عفيف عسيران، اسم كاهنٍ مارونيّ ليس عاديًّا! اسم كاهنٍ مارونيّ لم يأتِ من تربيةٍ بيتيّة أهلَته لسماع صوت الدعوة الإلهيّة! اسم كاهنٍ يمانيّة، ولم ينظر حوله أترابًا يعيشون جوَّ الرعيّة ونشاطاتها! ولم يرَ أمامه مثالاً كهنوتيًّا يمارس الخدمةَ الأسراريّة ويحيا طقوسيّة العبادة المسيحيّة!
كان عفيف عسيران كاهنًا مارونيًّا جاء من بيئةٍ رفضت انتماءه إلى الله في المسيح! هو الذي عدّ كلّ شيءٍ خسرانًا ليربح المسيح! عفيف هذا، شابٌّ عائشٌ في محيطٍ دينيٍّ محافظ، لا إيمانيًّا وممارسةً وحسب، ولكن اجتماعيًّا وحياتيًّا أيضًا، ما هيّأه ليكون رجلَ دين. فراح يبحث عن تعمّق الله في الكتاب الكريم والفقه والشريعة… يقول حتى الثمالة! ويقرّ آخرًا أنّ ضالّته لم يجدها. فعطشه إلى الله، هذا الإله الذي تبحّر في علومه وتفسيراته، لم يكن ذلك المعبود الذي سعى إليه بحثًا عن حبيبٍ يلجأ إليه، ولا ذلك العظيم الذي لم يجده إلاّ بعيدًا بالخوف والرعدة!
وجدّ وراءه من جديد في بحثٍ علميٍّ بحت، في العلوم الفلسفيّة، علّه يلتقيه. أيّها الله الذي ربيتُ على عبادتكَ ولم أعرفْ ربًّا إلاّك، لم تأتِني الفلسفة بالحقيقة، ولم يقدّمْكَ لي الفكر الماورائيّ. حسبُه يبقى على المستوى البشريّ. الفلسفة، ذلك العلم الذي يدرك العالم في آفاقه، يقف الله خارج محدوديّته!
وبال عفيف لم يهدأْ. وفكره لم يطمئنّ! داخله غليانٌ ناره تتأجّج. هذا الإله الكبير، الخالق العالم والإنسان، كيف يقرُبه؟ ما الذي يحاكيه؟ وكان الله منتظرَه على مفترقٍ من ذاته، لم يخطر بباله يومًا المرورُ به!
هو الله طفلٌ مولودٌ في مذودٍ حقير! هو الإله ولدٌ وجداه والداه في الهيكل، كائنٌ في ما هو لأبيه! هو السيّد جالسٌ إلى مائدة الخطأة، عاطفًا على المرضى، رؤوفًا بالمحزونين. هو القدّوس مائتًا على الصليب، حاملاً خطيئة العالم!
نعم يا ربّ، وجدتُكَ! عرفتُكَ الله، أريدكَ! أنتَ الحبّ والحياة الدائمة، خلاصًا وملكوت. سماؤكَ جلجلة وعرشُكَ صليب! مقاربتُكَ محبّة! عفيف عسيران، على جرن العماد ابنًا لله! ولأنّ الله اكتشفه قِمّةً، في الحبّ وبذل الذات، كان له عفيفٌ قمّةً في التكرّس والعطاء. هام في تقدمة ذاته حالةً تقويّة وماركَ لاهوتيّة، غرف من معينهما أنشودةَ حياته. هذا كان في عمر الأربعين. ومنذئذٍ، مسيرةٌ نورٌ تضيء سماءَ نفسه، فيشعّ تأثيرًا في
من حوله! وفي صفاء الذهن الذي ارتاح إلى مكتشَفه، سمع الحبيبَ يدعوه بعدُ أكثر. فهبّ من داخله هتافٌ: هاءنذا يا سيّد!
عفيفٌ طالبٌ إكليريكيّ شهد رفاق الدرب يدهشون “للآتي من بعيد”، غائصًا في تأمّلاته، مناجيًا سجينَ الحبّ الإلهيّ! عفيف كاهن الحبّ الإلهيّ، كاهن الإيمان بالله الواحد الذي يرفع الإنسان إلى مستوى الحبّ. لأنّه من الحبّ وُلد، وفي الحبّ يعيش، بل يجب أن يعيش. وما هويّة الإنسان إلاّ إنسانيّته، صورة الله وبعض ذاته!
ويشهد عفيف لحبّه هذا. والشهادة ركنُ إعلان العقيدة. ركنٌ للمجاهرة بالحقيقة الإلهيّة، يقول:
أشهد أنْ لا إلهَ إلاّ الله!
أشهد أنّ الآب والابن والروح القدس إلهٌ واحدٌ قيوم!
أشهد أنّ يسوع المسيح هو ابن الله!..
شهادة إيمانٍ أطلقها عفيف الكاهن مؤذِّنًا في الكنيسة احتفالاً بأسراريّةٍ تعابيرها ألحان الإسلام! تمازج الله في عبادة الناس، فوحّده عفيف بشركةٍ طقوسيّة أقامت الله ربًّا للجميع، جامعًا الكلّ!
الأب عفيف عسيران أحبّ خاصّته، أحبّهم إلى الغاية! وهبهم قدراته حياةً وهداية. لم يدعْ منبوذًا إلاّ احتضنه. ولم يتركْ ضائعًا إلاّ وجّهه. وسيلته عناية الله، بيت العناية. أمَا هكذا كان المعلّم؟ أليس هكذا أوصى أن يفعل معه عندما يفعل مع أخوته هؤلاء الصغار؟
وفي عفيف عسيران كان الكاهن أيقونةَ المسيح الحقيقيّة. من خلاله معرفة الله أقرب وحضور الله أوضح! وفي عفيف عسيران، اللقاء بالله أجمل. كلّ ما فيه يهديك الله، وحسبكَ حاصلٌ على كلّ شيءٍ وكفى! “والذين يطلبون الربّ لا يُعدَمون الخيرات“!
في 8 شباط 2013
عماد يونس فغالي