال الوصف الوجداني، ونلقى الكثير منه في الأطروحة: أنا سعيد، أشجّع، أحبّ، نأمل إلخ (ص296)، ويجب تجنّبه والامتناع عن إدخال ذاتيّتنا في موضوع بحث علمي، وكذلك الامتناع عن استخدام تعابير مثل: أطال الله بعمره، فهي صالحة لفنّ الخطابة، لا لأطروحة جامعيّة. وقد حذفتُ الكثير من هذه التعابير، ومع ذلك بقي منها الكثير!
أمّا الجمل الانتقالية Phrases de Transition والتي تمهّد للانتقال من فقرة إلى أخرى ومن فصل إلى آخر، فقد أوصيتُ دائماً باستخدامها، وأعلم أن الأطروحة لا يزال ينقصها منها الكثير!!
وتناول عددٌ من الزملاء مسألة المقارنات التي أجراها الباحث: واحدة بين الخوند والشاعر المونولوجيست عمر الزعنّي، وأخرى بينه وبين النبي إرميا، وغيرها. وإنّني لأميل عموماً إلى القاعدة الفرنسية القائلة:
On ne peut pas comparer ce qui n’est pas comparable
لا يمكننا أن نقارن ما ليس قابلاً للمقارنة. ولكنّنا بتنا أكثر فأكثر نرى تساقط الحدود المانعة للمقارنة، وغدا من الصعب تحديد ما ليس قابلاً للمقارنة. وسأضرب مثلين على ذلك وهما مرتبطان مباشرة بالبحث الأكاديمي:
زميلنا وأستاذنا البروفسور جاد حاتم ألّف كتاباً يقارن فيه بين السهروردي المقتول وجبران خليل جبران.
Hatem, Jad, Suhrawardi et Gibran Prophètes de la terre astrale, Beyrut, Editions AlBouraq, 2003, 140pp.
أذكر جيّداً أنّني ضحكت عندما رأيتُ للوهلة الأولى هذا الكتاب، لا سيما وأنّني درستُ جبران في كتاب لي، وعرفتُ مصنّفات السهروردي المقتول جيّداً. وطرحتُ السؤال على الكاتب، وهو بمثابة أستاذٍ لي: هل من مجال لمقارنة كاتبَين من عصور مختلفة ومتباعدة، وبيئتين مختلفتين… وما الذي يجمع بينهما، ويبرّر مقارنة كهذه؟!
وكان للكاتب رأيه في هذا الصدد وتبريراته ممّا لا مجال للدخول في تفاصيله.
ومثلٌ آخر: إنها أطروحة دكتوراه للطالبة المصرية عايدة نصيف أيّوب في كلّية الآداب، جامعة القاهرة تقارن فيها بين توما الأكويني معلّم ومعلّمي الكنيسة والأب متى المسكين. وعندما سُئلتُ رأيي في هذا البحث وموضوعه، وأنا المتخصّص في القدّيس توما، وقد كتبتُ عنه ستّة كتبٍ حتى الآن، عبّرتُ عن دهشتي بل واستهجاني لمقارنة أكاد أقول عنها بين الثرى والثريّا، وبين فيلسوف ولاهوتي من الطبقة الأولى، ومفكّر وكاتبٍ لاهوتي معاصر يصعب أن يصل إلى قامة الأكويني صاحب المدرسة الفلسفية واللاهوتية التي انتمى إليها مئات الفلاسفة على مرّ العصور وحتى اليوم. وكان للطالبة وللأستاذة المشرفة على عملها د. زينب الخضيري ما يبرّر هذا الخيار، ممّا لا تتيح لي هذه العجالة التوقّف عنده (صدرت الأطروحة لاحقاً في كتاب بعنوان: تجديد الفكر اللاهوتي الفلسفي بين القدّيس توما الأكويني والأب متى المسكين، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 2010).
كلّ هذا لأقول إن مقارنات الطالب علامة في أطروحته، ليست بأغرب من هاتين المقارنتَين اللتين كانت لأصحابهما مبرّراتهما الأكاديميّة. وبالتالي يصعب إصدار حكمٍ أكاديمي سلبي مبرم على خيارات طالبنا في ما قارن، علماً أنّني اعترضتُ ومنذ البداية على هذه الخيارات.
هذا ورغم كلّ الانتقادات والملاحظات، وأكثرها محقّ، يبقى أن لأطروحة علي علامة مزايا عديدة إن أغفلناها وغضّينا الطرفَ عنها نكونُ حقّاً مجحفين وأحاديي النظرة. وأكتفي في هذه العجالة بذكرِ بعضها:
1-نجحَت الأطروحة، من حيث موضوعِها أو من حيث هويّةِ الباحث وانفتاحِه، في أن تظهر هذا الجانب الحواري الذي أتاحه الزجل لكلّ فئات الشعب اللبناني وتلاوينه، ممّا يساهم في تظهير صورةِ لبنانَ الواحد. وفي ذلك يقول علامة في خلاصة بحثه (ص516): “وأخيراً يبقى لنا شعرُ الزجل خيرُ وثيقةٍ تحملُها صدورُنا وفيها من العِبرة والفرح وأمثولة العيش المشترك ودروس المحبّة والمُثل العُليا …”
وهذا الجانب الحواريّ في الزجل نوّهت به الأونسكو في قرارها المشهور باعتبار الزجل جزءاً من التراث العالمي الفكري. وهل ننسى في هذا المجال سجالات الزغلول وزين شعيب أبو علي المنبرية. وقبلهما حوارات الشحرور وعلي الحاج. وكم استوقفتني واستوقفت الكثيرين غيري هذه الأخوّة التي جمعت بين هذين الأخيرَين بما يمثّلان ويرمزان إليه، وتجلّت حواراتٍ ودودة راقية على المنبر. وهل ينسى اللبنانيّون حوارهما في حفلةٍ رمضانيّة تسبقُ مباشرة عيد الفطر أطلّت فيها على المنبر حسناءُ تخلب الأنظار اسمها ميليا، فارتجلَ الشحرور أبياتاً يخاطبُ فيها زميله علي الحاج ويقول:
بأرض جونيه ميل يا غُصن الدلال
اليوم صار الخمر بشرعي حلال
قوم يا علي نادي على إمّة علي
قوموا افطروا عَ دمّتي شفت الهلال
فمبارزةٌ كهذه تفوق بأثرها ودلالاتها تأثير العديد من مؤتمرات الحوار المسيحي الإسلامي، وكانت في الحقيقة خير ممهّدٍ لها.
2-أظهرت الأطروحة أن الزجل ديوانُ لبنان كما أنّ الشعر ديوانُ العرب. فتراثُنا الزجلي موسوعةٌ ودائرةُ معارف لعاداتِنا وتاريخِنا ومزايانا وفروقاتِنا كذلك. وفي ذلك يقول طالبُنا مستخلصاً (ص509): “تبيّن من خلال الدراسة أن الشعر الزجليّ لم يترك مسألة من مسائل الحياة المجتمعية إلا وعبّر عنها حياتيّاً: في المآتم والأفراح (الفولكلور) وفي دُور العبادة (الليتورجيا)”.
لا بل إن نصوصَ الزجل، بحدّ ذاتها، وثيقةٌ قيّمة تتيحُ للباحث الأنتروبولوجي القيامَ بدراسة معمّقة للمجتمع اللبناني بعاداتِه وقيَمه وتحوّلاته قديماً وحديثاَ، وفي ذلك يتابعُ باحثنا خلاصَته فيقول: “لقد قمنا برصدِ ذخائرِ الشاعرِ الحبيسِ الخوند نموذجاً لهذه الدراسة لمعالجة بعض الجوانب المجتمعيّة الهامّة. حيث بالإمكان تسليط الضوء على مدى قدرةِ الزجل ليكونَ مادّةَ بحثٍ للقيامِ بدراسةٍ أنتروبولوجية حول لبنان الوطن في مجملِ أصولِه وفصولِه ومناحيه وميولِه”.
3-وهذا الجانبُ الأنتروبولوجي البالغُ الأهمّية لم تكتفي الأطروحة برصده والإضاءة عليه، بل حاولت اقتحامه تحليلاً وتفكيكاً. وفي ذلك يقول باحثُنا (ص23): “لن نكتفي بجمعِ الوقائعِ من القصائد والأشعار فحسب، بل سنحاولُ رصدَ الملاحظاتِ سعياً في سبيلِ التعرّف إلى التحوّلات والتبدّلات الطارئة. وذلك بالاعتمادِ على التحليلِ الموضوعي من أجلِ الربطِ عبر المواقف والمجالي والحقائق. وبالتالي استخلاص المبادئ العامّة. وذلك من خلال المقارنة والاستنباط لنظريّاتٍ نستشفّها من موضوعاتٍ حيايّة يتناولُها الزجل وتمرّ في دَور عمليّاتِ الرصد انطلاقاً من كونه فاعلاً في الحدَثِ وصانعاً له”.
ويبقى السؤالُ هنا هل وُفّقَ طالبُنا في رصدِ الملاحظاتِ وسبرِ أغوارِ التحوّلات. كي نكونَ واقعيين ومنصفين في آن نقولُ لقد أصابَ المرمى تارةً، وطاش سهمُه طوراً. بيد أنّه في كلا الحالتين اجتهد في سعيه بدأب وصبرٍ وصدق. “ومن اجتهد وأخطأ فله أجرٌ، ومن اجتهد وأصاب فله أجران”، يقول الحديث النبويّ الشريف.(متّفقٌ عليه، أخرجه البخاري ومسلم، باب أجر الحاكم، ح7352 عند البخاري).
