المجدل للاستبصار والجدل

وموسوعة “المجدل”، على فائدتها وأهميتها الاستثنائية فـي الأدب العربي المسيحي كانت ضحية إهمال والتباس فـي آن.
الإهمال يعود إلى أنها لم تعرف حتى الآن طريقاً إلى المطبعة رغم ما تحويه من نفائس. ولم يطبع منها سوى الفصل المتعلّق بأخبار بطاركة كرسي المشرق. ومنذ عشرات السنين ونحن نقرأ لعدد من المتخصّصين فـي التراث العربي المسيحي تصاريحاً ووعوداً بنشر هذه التحفة اللاهوتية التاريخية، ولا نرى تحقيقاً للوعود، ولا حتى لجزء منها.
أما الالتباس الذي عانت منه موسوعة المجدل فمسألة يطول شرحها. وقد فصّلنا الكلام فيها فـي باب 1// فصل 2// من دراستنا (القسم الأوّل من هذا الكتاب)، فلا داعي للتكرار هنا. ونكتفي بالإشارة إلى أن الالتباس المذكور شمل مؤلّف المجدل وهويته وعصره. وقد وقعنا، شأننا شأن الآخرين، ضحيّة هذا الالتباس فـي الطبعة الأولى التي مهّدنا بها لإعادة نشر نصّ أخبار البطاركة من كتاب المجدل( ). فعرضنا ما توافق عليه الباحثون منذ زمن العلاّمة السمعاني بشأن مؤلّف موسوعة المجدل وزمنه. ولكننا وأثناء إعدادنا وتحضيرنا لهذه الطبعة المحقّقة لأخبار بطاركة كرسي المشرق، أي القسم التاريخي من المجدل، ومع التعمّق فـي النص واستقرائه، والعودة إلى دراسات عدد من الباحثين وعلى رأسهم المستشرقة الأخت بنيدكت لاندرون Benédicte Landron اتّضح لنا عدم دقّة ما ذكرناه، وما قاله كثيرون غيرنا من السابقين، بشأن هوية كاتب المجدل وزمنه. وثبت لنا أن ماري بن سليمان الذي درج الباحثون على نسبة المجدل إليه ليس سوى كاتب بعض التعليقات والحواشي على نصّ “أخبار البطاركة” من موسوعة المجدل. وها نحن فـي دراستنا التمهيد نوضّح الالتباس ونسعى إلى تصحيح الخطأ. وكم كنا نرغب أن نقول الكلمة/ الفيصل فـي هذه المسألة، لكن تبيّن لنا أنها لن تقال إلاّ إثر نشر النص الكامل لموسوعة المجدل محقّقاً كما يجب ويستحق. وهكذا فنحن إذ نقْدم على نشر هذا القسم الأساسي من المجدل نشعر بشيء من أسف لأن مسألة تحديد هوية المؤلّف وزمنه لم تستوفـي بعد حقها من البحث والتمحيص. ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه كما يقال. حسبنا حتى الآن أننا استقرأنا نصّ أخبار البطاركة واستخرجنا منه كل ما يمكن أن ينبئ عن الكاتب أو مجموعة الكتّاب، ولا نخال إلاّ أن نشر كامل نصّ موسوعة المجدل سيذهب فـي اتجاه إثبات ما عرضنا من رأي فـي فصل 2///باب 1// من دراستنا بشأن هوية مؤلّف المجدل وزمنه والذي نرجّح إلى حدّ ما يشبه التأكيد أنه عمرو بن متى الطيرهاني. ولا ضرورة هنا لتكرار الحديث عن منهجنا فـي نشر أخبار البطاركة والتعليق عليه، فقد تناولنا هذا الأمر فـي باب 1///فصل 3// من الدراسة.
ما الجديد فـي مجلّدنا هذا؟ وقد سبق ونشر نصّ أخبار بطاركة كرسي المشرق من موسوعة المجدل كما أسلفنا!
النص هو هو، ولكنه منشور الآن بطريقة عصرية ومقسّم إلى أبواب وفصول، وكل فصل إلى مقاطع وفقرات معنونة تسهّل عملية البحث. ومخطوطات أخبار البطاركة من المجدل سقيمة اللغة كثيرة الأخطاء كما أوضحنا فـي الدراسة. فكان لا بدّ من التنبيه إلى كثير منها، وإدخال علامات الوقف أو الترقيم وضبط كثير من الألفاظ والتعابير تجنّباً لأي التباس أو سوء فهم للنص. وقد قدّمنا فـي باب 2///فصل 6// من دراستنا مثلاً معبّراً على ما طرأ على نص أخبار البطاركة من تصحيفات وتغيرات بنتيجة تعدّد النسّاخ. فأوردنا وثيقة عهد البطريرك عبديشوع الثاني كما جاءت فـي رسائل ابن الموصلايا، وقارنا بينها وبين نصّ الوثيقة عينها فـي الأخبار. ونتيجة المقارنة هذه تصدم كل باحث لما فـي نصّ الأخبار من كمّ هائل من الأخطاء والتصحيفات.
أما التعليقات فـي الهوامش فمقصورة أولاً على الفروقات الأساسية بين مخطوطات أخبار البطاركة، وثانياً على عدد من التعريفات بأعلام بارزين وردت أسماؤهم أو بأحداث ذكرت. ومن شأن التعريفات هذه إيضاح العديد من إشارات نص الأخبار وتفاصيله.
وبكلمة نقول لقد اجتهدنا أن نقدّم للقرّاء عموماً وللباحثين فـي التاريخين الإسلامي والمسيحي المشرقي خصوصاً مصدراً تاريخياً أساسياً بأبهى حلّة ممكنة وأدقها، وعسانا نكون قد وفقنا فـي سعينا هذا.
ورفدنا نص أخبار البطاركة بمنتخبات من موسوعة المجدل تعرض للعقيدة المسيحية والنسطورية خصوصاً وتجادل أصحاب العقائد والملل الأخرى.
يبقى أن إسهام هذا المصنّف الأساسي، يكمن فـي الدراسة التي تسبق نصّ أخبار البطاركة وتمهّد له. وهي تطرح إشكاليات بارزة تَتَمَحْوَرْ فـي مجملها حول جدلية العلاقة والتفاعل بين النساطرة والإسلام. ومن هنا عنوانها: النساطرة والإسلام جدلية علاقة وتأثر. لقد قيل الكثير بشأن الأثر النسطوري المحتمل فـي العقيدة الإسلامية لا سيما فـي شخصية المسيح ودوره ونبوّته… الخ. ودراستنا تعرض أكثر هذه النظريات. وتحاول أن تجيب عن مسألة مهمّة: ما سرّ العلاقة المميزة التي غالباً ما سادت بين الدولة الإسلامية والنساطرة؟! وهل ما نجد عند بعض كتابهم، ومنهم مؤلّف المجدل، من مواقف إيجابية من الإسلام  ورسوله كان سبباً لهذه العلاقة أم نتيجة لها؟
جدلية العلاقة بين الطرفـين تستحق أن تمحّص وتدرس، وما نقدّمه فـي دراستنا ليس سوى خطوة فـي هذا المجال. أما التأثير إذا وجد، فلا يستبعد أن يكون فـي الاتجاهين، ونحن وإن ركّزنا فـي مبحثنا هذا على الاتجاه المنطلق من المذهب النسطوري، فسنعود فـي مقدمة دراستنا وتمهيدنا لأسفار الأسرار لصليبا بن يوحنا الموصلي،وهو الكتاب الثاني من سلسلة من تاريخ النصارى فـي الإسلام إلى تناول الاتجاه المعاكس.
ومصنّف صليبا المذكور كان هو الآخر، ولقرون، ضحية التباس وسوء فهم. وطالما اعتُبر نسخة معدّلة لموسوعة المجدل، فسمّي باسمها ونسب خطأ إلى عمرو بن متى الطيرهاني وعُدّ صليبا بن يوحنا مجرّد منتحل له. وحقيقة الأمر أنه كتاب مستقل ولا قاسم مشترك يجمعه بالمجدل سوى أخبار بطاركة كرسي المشرق، فـي حين أن سائر فصول الكتابين مختلفة، وصليبا بن يوحنا هو المؤلّف الحقيقي له. أما عنوانه فَـ “أسفار الأسرار” أو“كتاب التواريخ” ولا شأن له بالمجدل لا عنواناً ولا مضموناً. فحتى الفصل المتعلّق بأخبار البطاركة فـي أسفار الأسرار يختلف عن أخبار البطاركة فـي المجدل، وإن أخذ عنه، وذلك لأنه يستقي من مصادر أخرى. وقد أشرنا إلى ذلك فـي دراستنا هنا وتناولناه بالتفصيل فـي المقدمة/الدراسة لأسفار الأسرار الذي سيلي نشره صدور كتابنا هذا.
ومما حوته دراستنا “النساطرة والإسلام جدلية علاقة وتأثر” من جديد الدراسة المقارنة بين عهود الخلفاء العباسيين لبطاركة النساطرة وهي وثائق تاريخية نفيسة لم يسبق أن جمعت كلها فـي كتاب، ولا قورن بينها. فهذه العهود، الوثائق ضاع أكثرها على ما يبدو، وقد جمعنا فـي دراستنا/المدخل هذه كل ما وصلنا منها، ورفدناها بعهود الخلفاء المعطاة لرؤساء اليهود، وقارنّا بينها، مركّزين على ما طرأ مع الزمن على نصوص العهود من تغيير، وما أضيف من شروط. فلاحظنا أن النبرة كانت تقسو مع الزمن وكذلك الإلزامات، وهي مسألة عرضنا لها فـي الباب الثاني من الدراسة ولا سيما فـي الفصل السابع والأخير  منه.
وفـي نص أخبار البطاركة من المجدل وكذلك فـي أخبار البطاركة من أسفار الأسرار الكثير من الكلمات الغريبة بعضها عاميّ وبعضها ذو أصل سرياني أو يوناني وفـي الكتابين المذكورين الكثير من أسماء المدن والأماكن الجغرافية، والتعابير الغريبة والجغرافية هذه، غالباً ما تتكرّر مراراً فـي الكتاب الواحد، لذا وتحاشياً لتكرار الشروحات فـي الهوامش خصّصنا لكل من الصنفين: غريب الكلمات والتعابير الجغرافية: قاموساً ألفبائياً فـي آخر كتابنا هذا.
وختام الكلام: ها نحن نقدّم واحداً من أقدم مصادر تاريخ النصارى فـي الإسلام مرفقاً بدراسة ممهّدة ووشروحات وتعليقات وقواميس مفردات وتعابير. وقد اجتهدنا أن نخدم هذا النص/الوثيقة بكلّ ما تيسّر لنا من منهجية ومعارف. فعسانا نكون قد بلغنا القصد. وللقارئ والباحث الحكم فـي جديّة وجدوى مجهودنا هذا.
Q.J.C.S.T.B
 د. لويس صليبا
باريس فـي 01/12/2011

شاهد أيضاً

توما الأكويني وأثره عبر العصور بحوث في سيرته وفلسفته الإلهية والاجتماعية

نبذة:بين لاهوتيي المسيحيّة وفلاسفتها يحتل توما الأكويني (1225 – 1275) أبرز مقام، وهذا الكتاب يجمع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *