عبد الرؤوف سنّو
يقول مأثورنا الشعبي “كل مين على دينو الله يعينو”، وهذا يعني أن الإنسان يتحمل أمام الله مسؤولية المعتقد الذي يُدين به،
مع أننا نولد ونأخذ عن طريق الوراثة الدين الذي ينتمي إليه أجدادنا وأباؤنا. والتخلي عن الدين والتحول إلى دين آخر، ليس بشيء فريد في تاريخ لبنان. فعدد من الأسر اللبنانية النافذة تحولت إلى المسيحية خلال العصر الحديث لأسباب سياسية. عفيف عسيران اختارَ أن يترك الإسلام عن اقتناع ويلتحق بالمسيحيةوبكهنوتها لهدف إيماني وليس من أجل جاهٍ أو نفوذ أو هدف سياسي، وهذا ليس سهلاً كما تعلمون، بسبب البيئة المجتمعية التي ينشأ فيها الإنسان، ولأن الانسان لا يتخلى عن دينهِ ويعتنق ديناً آخر كمن يستبدل لباساً. إذن، فلا بد أن شيئاً عظيماً قد أبدل حال عفيف عسيران وحياته ومعتقده.
يسوّغ عسيران تحوله إلى المسيحية بالقول: “إنه لم يجد في الإسلام ما يقنعه ويشبع روحه”. ولم يجد السرَّ الذي يبحث عنه في القرآن، بل “في قراءته التأملية للانجيل”، وقد استوقفته كلمات: “لا تقتل”؛ “أحبّوا أعداءكم”؛ و”أدعوا لمضطهديكم”.
مرَّ عفيف عسيران، ابن العائلةالبرجوازية الشيعية العروبية المعروفة، بأطوار فكرية وإيمانية مختلفة: من مسلم إلى ملحد، فإلى مسلم متدين، وأخيراً إلى مسيحي مؤمن يبحث عن المسيح في البروتستانتية والأرثوذكسية إلى أن استقرَّ في الكنيسة الكاثوليكية، وانتهى كاهناً علمانياً، بعد أن قضى سنوات أربع في دراسة اللاهوت. رفض الزواج كي لا يشاركه أحد في حبه للمسيح. كما رفضَ ارتداء جبة الكهنوت “لعلاقتها بهوية وامتيازات ونفخٍ للأنا وتعالٍ”، كما قال، وربما كي لا يستفز محيطه الإسلامي الذي لم ينفصل عنه أبداً. تأثر بأساتذته شارل مالك وقسطنطين زريق وماجد فخري، وكان من أبرز دعاةِ الحوارِ المسيحي-الإسلامي.
وعلى عكس غالبية من يتحولون من دين إلى دين آخر، ويتبنون مواقف سلبية وربما عنيفة تجاه معتقدهم السابق ومن ينتمي إليه، فإن مسيحية عفيف عسيران زادته حباً وفهماً للإسلام وللمسلمين. افتخر بالانتماء إلى الحضارة العربية الإسلامية، معتبراً أنه أمر أساسي غير متصل بالعقيدة الدينية. من هنا، كان يدعو المسيحيين للانفتاح على الإسلام ثقافة وحضارة والابتعاد عن التقوقع، والمسلمين إلى فعل الشيء نفسه، لأنهم بدورهم متعطشون للانفتاح والحوار. وكان يصرح بالقول: “لم أصر مسيحياً ضد الإسلام، وإنما صرت مسيحياً بالإسلام”. فكانت مسيحيته فريدة متسامحة وجريئة، إذ ظلَّ مسلماً على الصعيد الاجتماعي والتواصل مع المسلمين، ومسيحياً على الصعيدِ الروحي. يقول د. لويس صليبا في ص 605 من كتابه: “بقي عفيف طيلة حياته المسلم الذي آمن بالمسيح أو الكاهن المسيحي ذا الأصل المسلم”. ويضيف صليبا: “لم يعن اعتناق عفيف عسيران المسيحية انقطاعاً عن جذوره الإسلامية وقطيعة معها”. وتشهد على ذلك كتاباته ومواقفه وأعماله ومشاريعه واهتمامه بفقراء المسلمين وبالمشردين والمنحرفين وبتربيتهم وتعليمهم المدرسي والمهني. وقد عاش الأب عفيف حياة متواضعة زاهداً في الدنيا، مشتغلاً في الأعمالِ الوضيعة متناولاً فضلاتَ الطعام مع تلامذته. أسس أخوية صيدا و”بيتَ العناية” في الفنار، ومقرين في الأشرفية ورأس النبع في بيروت، وأنشأ جماعة حوله من المسيحيين، ومن المسلمين المرتدين أطلق عليها تسمية “كنيسة الإسلام”. وفي خلال حرب لبنان، أسس مراكزَ في جنوب لبنان لخدمة المسلمين أساساً، لكنها سرعان ما تلاشت على مذبح التعصب المستشري.
