لأجل الكنيسة…

لأجل الكنيسة…

(في استقالة البابا بندكتُس السادس عشر)  

“كي يكون كرسي بطرس مخدومًا كما يجب، ولنشر الإنجيل، يحتاج الأمر إلى القوّة العقليّة، إنّما إلى القوّة الجسديّة أيضًا…” هذا هو سبب تنحّي البابا بندكتس السادس عشر عن خدمته البطرسيّة على ما أعلن هو بنفسه. ولم يتخلَّ عن خدمة الكنيسة التي سيتابعها “بالصلاة والعمل”. وفي مقابلة الأربعاء العامّة التي تلت يوم استقالته، توجّه إلى الجمهور قائلاً: “فعلتُ هذا الأمر بحريّة تامّة لأجل خير الكنيسة”!

جليٌّ إذًا كلام قداسته. وواضحةٌ أبعاد استقالةٍ، لا يمكن لأيّة جهةٍ كنسيّة أن تفرضها. فقط إرادة الحبر الأعظم وحريّته التامّة، حسب النصّ القانونيّ المرعيّ، يتيحٌ له ذلك! استقالة بندكتس السادس عشر هذه، التي يسري مفعولها مجرّد أعلنها، وفي التاريخ الذي اختاره، شكّلت في الظروف التي تمّت فيها، توقيتًا، وأوضاعًا كنسيًّة وعالميّة، سابقةً أحدثت صدمةً للكنيسة والمجتمع البشريّ على السواء!

أكبرَ الرأي العامّ الحدث، بل أكبروا شخص البابا! قالوا: هو قمّةٌ في التواضع. إنّه أمثولة في التخلّيعن السلطة والتعالي على المناصب. قدوةٌ لأصحاب المراكز والحكّام في العالم، الذين يتمسّكون “بكراسيهم” حتى النفَس الأخير، ويورثونها لأبنائهم، أو يجهدون! وسيدخل هذا الحَبر الرومانيّ التاريخ، لهذا الموقف الذي اتّخذه!

وكأنّي بهؤلاء عرفوا بالاستقالة ولم ينظروا إلى ما أعلنه هذا “المستقيل” الذي لم يدفعه إلاّ ضميره وصلاته، على ما أوضح بنفسه، قال: “لم أعدْ أقوى على خدمة الكنيسة”. ولا أبعاد أخرى وراء خطوته هذه. هو رأس الكنيسة، خادمها. أولاه الله خدمة خدّامه ورعاية شعبه. وهو قال نعم يوم انتُخب. فالنظام البابويّ يتمنّى على من يُنتخب ألاّ يرفض. وهو لم يرفض حمل الصليب. لم يقُلْ لا. بل وضع نفسه بتصرّف النعمة الإلهيّة في خدمة الكنيسة ولأجلها!

وجَدَّ سنواتٍ قاربت الثماني في خدمة كلمة الله وجسده السريّ على امتداد العالم. منذ الكرازة أنجلةً جديدة، وتغذية النفوس قوتًا أسراريًّا، حتى رعاية القطيع إلى أقاصي الأرض. فعل بكلّ ما أوتي من قوّةٍ وقدرات.

أعطى ذاته لأجل الكنيسة، ويقول: لخير الكنيسة أسلّم الوديعة.

نعم! لا يفكّر البابا إلاّ بالخدمة التي إليها دُعيَ منذ هو كاهن. لم يفكّر قط على المستوى البشريّ، ولم يحسبْ يومًا خدمته مركزًا أو بابويّته منصبًا! إنّما الأمرُ صليب! إنّه يحمل الصليب مع يسوعَ لأجل كنيسته. هو في خدمة شعب الله، يسير أمامهم في طريق الجلجلة. أهكذا يُنزِلُ الصليب عن كتفيه. ماذا يقول للسيّد؟ لكنّه وجد نفسه غيرَ أهلٍ بعدُ على متابعة المسير، في تأدية الشهادة التي ائتُمن عليها. فأزاح نفسه كي لا يقع تحت الصليب كما المعلّم. أمَا شابه سلفه الأوّل بهذا، الذي لم يقبل أن يموتَ كسيّده، فطلب أن يُصلبَ مقلوبًا؟!

بندكتُس، يا حبرَنا الأعظم! صدمتَنا حتى الذهول. ولئن كانت المرّة الأولى في التاريخ الحديث لاستقالةٍ بابويّة، كنتُ بعدُ أقول: إنّ في الكنيسة رأسَها، خارج منظومة الاستقالة، الحمدلله! ذلك أنّي أحبُّ كنيستي وأُكبِرُها. وأراني أريدها في هالةٍ من مجدها: كنيسة المسيح، على بشريّتها، كم لائقٌ أن تكون وتبقى على ملء قامة المسيح! في الشكل حتى وفي الهيكليّة، كم لائقٌ ألاّ تكون في تجرّدها، إلاّ عظيمة عِظَمَ السيّد. أن تكون قاعدتُها مغذّيةً رفعتَها! فتكون لا فقيرة، بل خادمةَ الفقراء! لا صغيرة، بل بسيطة في كِبرها! لا وضيعة، بل متواضعة في تألّهها! أن تنزل بهالتها إلى ما دون، فترفع!

أجل، لتبقَ الكنيسة عاليةَ المقام، تحاكي السيّد في علوّه. وتنحني بمجدها السيّديّ إلى عمق الأسفل في  منطق العالم ومتاهاته، فتنتشلَ الناس إلى فوق، إلى مراقيها العلويّة!

معكَ أبانا الأقدس نرفع الصلاة لأجل الكنيسة، عروس المسيح، لتبقى مخدومة كما يجب، بما يليق بها في نشر الكلمة إعلانًا وقوتَ أبد! نصلّي لأجل خدمةٍ متواصلة في الجماعة والمؤسّسات، تؤتي الملكوت! نصلّي لأجل من يختاره المجمع المقدّس بإلهام الروح، ليبقى أمينًا في الخدمة لأجل الكنيسة!

في 13 شباط 2013

                                                                                     عماد يونس فغالي  

شاهد أيضاً

جدليّةٌ… إشراقاتُ خلود!

  دفعتَ إليّ بمخطوطٍ عنونتَه: “جدليّةُ الحضور والغياب”، فأشعرْتَني أنّكَ تضع بين يديّ سِفْرًا غاليًا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *