عبد الرؤوف سنّو
من المعروف أن ملوك السعودية يتسابقون إلى تأكيد خدمتهم ورعايتهم للأماكن المقدسة للإسلام في مكة المكرمة والمدينة المنورة· وقد أعطاهم هذا الاهتمام نوعاً من الهالة المعنوية بأنهم حماة الأماكن المقدسة والساهرون على ضيوف الرحمن· فأطلق كل واحد على نفسه لقب <خادم الحرمين الشريفين>، وذلك منذ عهد الملك فهد في العام 1986· فأصبح هذا اللقب من أعز الألقاب التي يحملونها· وقد شهت الشعائر توسعات ضخمة مميزة وعمارات منذ عهد الملك عبد العزيز، مروراً بعهد الملوك سعود وفيصل وخالد· وفي عهده، وضع العاهل السعودي الملك فهد هدفاً سامياً يقوم على تسهيل الحج بالنسبة إلى ضيوف الرحمن، وتأمين كل وسائل الراحة والسلامة لهم، عبر مشاريع عملاقة لم تشهد المملكة لها مثيلاً من قبل· ثم تابع مسيرة أسلافه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله في وضع بصماته على
توسعات عدة جديدة، كان أنجزه في الحرم المكي الشريف بين العامين 2008 و2010، ووضع الأساس في أغسطس الجاري لأكبر توسعة في تاريخ الحرم·
وتعود جهود المملكة العربية السعودية في توسعة الحرمين الشريفين أساساً إلى تطور مواسم الحج خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك بالتزامن مع تطور المواصلات وأنظمة الاتصالات، التي يسرت الاتصال بين أنحاء العالم الإسلامي، هذا فضلاً عن الاهتمام الذي تقوم به المملكة لتنظيم قدوم مئات الآلاف من الحجاج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة والعناية بهم في كل المجالات أثناء تأدية مناسك الحج·
اهتمامات مبكرة في توسيع الحرمين الشريفين: عهد الملك عبد العزيز. أثناء عهده أمر الملك عبد العزيز توسيع المسجدين الحرمين لاستقطاب حوالي نصف مليون حاج مسلم· وأبرز الأعمال التي قام بها، هي بناء العلمين في طريق جدة القديم (الشميسي) حداً للحرم، وصُنع بابٍ للكعبة مصفح بالذهب والفضة· كما أنشأ سبيلين قرب بئر زمزم، وفرش المسعى بالحجر الصوان وسقفها بألواح الصاج، وعمل مظلات في واجهة الأروقة، وأعاد بيديه القطعة المقلوعة من الحجر الأسود، وجدد طوقه الفضي· كما أحضر العاهل السعودي ساعة كبيرة وضعت على الحميدية، وتطل على الحرم الشريف· وزاد من الإضاءة في المسجد، وأوصل مياه الجديدة إلى مكة والمشاعر المقدسة، وسميت بعين العزيزية·
جهود سعود وفيصل وخالد. تحول الحج إلى صناعة في عهد الملك سعود بن عبد العزيز، استكملت توسعة المسجد المكي الشريف· فجرى توسيع المطاف وتبليطه بالرخام الأبيض· وأدخل السعي ضمن التوسعة للمرة الأولى· كما أمر الملك بشقّ الطريق المعبدة المحاذية لجبال الشميسي جنوباً، وترميم جدار الكعبة وتجديد سقفها، وصنع طوقاً جديداً من الفضة للحجر الأسود وسلماً خشبياً ملبساً بصفائح الفضة والذهب لباب الكعبة المشرفة· وحدثت توسعة أخرى للمسجد الحرام في عهد الملك فيصل· وقد أمر بالإبقاء على الرواق العثماني القديم (المسجد الحرام القديم)، وإزالة الزوائد في <المصورة الخشبية> المقامة فوق مقام النبي إبراهيم، وصنع له غطاءً من الكريستال· كما أمر بإنشاء مكتبة للحرم، وتجديد مصنع الكسوة، وبتشييد الجسور الواصلة للحرم من الشوارع المحيطة به· وتابع الملك خالد في عهده ما بدأه أسلافه· فاستبدل باب الكعبة الشريفة ببابين ذهبيين صلبين، وافتتاح مبنى جديداً لدار صناعة الكسوة·
عهد الملك فهد. منذ عهد الملك فهد بن عبد العزيز، تحولت مواسم الحج إلى <صناعة> بكل معنى الكلمة، من مطارات ومرافئ وطرقات سريعة وجسور وأنفاق ووسائل نقل ومواقف سيارات وحافلات وفنادق وشقق مفروشة ومجمعات سكنية وتجارية ومستشفيات وعيادات خارجية وإذاعة وتلفزيون، ذلك أن الحج لم يعد يقتصر على تأدية بضعة آلاف من الحجاج المناسك، كما كان يحدث قبل قرن، وإنما يتعلق بأكثر من مليوني حاج يتطلب قدومهم إلى المملكة وإقامتهم وتنقلهم بين المشاعر المقدسة سلسلة من عمليات صنع القرار والخطط التنظيمية المعقدة، والتنسيق بين وزارات الدولة ومؤسساتها، فضلاً عن ارتباط الحج بصناعات الكسوة واحتياجات الحجيج ومستلزماته، والحلى والسبحات، والعباءات، والعطور، والتمور، والصور الدينية التذكارية، وكذلك طباعة المصاحف وترجمات معاني القرآن بمختلف اللغات وتسجيلات الخ· فأثبتت المملكة قدرة وكفاءة عاليتين، بل فريدة في تنظيم مواسم الحج، وتأمين إقامة الحجيج وتنقلاتهم وأمنهم بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، فضلاً عن رعايتهم صحياً وتوفير الراحة لهم·
الحرم المكي الشريف في عهد الملك فهد: توسعة العصر. لقد شهد المسجد المكي الحرام في عهد الملك فهد توسعة شاملة اعتبرت في حينه الأضخم في تاريخه· فوضع العاهل السعودي في عام 1989 حجر الأساس لتوسعة الحرم المكي من الناحية الغربية بطابقين وبدروم ومدخلاً رئيسياً بمنارتين، ومداخل فرعية وساحات محيطة· فزادت مساحة المسجد إلى 356 ألف متر مربعاً، بما في ذلك المساحات المحيطة به والمخصصة للصلاة، وكذلك السطح، بعد أن كانت مساحته قبل ذلك 193 ألف متراً مربعاً فقط· وبذلك، أصبح بإمكان المسجد أن يتسع لأكثر من مليون مصلٍ، بعد أن كانت طاقته الاستيعابية قبل ذلك في حدود 410 ألف حاج· ولتجميل الحرم المكي وتجديده وتجهيزه، جرى تبليطه بالمرمر المقاوم للحرارة، وتركيب 8 آلاف مروحة وسلالم ومصاعد كهربائية، ونظام تكييف مركزي، وشبكات إذاعية وتلفزيونية، إضافة إلى فرشه بالسجاد وتزويده بمكبرات الصوت والساعات الإلكترونية· كما جدد الملك فهد قبة مقام النبي إبراهيم، وأمر بتوسعة ممر منطقة الصفا، وإنشاء الأنفاق لتخفيف ضغط المرور عند الحرم، وذلك لاستكمال الخط الدائري المحيط بالحرم الشريف· وقد تكلفت هذه التوسعة أكثر من 11 مليار دولار أميركي، بما في ذلك نزع الملكية الخاصة·
الملك عبد الله: تراكم الإنجازات وأكبر توسعة في تاريخ الحرم المكي الشريف. استكمالاً لما بدأه إخوانه من الملوك السابقين، أعطى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله في العام 2005 أوامره لاستكمال الأعمال المتبقية من شمروع توسعة المسجد النبوي الشريف بكلفة إجمالية قدرها 4.7 مليارات ريال من أجل تركيب 282 مظلة تغطي جميع مساحات المسجد، وذلك لوقاية المصلين والزائرين من وهج الشمس ومخاطر الأمطار. وفي العام 2008، بدأ مشروع تنفيذ توسعة المسجد المكي الشريف أفقياً وعمودياً وخدماتياً على مرحلتين، لتكون أكبر توسعة في تاريخ البلاد· فاستخدمت في المرحلة الأولى من المشروع آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا والمعرفة والهندسة المعمارية، من أجل إضافة المساحات الشمالية بعمق 380 متراً وبناء أنفاق للمشاة مزودة بسلالم كهربائية، فضلاً عن محطة للخدمات والحدائق العامة ومواقف السيارات والحافلات وشملت توسعة الساحات الشمالية للحرم· وجرى توسيع محيط الحرم المكي عند منطقة باب الشامية، وأصبحت مساحته الكلية حوالى 165 ألف متر مربع، بعد أن كانت لا تتجاوز 16.500 متر مربعاً فقط· وبإمكان المساحة الجديدة أن تستوعب 700 ألف مصلٍ، وأكثر من مليون مصلٍ في أوقات الذروة، بعد أن كانت لا تستوعب أكثر من 58 آلف شخص· واحتوت التوسعة الجديدة على سبعة مداخل رئيسية والعديد من الأبواب المتجاورة والجانبية والسلالم الكهربائية المتحركة· وأصبح للمسجد عشر مآذن، بعد بناء ست جديدة، هذا بالإضافة إلى القبب المتحركة كهربائياً للاستفادة من التهوية الطبيعية· وبعد استكمال التوسعة الجديدة، سوف تزداد المساحة الإضافية للمسجد الحرام حوالى 400 ألف متر مربع، ما يرفع القدرة الاستيعابية للمسجد الحرام إلى مليوني مصلٍ في غير أوقات الذروة· وقد تم تكييف جميع أدوار جسر الجمرات، وأصبح يتيح الرمي على خمسة مستويات للقادمين من مختلف الجهات، ووفر المشروع 11 مدخلاً للجمرات، و12 مدخلاً وفي الاتجاهات الأربع وتزويده بمهبط للمروحيات، فضلاً عن تزويد كل مرافق دخول الحجيج إلى المملكة بكاميرات حرارية لكشف الحالات المصابة بانفلونزا الخنازير· وفي تموز/يوليو2010، جرى تدشين ساعة مكة المكرمة الرباعية الاتجاه الألمانية الصنع بطرازها الإسلامي· فزخرفت بلفظ الجلالة من الجهات الأربع على وقف الملك عبد الله لتكون أعلى وأضخم ساعة في العالم بارتفاع حوالى 380 متراً، ويتكون الوقف من سبعة أبراج متلاصقة على مساحة 1.4 مليون متر مربع، ويشمل 6 آلاف وحدة سكنية تستوعب 21 ألف شخص في الليلة، باستثمارات تتجاوز 1.6 مليار دولار· وفي بعض المناسبات الإسلامية، كدخول الأشهر الهجرية والأعياد، تتم إضاءة 16 حزمة ضوئية عمودية خاصة تصل إلى ما يزيد عن 10 كيلومترات نحو السماء وتبلغ قوة كل حزمة ضوئية 10 كيلووات· ويُبث أذان المسجد الحرام مباشرة من أعلى ساعة مكة عبر مكبرات صوت خاصة، بحيث يمكن سماع الأذان من مسافة 7 كيلومترات تقريباً· وفي 8 آب / أغسطس 2011، دشن العاهل السعودي المرحلة الثانية من توسعة الحرم المكي الشريف، وتعتبر الأكبر في تاريخ الحرم· ومن المنتظر أن ترتفع القدرة الاستيعابية للحرم إلى 1.6 مليون شخص في وقت واحد· وسوف يستغرق تنفيذ المشروع حوالى ست سنوات، وسيتضمن تطوير الأحياء العشوائية، ويحل مشكلات الحركة المرورية والازدحام والمشاة والمشاعر المقدسة، ويؤمن وفرة في المياه والطاقة والتكييف· وسيتم كذلك، استكمال الطرق الدائرية التي بنيت سابقاً، وإنشاء مواقف متعددة عند تقاطع الطرق الدائرية مع الطرف الإشعاعية، بالإضافة إلى إنشاء خطوط حديدية جديدة وربطها بمسارات القطارات إلى المشاعر المقدسة· أما بالنسبة إلى المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، فجرت توسعته منذ عهد الملك عبد العزيز، فبلغت مساحته الإجمالية أكثر من 16 ألف متر مربع· ثم توالت أعمال التوسعة في عهد الملك فيصل، والملك خالد الذي أضاف مساحة 43 ألف متر مربع على شكل مظلات واقية· أما الملك فهد، فتم في عهده أكبر توسعة في تاريخ المسجد، التي استلزمت نزع ملكية نحو 100 ألف متر مربع، وضاعف مساحة المسجد خمسة أضعاف عما كانت عليه· وعند توليه الحكم، أمر الملك عبد الله بتركيب أكثر من 240 مظلة تغطي مساحة 143 ألف متر مربع من ساحات المسجد النبوي الشريف الأربع، وذلك لوقاية المصلين والزائرين من وهج الشمس ومخاطر الأمطار، ومن المنتظر أن تستمر سبع سنوات· أرقام تتحدث عن الانجازات هذا الجهد المركز المتراكم للأسرة السعودية لتوسيع المشاعر المقدسة وعمارتها، رفع عدد الحجيج من حوالى 90 ألف حاج في عام 1926 إلى 1.267 عام 2000، وإلى 2.4 مليون حاج في عام 2008، منهم 1.7 مليون من الحجاج أتوا من الخارج· وحتى عام 2002، بلغ إجمالي كلفة التوسعة 5.2 مليار دولار أميركي· وبلغت تكاليف توسعة الحرمين الشريفين حتى نهاية عهد الملك فهد ما يزيد عن 22.5 مليار دولار أمريكي، وشملت الترميم، والطرق والجسور، والأنفاق، وتمهيد الجبال، والإنارة والتشجير، وشبكات الطرق، ومجمعات المياه· وبلغت كلفتها حوالى 3 مليار دولار، من أجل أن يكون ضيوف الرحمن في <القلب والعقل>· أما كلفة التوسعة في عهد الملك عبد الله، فستصل كلفتها إلى أكثر من 80 مليار ريال سعودي· (مصادر البحث: جريدة اللواء / أرشيف جريدة اللواء) أستاذ في الجامعة اللبنانية·
جريدة اللواء 26 آب 2011