كما ذكرنا، إن أول ما واجه عفيف عسيران المرتد هو بيئته الإسلامية التي اعتبرت أن تنصره هو ضرب من الجنون. فطرد من بيت الوالدين بعدما سبب لهما “فضيحة” في محيطهما، إلى أن تفهما بجرأة غير معهودة قرار ابنهِما، بأنَّ الانسان حرُّ في أن يختار حياته وعقيدته. وفي حوار له مع والده بعد تنصره، قال الأب لابنه المرتد: “أنت أفضل أولادي”. وهذا دليل على أن عسيران أستطاع أن يقدم نفسه مسيحياً منفتحاً صالحاً، وإلا لما جذب أنظار والديه وتمكن من تطبيع العلاقة معهما. فكان يصلي في كثير من الأحيانِ مع والده ويقرأ له الآيات القرآنية. كان عفيف عسيران بذلك مسيحياً مؤمناً من طراز جديد. لم يخشى عقاب المجتمعِ الإسلامي بقتل المرتد عن الإسلام، معتبراً أن حصول ذلك يجعله يتشارك مع المسيح في معمودية الدم. هذا الإيمان الصادق العميق بالمسيح، جعل البابا بولس السادس يطلب بركة عفيف عندما تقابلا. وصحيح أنَّ الأب عسيران استطاع أن يحافظ على علاقاتٍ بمجتمعه الإسلامي ويكسب ثقته بشكل عام ويستجلب التلامذة من خلال الأنشطة التنموية والاجتماعية التي كان يقوم بها، إلا أنه ظلّ، مع ذلك، يواجه مسلمين لا يستطيعون أن يغفروا لمسلم تنصره خوفاً من تناقص أعداد المسلمين- هذه الأعداد التي تتزايد باضطراد. فالنبي محمد كان يفخر بكثرة أعداد أمته الإسلامية، وهناك حديث له يقول: “تزوجوا الودودّ الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة”. وحتى اليوم، يعتقد مسلمون أن واجبهم الديني أو الجهادي يفرض عليهم نشر الإسلام أو القضاء على الأديان الأخرى. في العصور الوسطى والحديثة، في أوروبا وأميركا وإفريقيا، وفي كل مكان، يقرع مسلمون اليوم طبول النصر لدى تحول مسيحي إلى الإسلام، فيما هو ممنوع على المسلم من الخروج من دينه. في السبعينيات من القرن الماضي طُرد عسيران من قسم الفلسفةِ في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية بعد اتهامه بالتبشير. ويورد المؤلف صليبا، أن عميدة الكلية لم تستطع أن تتحمل أستاذاً مرتداً يدرّس الحضارة الإسلامية. وإذا سلمناً بمقولة عميدة الكلية، فلماذا يتفوق إذاً العلماء الغربيّون في بحوثهم عن الحضارة الإسلامية ويصبحون مرجعيات لها؟ إنَّ المسألة، برأيي، لا علاقة لها بتدريس الحضارة الإسلامية، بل بنبذ المرتد مجتمعياً.
