كتابٌ رائحته الله

مشهدٌ بيبليّ يصفه لنا الكاتب الملهم، مفاده أنّ السيّد الربّ عندما أرسل نبيّه صموئيل إلى بيت يسّى ليختار ملكًا على إسرائيل من بين أبنائه، قال له: “الإنسان ينظر إلى المظهر، أمّا الربّ فينظر إلى القلب” (1صم16: 7).

 

هذه هي الأيقونة التي يرسمها لنا كتاب “مسلم يلبس كهنوت المسيح” بريشةٍ توقيعها: الأب عفيف عسيران. فلمن يتبع الله ألاّ يسلك طرقَ البشر. لأنّ منطقَ الله غير منطقهم. هذا بالفعل ما أظهره الدكتور لويس صليبا في مؤلّفه.

انطلق د. لويس صليبا بعفيف عسيران من بداياته في مسيرةٍ ظاهرها وإن عاديّ، إلاّ أنّها مثقلة بإشكاليّة الله! وهو إذا انتمى إلى الإسلام دينًا وعقيدةً، وإن مارس طقوسيّة العبادة على دين الأجداد، بقيت قضيّة الله تتشكّل معضلةً أدّت إلى ظاهر إلحاد. وهذا بدوره لم يفِ!

تنقّل المؤلّف بمترجمه من مرحلةٍ إلى مرحلة، بتفصيليّةٍ قلّما نشهدها في مَن تُكتب سيَرُهم، حتى في السيَر الذاتيّة. عفيف عسيران منذ الطفولة والدراسة الأولى. عفيف الشابّ الناشط في السياسة والدين ومنها إلى التعمّق في الدراسة الفلسفيّة، يروح المؤلّف يشرح واصفًا إيّاه بدقّة لا تفوتها شاردة، فتُغني القارئ عن أيّ تساؤل أو سدّ فراغ قد يُلهي بتحليلٍ أو اجتهاد!

عاملان كبيران أسّسا لهذه السيرة المميَّزة. الشهادات الحيّة التي اعتمدها كاتب السيرة من الذين عايشوا عفيف، سردوا فيها أخبارًا واقعيّة أظهرت شخصيّته بوضوحٍ فائق. وكم هم كثيرون. وكم متنوِّعة إفاداتهم، وفيها من الوقائع التي ترسم الصورة المتكاملة للأحداث والتطوّر الطبيعيّ لشخصيّة صاحب السيرة.

وهاجس التأريخ عند لويس صليبا بالغ الأهميّة. فبالنسبة إليه، البحث عن التاريخ الحقيقيّ لمجرى الأحداث يعطي السيرة التي يدوّنها المصداقيّة التي يرجوها! وكم فتّش في المستندات التي بين يديه، وقارن بين الشهادات. كم حلّل الأحداث وطابق بين التواريخ المتوافرة وأعمل المنطق والعقل. ناهيك عن الملامة التي ألقاها على مدوّني سيرة المترجم وإفاداتهم، حتى وصل به الأمر إلى التحسّر على عدم اهتمام عفيف نفسه بدقّة التاريخ في أحداث حياته المفصليّة!

أمّا تنصّر عفيف وكهنوته، عمَد د. صليبا إلى إدراجهما في مؤلّفه، كعمودين أساسيَّين للسيرة العفيفيّة. ولكن، لم يُعطِهما القيمة الحقيقيّة إلاّ من خلال رسالة مزدوجة: خدمة الفقير – وخصوصًا الأطفال والشبيبة – و”كنيسة الإسلام”. تركّزت في الكتاب الرسالة المسيحيّة والخدمة الكهنوتيّة عند الخوري عفيف في المحيط الإسلاميّ، رغم كلّ رفضٍ واضطهاد لقيه جرّاءَ اعتباره مرتدًّا. لكنّ هذا لم يُثنه عن المضيّ في رسالته، ومفهوم كلّ هذا شعارُ “محبّة الأعداء”. هكذا، يقول، تعرّف إلى يسوع المسيح، وهذه قيمة المسيحيّة وما دفعه إليها! هنا وجد عفيف عسيران الله الذي بحث عنه في ما قبل، وبهذه الصفة عرفه!

من ناحيةٍ ثانية، تفاعل المؤلِّف بقوّة مع السيرة التي يكتبها، على الرغم من الموضوعيّة التي اعتمدها في سرده. فينحى بشخصيّة مترجِمه إلى بطولة الفضائل المتأتّية من ديانته الأصل، والمعاشة في مسيحيّته وكهنوته. من هنا كان ربّما عنوان الكتاب: “مسلم يلبس كهنوت المسيح”. ففي العنوان طرحُ معضلة: كيف يرتسم المسلم كاهنًا مسيحيًّا؟ والجواب بديهيّ: إنّ المرء متى تعمّد يلبس المسيح، على ما قال بولس الرسول: “وأنتم متى اعتمدتم بالمسيح، المسيح لبستم” (غل3: 27). وعفيف الذي لبس المسيح بالمعمودّية، لبسه عائشًا قيمًا إنسانيّة وجدها فيه دون سواه. عاشها جانحًا فيها حدَّ البطولة، مغيِّرًا المنطق الطبيعيَّ فيه إلى منطق السيّد، وإن عاكَسَ سيرَ الناس. لبس بطبيعيّة فائقة كهنوت المسيح، سرًّا يؤدّي من خلاله بصورةٍ مميَّزة، خدمةَ الإنسان وكمال محبّته!

تفاعلَ المؤلّف قلنا مع سيرة عفيف عسيران ليظهرَ هذا الأخير من خلال السرد والشهادات، رجل فضيلة، تروح شخصيّته حدَّ القداسة! وإذا عدنا إلى منطق الله المغاير الذي يناقض أحيانًا كثيرة منطق الناس، وجدنا عفيفًا منحازًا للمنطق الأوّل، بل متعصِّبًا له. وقلْ أكثر! بدا عفيف الكاهن أكثرَ كهنوتًا من أخوته الكهنة. بل واجه أسقفه بروحه المسيحيّة الصافية ودعوته الكهنوتيّة الكاملة، بتفوّقٍ في عيشها وممارستها.

أظهر لنا الدكتور لويس صليبا عفيفَ عسيران أيقونةَ رجل الله الممتاز. أيقونةً ألوانها الفضائل الإلهيّة، تعبق بشذا الملكوت، محبّةً وخدمة!

هوذا عفيف عسيران على بُعد ربع قرنٍ من رحيله إلى من ألهب قلبه وكيانه ههنا، في صورةِ : كان عفيف رجلُنا بارًّا، لم يُردْ أن يظهر، لكنّه ملأ محيطه بذورَ قداسة، لا تزال تفوح عطرَ الله، علّه يسمح تعالى، بارتفاعٍ هاتف: مار عفيف. استجب يا ربّ!

في 18 تشرين الأوّل 2013

                                                                              عماد يونس فغالي

 

  

شاهد أيضاً

مطالعة في كتاب توما الأكويني والإسلام: ما يدين به توما الأكويني لفلاسفة الإسلام للدكتور لويس صليبا/ بقلم الأستاذ الدكتور عفيف عثمان

  مطالعة في كتاب توما الأكويني والإسلام: ما يدين به توما الأكويني لفلاسفة الإسلام للدكتور …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *