مجلة الحداثة (بيروت)، العدد 139/140 (2011)، ص 29 – 43.
جرى تحديث الدراسة في شهر تشرين الأول 2011، وفق مستجدات الأوضاع في المشرق العربي.
الوجود المسيحي في المشرق العربي
من الريادة والشراكة إلى الاضمحلال … فخسارة معطى اقتصادي وثقافي ووطني
عبد الرؤوف سنّو
أستاذ في الجامعة اللبنانية
يتناول هذا البحث أوضاع المسيحيين في بلدان المشرق العربي ومعاناتهم التاريخية، سياسياً واجتماعياً، في ظل سياسات الأنظمة العربية وسلوكيات المجتمعات الإسلامية. ويحاول البحث الإجابة على أسئلة عدة أهمها: هل يتمتع المسيحيون بكامل الحقوق كمواطنينأسوة بالمسلمين، أم هم خارج المنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولة؟ هل يتعرضون بالفعل لاضطهاد الدولة والمجتمع؟ لماذا يكونون ضحايا ردات فعل إسلامية متعصبة لا تميز بينهم وبين الغرب وسياساته؟ هل يوجد تعصب في أوساط المسيحيين؟ وأخيراً، هل هناك أمل في أن يؤدي “الربيع العربي” إلى إعادة دمج المجتمعات العربية على أساس مدني – وطني بعيداً عن الطائفية السياسية والمجتمعية الهدامة، أم يزيد من سوء أوضاع المسيحيين في ظل ازدياد نفوذ الأصوليات الإسلامية المتشددة؟
إشكاليات التعايش الصعب
عرف العربالمسلمون في المشرق العربي “الآخر” في صورة أجناس وعقائد وثقافات مختلفة. فكان هناك “الآخر” اليهودي، والمسيحي المحلي، والصليبي، والبيزنطي، والفارسي، والمغولي الخ… ومن بين كل هؤلاء، كان المسلمون أكثر التصاقاً بالآخر المسيحي المحلي، نظراً إلى أن المنطقة التي افتتحوها في مصر وبلاد الشام والعراق كانت في الأصل نصرانية. إلى ذلك، احتاجت الدول الإسلامية إلى خبرات النخب المسيحية في الإدارات وفي عملية النهوض بالحضارة الإسلامية والنهضة العلمية.
ومن الثابت، أن المسيحيين كانوا قبل الإسلام واستمروا معه جزءاً أساسياً من نسيجمجتمعاتهم العربية، لهم إسهاماتهم الجليلة في إنتاج الحضارة العربية الإسلامية، حتى أنهم اعتُبروا بوابة الإسلام ووسائطه على الغرب وحضارته.وعندما كان الحديث يتناول في الماضي، وفي الماضي القريب، أوضاعهم في المشرق العربي، كان يتركز حول دورهم المحوري في صناعة الشخصية المشرقية-العربية وإسهاماتهم في النهضة العربية، سواء من حيث الثقافة والتربية، أو من حيث الاقتصاد والاجتماع، أو من حيث التزامهم بقضايا أمتهم.
أما اليوم، وفي ظل الأوضاع التي تعيشها مجتمعاتنا الإسلامية والعربية وتخلفها، بوجود أنظمة قمعية ما عرفت يوماً مذاق الديمقراطية، تطاول المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وفي ظل انكسار الأنظمة العربية وتقهقرها تاريخياً أمام إسرائيل والغرب، وغياب أفق لمشروع نهضوي عربي، وفي المقابل نمو الأصوليات الإسلامية المطالبة بالعودة إلى الحكم الإسلامي، مع ما يستلزمه من انقسام مجتمعي على أساس سيادة الدين الإسلامي وتهميش “الآخر”، يتركز الحديث على معاناة المسيحيين التي تسبب لهم الإحباط وهجرتهم المتنامية، وتؤثر نتائجها السلبية في شخصية العالم الإسلامي وفي مستقبله ومصيره وسمعته. وهذا يحدث في ضوء إشكاليتين:
الأولى: تزايد هجرة المسيحيين نحو الغرب مع ما يُسمى بالإرهاب “الإسلامي” ضد المجتمعات الغربية، ما يؤدي في الغرب إلى الخلط بين الإسلام المعتدل والمتسامح وبين الإسلام “الإرهابي”، وبالتالي تُطرح هناك مقولة عدم إمكان التعايش مع الإسلام الذي يسبب أيضاً فرار المسيحيين من البلدان ذات الأكثرية الإسلامية، فيجري استغلال هجرة المسيحيين إلى الغرب و”الإرهاب الإسلامي” لترويج الحقد على الإسلام والمسلمين وتحقيق أهداف سياسية واقتصادية.
الثانية: إن استهداف الإسلام واستفزاز المسلمين من قبل دول غربية مسيحية وأفراد، وآخرها الصور الكاريكاتورية للنبي محمد، ومنع ارتداء البرقع في الأماكن العامة في فرنسا، ومنع سويسرا بناء المآذن بعد استفتاء عليه، وحرق المصحف الشريف في الولايات المتحدة الأميركية الخ…، يعزز ربط بعض المسلمين بين “المسيحي” (= الغرب العلماني) في الخارج الذي يهاجم “دار الإسلام” لأهداف سياسية واقتصادية بذرائع مكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية، وبين المسيحي المحلي الذي يعيش في ظل أنظمة إسلامية وعربية. فيجري تهميش المسيحي على يد السلطات الحاكمة، وفي مجتمعه العربي الإسلامي، وصولاً إلى المطالبة باستئصاله. ويستمر هذا منذ فجر الإسلام وعلى أيدي الدول الإسلامية (أموية، وعباسية، ومملوكية، وعثمانية) مروراً بالحملات الصليبية وهجوم دول الاستعمار على البلدان العربية والإسلامية، حتى احتلال أفغانستان والعراق، ولا ننسى أن عدم حلّ المشكلة الفلسطينية بشكل عادل، وانحياز أميركا السافر إلى إسرائيل، ومنع قيام دولة فلسطينية معترف بها من قبل الأمم المتحدة، يتسبب بتنامي الأصولية المسلحة، أو بإطلاق الصواريخ عشوائياً من غزة الأصولية على إسرائيل، والتي هي أيضاً “صواريخ” على الغرب “المسيحي” (بنظر الأصوليين)، الذي يدعم الكيان الصهيوني. كما يؤدي الحقد على الغرب الظالم، من وقت إلى آخر، إلى اغتيال مسيحيين أجانب مؤيدين للقضية الفلسطينية، كما حدث في حالة ناشط السلام والصحافي الإيطالي فيتوريو أريغوني (Vittorio Arrigoni) في غزة في 14 نيسان 2011.
وفي ضوء المواقف منهم، يجد المسيحيون في المشرق العربي أنفسهم في مواجهة ثلاث مسائل:
1 – عدم دمجهم سياسياً في دولهم أو الحفاظ عليهم كمعطى وطني.
2- عدم دمجهم اجتماعياً في كثير من مجتمعاتهم الإسلامية، أو عدم قبولهم مثل هذا الاندماج
للحفاظ على ثقافتهم وشخصيتهم.
3- الصراع بين الإسلام الأصولي “الإرهابي” وبين الغرب، وانعكاساته وتداعياته عليهم.
حاضر متشبث بالماضي، وماضٍ يقتحم الحاضر
هناك مسألة عدم النسيان التي تتشبث في الذاكرة التاريخية لكل من المسيحيين والمسلمين معاً وتفعل فعلها حتى اليوم، وتؤثر في العلاقات في ما بينهم. فالمسيحيون يسترجعون بأسى ومرارة تجربة “أهل الذمة” ومعاناتهم مع الأنظمة والمجتمعات الإسلامية، ما يجعلهم ينظرون بريبة وشك إلى وجودهم تحت حكم أنظمة إسلامية لا تعرف الديمقراطية ولا تختلف كثيراً عن سابقاتها. في المقابل، يسترجع المسلمون تجاربهم التاريخية مع العالم المسيحي، من صليبي وبيزنطي واستعماري وانتداب، تحت شعاري “الصليبية” و”الصليبية الجديدة”، وما تعرضت له “دار الإسلام” من اعتداءات على أيدي القوى المسيحية وتحالفاتها مع المسيحيين المحليين، ويرون أنها لم تنته وتستمر من دون انقطاع حتى اليوم. صحيح أن اعتماد الديمقراطية والدولة المدنية، قولاً وممارسة، يمكن أن يكون وسيلة خلاص وتقارب ودمج اجتماعيين بين المسلمين والمسيحيين في المجتمعات العربية الإسلامية، إلا أن غياب الديمقراطية في العالم العربي الإسلامي الذي يصيب المسيحيين والمسلمين على السواء، كما الإرهاب “الإسلامي”، فضلاً عن ضعف حجم المسيحيين الديموغرافي ومستوى تمثلهم في النظام والسلطة، والتعاطي مع المجتمعات العربية والإسلامية من منطلقات أقلوية، ونظرة “الآخر” إليهم، ومهادنة الغرب لأنظمة حكم عربية ظالمة وقاهرة وفاسدة، جعل ويجعل معاناة المسيحيين المحليين أعظم، ما يشكل عائقاً أمام تمتعهم بكامل حقوقهم كمواطنين متساوين بالمسلمين. وهذا يعود إلى أن بعض المجتمعات العربية التي يعيشون في ظلها وتدعي الإسلام، أو تطبق الشريعة الإسلامية، أو تستلهم منها، تستعيد بفخر تجربة تاريخية سياسية – اجتماعية حول الانقسام المجتمعي على أساس مسلم ومسيحي. لقد قامت الدول الإسلامية والأنظمة الإسلامية على التمايز المجتمعي بين المسلمين والمسيحيين، باعتبار أن المسلمين هم وحدهم الأمة صاحبة السيادة، فيما المسيحيون مواطنون من الدرجة الثانية عليهم التزامات تجاه الدولة والمجتمع الإسلاميين، من دون أن تُقدم لهم الحماية وفق ما يقتضيه نظام “أهل الذمة” في الأصل، بأن يكون الذمي في حماية الدولة الإسلامية ورعايتها.
إن الانقسام في المجتمعات الإسلامية، والعربية تحديداً، بين مسلم ومسيحي، منع عملية حصول اندماج مجتمعي في الماضي، ويستمر هذا في الوقت الراهن. صحيح أن الولاء للدولة هو الذي يحدد موقف السلطة من المسلم والمسيحي على حد سواء، إلا أن في التاريخ الإسلامي الوسيط والحديث شواهد كثيرة على معاملة سيئة للمسيحي، رسمياً واجتماعياً، يُضاف إلى ذلك عدم الثقة به، وصولاً إلى اتهامه بالتآمر مع الخارج ضد الإسلام، كلما تعرضت “دار الإسلام” لخطر مسيحي آتٍ من الخارج، وبالتالي تحميل المسيحي المسؤولية عما تتعرض له “دار الإسلام” وبالتالي دفعه إلى الفرار والهجرة، وما ينتج عن ذلك من خسارة البلدان العربية والإسلامية للمسيحيين كوطنيين ورجال اقتصاد وكوادر علمية وفنية وثقافية خلاقة منفتحة على الغرب.
