متألّمٌ هو! يتملّكه ألمُ الكنيسة حبًّا بكمالٍ ينشده لها، ولا يرى لبوادره فيها اقتراب. متألّمٌ هو! يغمره ألم الإنسان الذائب في مجتمع الكنيسة والعالم من دون اسمٍ ولا مكانة، لا دورَ له إلاّ الامتثال! متألّم هو، تحرقه الطقوس الواغلة في تقليديّتها، فلا من يوضح ولا من يسأل عن عدم فهم!
هي صورة كاهن يعاني انتماءَه إلى يسوع المسيح. ولم يكن الله “يسوعَ” إلاّ ليصير الإنسان على ملء قامته، فيبلغ كمال إنسانيّته! ونظر يسوع يعاني حبّه لبني البشر حتى الارتفاع، ألمًا أيضًا وخصوصًا، على الصليب. حتى إذا ارتفع، جذب إليه كلَّ أحد!
المونسنيور ميشال الحايك كاهنٌ من غير طراز العامّة! وُلد كاهنًا، لا بوضع اليد وحسْب، بل بسكب الحبّ دفقًا لنعمةٍ تجلّت فيض فكرٍ في هويّة شعبٍ انتمى إليه ابنًا لله وتكرّسًا للمسيح!
وعى الخوري ميشال كهنوته تجنّدًا للمسيح “المجرم” بحقّ الشريعة والنظام، الذي أطاح بالهيكل، مسكن الله حيث يقتبل الإكرام والعبادة! هو تجنّدٌ للمسيح الثائر على قوانين سُنّت باسم الله لإخضاع الإنسان لمن دون الله، ولما يُفرغ الإنسان من طبيعته البشريّة. “بحقّ صلب المسيح”، لأنّه “انتهكَ المحرّمات وجعل نفسه وهو ابن الإنسان، فوق الهيكل وفوق السبت وفوق الكتاب” (عظة في الجمعة العظيمة).
وحباه الله الكلمة، كلمتَه شاعريّةَ تعبير وتبشير! ومن فيض ثقافته نضح إناؤه إنشاداتٍ ألمعيّة! فأطلق تفتّقاتٍ إبداعيّة منطلقًا من ماديّة احتفاله الأسراريّ نحو أبديّة الملكوت الإنسانيّ في مساكن الله! وفي الشعر ارتقى بما دون إلى العلى. وكلّ ما هنا ملتصقٌ بفوق، وطالعٌ إليه! أنشده هذا الواقف على المذبح منذ صومعته، أبياتًا طقسيّةً رفعها صلاةً إفخارستيّة بالخبز والخمر، يستحيلان قربان حياة. خبزٌ منذ السنبلة تقيت العصفور وتسمو مائدةً تُذيق الملكوت، “ولا أحدَ يموت”. والخمرة معصور حبوبٍ أسراريّة ترتفع بالكرمة نحو كأسٍ تسقى المخلوق، كلّه، خلودَ الله!
هذه التقدمة الغارقة في القدُسيّة ما هي إلاّ تعبيرٌ إلهيّ مجيد عن الحبّ العلويّ السخيّ، المحتفى به في مشهديّةٍ قياميّة يومَ الأحد:
“يا قلبُ، إنّ الحبَّ يوم الأحد
تربّعت في شمسه الآلهة
آه كم غنّت بعينَيه
كروم الأبد والسنبل استدعى عصافيرَه!”
لم يستطع الشاعر ههنا التفلُّت من الرابط الأسراريّ الذي يعقد الإفخارستيّا بالكهنوت، فيحمله نعمةً مستدامة من قلب الله، تصبّ رحمةً في يده الكهنوتيّة، لتمرّ عبره شرابًا للعطاش إلى الحياة، فتروي رحيقًا لعدم الموت:
“يا نعمةً لا تنضبُ
من أبدٍ في أمدٍ تُسكبُ
صُبّ من الرحمة بين يديّا
ليشرب العطاشُ من راحتيّا
رحيقَ الملكوت
ولا أحدَ يموت!”
أمَا نقرأ هنا داخل التعابير، إرادةً للإله بالمرور إلى الإنسان عبر الإنسان؟! فالله الذي يُغدِق النعم، لا تعبرُ نِعمه إلاّ بمشاركة الإنسان خلاصَ الله! ألا يصل حبُّ الله لنا إلاّ في صورة الإنسان؟ وفي هذا الإطار تجسُّدُ الله؟
ولنا في قراءة إفخارستيّا الحايك عَودٌ إلى لوحةٍ أشمل وأكثر كونيّةً لسريّة ذبيحة الفداء، رفعها كاهنٌ تقدمةً بالشوق، لم يُعدمْه التجرّد من المادّة احتفالَه بالحبّ الإلهيّ الذي فدى العالم. يقول تيار دو شاردان في “قدّاس على العالم”: “سأسمو فوق الرموز إلى عظمة الواقع الخالصة، وأقدّم لكَ، أنا كاهنَكَ، على مذبح الكون الشامل، عملَ العالم وأتعابه… سأضع على صينيّتي يا إلهي، الحصاد المنتظر من هذا الجهد، وأصبّ في كأسي عصارة الثمار التي ستُسحق في هذا النهار”. ويُضيف في تقدمته: “إقبلْ يا ربُّ هذه القربانة الجامعة… أنا أعلم أنّ هذا الخبز، جهدَنا… وهذا الخمر، ألمَنا…”
في الذبيحتين حقيقة يسوع الواحدة. الإله الخالق في أبعاد عطاياه الزمنيّة التي تسمو بالإنسان، الكاهن والمؤمن على يده، إلى المراتب العلويّة، حيثُ الوحدةُ مع الله محقَّقة. وفي الذبيحتين تحقُّق ألوهيّة الأنسان، المنعتق بألمه وانحلاله، منذ صليبه الخاصّ، في قلب الكنيسة التي يحثّها ميشال الحايك على عيش دعوتها النبويّة: “رسالة الكنيسة أن تكون هناك حاضرة على أقدام كلّ صليب من أيّ نوعٍ كان. أمًّا حنونًا مثل مريم الواقفة لدى وحيدها، الإنسان العاري في أيّ زمانٍ ومكان، حيثما توجد ضرورة لدفع ضريبة الخلاص…”
ولا يسعني في ختام هذه القراءة التأمّليّة، وبالرغم من إيمان الكاهنين العارم، الذي يملأ تفكّراتهما في ما عرضنا له أعلاه، إلاّ أن أشهد لإبداعيّة معتقدهما الإفخارستيّ الذي يتخطّى المفهوم التقليديّ لتفسيريّة لاهوته!
وما فات المونسنيور الحايك من نفَسٍ شعريّ، أزاح عالم ههنا لتطال أبعادُ الحقيقة اللاهوتيّة أنشودةً تتراقص عبادةً تناجي حبَّ الله مدى الأبد!
في 20 تشرين الثاني 2013
عماد يونس فغالي