لقد تعرّض الأب عفيف في العام 1986 إلى حملة مناشير ضده وجرى تكفيره، فضلاً عن محاولة فاشلة لاغتياله. وبجرأة ٍغير معهودة، زار عفيف عسيران العالم أبي الأعلى المودودي (1903-1979) في باكستان الذي كان يفتي بقتل المرتد. لقد رفض الأب عسيران إبقاء المسلم على دينه عبر تخويفه وترهيبه، وكان الأب عسيران يعتقدُ أن الدين الصحيح هو الذي يقدم الفعل الحسن والخدمات الاجتماعية ويساعد على حلّ مشكلات بيئته قبل أن يكون طريق العبور إلى المسيح. ولكن: هل كان عفيف عسيران بعيداً عن التبشير والتنصير؟
يخبرُنا الدكتور لويس صليبا أن الأب عسيران كان يستجلب شيخاً من دار الفتوى لتلقين الفتيان أصول الدين الإسلامي، ما يعني أنَّ غايته كانت التهذيب المسيحي والتلاقي الإسلامي-المسيحي. لكن صليبا يقول في مكان آخر إن عفيفاً جمع حوله نحو 100 متنصر (ص 410) ليكونوا خميرة لمحيطهم، وهذا برأيي منطقي، وإلا ما معنى أن يكونَ عفيف عسيران مسيحياً ملتزماً وراهباً ولا ينشر مسيحيته؟
لقد قضت حرب لبنان بين العامين 1975 و1990 على كل أنشطة الأب عسيران، لكنه لم ييأس، فبقي يناضل من أجل الفكرة الإيمانية والإنسانية، متنقلاً بين المناطق عبر الحواجز الطائفية. وأدى دوراً كبيراً في إخلاء محلة النبعة من السكان الشيعة في مطلع حرب لبنان. وطبّق قول المسيح بالدعوة إلى حبِّ العدو.
قد أكون أسهبت كثيراً في الحديث عن مضمون الكتاب الذي يحتاج إلى صفحات كثيرة لمراجعته بدقة، وتركت جانباً المنهجية الصارمة التي اتبعها المؤلف. لكن استدرك لأقول إن لويس صليبا نجح في جعلِ كتابه ندوة حوارية شيقة شارك فيها الجميع: أهل عسيران وأقرباؤه وأصدقاؤءه وزملاؤه في سلك الكهنوتِ وتلامذته ومعاصرون له، كلٌّ يدلي بدلوه، فيما عفيف عسيران في عينِ الحدث. وبهذه المنهجية الحوارية الرصينة التي تقوم على طرح الأسئلة والإشكاليات والاستنتاجات، أضحى القارئ مشدوداً منجذباً إلى كل حرف وكلمة يتتبع بزوغ الإيمان المسيحي عند عفيف وتطوره ومساراته ونتائجه على مدار صفحات الكتاب الـ 650. الروايات والشهادات الخطية والشفوية التي قمّشها الدكتور صليبا كثيرة، وبعضها يتناقض مع الآخر في بعض الأحيان، حتى في التواريخِ الخ…، وذلك لأنَّ الأب عسيران لم يكتب سيرة ذاتية كاملة، باستثناء بعض الشهادات. من هنا، فالمؤلف صليبا لا يستسلم، ويُخضع مصادر السيرة العفيفية والشهادات حول الأب عسيران إلى أقصى درجات النقد والنقاش، كما يقوم بالتحليل الكثيف وإجراء المقابلات والاتصالات. وبكل ثقة أكاديمية، أقول إنه قدم لنا عملاً جليلاً يُشكر عليه. وفي الوقت نفسه، لدى ملاحظة، إذ أزال المؤلف كلمة في غاية الأهمية كانت في الأصل ضمن عنوان الكتاب وتطرح إشكالية كبيرة، وهي: “مسلم يلبس كهنوت المسيح” واستبدلها، على ما يبدو في اللحظة الأخيرة بـ “‘عابر يلبس كهنوت المسيح” كي لا يشكل العنوان أو الكتاب، على ما يبدو، استفزازاً لمشاعر بعض المسلمين. وبرأيي، لم يكن عفيف عسيران مجرد “عابرٍ” على طريق الجلجلة أو سلك طريق الجلجلة عن غير قصد، بل مسلماً أراد عبور الطريق للوصول إلى المسيح عن سبق إصرار وتصميم.
عبد الرؤوف سنّو
محاضرة ألقيت في منتدى “معاً نعيد البناء”- بلدية الجديدة حول كتابد.لويس صليبا
“عابر يلبس كهنوت المسيح، سيرة الأب عفيف عسيران وروحانيته”،
ط3، دار بيبليون 2014.
2014 8 أيار