4-وعلى صعيدِ دراسةِ الحبيسِ الخوند ونتاجِه، فقد أجرى علامة مقاربةً إجمالية شاملة لكلّ نتاجِه: الشعري الزجلي منه والليتورجي والتفسيري الكتابي كذلك. وهو يقول في ذلك (ص519): “لقد آلينا جهدَنا أن لا ندعَ جانباً مهمّاً أو ميزةً من الشعرِ الخوندي إلا وقد سلّطنا عليها الضوء عالِمين علم اليقين بأن هذا المكنوزَ الشعريّ النفيس لم يسبقْ لهُ أن قوربَ أو استوى درساً بما يستحقُّ وكما يجب”.
5-كشفَت الأطروحة الكثيرَ من التجنّي والسطو على تراث الحبيس الخوند. وقد أجرى طالبنا العديدَ من المقارناتِ والمقابلات بل والاستنطاقات والتتحقيقات. وفي ذلك يقول (ص57-58): “كان الهدفُ من مقابلاتِ هؤلاء الأعوان هو أن نستبينَ مدى مساهمةِ الأبِ الخوند في أعمالٍ جبّارة عديدة أصدرها هؤلاء باسمهم وكادوا أن يتناسوا مغفِلين مدى مشاركةِ الحبيس ومقدارِ عطائه… مع العلم أنّه لا يأبه لهذه الشكليّات. ولكنّنا نحن نأبهُ لها ونحن نتحسّرُ على هذه الجهودِ الجبّارة التي بذلَها ولا يزالُ يبذلُ بلا حمدٍ ولا شُكور. ولكن نحن بصددِ تبيانِ لكلّ ذي حقٍّ حقَّه… فقضيّةُ الإقصاءِ والتهميش التي مورسَت على شخصِ هذا الأب العَلَم قد حدثت فعلاً…”
ويعود علامة ليؤكّد في الخاتمة (ص519):”ونحن نعلمُ أن كثيرين قد سطوا على مؤلّفاته وعلى مساهماتِه ونسبوها لهم. وهذا ما أشرنا إليه مراراً في الأطروحة. والحبيس الخوند بسماحتِه كراهبٍ حبيسٍ لم يهتمّْ بتأكيد حقوقِه الفكرية والمعنوية… ولولا جهودُ تلميذتِه ماري عطالله لضاعَ الكثيرُ من نتاجِه الزاخر”.
شهادةٌ تصلحُ أن تكونَ وثيقةً وبيّنة في دعوى تطويبٍ في يومٍ من الأيّام.
ورغم كلِّ هذه المزايا وغيرِها فعلي علامة موقنٌ أنه لم يقلْ بعدُ الكلمة الفيصل، بل هو شقّ الطريق، يقول (ص519): “مهما بلغَ شأوُ مساعينا فلن نقولَ الكلمةَ الأخيرة. حسْبُنا أن نكونَ قد شققنا الطريق، ويسّرنا للباحثين التالين بعدنا سلوكَهم مسارِ القيَم”.
وهو يُنهي بحثَه بالقول (ص521): “إنّنا ندركُ تماماً أن هناك عناصرَ عديدة لم نتدارسها في هذه الأطروحة، ونحن نعتبرُ أنّنا سِرْنا على الطريق، وهناك من سيسيرُ بعدنا على نفسِ الخطّ ويحيطُ بالموضوعِ بدرايةٍ أكثر. وحسبُنا أنّنا نتناولُ المحاورَ التي بدت الأكثر أهمّية في نواظرِنا ومستدركاتِنا”.
يأسرُنا هذا الإقرار ونلمحُ فيه تواضعَ العالِم وهو الشرطُ الشارط لنجاحِ أي بحثٍ، وفلاحِ أيّ باحث. ونزدادُ تيقّناً منه عندما نقرأُ للطالبِ قولَه في المقدّمة وعلى طريقةِ ناسكِ الشخروب نعيمه (ص21): “أقولُ عن أطروحتي هذه هذا حقلي فيه القمح وفيه الزؤان، فعسى أن تكونَ كمّيةُ البُرّ كثيرةٌ جدّاً فيه”.
وأنا بدوري أقولُ له: هذا حقلُك يا عليّ وقد تعِبتَ في حراثِته وفلاحتِه سنواتٍ أربع، وجاءَ الحصادُ فوجدنا فيه زؤاناً كما وجدنا قمحاً من شأنه أن يُشبعَ من جوع. فعسى سنواتُ غلالك المقبلة في نتاجاتٍ ننتظرُها منك يكثرُ القمحُ فيها على حسابِ الزؤان.
[1] -صليبا، د. لويس، أديان الهند وأثرها في جبران، قراءة جديدة لأدب نابغة المهجر، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2015، ص208.
يمكن متابعتها على يوتيوب على الرابط التالي: