نعتمد في تفسيرنا هذا على ثلاثة مصادر جديدة: منظومة الفردوس للقديس أفرام السرياني، والترجمة العربية لمكاريوس- سمعان المنحول (الجيل الرابع م)، التي نرجح ترجمتها أواخر الجيل السادس ميلادي كأقصى حد، والإنجيل؛ بالإضاقة إلى القواميس العربية والمفسرين المسلمين.
سنشرح في دراستنا هذه ثلاث نقاط حول جنة القرآن الكريم، وهي قاصرات الطرف والأبكار، حور العين، والفرش والسرر، وأعطيناها، بعون الله، سبحانه وتعالى، تفسيرا مغايرا عن تفسير المسلمين التقليدي فلننظر:
أوّلا: قاصرات الطرف
“قاصرات الطرف”، في هذه المجموعات الثلاث من الآيات القرآنية، توضح الشبه بينها وبين جنّة القديس أفرام في كتابه: منظومة الفردوس.
1- المجموعة الأولى: “جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ“[1]
وهذا ما يقابلها عند القديس أفرام: “إنّ الباب قد فتح فيا طوبى لمن يقدم”[2] “خذ مفتاح الفردوس لأن الباب لمبـادر إليك يتألق ويضحك لك“[3]
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ“[4]
وهذا ما يقابلها عند القديس أفرام: “فالثمار من كل طعم في مطال اليد”[5] “فالـأبرار … وجدوا في الفردوس مائدة الملكوت مبسوطة أمامهم”[6] “ونسمات يأتين بنفحات تؤكل وأخرى بنفحات تشرب“[7]
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ = عُرُبًا[8] (الواقعة 37) الطَّرْفِ= أبكارا (الواقعة 36) أَتْرَابٌ“[9]
يجمع الشراح المسلمون وإمامهم الطبري على أنّ: قاصِراتُ الطَّرْفِ، تعنـي: “نساء قصرت أطرافهنّ علـى أزواجهنّ، فلا يردن غيرهم، ولا يـمددن أعينهن إلـى سواهم. أتْرَابٌ: سن واحدة. مستويات. متواخيات لا يتبـاغضن، ولا يتعادين، ولا يتغايرن، ولا يتـحاسدن“[10].
لكن انسجاما مع الآيات السابقة: الجنة تفتح أبوابها وتقدم الفاكهة للأبرار، فمن أين دخل النساء إلى هنا؟ لذلك استنادا إلى معنى جديد لكلمة: الطرف في مكاريوس- سمعان، وانسجاما مع المعنى السابق في وصف الجنة، نعطي تفسيرا جديدا لهذه الآية الكريمة.
الطرف= الثمر البكر، حسب اليوناني. الأَطْرافَ[11]؛ أي: الخَيارَ من الأَوائلَ والبُكُورِ[12].
وهذه آية أخرى مع ما يقابلها من منظومة الفردوس ترجّح أن الابكار هي الأثمار وليست الحوريات:
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا= الطرف[13] عُرُبًا أَتْرَابًا (الواقعة 36- 37)
مشهد جديد للنظر: فالأثمار تقطف الفاكهة والأبكارُ البواكيرَ فتلاقى على النقاوة المقطوفون والقاطفون[14]
أتراب= جمع تريب، أي رفيق ورفقة. والواقعة 37.
وفي منظمة الفردوس عند القديس أفرام، نرى تشخيص لأشجار الجنة، فهي رفيقة الإنسان تتبعه وتخدمه وتطعمه وتريحه على أسرتها:
اليد التي امتدّت تُمِد المعوزين إليها تتعطّفأثمار الفردوس والرجل التي عادت المرضى تهرع الأزاهير تكلل عقبيها، فيتزاحمن أيهن تسبقفتلثم مواطئها![15]
من صام عن الخمر زاهدا هفت إليه دوالي الفردوس واحدة فواحدة تنيله عنقودها. وإن زاد فكان بتولا جعلته في حضنها الطاهر لأنه، من أجل الوحيد لم يرتم في حضن ولا في مضجع زواج.[16]
تقوتهن في عدن الأشجار لأنهن قتن المعوزين[17]
ومما يؤكد تفسيرنا لقَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هو القرآن نفسه حين يصف الجنة بأن: “قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ”[18]. أي يتناول الرجل من فاكهتها وهو نائم[19]. وأيضا: “ذللت قطوفها تذليلا”[20] أي “ينالها القائم والقاعد والمضطجع“[21]
إذا نرجح أن القرآن الكريم يتكلم عن الأشجار في الجنة لا النساء، فالشجرات هنّ القاصرات أي حانيات ومدليات أغصانهن، وعارضات ثمارهن، على الإنسان البار، وأصبحن أخلاء له يتبعنه، وهذا ما يؤكده القرآن: أتراب.
ونضيف أمثلة أخرى:
2- المجموعة الثانية: “وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ[22] (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ”[23]. هنا يركز على العنب، ويصف العنب الأبيض كأنه بيض مكنون لكبر حجمه عن حجم حبة العنب العادية.
3- الآية الثالثة: “فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ“[24
وهنا يريد أن ثمار الأشجار البكر لم يطمثها- أي لم يدنسها أو ينجسها[25] – إنسان ولا شيطان. لأن هناك عادات، ولا تزال إلى اليوم، في الإسلام، أن الإنسان الغير الطاهر، إذا مس مأكولا أو مشروبا ما ينجسه، ولا يصح أكله أو شربه بعد ذلك، إنما هنا كل الأثمار بكر وطاهرة وحلال أكلها.
ثانيا: حور عين
توضيحا لمعنى هاتين الكلمتين سنفصِّل كل كلمة بمفردها مع قراءاتها المختلفة من خلال قراءات القرآن الكريم المختلفة. ونشير أن الفاصلة بين الكلمات أو الجمل تفصل المصادر عن بعضها البعض.
وَزَوَّجۡنَٰهُم، وَزَوَّجْنَاهُمْ، وَأمْدَدْنَاهُمْ(الدخان 55)؛ بِحُورٍ، بِعِيسٍ(الدخان 55)؛ وَحُورٌ عِينٌ، وَحُورٍ عينٍ، وَحُيرٍ عينٍ، وَحُوراً عيناً، وَحُورُ عينٍ، وَحُورَ عينٍ، وَحُوراءَ عيناءَ (الواقعة 22)
إذا بهذه القراءات نرى مرادفا لكلمة زوجناكم كلمة أمددناكم؛ ومرادفا لكلمة حور، حير وعيس؛ ولكلمة عين نجد عيناءَ. لنبدأ بكلمة حور.
إن اختلاف القراءات في القرآن الكريم بين العين والحاء وارد، وحسب رأينا يعود إلى أصول كرشونية للحرف العربي، التي لا مجال للدخول فيها الآن:
بِحُورٍ، بِعِيسٍ(الدخان 55)؛ نَعَمْ، نَعِمْ، نَحَم (ص 44 والشعراء 42)؛بُعْثِرَ، بُحْثِرَ، بُحِثَ، بَحْثَرَ، بَعْثَرَ (العاديات 9)؛ نِعۡمَةٞ، رَحْمَةٌ (القلم 49) ربما أيضا النقل سهل من النون والراء قبل التنقيط لان بعض الخطوط العربية كمخطوط فاتيكان 84 يرسم الراء صغيرة ويمكن دمجها بالنون. وأيضا ممكن الدمج بالكتابة بين السين والراء وخاصة أن بعض الكتابات يدورون الراء لتشبه السين. وهذا مثل من القرآن الكريم: الزُّورَ، الزُّونَ (الفرقان 72)
إن اختلاف القراءات في القرآن الكريم بين بين اللام والعين وارد في مخطوطات مكاريوس/ سمعان المنحول:
المولود يصبح: الموعود[26]… ولين القلب، أي الوداعة، والتي تعاكس قساوة القلب، تصبح عين قلب[27]
وانطلاقا من القراءات في مكاريوس /سمعان، نطبق هذه الطريقة على كلمة “عين” التي تمكن قراءتها لين ولَيِّن. وممكن أيضا ان نقرأ عين: عنب. وخاصة هناك شبه كبير بين الباء والنون في الخط الكوفي الخالي من التنقيط.
ولنشرح كلمتي حور وعيس عربيا لنستنتج تفسير الآية الكريمة بمعنى جديد:
“حور” و”عيس“
1- حور: جمع حوراء، أي البيضاء، والأَعْرابُ تسمي نساء الأَمصار حَوَارِيَّاتٍلبياضهن والحَوارِيُّ: البَيَّاضُ، حواريين لأَنهم كانوا يغسلون الثياب أَي يُحَوِّرُونَها، وهو التبييض؛ ومنه قولهم: امرأَة حَوارِيَّةٌ إِذا كانت بيضاء. والحَوَرُ خشبة يقال لها البَيْضاءُ.والحُوَّارَى: الدقيق الأَبيض، ما حُوِّرَ من الطعام أَي بُيّضَ.والأَحْوَرِيُّ الأَبيض الناعم من أَهل القرى؛ والحَوْرُ: البَقَرُ لبياضها؛ والحَوَرُ: الجلودُ البِيضُ (لسان العرب) واحْوَرَّ احْوِراراً: ابْيَضَّ، (القاموس المحيط) وتَحْويرُ الثياب: تبيضها.(الصحاح في اللغة)
2- عيس: هذه القراءة حسب ابن مسعود، وهو من جمّاع القرآن الكريم وله نسخته التي استمرت حتى العام 348 هـ، العِيَس: بياض يُخالِطُه شيء من شُقْرة، ورجُل أَعْيسَ الشَّعَر: أَبيضه.ورَسْم أَعْيَس: أَبيض.(لسان العرب) العرب خَصّت بالعَيَسِ الإِبلَ البيضَ (مقاييس اللغة) يخالط بياضها شيء من الشقرة، (الصحاح في اللغة)
إذا نستنتج أن كلمة “حور”، وبديلتها “عيس”، تعنيان البياض، لكن عيس تعني بياضا يميل إلى الشقرة. وهذا ما يرجح بياض العنب المائل إلى الشقرة عند نضوجه، فهو “كلؤلؤ مكنون”، كون اللؤلؤ مشهور بشكله أي حبّات صغيرة كحبات العنب. وهذا بالاضافة أن كلمة عيس تمكن قراءتها: عنب. فالدمج بين السين والباء وارد في المخطوطات.
3- “عين”وهذا تفسير الطبري: جمع عيناء، وهي العظيمة العينين من النساء.
لكن حسب دراستنا الفيلولوجية نستنتج أنّ معنى الكلمتين: “حور عين” = أبيض عنب، أو (عنب) أبيض ليِّن “عيس عين” = عنب ليِّن والنتيجة المرجحة: عنبا أبيضا ليِّنا أي طريًّا، حديث القطاف، وليس زبيبا ناشفا…
وبالتالي نقرأ الآية: وروحناكم –بتغييرنا التنقيط- أي بردنا غليلكم، وما يؤكد هذا المعنى القراءة الأخرى: وأمددناكم – مما ينفي معنى الزواج- ونكمل: روَّحناكم أو روحنَّاكم، أي برَّدنا غليلكم بعنب أبيض طري.
وهذه مقابلة بين القرآن الكريم ومنظومة الفردوس ترجّح تفسيرنا:
حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ (مدلَّيات، حانيات) فِي ٱلْخِيَامِ (الرحمن 72)
9/5 يولمون في الأشجار خلال الهواء الطلق؛ تحتهم الأزاهير وفوقهم الأثمار: فسماؤهم ثمر وأرضهم زهر من سمع قط أو رأى غمامة فوق الرؤوس، مظلة من ثمر وبساطا تحت الأقدام منبسطا من زهر
ثالثا: فرُش وسُرُر
في المقارنة بين آيات القرآن الكريم ومنظومة الفردوس نفهم أنّ الفرش والسرر هي فرش أعدّتها الأشجار لتكرِّم الأبرار وتريحهم:
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)
فِي فَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (الواقعة 35)
مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ (الطور 20)
ثُمَّ يَقولُ الملِكُ لِلَّذينَ عن يَمينِه. (متى 25/34)
9/3 إن شئت أن تترقى الشجرة، تحدّبت أغصانها درجا أمام قدميك تغريك بالاتكاء إلى صدرها مضطجع أغصانها ذات الظهر المتين الخفيض الحافل المتموج بالأزاهير، للمستغرق فيه كما يكون للطفل الحضن والسرير.
رِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم (متى 25/34)
7/16 إن الاشجار، بدلا من الملوك، يعظمن الصائمين خاشعات داعيات لهم بجمالهنّ، أن يعرجوا إلى منازلهن ويحلوا في مظالهنّ، يستحمون في أندائهنّ ويلذون أثمارهن.
إذا، على الأرجح، إن قاصرات الطرف، والحور العين، والسرر المصفوفة والفرش المرفوعة، والأبكار، ما هي إلا ثمار وأشجار منظومة فردوس القديس أفرام السرياني.
[1] ص 50
[2] منظومة الفردوس، 13 / 13
[3] منظومة الفردوس، 2 / 2
[4] ص 51
[5] منظومة الفردوس، 9 / 4
[6] منظومة الفردوس، 2 / 5؛ 7 / 24؛ 7 / 26؛ 11 / 15.
[7] منظومة الفردوس، 9 / 6
[8]منحنيات الى ازواجهن. (معجم الفاظ القرآن)
[9] ص 52
[10]الطبري انترنيت
[11]الرسالة الكبرى 84، 7/11.
[12]الرسالة الكبرى 80، 7/11، وهذا ما ينسجم مع المعنى اليوناني: بكر الثمر.
[13] ص 52
[14] منظومة الفردوس، 7/9
[15] منظومة الفردوس، 7/17
[16] منظومة الفردوس، 7 / 18
[17] منظومة الفردوس، 7/20
[18]الحاقة 23
[19]الطبري انترنيت
[20]الإنسان 14
[21] أنظر تفسير الجلالين لهذه الآية.
[22]ممكن: عنب لقرب النون من الباء في الخط الكوفي القديم، ولكن هذا قد يغير السجع، وممكن أيضا: ذاته او نفسه للتأكيد
[23]الصافات 48 -49
[24]الرحمن 56
[25]حسب مكاريوس المنحول، فتيكان عربي 84، العظة الكبرى، 4/2
[26] العظة الكبرى 84، 2/5.
[27] العظة الكبرى 80، 6/8، 9/10، 11/1. وهذا مثل من الاحاديث النبوية: قال عيسى بن مريم: سلوني، فإن قلبي ليّن وأني صغير في نفسي. (محاكاة لمتى 11/29) (أحمد بن حنبل ت 241/855) (الانجيل برواية المسلمين، ص97).