الخوري فرنسيس صليبا، بهاءُ كاهن!

 

عرفتُه في أواخر سبعينات القرن الماضي، يؤمّن الخدمة الطقسيّة للأخوة المريميّين في جبيل، ثمّ التقيتُه في رعيّة مار يعقوب يحلّ مكان كاهنها الغائب بداعي السفر. وفي تلك المدّة كان الخوري فرنسيس خادمًا لرعيّة حصارات من أعمال جبيل.

 

عايش الخوري فرنسيس صليبا القرن العشرين على امتداده. وُلد في عائلةٍ كهنوتيّة وربيَ في الكنيسة التي طغت على كيانه قبل البيت! ابنُ كاهنٍ عميدِ عائلتِه صليبا، بطريركُ سلالتها الجبيليّة. الخوري يوسف صليبا، عرفه أبناء العائلة أبًا لهم ومرجعًا! بيتُه في سبرين لم يكن يومًا للخوريّة والأولاد بقدر ما كان بيتًا للخدمة والمحبّة! وما نقص في الوالد الكاهن، كمُل في كهنوت الابن!

مالت نفس الفتى منذ اليفاع إلى التكرُّس في عطاءٍ كامل عاملاً في الحقول الربيّة حيث الكنيسة مقصدُه ومرتعُ مُناه. وفي العائلة راهبٌ كاهن أيضًا تيمّنَ باسمه: الأب فرنسيس صليبا، الراهب اللبنانيّ المارونيّ.

وهبَ ذاته حيث الكنيسةُ حصادٌ كثير، صلاةٌ مستمرّة أنْ أرسِلْ ربِّ فعلةً لحصادك! وها هو فرنسيس يلبّي دعوةَ إرسالٍ حطّ صداها في قلبه. أرضٌ طيّبة صقلتها خصالٌ تربويّة على مبائ “الدين الصحيح”، نمت فيها بذورٌ علويّة، فانحنت ملؤها تسليم الذات والحياة، هاتفة: تكلّم يا ربّ، إنّ فرنسيس يسمع. إن قلتَ هلمّ، فهاءَنذا!

انخرط فرنسيس في السلك الإكليريكيّ ، نشوانَ يتبع الصوتَ ينادي: أريدكَ! يمنّنُ النفس بالوصول. والوصول في حقل الربّ انطلاق!

أطلقه المطران عبدالله الخوري بوضع اليد كاهنًا، نبيًّا لله ينقل كلمته بأمانة المعلّم الصالح. تجلّى مُرسلَ الكلمة مدّةَ حياته على منابرَ مختلفة. فتراه ملبّيًا إرادة الله متبلّغَها من الرؤساء، أستاذًا للغة العربيّة في مدرسة الطائفة المارونيّة في حيفا من أعمال فلسطين. وفي هذا يقول متوجِّهًا إلى صديقه المونسنيور الياس الحايك الحصاراتيّ، رفيق الدرب إلى الكهنوت: “إنّ فضلكَ عليّ كبير، وأنتَ مهّدتَ لي السبيل للذهاب إلى فلسطين…”. وبعد عودته إلى الوطن، تَكلّفَ التنشئة الإكليريكيّة “مديرًا أعلى على التلاميذ الإكليريكيّين في مدرسة عين ورقة البطريركيّة”. جيلٌ كامل من الكهنة الموارنة تربّى عليه، بلغ بعضه كمال الكهنوت في الكرامة الأسقفيّة. ولا ننسى قضاءَه سحابةَ ثلاثين عامًا، معلِّمًا ومديرَ دروس في مدرسة أخوة المدارس المسيحيّة، فرن الشبّاك.

وعاش دعوته الكهنوتيّة خادمَ الخلاص. وهذا في مفهومه القائل في رياضةٍ للكهنة: “غاية الكاهن في هذه الدنيا، أن يخلّص الأنفس…السعي في خلاص النفوس هو عمل الكاهن الذي كلّفه به المسيح…”.

حملَ لأبناءَ وُكلوا إليه، أسراريّةَ الخدمة الإلهيّة، ناقلاً إليهم الطعام في حينه. منذ المذبح يُقيت أبناءَه طعام الملكوت قربانًا لعدم الموت، يرافقهم من المهد في المعموديّة، أولادًا لحياة الله، يسير معهم في نموّهم الروحيّ مزوِّدًا إيّاهم تباعًا من فيض أسرار الكنيسة نِعَمًا سماويّة، ليلقاهم بعد استيداعهم قلبَ الله، شفعاءَ للجماعة الباقية ههنا.

ودبّر النفوس منذ تعيّن في مطلع كهنوته واعظًا رياضات روحيّة في المدن والقرى الجبيليّة، إلى خدمة رعيّة حصارات من أعمال جبيل، فترة أربعة عشر سنة متواصلة في انحدار العمر، ما جعل ابنَ أخيه يقول فيه أمام أهل رعيّته: “بين الخوري فرنسيس وحصارات… حكاية حبٍّ عتيقة. فعلى أرضها تلاقى بأناسٍ أحبّهم وأحبّوه، عشق صغارهم وآخى كبارهم، وشاركَهم أفراح الحياة وأتراحها…”

تلفتُكَ في الخوري فرنسيس ملَكةُ الوعظ، ولا عجب! فهو تمرّسَ واعظًا لِما دُعي إليه خدمةً كهنوتيّة انتدبته إليها السلطة منذ البدايات. ولم ينفكَّ يكتب عظاته مدَّةَ كهنوته كلِّها! ما يدلّ على اعتنائه المتواصل والدقيق بنقل الكلمة. كلمة الله هي، وليس الكاهن في نظره إلاّ صوتًا يعلنها. يهيّئها إكرامًا لمن هو الكلمة، واحترامًا لمن سيبلغها إليه!

وقد آثرَ التركيز في عظاته المكتوبة على أدبيّات السلوك المسيحيّ، مستقيًا إيّاها من ينابيعها الحقّة، عنيتُ الكتاب المقدّس، وناهلاً إيّاها من تعليم الكنيسة عقائدَ سامية. فراح يدعو إلى عيش الفضيلة كنزًا إنسانيًّا يقود إلى الله ويهدي الملكوت، مدركًا أنّ الرصيد الذي يجمعه المرء، إنّما أعماله مبرّاتٍ ومحبّة! في عظةٍ له يوم رأس السنة 1981 قال الخوري فرنسيس: “لنفحص ضميرَنا أمام السيّد المسيح كيف قضينا السنة الماضية؟ هل أحببنا الله والقريب؟ هل أتينا أعمالاً صالحة؟ وأنتم أيّها البنون والبنون، هل أكرمتم والديكم وأطعتموهم…؟ وأنت أيّها الأباء والأمّهات، هل بذلتم قصارى جهدكم في تربية أولادكم تربيةً حسنة؟…”

مرّ الخوري فرنسيس ابنَ بيئةٍ أحبّت الوطن الذي انتمت إليه، لِما يجمع بين أبنائه تواصلاً بشريًّا واجتماعيًّا على ملء قامة الإنسان، شريكًا في الطبيعة البشريّة. فكان من موقعه الكنسيّ داعيةَ سلام بين الناس، وشركة

في المواطنيّة، تمسُّكًا بالأرض وحفاظًا على أخوته البشر.

وقارب رجال السلطة في الدولة اللبنانيّة، حسْبُه خدمة مواطنيه وحفظ كرامتهم. وكان يُدرك أنّ العلّة تكمن، لا

في النصوص، بل في القائمين على تفسيرها، فيؤوّلون النصّ كما يخدم قيامَ مصالحهم. وكان منه رفضٌ لأنّ في مفهومه، القانون في خدمة الإنسان وليس العكس. فكلّ ما هو غيرُ إنسانيّ، وإن قانون، باطل!

الخوري فرنسيس صورة رجل الله الذي كرّس عمره ثمانين حولاً، خدمةَ كنيسة، امتداد خلاصٍ يؤتي الحياة. هو صورة خادم الكنيسة، واضعًا إرادته وقدراته طاعةَ حاجتِها. وهو صورة المواطن الذي ربيَ على حبِّ لبنان جُبِلت بعرق أبنائه ودمائهم!

وهو في كلّ هذا أيقونة، ألوانها بهاءُ كاهن، دأبُه في ما هو لله، وهمُّه إعلاء الإنسان في تميّز كرامته، يطال في ذروة قيمته، مجدَ الله الذي أعدَّه له قبل إنشاء العالم!

في 24 كانون الثاني 2014

                                                                              عماد يونس فغالي  

شاهد أيضاً

جدليّةٌ… إشراقاتُ خلود!

  دفعتَ إليّ بمخطوطٍ عنونتَه: “جدليّةُ الحضور والغياب”، فأشعرْتَني أنّكَ تضع بين يديّ سِفْرًا غاليًا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *