جومانة عسيران
إلى الأخ لويس صليبا
سأكتب لك بالدمع لا بالحبر تماماً كما أنت أجبرتني أن اقرأ كتابك والدمع يرافقني في كل صفحة وفي كل جملة.
دمعة على هذا الإنسان الذي عاش عذابات المسيح ليفرح أخاه الإنسان. دمعة فرح على إنجازاته الإنسانية الجليلة. ودمعة حزن وأسى على ما عاشه من قلق وبحث وعناء حتى وصل إلى السكينة. وهيهات منّا السكينة.
لقد استطعت يا أخي لويس أن تلقي الضوء على حياته بتفاصيلها المتشعبة بأسلوبٍ راقٍ، لا يعرف فيه القارئ لا مللاً ولا كللا. إنما يتعطش ليقرأ المزيد كلما انتهى من قراءة فقرة أو معلومة.
أنك مؤرخ دقيق وعميق تشبع القارئ بالتفاصيل التي لا مجال للبس فيها، وتفتح أمامه أبواب المعرفة والثقافة بإضافاتك وتفسيراتك في أسفل كل صفحة، فيخال نفسه غارقاً في علوم الجغرافيا والتاريخ وعلم الإجتماع، دون أن تثنيه عن الموضوع الأساس “وهو عفيف عسيران” أجل بكيت وبكيت كثيراً وأنا أقرأ كتابك.
هل بكيت لأني تذكرت الأيام الخالية والأحبة الذين فقدتهم واحداً تلو الآخر؟ أم بكيت “وأظنها هنا كانت دمعة الفرح” لأنك أضأت لي الكثير من الزوايا التي كنت أجهلها عن هذا الرجل خاصة قبل العام 1965. وهذه الزوايا هي التي بلورت شخصيته فيما بعد. في هذه السنين كان الكفاح والتوق إلى المعرفة والنور الإلهي والتخبط في الآراء والفكر.
أم بكيت من أجل هذا الحبيب الذي مشى في العراء، حافي القدمين، شبه عاري الجسد، جائعاً، متعباً، ليكسو ويطعم ويسعد الآخرين؟
الأخ العزيز الدكتور لويس،
لقد طلبت مني مشكوراً مناقشة هذا الكتاب. وأنا بكل محبة وعفوية وبساطة سألبي هذا الطلب الذي أعتز به. سأحاول وبكل موضوعية أن أدلي برأيي المتواضع في بعض الأمور التي طرحتها.
فأنا لست هنا بمعرض الدفاع عن الأديان إنما لتصويب بعض الأمور التي نتوخى منها بلوغ الحقيقة المطلقة، والتلاقي بين جميع الأديان.
أولاً: إذا انطلقنا من مقولة L’enfant c’est l’homme
وكم أن أثر الطفولة جوهري في تكوين شخصية الشاب فيما بعد وتركيبته النفسية، فسندرك الكثير الكثير عن ميول العفيف الإنسانية.
فقد ورد في بداية الكتاب عن سيرة حياة عفيف عسيران في طفولته معلومات معاكسة للواقع. لست أدري أهي عن قصد أم عن عدم توافر هذه المعلومات عند الكاتب بالشكل الصحيح. ثم يستطرد الكاتب فيما بعد فيقول نقلاً عن عفيف عسيران أنه نفى أن تكون قصة حبه قد أثرت في خياره المستقبلي.
وهنا يكون كاتبنا قد نفى كلياً تأثير اللاوعي على الإنسان وكيف أنه يسيرنا في كثير من خياراتنا الحياتية دون أن نعي ذلك (وإلا لما سمي باللاوعي).
وأنا برأيي الشخصي أنه كان لهذه القصة القسط الوفير في خياراته المستقبلية. وأترك تحليل هذه الأمور لعلماء النفس. كما أترك لهؤلاء العلماء تفسيراتهم المعمقة للرؤى والقوة الخارقة التي روى عنها العفيف.
أما اسمه “عفيف” فقد ورد أنه من اختار له الاسم وكأنه عرف بحدسه أنه سيكون العفيف المثالي.
وأنا أقول ربما هو قد شاء أن يكون اسم على مسمّى.
إن هذه التنويهات كلها لا تنقص من قيم العفيف أبداً. فإذا كان اللاوعي ينجب القديسين فأهلا وسهلاً به في كل نفس بشرية.
الأخ العزيز دكتور لويس،
أنا لست متعمقة في دراسة الأديان ولا في علم النفس. أنا طبيبة نسائية ولي مطالعاتي المختلفة في السياسة والدين وعلم الإجتماع وغيرها، كغيري من المتعلمين في هذا البلد.
لذا أسمح لي أن اقول لك بعض وجهات النظر التي طلبت أن تسمعها وبكل مودة. لقد استفاض الكاتب والعفيف في حب المسيح حتى تراءى لهما أن أبا عفيف قد اتبع دين المسيح ومات عليه وهذا لعمري من فرط الحب والمودة.
إن عفيف عسيران وبعد قراءتي المستفيضة لكتابك ومعرفتي الشخصية به، هو فعلاً قديس بالمعيار المسيحي للكلمة. عاش حياة إنكار الذات والعطاء والمحبة في كل ركن وفي كل زمن. عاش متصوّفاً زاهداً، متأملاً والأهم فاعلاً ومتفاعلاً مع كل من حوله.
إن عفيف عسيران عاش المحبة ولم يتبجح بها، عمل الصالحات فكان عمله عظة للآخرين، آمن بالمسيح ولم يشهر صليبه وثوب الكهنوت. وأظنه لو كان حياً بيننا لكان اختار لهذا الكتاب عنواناً آخراً، ألا وهو عبد فقير يلبس ثوب كهنوت المسيح، لأنه وحسب تحليلي لشخصيته كان يخشى أن يضيع الجوهر تحت القشور، فما كان ليثير غضب المسلمين بردّته (أي أن المسلمين اعتبروه مرتداً باعتناقه للمسيحية).
ولكنه ذهب إليهم بثوب العبد وسلوك الفقير لعلمه أنه من اتضع ارتفع ومن ارتفع اتضع.
وأظن أن الكنيسة كانت ستستفيد من عفيف العبد الفقير أكثر من عفيف المسلم الذي تنصرن، لما لهذا الموضوع من حساسية خاصة في هذا الشرق المسلم وفي هذه الظروف التي تعيشها المنطقة اليوم، حيث النعرات الطائفية المتأججة والنزعات التكفيرية المرعبة. ولدخل العفيف قلوب المسلمين بسلام أكبر وسكينة أعمق.