مع نشوء الدول العربية بعد الحرب العالمية الأولى، كان من المنتظر أن يطرأ تحسّن على أوضاع المسيحيين العرب، نظراً إلى الطروح العلمانية والمساواة التي نادت بها بعض الأحزاب والأنظمة الحاكمة، وإلى أن كل دساتير الدول العربية كفلت المساواة في الحقوق والواجبات وعدم التمييز بين المواطنين علي أساس الدين أو اللون أو العرق. لكن هذا لم يحدث للأسف إلا في حالات قليلة ومرحلية، على الرغم من نشوء أحزاب علمانية، كحزب الوفد في مصر، والحزب الشيوعي، والحزب القومي السوري الاجتماعي، وحزب البعث العربي الاشتراكي في سورية. لقد دعا المسيحيون مبكراً إلى التمايز بين الإسلام والعروبة، وأن تكون الأخيرة قاعدة التلاقي بين الشعوب العربية، بغض النظر عن الدين. لكن خلط المسلمين بين الإسلام والعروبة ومحاولتهم التوفيق بينهما بالحديث عن “عروبة الإسلام” (شكيب أرسلان، عمر فروخ الخ…)، تسبب بتباعد بين المسيحيين والمسلمين أثناء النضال من أجل التحرر من الهيمنة الاستعمارية. ومن المسلمين القلائل الذين رفضوا ربط العروبة بالإسلام على سبيل المثال، محمد جميل بيهم، حين قال: “ليس العروبة هي الإسلام، ولا الإسلام هو العروبة”.
وعلى الصعيد الاجتماعي، صحيح أنه لا يمكن الحديث عن اندماج مجتمعي بين المسلمين والمسيحيين بالمعنى الصحيح قبل تنامي المد الأصولي الإسلامي في العالم العربي، إلا أن ذلك لم يتسبب في الماضي (العثماني) بكسر حاد بين أبناء الطائفتين باستثناء حالات قليلة معينة، كلبنان في العام 1860 أو العراق في خلال ثورة العشرين. كانت العلاقات البروتوكولية والوظيفية والتلاقي في المدارس والجامعات وفي المؤسسات ودوائر العمل تخفف كثيراً من حدة الانقسام بين أبناء الطائفتين الإسلامية والمسيحية. وفي الماضي وكما اليوم، لا يزال لدينا بعض المسلمين العلمانيين الذين يتقبلون المسيحيين ويريدون التعايش معهم ويعتبرون الأصولية الإسلامية المتشددة خطراً عليهم، كما على المسي؟حيين، ولدينا مسلمين لا يجنحون إلى العنف، لكنهم يفضلون انقسام مجتمعي على أساس مسلم و”أهل ذمة”. وفي الفترة الأخيرة، مع نمو الأصولية المتطرفة وثقافة عدم التعايش مع “الآخر” المسيحي، وبالتزامن مع السياسة الأميركية المدمرة في المنطقة، بدأ مسلمون يعتبرون أن الإسلام كدين هو المستهدَف، وأخذوا ينظرون إلى دينهم على أنه هويتهم بديلاً من هويتهم الوطنية، ويسعون في الوقت نفسه إلى إقامة دولة ومجتمعاً إسلاميين. وهذا ما أدى إلى التباعد بين أبناء الطائفتين، وجعل مسلمين أصوليين متشددين يستهدفون “الآخر” المسيحي في الداخل، وصولاً إلى تخوين كل ما له علاقة بالغرب، ثقافة ودين، حتى المسلمين من غير أفكارهم. واليوم، لم يعد “الآخر” هو المسيحي فحسب، بل أصبح هناك “آخر” ضمن المسلمين، وخاصة بين السنّة والشيعة في العراق ولبنان والبحرين وسورية.
المسيحيون في لبنان وسورية: من الريادة إلى التهميش
كان المسيحيون في بلاد الشام على سبيل المثال، رواد الحركة القومية في الحقبة الأخيرة من الحكم العثماني، مقتنعين أن العروبة هي عامل توحيد بينهم وبين المسلمين، بدلاً من “الرابطة العثمانية” التي تفرق ولا تجمع. لكن ما أن أصبحت القومية العربية مشروعاً إسلامياً بأيدي المسلمين خلال ثورة الشريف حسين بن علي، حتى توجس المسيحيون في لبنان، والموارنة تحديداً، على شخصيتهم، مسترجعين ذكريات أليمة في تاريخهم وتجاربهم كأهل ذمة. فتنكروا للعروبة وتقوقعوا، بناء على ذلك، وراء مقولات وإيديولوجيات (القومية اللبنانية) جعلتهم غرباء في وطنهم الكبير. وقوّى الموارنة منهم تحالفهم مع الانتداب الفرنسي. ومع استقلال لبنان، اخترع الموارنة ومعهم بعض السنّة، نظاماً طائفياً – سياسياً فريداً بخلفية مجتمعية طائفية حاضنة له، يقوم على حصول كل طائفة على نصيب في السلطة وفق حجمها الديموغرافي، واعتمدوا ما أسموه “الديمقراطية التوافقية” التي تعني أن السياستين الداخلية والخارجية تسيران بالتوافق بين مكونات المجتمع اللبناني الطائفية. لكن هذا النظام لم يصمد أمام تغيّر الديموغرافيا لصالح المسلمين ودعواتهم مع اليسار اللبناني إلى إزاحة المسيحيين عن مراكز السلطة العليا وقواعد الاقتصاد. كان النائب عدنان الحكيم يواظب على الترشح لرئاسة الجمهورية، ويعلل ذلك بأن المنصب المذكور ليس حكراً على الطائفة المارونية. وكذلك فعل رشيد كرامي العام 1970. أما اليسار، فكان يريد أن يفرض نظاماً علمانياً يلغي امتيازات المارونية السياسية، وفصل الدين عن الدولة، وأن تكون الثروة من نصيب جميع اللبنانيين. ولم يهتم أحد من الموارنة، عن قصد أو من دون قصد، بتطوير النظام اللبناني ليواكب المستجدات الديموغرافية ومسألة المشاركة في السلطة، خشية على مصالحهم وشخصيتهم. فكانت حرب العام 1975 – 1990، التي زادت من التباعد بين أبناء الطوائف، وأدت إلى رفض متبادل للأخر من قبل المسيحي والمسلم.
رأى المسيحيون بأم أعينهم أن الكيان الذي أقيم من أجلهم بخصوصية ثقافتهم وريادتهم السياسية والاقتصادية وانفتاحه على العالم، أخذ ينهار في ضوء رياح العروبة التي لفحت لبنان وجذبت المسلمين إليها، وجراء الهيمنة الفلسطينية على لبنان في الستينيات والسبعينيات، والتوافق بين سورية وإسرائيل عليه أو خلافهما. فوقعوا في سوء فهم الجيو – بوليتيك، باستنجادهم بالسوريين والإسرائيليين، كل على انفراد، فيما وقع شركاؤهم المسلمون في الفخ نفسه بالاستقواء بالفلسطينيين أولاً، ثم الخضوع لإرادة السوريين. فتقاسم الإسرائيليون والسوريون الطوائف اللبنانية. ثم جاء اتفاق الطائف العام 1989 لينزع عن المسيحيين، وخاصة الموارنة منهم، صلاحيات أساسية كانوا يمسكون بها، فتُضعف مواقعهم مقابل الشريك المسلم، حتى ولو جرى تبرير ذلك بأن السلطة الإجرائية انحصرت منذ ذلك الحين في مجلس الوزراء مجتمعاً. وفي الوقت نفسه، تعرض المسيحيون للاستهداف والتحجيم من جانب سورية، ولم تسلم قياداتهم من ذلك قتلاً أم نفياً. فكانوا أمام عدة خيارات:
1- مقاومة عملية تهميشهم بالتظاهرات الشبابية المعروفة والتعرض للقمع والخطف والقتل.
2- التقوقع واعتماد السلبية نتيجة الإحباط والاعتقاد بعدم قدرتهم على الدفاع عن مصالحهم.
3- الخضوع للنظام السوري والتعاون معه، وفق ما قام به بعض السياسيين المسيحيين.
4- سلوك طريق الهجرة للمواطن المسيحي العادي، أو النفي القسري أو الطوعي بالنسبة إلى بعض القيادات.
صحيح أن رئاسة الجمهورية اللبنانية ظلت عرفاً للموارنة حتى اتفاق الطائف العام 1989، ثم تمّ تثبت العرف بموجب الاتفاق آنف الذكر، إلا أن تغيّر موازين القوى دستورياً وسياسياً بعد ذلك، والإدارة السورية السيئة عن قصد في إدارة العلاقات السياسية والاجتماعية في لبنان، وخلافات المسيحيين الداخلية المميتة، وخاصة داخل الطائفة المارونية، أصابت المسيحيين بالتهميش وبالتالي بالإحباط، فازدادت هجرتهم، وبدأ لبنان يتحول إلى بلد ذي غالبية إسلامية، ما زاد من مخاوف المسيحيين.
كما أن الدعوات الإسلامية إلى إلغاء الطائفية السياسية، وفق ما ورد في اتفاق الطائف واستخدامه فزّاعة في البازار السياسي الداخلي، عزز مشاعر الخوف والشك لدى المسيحيين غذته قياداتهم بذكاء وحنكة حول ما يتهدد وجودهم جراء نظام أكثري بقناع ديمقراطي يهمن عليه المسلمون ويسعى إلى زيادة تهميشهم. وعلى الرغم من أن المسلمين وافقوا في اتفاق الطائف على المناصفة بينهم وبين المسيحيين، بغض النظر عن الحجم الديموغرافي للشريك المسيحي في سبيل وضع أسس لتعايش جديد، وتغنوا بذلك كدليل على تسامحهم، إلا أن المحادل الانتخابية منذ العام 1992، وانتخاب قسم كبير من المرشحين المسيحيين من قبل الناخبين المسلمين في الدوائر الموسعة (المحافظات التي كانت تُرسم في كل دورة انتخابات على مقاس الزعامات الطائفية بشكل مخالف للطائف ليهدف زيادة تهميش المسيحيين)، قضت على فكرة التعايش التي هدفت إليها المناصفة الوطنية وفق اتفاق الطائف، وكذلك على الصوت المسيحي، بحيث أضحت المناصفة البرلمانية الدستورية وهمية بامتياز بدخول نواب مسيحيين إلى المجلس يدورون في أفلاك الزعامات الإسلامية أو النظام السوري التي أوصلتهم إلى الندوة البرلمانية، ولا علاقة لهم بقواعدهم الانتخابية. لقد اشتكى بطريرك الموارنة مار نصر الله بطرس صفير بلغة طائفية صريحة أثناء انتخابات العام 2005 من أنه لا يُترك للمسيحي اختيار نائبه بحرية. بناء عليه، اعتُمد قانون 1960 في انتخابات العام 2009 لتمكين المسيحيين من إيصال مرشحيهم إلى البرلمان. صحيح أن الدائرة المصغرة تتيح للمسيحيين أن يحددوا بأنفسهم نوابهم إلى المجلس، لكن الصحيح أيضاً أن انتخاب المسيحيين للمرشحين المسيحيين والمسلمين للمرشحين المسلمين، هو خطوة مميتة إلى الوراء في عملية انتقال لبنان إلى حالة وطنية. وما ينطبق على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، ينطبق على كل الطوائف على حدة، عندما يتم “تجيير” أصوات الناخبين بوساطة المحادل الانتخابية وتهميش المرشحين لحساب زعيم طائفي أو حزب طائفي.
اجتماعياً، يتقوقع كل من المسلمين والمسيحيين في لبنان تقريباً في أحياء خاصة بهم، خصوصاً بعد الحرب، لكن العلاقات الوظيفية والبروتوكولية ظلت قائمة بينهم، من دون أن تعني مع ذلك وجود حالة من “العيش المشترك” أو “العيش الواحد” الكاذب التي يتغنون بها. وعلى عكس مصر، هناك في لبنان تسامح في إقامة دور العبادة، حيث تتلاصق المعابد تقريباً، من دون أن يؤدي ذلك في غالب الأحيان إلى صدامات. مع ذلك، فالاختلاط المحدود في الجامعات والمدارس والنوادي، وحالات الزواج المختلط القليلة جداً، لا تؤدي إلى اندماج مجتمعي حقيقي. وقد فشلت العام 1997 محاولة إقرار الزواج المدني الاختياري لرفض المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية ذلك، وكان مثل هذا القانون يفتح آفاق الانفتاح بين المسلمين والمسيحيين. لكن نسبة تزيد عن 80% من اللبنانيين فضلت الزواج من داخل الطائفة. وفي العام 2008، سجل الزواج المدني نسبة 2.3% من مجموع الزيجات، ما دل على أن المجتمع اللبناني لا يزال غير مستعد للانتقال إلى تلك المرحلة. صحيح أن المسيحيين لا يزالون يمسكون بمفاصل أساسية في الاقتصاد اللبناني، وفي اقتصاد المهجر، باستثناء إفريقيا، إلا أن قدراتهم الاقتصادية داخل لبنان تراجعت بعض الشيء منذ نهاية الحرب.
إن ما يقلق المسيحي في لبنان اليوم، هو شعوره بأنه مستهدف جراء نمو التيارات الإسلامية المتطرفة، كفتح الإسلام، وجند الإسلام، وحزب التحرير الإسلامي ومشاريعها لإقامة إمارات إسلامية. يُضاف إلى هذا القلق، مخاوف حقيقة لدى المسيحيين ومسلمين سنّة من أن يتلاشى دورهم عبر الدعوات إلى المثالثة، وجراء الشيعية – سياسية – العسكرية الممثلة بحزب الله واستباحته الدولة ومؤسساتها وسيادتها وهيبتها مباشرة أو عن طريق محازبيه (البناء على أملاك الدولة والمشاعات، وشراء العقارات والأراضي، والمربعات الأمنية التي لا تقدر الخ…)، رغم إدعائه بهدفه السامي، وهو بناء الدولة القوية العادلة. كما أن سيطرة الحزب على الحياتين السياسية والاجتماعية في لبنان، ومشروعه لتطبيق مقولة “ولاية الفقيه”، يزيد من مخاوف المسيحيين، وكذلك من الاحتقان المذهبي والطائفي. فولي الفقيه لا يدعي زعامة دينية على الشيعة في العالم فحسب، بل قيادة سياسية أيضاً، وعلى أتباعه الطاعة العمياء من دون نقاش. لذا، فإن الخوف على مصير الوطن، إلى جانب فساد الطبقة السياسية الحاكمة، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، وفوق كل شيء انسداد لخروج لبنان من معضلاته، تجعل المسيحي والمسلم يغادران الوطن يداً بيد إلى بلاد الاغتراب.
إن مخاوف المسيحيين في لبنان على أوضاعهم يتجاوز حدود البلد المذكور. لقد عبر البطريرك بشارة الراعي أثناء زيارته إلى باريس في الأسبوع الأول من أيلول 2011 عن مخاوفه من أن يؤدي تسلم الإسلاميين السنّة الحكم في سورية بعد سقوط نظام الأسد، إلى قيام تحالف إسلامي سنّي على مستوى سورية ولبنان، ما يُضعف تالياً الوجود المسيحي في لبنان. فطالب بإعطاء الأسد الفرصة لإجراء إصلاحات وبعدم إسقاطه خشية تأثر المسيحيين سلباً بقيام حكم إسلامي في سورية يمتد إلى لبنان. فأثار البطريرك بتصريحه هذا انتقادات قيادات إسلامية وبخاصة السنّية، التي تصدت لمقولة البطريرك بالتأكيد أن المسلمين اختاروا لبنان وظناً أولاً ونهائياً منذ اغتيال الرئيس الحريري وأن لا نية لهم للانخراط في تحالفات سنيّة على مستوى سورية ولبنان, كان البطريرك يتكلم من منطق أقلوي يرى في نظام الأسد واستمراره، رغم ما قام به من قمع دموي ومجازر، هو ضمانة لوجود الأقليات ومنع خضوعها لنظام إسلامي، مفضلاً الديكتاتورية والاستبدادية والقهر على أي نظام آخر، متخلياً في الوقت نفسه عن دور بكركي التاريخي في الدفاع عن الدولة وسيادتها، وعن حقوق الإنسان وحريته.
وعلى الرغم من أن أوضاع المسيحيين في لبنان تختلف عن أوضاع المسيحيين في سورية من الناحية السياسية، كالمشاركة في الحكم على سبيل المثال، فأن سنّة لبنان في تاريخه الحديث والمعاصر لم يحاولوا قط إقامة دولة إسلامية، ولم يكن لهم أي مشروع يصب في هذه الغاية. فالمشاركة العسكرية الضعيفة لبعضهم في حرب لبنان، لم يكن عرضها اضطهاد الشريك الآخر ولا فرض حكم عليه إسلامي عليه لا يرتضيه، بل تحقيق المشاركة الحقيقية في الحكم. وهم لم ينقلبوا على الصيغة إلا بعد أن نعاها الموارنة الذين ساروا وراء التقسيم. وعلى الرغم من أن دعوات “فتح الإسلام” لإقامة دولة إسلامية هو عمل مخابراتي سوري لا يعبر عن سياسة الطائفة السنيّة وعن اكتشافها هويتها اللبنانية والاندماج فيها، خاصة بعد العام 2005، فإن مخاوف البطريرك قد تجد تبريراً، وهو أن المسيحي يختزن في ذاكرته تجربة تاريخية أليمة حول ما تعرض له في ظل الحكم الإسلامي في التاريخ الإسلامي الوسيط والحديث، وكذلك في التاريخ المعاصر، حيث لم تتمكن الحكومات العربية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى من أن ترسي دعائم الحقوق والوجبات والمساواة والعدالة بين مكونات مجتمعاتها من مسلمين وأقليات دينية وعرقية وإثنية، وفوق كل شيء أن تعتبر الأقليات جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي. إن عيب مقولة البطريرك أنه وضع كل السنّة في سورية ولبنان في سلة واحدة، متناسياً التطور التاريخي للسنّة في لبنان، وكيف أسهموا في تأسيس قواعد التعايش الإسلامي – المسيحي منذ العام 1943. وقد تكون مواقف البطريرك مقدمة لتحالفات جديدة مستقبلية على صعيد لبنان والمنطقة.
بالنسبة إلى سورية، تغيب عنها المسألة الطائفية في ظل نظام يرفع شعارات العلمانية، على الرغم من تأكيد الدستور السوري وجوب أن يكون رئيس الجمهورية مسلماً، وأن الإسلام هو مصدر التشريع، من دون أن يعني ذلك أن الإسلام هو دين الدولة. ويتمثل المسيحيون في مجلس الشعب السوري وفي الوزارة بشكل ضئيل جداً، لا يتناسب مع حجمهم الديموغرافي. وأقصى ما يحصلون عليه هو وزيران أو ثلاثة وزراء، و17 مقعداً نيابياً من أصل 252، لكن يبقى وضعهم أقل سوءاً من وضع الأقباط في مصر. وكان فارس الخوري مسيحياً من أبرز رجالات الاستقلال وزعماء “الكتلة الوطنية” السورية، وهو الذي تسلم رئاسة البرلمان ثم رئاسة الوزارة العام 1947، واعتُبر هذا حدثاُ فريداً بالنسبة إلى العالم العربي. كما أحاط كل من الرئيسين حافظ وبشار الأسد نفسيهما بمستشارين مسيحيين كفلاشات إعلامية، أشهرهم إسكندر لوقا، وجبران كورية وإلياس بديوي، وأسعد إلياس، وجورج جبور، وكوليت خوري المستشارة الثقافية للرئيس بشار الأسد الخ… – كل ذلك أضاء الصبغة العلمانية على حكمه. وهناك مستشار فني مسيحي لمفتي سورية. ولعب المسيحيون كذلك أدواراً بارزة في تأسيس الأحزاب العلمانية داخل سورية وخارجها، ومن أشهرهم الدمشقي ميشال عفلق، أحد مؤسسي حزب البعث. كما أسسوا الحزب الشيوعي والحزب القومي السوري. إلا أن ذلك لا يعني أن مسيحيي سورية يشاركون في صنع القرار، ولا يُسمح لهم بتولي المناصب السيادية في الدولة. وقبيل تعينها مستشارة للرئيس بشار الأسد، أقرت الوزيرة كوليت خوري بأن المسيحيين هم أكثر فئات المجتمع السوري تغيباً وإبعاداً عن المشاركة السياسية في إدارة البلاد. وهذا ينطبق على سنّة سورية، حيث ينحصر القرار السياسي بمجموعة علوية تمسك بالنظام وبالعسكر.
وعلى الصعيد الاقتصادي، احتل مسيحيو سورية مراكز مرموقة، وكذلك في المهن والأعمال الحرة، ويمثل الأطباء والمحامون المسيحيون نسبة 30% من المجموع العام للأطباء والمحامين السوريين. وبعد الانتداب الفرنسي على سورية، غادرت الأسر المسيحية السورية الثرية البلاد إلى لبنان، وكذلك من تعامل منها مع الفرنسيين. لكن المسيحيين السوريين تأثروا سلباً بالمراسيم الاشتراكية على يد حزب البعث العربي الاشتراكي منذ العام 1963 وتأميم المدارس والمؤسسات الاجتماعية، ما جعل برجوازيتهم تهاجر إلى لبنان وإلى بلدان عربية وأجنبية أخرى، يرافقها بعض البرجوازية السنيّة. أما الشاب المسيحي، فما أن يُنهي دروسه الجامعية حتى يبحث له عن مكان في الأميركتين. ومع أنه حدث في مطلع العام 2008 قَتلْ أحد المسيحيين أمام متجر لبيع المشروبات الروحية في مدينة دير الزور، إلا أنه لا يمكن مع ذلك مقارنة هذا الحدث الفردي بأحداث صعيد مصر أو العراق الطائفية. ما يسبب هجرة المسيحيين السوريين ليست الأوضاع الاجتماعية أو التعايش مع المسلمين، ذلك أنهم يمارسون شعائرهم واحتفالاتهم الدينية بكل حرية، ولا وجود لسلفية متطرفة في سورية، وإنما هو وجود النظام الشمولي، وسوء الأوضاع السياسية، وغياب الديمقراطية، وتنامي الاتجاهات الإسلامية المتشددة في البلاد. فيخشى معظم المسيحيين السوريين من أن تؤدي تداعيات أية صراعات في البلاد إلى تقييد حرياتهم، أو إلى اندلاع حرب أهلية يروج لها النظام السوري يكومون هم أول ضحاياها، على نسق ما حصل للمسيحيين في العراق. وأكثر ما يخشونه، هو أن يوصموا بالتبعية إلى الغرب، في سياق دعم الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل، ويدفعون ثمن ذلك. وجراء الاحتجاجات منذ شهر آذار 2011، تزداد مخاوفهم من المجهول، ومن أن يتعرضوا إلى عمليات إرهابية من قبل متطرفين مسلمين، بعد التهديدات التي تلقتها بعض كنائسهم، خاصة مع وجود أقلية سلفية “جاهدت” في العراق، وتحدثت الأنباء عن قيام مجهولين بوضع إشارة Xعلى أبواب منازل المسيحيين في بلدة القحطانية قرب القامشلي، اعتبرت رسائل تهديد لحضهم على الهجرة وترك وطنهم (مارغريت خشويان، ربيع الثورات أم خريفها؟ رسائل تهديد إلى المسيحيين، النهار، 15/1/2012).. ويُعتقد أنها من صنع أجهزة المخابرات السورية لتخويفهم وجعلهم يتطلعون إلى النظام لحمايتهم. فيفضلون جراء ذلك خضوعهم لنظام شمولي قاهر على سيطرة الإسلاميين على الحكم، وهم يرون في كل يوم تصاعد دور هؤلاء الآخرين على الساحة السورية. إن تعيين العماد المسيحي داود راجحة وزيراً للدفاع السوري الهدف منه جذب المسيحيين إلى ناحية النظام، لكنه يبقى من وسائل النظام للعب على الوتر الطائفي، عبر جعل المسيحيين يتعاطفون مع النظام وضد مواطنيهم من المسلمين الثائرين. من هنا، نرى عدم انخراط المسيحيين السوريين بقوة في الثورة ضد نظام الأسد، خشية وصول نظام إسلامي أصولي.
وكما في لبنان، يعيش مسيحيون سوريون في قرى خاصة بهم تقريباً، وهناك في المدن السورية أحياء سكنية وتجارية ذات كثافة مسيحية. لكن إمساك النظام بمكونات المجتمع السوري يفرض نفسه على العلاقات المجتمعية، فلا يطال “الأنا” المسلم”الآخر” المسيحي بسوء .
أقباط مصر: من الشراكة في النصف الأول من القرن العشرين إلى التهميش بعد ثورة 1952ثم الاستهداف
وصف سعد زغلول مشاركة الأقباط بفعالية في ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني بـ “الوحدة المقدسة”. أراد الزعيم الوطني أن يُفهم المصريين أن لا تمايز في الوطنية بين مسلم ومسيحي، وفي الوقت نفسه أن يدحض مقولة أن المسيحي مستقل من قضايا أمته. وقد استفاد الأقباط من الحقوق التي كفلها دستور العام 1923 في ترشيح أنفسهم على قوائم حزب الوفد، وكان البعض منهم ينجح بأصوات المسلمين. واستفاد الأقباط في العشرينات من مناخ الوطنية المصرية، فحسنوا مواقعهم في الإدارات الرسمية وفي الحكومات الوفدية. ولعل أسرة غالي القبطية مثال على قبول المسلم للآخر، على الأقل ضمن النظام الحاكم آنذاك، حيث تبوأت مراكز وزارية عالية قبل ثورة العام 1919 وبعدها، وخاصة في وزارتي المال والخارجية، كبطرس غالي (1908 – 1910) وكذلك يوسف وهبي خلال العام 1919. وهذا ينطبق على مكرم عبيد، النائب عن قنا ورئيس نقابة المحامين، وسكرتير عام حزب الوفد، وهو القائل: “مصر ليست وطناً نعيش فيه، ولكنها وطن يعيش فينا“. وبين العامين 1928 و1931، شغل القبطي ويصا واصف منصب رئيس المجلس النيابي، وهو المنصب الثاني في مصر بعد الملك. وما لبث الأقباط أن تأثروا سلباً بدعوة الإخوان المسلمين إلى أسلمة الدولة والمجتمع، فبدأ “نفوذهم” وتمثيلهم يشهدان تراجعاً. وبما أن حركة الضباط الأحرار التي قادت الثورة العام 1952خلت من أي ضابط قيادي قبطي تقريباً، فقد بدأ منذ ذلك الحين خروج الأقباط من اللعبة السياسية في مصر.
إن التقييد على الحريات العامة وسياسة التأميم التي اتبعتها الثورة المصرية، وإلغاء مجالس الملة والمحاكم الروحية، والوحدة بين مصر وسورية، أصابت الأقباط أكثر من غيرهم من فئات المجتمع المصري. ففي حين فاز الأقباط بـ 20 مقعداً برلمانياً في انتخابات العام 1924، تقلصت أعدادهم إلى 3 نواب في انتخابات العام 1931، بسبب الدعاية الدينية للإخوان المسلمين ضد المرشحين الأقباط. وبين عامي 1953 و1981، لم يتجاوز عدد الوزراء الأقباط في الحكومات المصرية المتعاقبة 22 من أصل 452 وزيراً. من هنا، وكما في العهد العثماني، توجه المسيحيون الأقباط إلى تحسين مواقعهم الاقتصادية والثقافة وتأسيس المدارس.فيمتلكون كبريات الشركات المصرية، ويشغلون نسبة عالية من إجمالي الوظائف التخصصية، كالطب والصيدلة. وهم يمتلكون نسبة 75% من وسائل النقل، و44% من المشاريع الصناعية، و51% من المصارف، و34% من الأراضي الزراعية. وقدرت الحكومة المصرية العام 2007 أن الأقباط يملكون ثلث الثروة القومية.
خلال المرحلة الأولى من حكم الرئيس عبد الناصر، وتحديداً منذ عهد السادات، نمت التيارات الإسلامية لحسابات لها علاقة بالتوازنات السياسية الداخلية. فجعل الأول الإسلام دين الدولة، وجعل الثاني منه مصدر التشريع الرئيسي، رغم أنه لم يُطبق بشكل حاد. فكان هذا أول اغتيال للدولة المدنية المنشودة من قبل الأقباط، إذ جعل مصر منقسمة على أساس ديني، بعدما تحول الأقباط إلى جماعة دينية وليس مكوناً وطنياً أساسياً من مكونات المجتمع المصري.ولكي يحقق التوازن مع معارضيه، أطلق السادات جماعة الإخوان المسلمين من السجون العام 1971، وأعطاهم فرص الحضور السياسي والميداني والإعلامي، وذلك لمجابهة خصومه الناصريين واليسار من قوى ثورة 23 تموز. صحيح أن الرئيس المصري حصل على دعم الجماعات الأصولية الإسلامية، إلا أن ذلك كان على حساب الوحدة الوطنية، والمسيحيون مكونً أساسي لها. فشهد عصره تمييزاً خطيراً بين المسلمين والأقباط وبالتالي أحداثاً طائفية خطيرة، خاصة في صعيد مصر. إشارة، إلى أنه لم يعد بإمكان أي قبطي بعد ثورة 1952 أن يصل إلى مجلس الشعب، ما كان يستوجب من كل رؤساء الجمهورية أنفسهم: ناصر والسادات ومبارك، تعيين 10 أعضاء من المجلس، غالبيتهم من المسيحيين وفق مقاييس السلطة. حتى أن “الحزب الوطني” الحاكم لم يرشح أي قبطي لمجلس الشعب العام 1995، مع أن الحزب ضم كفاءات قبطية، والسبب في ذلك، أن جمهور الوفد الإسلامي هو الذي يتحكم في عدم وصول قبطي إلى الندوة البرلمانية. وفي انتخابات 2005، فاز مسيحي واحد لمجلس الشعب، وهو وزير المالية يوسف بطرس غالي (أُوقف من قبل حكومة عصام شرف بتهمة تضخم ثروته)، وهناك مسيحي آخر في الحكومة المصرية الأخيرة قبل ثورة 25 كانون الثاني 2011 (حكومة أحمد نظيف) هو وزير البيئة ماجد جورج. وضمت وزارة عصام شرف الحالية قبطياً واحداً هو وزير السياحة منير فخري عبد النور، الذي كان جده أحد مؤسسي حزب الوفد العام 1919.
قبل الثورة، كان احتلال الأقباط للوزارات مقبولاً جداً. فبلغ عدد وزرائهم في عهد الملك فاروق 12 وزيراً، وتقلص في عهد عبد الناصر إلى 7 وزراء. لكن منذ عصر السادات ومبارك، لم يعد عددهم يتجاوز الاثنين. ويعرف الأقباط في مصر أنهم لا يستطيعون الفوز في انتخابات مجلس الشعب من دون أصوات المسلمين، وهذا متعذر في ظل الانقسام الطائفي المجتمعي الذي يغذيه النظام كي يضمن بقاءه في السلطة. كما لا يمكن للقبطي أن يتبوأ منصب رئيس جامعة في مصر، أو أن يُعين قائداً للجيش المصري، أو محافظاً باستثناء حالة واحدة في عهد مبارك (محافظ قنا مجدي أيوب). وتُقفل أبواب الجسم القضائي العليا أمامه بشكل عام الخ… ومن أصل 274 عميداً في الجامعات الرسمية المصرية، لا يوجد إلا عميد قبطي واحد. كما لا يُعين أقباط رؤساء تحرير الصحف والمجلات. وفيما بلغ تمثيل الأقباط في وظائف الفئة الأولى 50% قبل ثورة العام 1952، تضاءلت هذه إلى حد كبير. فلا تتجاوز، على سبيل المثال، حصة الأقباط في كليات الشرطة والأكاديميات العسكرية نسبة 2% من المقاعد.
إن التعصب والجهل في مصر، مدنها، ومحافظاتها في الصعيد تحديداً، يجعل “مصر للمسلمين” وليس وطناً “للمصريين”، وفق الشعار الذي رفعه أحمد عرابي باشا أثناء مقاومته الاحتلال البريطاني. في المقابل، يعتقد أقباط متعصبون أن مصر لا تكون للمصريين الأقحاح (الأقباط) إلا بالقضاء على الإسلام فيها. فيستندون إلى نظريات بأن الأقباط وجدوا في مصر قبل دخول الإسلام إليها، لنفي الإسلام عن مصر قديماً وحديثاً. ورغم صحة هذا القول جزئياً، لكن المرء لا يستطيع بشحطة قلم أن ينهي 14 قرناً من الوجود الإسلامي في مصر. كما أنه لا يستطيع بشحطة القلم نفسها أن يلغي وجوداً حضارياً مسيحياً في مصر قبل الإسلام ومعه.
إن الجهل المتبادل لدى المسلمين والمسيحيين يجعل نزاعاتهم التي ليس لها علاقة مباشرة بالدين، أن تتحول إلى دينية، رغم كل ما يوحد بين أبناء الطائفتين من فقر ومعاناة ومرض وتخلف. إن تدخل القضاء المصري في قانون الأحوال الشخصية للأقباط مؤخراً (الطلاق أو الزواج للمرة الثانية)، وزواج مسيحي من مسلمة أو العكس، وبناء كنيسة مقابل مسجد، وعرض مواطن مسيحي على الأونلاين شريط فيديو يظهر مسلمة في أوضاع جنسية (2009)، وتوزيع مناشير وملصقات تحريضية طائفية من قبل الجانبين، وخلاف على قطعة أرض، فضلاً عن تهديد السلفيين الفتيات والسيدات القبطيات بالاعتداء عليهم في حال وجدن سافرات، حتى نحر خنازير المزارعين المسيحيين بشكل متعمد واستفزازي بذريعة الأنفلونزا، جاء على أساس ديني وليس علمي، وذلك إرضاءً للجماعات الأصولية الإسلامية – وهذه كلها مسائل تثير العنف والشغب، خاصة في ضوء تقاعس السلطة أو تواطئها، وتغذية الاحتقان من قبل رجال الدين في الجانبين.
إن حادثة أحراق الكنيسة في عين شمس في كانون الأول 2008، وحادثة نجع حمادي الطائفية في كانون الثاني 2010، وتفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية ليلة رأس السنة الميلادية 2010/2011، وأخيراً وليس آخر، بعد مبارك، حادثة إحراق كنيسة أطفيح في قرية صول وتدميرها (كنيسة الشهيدين)، وإحراق كنيستين للأقباط في إمبابة في السابع من أيار 2011، وقطع أذني شاب قبطي (أيمن أنور ديمتري) وإحراق مسكنه من قبل جماعة إسلامية متشددة لإقدامه على إقامة علاقة جنسية مع سيدة مسلمة، كلها نماذج على الاحتقان الطائفي المجتمعي. وعندما جرى هدم كنيسة في أدفو بمحافظة أسوان وحرقها في 3 تشرين الأول 2011، بذريعة عدم حصولها على ترخيص، أدت الحادثة الأخيرة إلى صدامات دامية في محلة ماسبيرو بالقاهرة يوم الأحد 9 تشرين الأول وسقوط قتلى من الأقباط في اشتباكات مع الجيش. أما لماذا اختار الأقباط قلب القاهرة للتظاهر، وليس أسوان حيث دمرت كنيستهم، فهي لأنهم أدركوا أن صوتهم في أسوان لن يسمع. والأخطر من ذلك، جرى تصوير حادثة ماسبيرو على أنها مؤامرة قبطية ضد الجيش المصري. إن قيام بعض جنود الجيش المصري بملاحقة المتظاهرين الأقباط بعبارات “يا كفار يا أولاد الكلاب”، والتحريض الإعلامي من التلفزيون المصري بدعوة المسلمين للنزول إلى الشارع لموآزرة الجيش ضد الأقباط “المتآمرين” على الدولة، يوضحان النظرة المجتمعية الإسلامية السلبية المزدرية لـ “الآخر” القبطي، والتي تناقض الإسلام باعتبار أن المسيحيين ليسوا كفرة. وتدل في الوقت نفسه، أن الإعلام المصري، إما غبياً أو مشاركاً في جريمة أُعد لها للإيقاع بين الأقباط والمسلمين بما يشبه حرباً أهلية. إن ما يسمى بـ “جمهورية إمبابة الإسلامية” التي ظهرت إلى الوجود منذ الثمانينيات من القرن الماضي وتغذت من سياسة السادات في تنمية التيارات الإسلامية المتشددة، ترفض “الآخر” القبطي، وهي المسؤولة عن إحداث إمبابة.
إن عدم منح السلطات المصرية المسيحيين التراخيص لبناء كنائس جديدة، وعدم السماح لهم بترميم القديم منها إلا وفق شروط صعبة جداً، يجعلان القبطي يلجأ إلى البناء غير المرخص، ما يحمل السلطات أو الجمهور المسلم المتعصب على تدمير البناء المشيد بحجة استفزازه. لقد وُضعت تراخيص بناء دور العبادة وملحقاتها الخاصة بالمسيحيين خلال العقد المنصرم في أيدي المحافظين بعدما كانت في يد رئيس الجمهورية، في حين يتمتع المسلمون بكامل الحربة في بناء المساجد أو ترميمها. أضف إلى ذلك، أن القانون الذي أصدرته الحكومة المصرية عندما أصدرت في عهد السادات في منتصف السبعينيات من القرن العشرين قانوناً لمصلحة التيارات الإسلامية (الإخوان المسلمين أساساً)، وإعفاء العمارات قيد الإنشاء التي تُلحق مصليات في أسفلها من ضرائب تتعلق بالبناء، وحصولها على الحديد والأسمنت من مصانع الدولة بتخفيض بنسبة 50% من سعر السوق، تسبب في تفشي المصليات في كل ركن وشارع من المدن الكبرى في مصر. وفي ظل ثقافة عدم الاعتراف بالآخر ورفض التعايش معه، زادت تلك المصليات من الاحتكاك السلبي وردات الفعل بين المسلمين والمسيحيين، عندما أصبحت متلاصقة أو متقابلة مع دور العبادة للأقباط. وظل القانون المذكور قائماً بقوة حتى نهاية التسعينيات. إن التعصب يستجلب التعصب، فقبل سنوات، قاد قس قبطي تظاهرة في محافظة أسيوط من أجل بناء كنيسة مقابل مسجد قديم وليس مصلى، وكانت التظاهرة تنادي بأن “يسقط محمد، ويسقط الإسلام”. إن عدم قيام الدولة المصرية بمهامها عبر الاهتمام بمسألة التعايش الإسلامي – المسيحي وسنّ قانون موحد لبناء دور العبادة للمسيحيين والمسلمين، وعدم التساوي بين أبناء الوطن الواحد في قضايا دينية حساسة، وكذلك ضعف أو غياب تطبيق الدولة والمجالس العرفية القوانين على مثيري الفتن الطائفية تشكل مخالفة للمواد 12 و13، و40 و46 من الدستور المصري التي نصت على المساواة بين المواطنين، بغض النظر عن الأصل والجنس أو الدين أو العقيدة، وكفلت حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية.
ولا يبدو أن السلطات المصرية السابقة بريئة من التحريض على الأحداث الطائفية. فكانت تغض الطرف عن زواج فتيات مسيحيات قاصرات من مسلمين، وتشجع على تحول المسيحي إلى الإسلام، في حين تقف والمجتمع الإسلامي المصري ضد إي مسلم مرتد. وما الاتهام الذي وُجه إلى وزير الداخلية حبيب العادلي بمسؤولية وزارته عن تفجير كنيسة الإسكندرية، سوى نموذج لسياسة النظام للإبقاء على الشرخ بين المسيحيين والمسلمين، كي لا تكون هناك جبهة وطنية واحدة تعارض حكم حسني مبارك. إن نظرة الشك إلى “الآخر” القبطي، تنسحب على معظم مؤسسات الدولة، مدنية وعسكرية. فعندما عين أنور السادات الفريق فؤاد غالي، وهو قبطي، قائداً لفرقة المشاة الثامنة عشر أثناء الحرب العربية – الإسرائيلية العام 1973، اعترض عدد من المصريين على ذلك، ومنهم عسكريون، وكانت حججهم أنه لا يمكن أن يؤتمن مسيحي على قضية وطنية، وكأن المسلم هو وحده من يؤتمن على عروبة مصر، أو كأن مصر هي ملك للمسلمين وحدهم. واللافت، أن السلطات المصرية تتعاطى مع الأحداث الطائفية على أنها مسألة أمنية نتيجة الجهل والعمل الفردي، فيما الحقيقة أنها حالة اجتماعية ودينية وسياسية. إن فيلم “حسن ومرقص” هو نموذج واقعي لحالة الانقسام المجتمعي المصري، وحالات التعصب الطائفي لدى الشارع المصري لكل من المسيحيين والمسلمين. فهل يؤدي ذلك إلى تفكك الدولة المصرية، في ضوء الحديث عن تقسيم مصر إلى ثلاث دول دينية: دولة النوبة، ودولة للأقباط ودولة إسلامية؟
هل بدل “الربيع العربي” وضع المسيحيين الأقباط في مصر؟ من المبكر الحدث عن ذلك، في ضوء استمرار عملية التغيير. لكن ما يمكن استنتاجه، هو أن حصيلة الانتخابات لمجلس الشعب ووصول 70% من الإسلاميين إلى الندوة البرلمانية، من ضمنهم حزب النور المتشدد بنسبة 22%، وتصريح المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد نديم باقتراب إعادة قيام الخلافة الإسلامية لتكون أستاذية في العالم، لا يجعل المسيحيين وحدهم يتخوفون من حكم إسلامي وتبعاته، بل المسلمين العلمانيين والليبراليين. إن تغيب نواب أصوليين من حزب النور عن حضور جلسة مجلس الشعب عقب وفاة البابا شنودة، وتمنع نواب أصوليين آخرين عن الوقوف دقيقة حداد على البابا الراحل، هو دليل ساطع ما على ما ينتظر المسيحيين من تسونامي إسلامي أصولي قادم. ولعل تصريح خيرت الشاطر، مرشح الإخوان المسلمين للانتخابات الرئاسية المصرية، عن أنه سيطبق الشريعة الإسلامية في حال فوزه، يصب في مخاوف الأقباط والليبراليين المصريين من مشروع لأسلمة مصر، دولة ومجتمعاً.
مسيحيو العراق: من الانتداب البريطاني إلى دكتاتورية صدام حسين… فتداعيات الاحتلال الأميركي
تعرض المسيحيون العراقيون خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وخلال الحرب العالمية الأولى إلى هجمات الأكراد، لكن وضعهم تحسن تحت الانتداب البريطاني، حتى أنهم اتهموا بالعمالة له، بعدما تلاعب الإنكليز بمشاعرهم لتأسيس دولة مسيحية مستقلة، ثم تخلوا عنهم. فأُجهضت محاولتهم بعنف على يد الدولة العراقية في الثلاثينيات من القرن العشرين، واضطر الآلاف منهم للهجرة إلى سورية. وبعد الثورة العراقية العام 1958، عاد وضعهم يزداد سوءاً، ومع حكم حزب البعث العربي الاشتراكي وصدام حسين، استقر وضعهم من الناحية الاجتماعية، ليس بسبب تقبل المسلم للآخر المسيحي، بل بسبب قسوة النظام العراقي وإمساكه بالشعب العراقي ومكوناته بالحديد والنار. وقد لعب بعض المسيحيين أدواراً مقربة من النظام، كطارق عزيز، وشارك الجندي المسيحي جنباً إلى جنب الجندي المسلم في الحرب ضد إيران بين عامي 1980 و1988، ومع ذلك استمرت هجرتهم.
منذ أن تفجر الوضع في العراق بعد الاحتلال الأميركي العام 2003، كُشف الغطاء عن المسألة الطائفية المتجمرة، والمذهبية التي وجدت مكاناً رحباً لها بين الشيعة والسنّة، والإثنية بين العرب والأكراد. وبالنسبة إلى المواقف من المسيحيين، نمت تيارات إسلامية أصولية مسلحة تعمل على اقتلاع منهجي للوجود المسيحي، وخصوصاً في بغداد والموصل، من تدمير الكنائس وقتل المسيحيين وقياداتهم الدينية، أو فرض سلوكيات إسلامية على نسائهم (الحجاب أو رميهن بالأسيد) من دون أن يكون المسيحيون مسؤولين عن استجلاب الأميركيين إلى العراق. وإذا كان المسلم يقتل المسلم في العراق، فأي وضع يمكن تخيله بالنسبة إلى المواطن المسيحي، بعدما كفرته “القاعدة” وجعلت منه هدفاً مشروعاً يطاله “الجهاد”؟ لقد ورد الآتي في إنذار وجهته “الأمانة العامة لكتائب أنصار الإسلام” إلى مسيحيي العراق: “قررت الأمانة العامة لكتائب أنصار الإسلام توجيه الإنذار النهائي إليكم (المسيحيين) وإلى كافة أتباعكم ورعاياكم من النصارى والكفار الصليبيين في بغداد والمحافظات الأخرى، بوجوب ترك بلاد المسلمين (العراق) فوراً والارتحال الجماعي خارج القطر وإلى غير رجعة، والالتحاق بالبابا بنديتكس السادس عشر وأتباعه المتمادين على أعظم رموز الإنسانية والإسلام (النبي محمد)… ولا مكان لكم، أيها الكفار النصارى، بين صفوف المسلمين المؤمنين في العراق بعد الآن. وبعكسه، سوف تكون سيوفنا مشرعة على رقابكم ورقاب رعاياكم وأتباعكم و أسوة بالنصارى المقيمين في الموصل“.
ويتمثل المسيحيون العراقيون اليوم بـ 5 نواب في مجلس مؤلف من 275 نائباً، وبوزير واحد في الحكومة الفيدرالية. وجراء ما يتعرضون له، تآكلت في السنوات الأخيرة أعدادهم بشكل كبير، وفُتحت أبواب المهجر أمامهم، ما يتسبب بخسارة وطنية واقتصادية للعراق وتلويث سمعته. ولا يبدو أن العراق سيتأثر بـ “الربيع العربي” في ظل الاحتلال الأميركي والانقسام المذهبي والعرقي والنفوذ الإيراني.
الأردن وفلسطين: وضع مميز وتذويب المسيحيين على يد إسرأئيل
يتمتع المسيحيون في الأردن بوضع خاص مميز في ظل رعاية ملكية، وهذا يبدو بوضوح في ضوء المقاعد التي يحتلونها في المجلس النيابي التي تفوق نسبة أعدادهم من إجمالي الشعب الأردني. ووصل الأمر مؤخراً إلى حد انتخاب عضو مسيحي في الهيئة الإدارية لأحد الأحزاب التابعة للإخوان المسلمين (جبهة العمل الإسلامي)، ما يجعلنا نعتقد أن التنظيم الأصولي المذكور يحتاج لـ “فلاش” إعلامي مسيحي لتخفيف الصبغة الأصولية عنه، وأن المسألة ليست الانفتاح على “الآخر” المسيحي. كما للمسيحيين الأردنيين حضور مميز في الاقتصاد والمهن الحرة والحياتين الثقافية والنقابية. مع ذلك، يشعرون بقلق من نمو التيارات الإسلامية وتأكيد هوية دينية بدلاً من الهوية الوطنية، وبخاصة في مواد التعليم الرسمي. وحول مواقفهم مما يدور حول الأردن، وقف المسيحيون ضد الغزو الأميركي للعراق، وصدرت تصريحات من قبل رجال دين ورجال أعمال تدين الاحتلال الأميركي وتعتبره عدواناً لصالح إسرائيل ومن أجل نفط العراق. وقد اعتبرت مجموعة من المحامين المسيحيين في الأردن أن حرق القس الأميركي تيري جونز المصحف هو بمثابة حرق الإنجيل واعتداء على الدين المسيحي. هذه المواقف الوطنية لمسيحي الأردن، تقربهم من المسلمين، وتجعل من الأردن نموذجاً للتعايش الإسلامي – المسيحي برعاية الدولة.
وفي فلسطين، تقوم إسرائيل بتهجير المسلمين والمسيحيين على حد سواء، والذين يُستهدفون من قبل الأصوليين اليهود المتشددين بشكل يومي ومنهجي. وبما أن أعداد المسيحيين العرب أقل بكثير بالنسبة إلى الفلسطينيين المسلمين، فإن آثار الهجرة تظهر عليهم بوضوح، ولم يعد يتعدى الوجود المسيحي في القدس نسبة 2% بعد أن كان 20% العام 1948، ما يجعله سطحي التأثير في المجتمع الفلسطيني، لكنه يفيد إسرائيل في إظهار أن صراعها هو مع المسلمين في فلسطين، خاصة وأنها روجت بجدارة نظرية “الإرهاب الإسلامي”. فضلاً عن ذلك، تسهم سياسة إسرائيل القمعية، ونمو التيارات الأصولية في تحفيز المسيحي الفلسطيني على الهجرة. وتحاول الدعاية الصهيونية التسويق بأن الإسلام والمسيحية هما عدوان، وأن المسيحية واليهودية يتعرضان للظلم الإسلامي نفسه، ما يحتم تعاونهما معاً. لكن المسيحيين يتمسكون بعروبتهم ويدافعون عنها، وكانوا من أوائل من تصدى لمشروع تهويد فلسطين (نجيب نصار صاحب جريدة الكرمل على سبيل المثال)، حتى أن المربي الأرثوذكسي الفلسطيني خليل السكاكيني، عندما وجد أن آفة الطائفية تفعل فعلها في بلاده ذات الغالبية الإسلامية، مع تعذر تشكيل جبهة وطنية للتصدي للأطماع الصهيونية، اقترح بشكل لم يسبقه إليه أحد من قبل، أن يعتنق المسيحيون في فلسطين الإسلام من أجل تكوين جبهة موحدة. فضحى بذلك بالدين من أجل الوطن والأرض. فكان بذلك في قمة العطاء والوطنية، وقد لا نجد في مقابله مسلم يضحي بدينه من أجل وطنه أو عروبته. كما شارك المسيحيون الفلسطينيون إخوانهم المسلمين في النضال ضد الانتداب البريطاني، ومنهم من حمل السلاح وتزعّم منظمات فدائية منذ الستينيات من القرن الماضي من أجل تحرير فلسطين (جورج حبش، ونائف حواتمة على سبيل المثال). أخيراً، كما أن المسجد الأقصى مستهدف من قبل إسرائيل وسياستها الاستيطانية لمحو معالم الإسلام من المدينة المقدسة. وتتعرض الأوقاف المسيحية، الأرثوذكسية تحديداً، إلى المصير نفسه. وقد عملت إسرائيل على هدم الأديرة وعشرات الكنائس. ومن أصل 196 ديراً وكنيسة في فلسطين وجدت في العام 1922، لم يبق منها في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم سوى 48 كنيسة و47 ديراً. أخيراً وليس آخر، تتعرض مقدسات إسلامية في فلسطين إلى الاعتداء (إحراق مسجد في الجليل الأعلى في تشرين الأول 2011) والتدنيس على أيدي أصوليين يهود، وكذلك قبور عائدة للطائفتين (يافا). أخيراً، تعمل إسرائيل على اقتلاع الوجود الفلسطيني من القدس الغربية نهائياً، وتهويد ما تبقى من القدس.
أرقام مفزعة: تفريغ المنطقة من المسيحيين؟؟؟
بناء على كل ما تقدم، تتراجع أعداد المسيحيين في المشرق العربي باضطراد، وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه اليوم، وسوف يستمر بالتأكيد في ظل ثقافة اضطهاد “الآخر” كأقلية على الصعيدين السياسي والاجتماعي، فمن المتوقع أن يضمحل الوجود المسيحي، على الرغم من أن النظر إلى هذا الوجود يجب أن يتركز على الدور الحضاري والثقافي والاقتصادي للمسيحيين، وكجسر تواصل بين الشرق والغرب وليس على الأرقام. في مصر، لا يتعدى عدد الأقباط في العام 2010 (4.5) مليون نسمة، وفق تقديرات الفاتيكان ومركز “بيو” الأميركي للأبحاث، أي 6% بعد أن شكل نسبة 10% من مجموع سكان مصر، اللهم إذا قام النظام الجديد في مصر بالدفاع عن الوجود المسيحي السياسي والاجتماعي والحضاري بسنّ قوانين واتخاذ إجراءات، وحادثة قنا اختبار لهذا النظام ولثورة 25 كانون الثاني. ولا يعود التناقص المطرد لأعداد الأقباط إلى هجرتهم فحسب، والتي بلغت وفق المرصد المصري لحقوق الإنسان نحو 100 ألف شخص ما بين آذار وأيلول 2011 والتوقعات بأن تصل إلى نحو ربع مليون فنهاية العام 2011، بل كذلك إلى ثقافة الأسرة الصغيرة بالمفهوم الغربي، وإلى زيادة المواليد بين المسلمين. وفي سورية، تراجعت أعداد المسيحيين من 20% العام 1945 إلى 7% من مجموع سكان يبلغ تعدادهم 22 مليوناً. وهناك من يعتقد أن نسبة 7% تعود إلى العام 2000، وأن مزيداً من مسيحيي سورية يغادرونها. وفي الأراضي الفلسطينية، وصلت أعدادهم إلى اقل من 50 ألفاً، وفي إسرائيل إلى 143 ألفاً، من أصل 5 ملايين فلسطيني مسلم. وفي العراق، تراجعت أعدادهم من 1.4 مليون نسمة إلى ما بين 700 ألف و500 ألف نسمة (3% -5%). وفي العاصمة بغداد، لم يتبق من المسيحيين سوى 150 ألف نسمة من أصل 700 ألفاً قبل الأحداث.[1] وفي لبنان، حيث وضع المسيحيين مختلف عن باقي البلدان العربية، تراجعت أعدادهم من 52% في العام 1932 إلى ما دون 30% في العام 2008، أي ما يزيد بقليل عن مليون نسمة. وعلى الرغم من رعاية الدولة الأردنية للمسيحيين، فإن أعدادهم تتراجع باطراد، بسبب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والرغبة في الحفاظ على خصوصياتهم الثقافية، بالتزامن مع نمو التيارات الأصولية الإسلامية. ويقدر عددهم بـ 200 ألف نسمة. بناء على كل ما ورد، تتراوح أعداد المسيحيين مجتمعين في كل من العراق وسورية ولبنان والأردن وفلسطين ومصر ما بين 7 إلى 8 ملايين نسمة من حوالى 140 مليون نسمة، مجموع السكان في البلدان الستة.
استنتاج
أثبت الدراسة مسؤولية الأنظمة العربية عما يحصل للمسيحيين في المشرق العربي، وكذلك مسؤولية المجتمعات الإسلامية بثقافتها القائمة على النظرة السلبية إلى “الآخر”. ولا نغفل الحقيقة عندما نقول، إن التعصب موجود في كلا الفريقين المسلم والمسيحي. لكن في ظل وجود أنظمة إسلامية تحكم، فإن المسؤولية تقع على عاتق تلك الأنظمة، سياسياً واجتماعياً، بخاصة أنه لم تقم في العالم العربي قائمة لدولة مدنية يمكنها أن تحتضن الجميع بالعدل والمساواة وفي الحقوق والواجبات. وأضحت الدولة الدينية إما مشروعاً للجماعات الإسلامية المتشددة، التي تريد فرض الجزية على المسيحيين وفق الإسلام، أو تلك تتخفى وراء تصريحات “رحومة” بأن الدولة الإسلامية المنشودة “متسامحة” وستوفر الحماية للمسيحيين، وهذا ما لم يحصل في الماضي ولن يحصل في ظل دولة إسلامية.
إن النسب القليلة الممنوحة للمسيحيين للمشاركة في الحياة السياسية في العالم العربي لا تثمل حجمهم الديموغرافي، وإن ديمقراطية قائمة على التوافق والتناسب لا تؤسس لوطن، والأوضاع في لبنان شاهد على ذلك. كما أن نظام أكثرياً “ديمقراطياً”، في ظل الثقافات السائدة، يعني المزيد من اضمحلال المسيحيين في لبنان والعالم العربي. صحيح أن الأنظمة العربية تقدم نفسها على أنها ديمقراطية وحامية للمسيحيين، ما يجعل المسيحيين يلوذون بها لحمايتهم من شركائهم السلفيين المتشددين، وربما “الإرهابيين” في الوطن، وهذا يضع المسيحيين في الموقع الخطأ بقبول حكم أنظمة فاسدة على أساس أنها الأفضل من يقدم الحماية لهم، وربما يدفعون ثمن هذا “التحالف” مع الأنظمة الاستبدادية. لكن الحديث عن حماية الأنظمة العربية للمسيحيين يبقى في الشكل كلاماً هراء، لن يحل المشكلة، ما لم تقم أنظمة وطنية حقيقية ودولة مدنية تسود فيها الديمقراطية والعدالة والمساواة، وتنتهي القضية الفلسطينية إلى حل عادل، ويتخلص المسلمون قبل المسيحيين من أغلال الأصولية الدينية.
إن الاعتراف بوجود مشكلة مسيحية كامنة في المشرق العربي، تقوم على ترابط محكم بين ظاهرتين، الأصولية الإسلامية المتطرفة في الداخل والعداء للإسلام، والأنظمة الحاكمة التي تغذي النعرات الطائفية والاجتماعية، هو الانطلاقة العملية لوقفتهميش المسيحيين و”تهجيرهم”. وكلا الظاهرتين مسبب للآخر ومكمّل له. إن وقف نزيف الهجرة المسيحية، لا يتحقق من دون أن تتراجع الأصولية المتطرفة، علماً بأن الأصولية المتطرفة ليست السبب الوحيد لهجرة المسيحيين، بل وجود أنظمة عربية حاكمة بعيدة عن الديمقراطية والعدالة تستفيد من الانقسام المجتمعي على أساس ديني بين مسلم ومسيحيي من أجل البقاء في السلطة. كما أن تراجع الأصولية الإسلامية والهجرة المسيحية يرتبطان بتراجع الكراهية للإسلام في الغرب، وتوقف الهجوم عليه.
وفي ضوء أوضاع المسيحيين الراهنة في المشرق العربي، كان من المتوقع أن تؤدي الانتفاضات، وخاصة في مصر التي تشهد منذ 25 كانون الثاني هذا العام حراكاً جماهيرياً وثورة على النظام، إلى حدوث تغيير في العلاقات الاجتماعية وليس في النظام السياسي فحسب، فتوضع تلك العلاقات على أسس جديدة من التعايش بين المسلمين والمسيحيين، وفق قوانين مدنية وطنية تنظمها وترعاها. فغاب العامل الاجتماعي عن “الثورة”، ما جعلها ثورة سياسية تريد إزاحة رموز العهد البائد، ما يعني أن الشعب المصري، رغم معاناته الاجتماعية اليومية و”برغيف العيش”، عادت السياسة تشغله. وكانت مشاركة المسيحي المسلم في الاعتصام بميدان التحرير لإسقاط نظام مبارك بشارة خير حول إمكان بزوغ وطنية جديدة في مصر تؤدي إلى قيام دولة مدنية، رغم الدعوات المتكررة للبطريرك شنودة إلى عدم مشاركة رعيته في التظاهرات. لكن ما حصل في قنا خلال شهر نيسان 2011 برفض المسلمين المتشددين محافظاً مسيحياً خلفاً لمحافظ مسيحي سابق، ورفع شعارات “إسلامية إسلامية قنا إسلامية“، وقيامهم بتظاهرات وقطع الطرقات وسكك الحديد، وأخيراً رضوخ السلطات المصرية لمطلب السلفيين بتجميد عمل المحافظ الجديد لمدة ثلاثة شهور، وكذلك أحداث إمبابة في أيار هذا العام وإحراق كنيستين، وأحداث ميدان التحرير في أواخر يوليو 2011، ورفع الإسلاميين شعارات حول تطبيق الشريعة الإسلامية وأن مصر إسلامية، وأخيراً وليس آخر، مقتل قبطيين وجرح أثنين آخرين في مدينة أبو قرقاص، في محافظة المنيا في 29 يوليو، يطرح علامات استفهام كبيرة حول ثورة تغييرية قد تبدو مختلطة بالتعصب الطائفي الأعمى. وقد تكون قنا أو إمبابة أو ميدان التحرير أو أبو قرقاص نماذج مصغرة لحالة اجتماعية إسلامية عامة في مصر تصر على رفض “الآخر” المسيحي وعدم التعايش معه، وصولاً إلى استئصاله تحت شعار “مصر إسلامية – إسلامية“. وفي التحضير للانتخابات النيابية المقبلة، يستخدم الإخوان المسلمون والسلفيون المتشددون الدين في استقطاب الناس، وهذا لا يبشر بالخير. ويأتي في هذا السياق، دعوة رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي المسلمين إلى مقاطعة الاحتفالات بعيدي الميلاد ورأس السنة وتحريم تقديم التهاني للمسيحيين، وكذلك الاتجار بشجرة الميلاد، ما يدل على الهوة الاجتماعية بين المسلمين والمسيحيين والتي يروج لها رجال الدين المسلمين. وسط هذا وذاك، تتعاظم هواجس الأقباط من أن تنتهي الثورة في مصر إسلامية بتراجع الليبراليين واليساريين لصالح الإسلاميين.وهذا ما حصل بالفعل في الانتخابات العام 2011/2012ـ عنما حققت جماعة الإخوان المسلمين فوزراً كاسحاً بحصولها على نسبة 47% من مقاعد مجلس الشعب، مع حزب النور السلفي على أكثر من ثلثي الأصوات, وسوف يكون لهذا تأثير كبير في تشكيل الهيئة التي ستتولى وضع دستور للبلاد. أما شباب الثورة الذيم كانوا وراء الإطاحة بـ “القديم”، فلم يحصلوا سوى على سبعة مقاعد في المجلس. (النهار، 22/1/2012)من هنا، لم يعد المسيحي القبطي يخشى قيام نظام إسلامي فحسب يتعامل معه على أساس الذمية، وإنما على أمنه الشخصي في بيته بعد تصاعد العنف بشكل لافت منذ ثورة يناير 2011.
بعد الانتخابات الرئاسية وتشكيل حكومة قنديل، كان من المتوقع أن تتحسن أحوال الأقباط على المستويين السياسي والاجتماعي. لكن تمثيل الأقباط في حكومة قنديل بوزيرة واحدة، سبب خيبة أمل لمهم من جمهورية محمد مرسي التي ادعت أنها لن تميز بين أفراد المجتمع. ولعل أحداث قرية دهشهور من أعمال محافظة الجزية في مطلع أغسطس 2012، عشية تشكيل حكومة هشام قنديل، عندما وقع شجار بين مكوجي مسيحي وزبون مسلم حول كي قميص، وسقط فيه قتيل مسلم، هو دليل على تمادي الطائفية المجتمعية. فبدلاً من أن يُعتقل القاتل المسيحي ويحاكم، فإن تداعيات الحادث أدت إلى تهجير المسيحيين من قريتهم، وقيام المسلمين بنهب محال الأقباط لبيع الذهب، فضلاً عن مخازنهم وممتلكاتهم. وكالعادة، تصرفت أجهزة الدولة لحل الخلاف عن طريق المصالحة، بدلاً من فرض القانون (النهار، 5 آب 2012).
إن تقزيم أحداث إمبابة وجعل مسبباتها مسألة تحفظ الكنيسة على إمرأة مسيحية تحولت إلى الإسلام، وتسخيف حادثة دهشور بكي قميص لمسلم، هو بعيد عن جوهر الصراع وعمقه. فالمسألة، برأينا، هو صراع بين إستراتيجيتين: إستراتيجية الأقباط ومعهم المسلمون الليبراليون واليساريون للوصول إلى الدولة المدنية، حيث يتساوى جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وتُحترم الخصوصيات الدينية، وإستراتيجية الإخوان المسلمين والسلفيين المتطرفين لتنمية ثقافة إسلامية ترفض الآخر وتريد أن تفرض عليه قيمها ومفاهيمها حول مقولة دولة ومجتمع إسلاميين (الإسلام هو الحلّ) وجعل الإسلام هوية لمصر على حساب حقوق الأقباط الوطنية البديهية، وهي أنهم شركاء للمسلمين في مصر، التي وصفها وزير العدل المصري عبد العزيز الجندي بعد أحداث إمبابة بأنها “أمة في خطر“. من هنا، نفهم لماذا رفض الإخوان المسلمون والسلفيون المتشددين والجهاديون الانضمام إلى مؤتمر الحوار الوطني المصري وطروحاته لإقامة الدولة المدنية ووضع الدستور الجديد موضع التنفيذ قبل الانتخابات البرلمانية، وقاموا بالتعبئة السياسية والدينية والنفسية حول الإسلام والدولة ونص المادة الثانية من الدستور التي تقول إن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع. إن الإخوان والمسلمين السلفيين المتشددين يرفضون الدستور الوضعي ويريدون القرآن دستوراً لمصر، ويرفضون كذلك الدولة المدنية، لأنها تتعارض مع مخططاتهم لإقامة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، فيخفون مقاصدهم بالحديث عن دولة مدنية بمرجعية إسلامية، مع العلم أن هذين التضادين لا يلتقيان. إن إقرار الدستور بعد الانتخابات يجعل الإخوان في وضع يمكنهم، في ما لو وصلوا إلى الندوة البرلمانية واحتلوا غالبية مقاعد مجلس الشعب أو فرضوا سياستهم عبر ائتلاف في مجلس الشعب، أن يصوغوا دستوراً إسلامياً لمصر. وطالما لم تعدل المادة الثانية من الدستور المصري التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر الحكم في مصر، فسيبقى التمايز بين مسلم وقبطي، والثاني مواطناً من الدرجة الثانية. إن “وثيقة” شيخ الأزهر التي وافقت عليها معظم الأحزاب المصرية في 17 آب 2011، تدور حول تحقيق الهوية المصرية وضمان الحقوق والواجبات وتأكيد مبدأ المواطنة أساساً للمساواة بين المصريين جميعاً من دون تمييز، وإن لم تتحدث علناًعن دولة مدنية خشية انفضاض المجتمعين حولها. إلا أن “الوثيقة” لا تشير إلى أن مصر دولة دينية إسلامية. فقابل “الوثيقة” بعض تلامذة الدعاة في الأزهر بالرفض والتهجم على الإمام الأكبر أحمد الطيب. وتساءل أحدهم بالقول: “لماذا يريدون فرض الدولة المدنية على المصريين، طالما أنهم جميعاً مسلمون”، ما يحمل على الاعتقاد أن رجلنا يجهل أو يتناسى الوجود المسيحي في مصر. وقال آخر: “إذا لم تكن دولة إسلامية، فماذا تكن؟”.
تكمن الخطورة في مصر، عندما ينعدم صوت العقل الوطني لدى الإسلاميين المتشددين، ما يجعل الأقباط يكفرون بثورة أسقطت رموزاً سياسية وأبقت على نظام إسلامي ومجتمع إسلامي قاهرين، فيتنامى شعور الاستبعاد والغبن وعدم المساواة، وبالتالي التعصب لدى الأقباط وظهور هوية قبطية بدلاً من الوطنية، وذلك بفعل الاندماج بين الأقباط والمؤسسة الدينية، التي ظهرت في العقد المنصرم مندمجة مع مجتمعها، مشكلة حصنه الأخير، وحلقة الوصل بينه وبين الدولة. وبالطبع، سيفضل الأقباط، في ظروف أسلمة الدولة والمجتمع في مصر، التخلي عن كل شيء والهجرة من البلد، مترحمين على وطن كانت لهم فيه، فيما مضى، السيادة العددية والسيادة الدينية، ثم خضعوا للمسلمين، وأضحوا بعدها على هامش النظام والمجتمع، وصولاً إلى حالة من الاضمحلال. من هنا، نفهم لماذا صوتت غالبية الأقباط للمرشح العسكري أحمد شفيق في الانتخابات الرئاسية، وذلك لأنه دعا إلى دولة مدنية، وبسبب الاعتقاد أنه القادر على توفير الأمن لهم. صحيح أن الأقباط ذاقوا الأمرين من حكم السادات ومبارك على الصعيد الأمني والتهميش السياسي، إلا أنهم يدركون أن الإسلاميين أشد سوءاً من حكم على شاكلة الأنظمة السابقة. وصرح أحد الناخبين الأقباط في دورة الإعادة لانتخابات رئاسة الجمهورية بالقول: “إننا نعطي أصواتنا لمن يستطيع تحقيق أمن الأقباط وأمن البلاد …”.
نحن لا نحتاج فقط إلى كسر الأنظمة السياسة الفاسدة والمسببة للانشطار المجتمعي، بل إلى كسر العلاقات الاجتماعية القديمة البالية وإقامة علاقات اجتماعية وثقافية جديدة تزيل ما رسب من تحجر بذريعة الدين. ولا يتحقق هذا إلا في ظل المشاركة السياسية الحقيقية للمسيحيين وتطبيق العدالة الاجتماعية والمساواة وسيادة القانون.
ثمة اقتراحات قد تخفف من حدة معاناة المسيحيين في العالم العربي، وهي:
1- أن تقوم الدول العربية بالتشريع في ما يتعلق بإقامة دور العبادة بالنسبة إلى المسلمين والمسيحيين، وأن يسود القانون العادل الحازم في معالجة أية إشكالات تحصل بين أبناء الطائفتين المسيحية والإسلامية.
2- أن تبتعد الأنظمة العربية والجماعات الإسلامية عن هدف إقامة دولة ومجتمعاً إسلاميين، والعمل على بناء دولة مدنية تجمع مكونات المجتمع على أساس المواطنة وليس على أساس الدين. فمهما كان “النظام الإسلامي” المنشود متسامحاً، ولن يكون كذلك بالتأكيد، فهو لن يوفر العدالة لغير المسلمين (ولا للمسلمين)، والتجارب التاريخية شواهد على ما لحق بأهل الذمة من ظلم وقهر.
3- أن لا تتعاطى الأنظمة العربية مع ما يحدث من صراعات دينية داخل بلدانها على أساس أنها مسائل أمنية فردية نتيجة الجهل، بل الإقرار بوجود حالات تعصب لدى الفريقين، وقد ظهر مؤخراً القبطي المهاجر متسلحاً بعصبية متطرفة تنادي باستئصال “الآخر” المسلم، للرد على ما يتعرض له مواطنه القبطي في مصر. وعلى الأنظمة العربية أن تتعاطى مع المسيحي كمعطى وطني، وتنمي عنده شعور الانتماء، عبر إعطائه كامل حقوقه، وحصوله على المساواة، وعلى دور أكبر وأوسع في الحياة السياسية. فالمسيحي هو شريك في الوطن وليس دخيلاً أو غريباً، بل جذوره ضاربة في أرضه وفي حضارته. فالمسيحية سبقت الإسلام في المشرق العربي.
4- أن تدرك الدول العربية الإسلامية أن الحفاظ على المسيحيين، في ظل انعدام الدولة المدنية والديمقراطية، هي مسؤولية إسلامية قبل أن تكون وطنية. فالمسيحي هو نافذة المنطقة العربية على الغرب، وهو ثروة وطنية وفكرية وثقافية واقتصادية. وإذا ما أخذت الدول العربية هذا المنطلق في سياستها، فإن عليها أن تحافظ عليه وتحميه وتصونه وترعاه. كما على المسيحيين أن يحافظوا بدورهم على شركائهم المسلمين في الوطن وأن يحموهم. فالمسيحيون وكثير من المسلمين يشعرون أنهم مستهدفون من قبل الأصولية الإسلامية المتشددة.
5- إن لائمة المساجد دوراً مهماً جداً في التعاطي مع البيئة والشارع الإسلاميين. فإذا ما أُعِدّوا بشكل إنساني وقيمي جيدين، يقومان على احترام أصحاب الدينات الأخرى والاعتراف بهم، والتعايش معهم على أساس أنهم مكون مهم وأساسي من مكونات المجتمعات العربية، عندها يمكن أن ينعكس ذلك إيجاباً على الشارع. ونحن نعرف دور رجال الدين في التوجيه في كل البلدان العربية يمكن أن يؤثر سلباً أم إيجاباً. وعلى الدولة، كسلطة مدنية أن تضطلع بمهمة مراقبة تعليم رجال الدين، وعدم ترك المسألة بأيدي المؤسسات الدينية. وكلنا يعلم كم انعكس الإعداد الخاطئ لرجال الدين في المملكة العربية السعودية، قبل أحداث أيلول 2001، على ظهور حالات تعصب لدى العامة، وتحول إلى إرهاب دموي ضد الداخل المسلم، وضد الخارج “الملحد”، وفق مقاييس القاعدة.
6- أن تضطلع المؤسسات الدينية والمدارس والجامعات ومناهج التعليم بالتوعية الميدانية والتركيز على التعايش والمساواة بين الطائفتين، وترويج ثقافة الاختلاف في المجتمع، والفصل بين المسيحي الوطني في الداخل، وبين السياسات التي تمارسها الدول الغربية تجاه العالم الإسلامي. فالمسيحي غير مسؤول عن ما تقترفه أيدي الدول الغربية من مظالم ضد الإسلام والمسلمين، كما أن الدين المسيحي بريء من تلك المظالم.
7- جعل مسألة الهجرة المسيحية قضية إسلامية وعربية بكل معنى الكلمة، لأنها تُفقد الشرق العربي الإسلامي مكوناً مهماً من مكوناته المجتمعية في مجالات الاقتصاد والثقافة والعلوم، والانفتاح على الغرب، والتعايش بين الإسلام والمسيحية. من هنا، على المجتمع الإسلامي أن يهب للدفاع عن الوجود المسيحي المشروع، انطلاقاً من رؤية إنسانية ووطنية بأن المسيحيين هم شركاء له في الوطن العربي الصغير والوطن العربي الكبير. ولا أمل في وقف نزيف الهجرة المسيحية من البلدان العربية، ما لم يتوقف استهدافهم قتلاً وترويعاً، وإيجاد مناخات وأسس ديمقراطية للتعايش الإسلامي – المسيحي.
8- ابتعاد المسيحي عن التقوقع على نفسه في مجتمعه والترويج لخصوصيته، فهو عامل مهم في إنتاج الحضارة الإسلامية والثقافة العربية المعاصرة. وعليه أن يفهم أن الهجرة ليست حلاً لمشكلاته. لقد طالب الفاتيكان المسيحيين خلال العامين 1993 و1997 بالتعايش مع محيطهم الإسلامي، وشدد على وجوب انضوائهم تحت مظلة الثقافة العربية التي لهم فيها إسهامات جليلة.
9- ابتعاد المسيحيين عن الوهم بأن النظم الاستبدادية هي الذي تحميهم من التيارات الإسلامية الأصولية المتعصبة. ما يحمي المسيحيين هو علاقاتهم المنفتحة على “الآخر” المسلم، والأنظمة التي تنطلق من قواعد ديمقراطية ومساواة وحقوق اجتماعية. وعلى المسيحيين أن يعوا أن الغرب، رغم خطابه الجذاب حول حقوق الأقليات في العالم، لا يدافع عنهم ويحميهم، بل يدافع عن مصالحه. فالسياسات الغربية أثبتت أنها ذات معايير مزدوجة ومؤذية للمسيحيين وللمسلمين على حد سواء. وقد تكون هناك أصابع خارجية تغذي الفتن الطائفية بين أبناء البلد الواحد، لكن هذا لا يقلل من مسؤولية المسلمين، دولة ومجتمعاً.
10- إن يعي المسيحيون أن شركائهم المسلمين بشكل عام يشعرون بدورهم أنهم مستهدفون ومهددون من قبل الجماعات الإسلامية المتشددة، وأن عليهم أن يتعاضدوا مع المسلمين في سبيل مكافحة آفة التشدد الأعمى من أي طرف أتت، وكذلك في محاربة بعض النظريات في الغرب التي ترى في الإسلام تهديداً له.
11- أن يتوقف المسيحيون عن الخلط بين الإسلام المعتدل والإسلام السلفي المتطرف، وأن لا يبتعدوا عن الإسلامفوبيا. صحيح أن هناك سلفية إسلامية متطرفة نتابعها كل يوم، إلا أن هناك مسلمين معتدلين يريدون أن يمارسوا شعائرهم الدينية، من دون الانتقاص من حقوق أتباع الطوائف الأخرى.
12- أن تتوقف الدول الغربية عن دعم أنظمة عربية إسلامية دكتاتورية فاسدة، وتعمل بجدية على تخفيف معاناة المسيحيين. فخوف الغرب من أن تستلم الأصولية الإسلامية السلطات في البلدان العربية، جعله يتغاضى عن مساوئ الأنظمة الحاكمة، مفضلاً الأمن على الحرية.
[1] بيار عطالله، “ماذا يروي الصامدون من المسيحيين في العراق؟ و”نستهدف لأننا الأضعف ولتوجيه الرسائل”. جريدة النهار، 3 كانون الأول 2011.