-سؤال- هل ما ذكرتموه في مسألة الزواج المختلط بين أتباع الديانات السماوية هو من الإجتهاد ؟ وما هو الإجتهاد ؟
-جواب-الإجتهاد في الشريعة الإسلامية هو الفهم الحي للشريعة من خلال مصادرها المقررة وهذا الفهم الحي المعتمد على مصادر التشريع هو الذي يواكب الحياة ومتطلباتها ولذلك نرى أن الإجتهاد عندما يتعرض الى معرفة حكم مسألة من المسائل الحاضرة والمستجدة هو لا يشرع حكما جديدا أنما يحاول الإجتهاد الإجابة على هذا السؤال الذي تفرضه المسألة المستحدثة ، ويعتمد في عملية الإستنباط على القواعد التي تشكل ركائز إستنباط الحكم الشرعي من النصوص الدينية . ونتيجة الإجتهاد هذه ليست أمرا ثابتا ونهائياً. وقد يقال كيف تتم عملية استنباط الحكم لمسألة حديثة من نصوصٍ قديمة؟. والجواب أن جملة من النصوص الدينية على قدمها فيها من المرونة ما يجعلها صالحة للإجابة على السؤال المطروح وإن كان متأخرا عن عصر النص الديني بقرون عديدة نتيجة احتوائها على الشمولية والعموم . فإذا واجهت الفقيه مشكلة من المشاكل ولم يجد نصا مختصا بهذه المسألة يرجع الى تلك العمومات الموجودة في نصوص الشريعة.
ونتيجة لإختلاف النصوص أحياناً أو لاختلاف الأفهام في درجة وضوحها وحجيتها أحياناً أخرى أو لفقدانها في خصوص الموضوعات المستحدثة تختلف الإجتهادات باختلاف المباني المعتمدة عند الفقهاء في هذه الحالات فلا تأخذ بعض الإحكام المستنبطة صفة الثبات والدوام لعدم وجود نص صريح وواضح فقد يلجأ فقيه الى الإجماع في مسألة وقد يناقش فقيه آخر بحجية هذا الإجماع أو بدلالته أو بأصل وجوده . وقد يقول قائل كيف لا يكون التحريم في مسألة ما أمراً نهائيا ولا يكون التحليل في مسألة ما حكماً نهائيا مع أن القاعدة العامة المعمول بها هي :حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرام محمد حرام الى يوم القيامة ؟. وفي الحقيقة أن التحريم الذي نصل إليه عبر الإجتهاد تارة يكون معتمدا على نص صريح وواضح ومتفق عليه بين الجميع فحينئذ يكتسب التحريم وغيره من الأحكام صفة الثبات والدوام وهو ما يختص عادة بما يسمى بالضرورات الدينية .وقد يكون التحريم الذي وصل إليه الفقيه بالإجتهاد ليس معتمدا على نص لفقدان النص وعدم وجوده أو لعدم وضوحه فلا يكون التحريم الذي وصلنا إليه في هذه الحال تحريما نهائيا لأنه ليس تحريما من النبي محمد حتى يأخذصفة الدوام فقد يعتمد الفقيه عند عدم وجود النص التشريعي الواضح على إجماع أو على قاعدة اخرى وفي كلتا الحالتين قد يناقش فقيه آخر بالإجماع ككون المسألة مستحدثة ومتأخرة عن عصر الإجماع مثلا أو يناقش في أصل إنعقاد الإجماع أو في أصل حجيته أو في عموم تلك القاعدة التي اعتمد عليها عند فقدان النص الديني ومن هنا فإن حركة الإجتهاد التي قد تحدد حجية الإجماع أو القاعدة بدائرة محددة قد تطعن بصغرى القياس المنطقي، هذا حرام محمد وكل حرام لمحمد فهو دائم التحريم . فإن كبرى القياس المستفاد منها دوام التحريم وإن كانت ثابتة على المستوى التشريعي ولكن الجدل والنقاش ليس فيها بل في صغرى القياس التي تثبت التحريم شرعا إلى الفعل وفي نسبة صدور التحريم إلى محمد(ص). وهذا يؤدي الى الشك في صدور التحريم شرعا ولذلك لا يأخذ هذا الحكم المستنبط صفة الدوام والثبات لأنهما صفتان للتحريم الصادر على سبيل القطع والجزم وهذ التحريم لم يكن كذلك ..
وقد لا تكون المسألة مستحدثة حتى لا يؤخذ بالإجماع فيها ولكن بما أن الإجماع دليل صامت كما يقول علماء أصول الفقه وليس دليلا ناطقا لنأخذ بعموم اللفظ أو خصوصه فيؤخذ في هذه الصورة بالقدر الذي يكشف عنه الإجماع يقينا وأما ما زاد على ذلك فلا يكون الإجماع حجة فيه . وعليه ولتوضيح ذلك على سبيل المثال المسألة التي طرحت في المحاضرة وهي مسألة الزواج المختلط(زواج المسلمين من أهل الكتاب) في هذه المسألة إذا عدنا الى القرآن الكريم نراه لم يتعرض بصراحة ووضوح الى المنع من هذا الزواج المختلط وإنما تعرض الى المنع من التزويج بالمشركات والمشركين وحينئذ تصبح مسألة الزواج المختلط خارج دائرة النص الديني وتخضع لحركة الإجتهاد وقد أجمع العلماء على جواز زواج المسلم بالمرأة الكتابية وهذا يكشف عن أن أهل الكتاب ليسوا من المشركين وأن مدلول المشرك لا ينطبق على مدلول أهل الكتاب ومع ذلك فإن هناك إجماعا من الفقهاء على منع تزويج المرأة المسلمة بالرجل من اهل الكتاب وهذا الإجماع من العلماء المسلمين على التحريم يخضع لحركة الإجتهاد ولا يكون مؤداه نهائيا والإجتهاد لا يعطي صفة القداسة للنتائج التي يتوصل إليها المجتهد لأنه يعبر عن فهم خاص بالفقيه والفتاوى هي نتائج حركة الإجتهاد وليست نصوصا دينية بالمعنى التشريعي ، والمقدس عندنا هو النص الديني على تقدير ثبوته وأما فهم النص الديني فليس من المقدسات التي لا يجوز تجاوزها، ومعظم الفتاوى هي تعبير عن الفهم الذي وصل اليه المجتهد من النظر في النصوص الدينية والقواعد التي أسسها لعملية الإستنباط، والمعروف عندنا أن فهم عالمٍ في مسألة ليس حجة على بطلان فهم عالمٍ آخر لإمكان أن يكون فهمه لم تكتمل عناصر الحجة والدليل فيه .
-مجلة جسور الأسترالية/١٩٩٥/
-سؤال2 : بعض الأوساط تقول إن السيد الأمين قد أفتى بحق الزواج المختلط، فهل يمكن لك أن تعرف لنا الفتوى والجهة التي يمكنها إصدار الفتوى؟
-جواب2: الفتوى هي الحكم و التشريع الذي يتوصل إليه المجتهد من خلال النظر في الأدلة و الحجج الشرعية و العقلية و الفتوى التي يجوز العمل بها هي التي تصدر عن المرجعية و لست في الموقع الذي يسمح بإصدار الفتوى في هذه المسألة و لذلك من أراد العمل فعليه أن يعود إلى المرجعية الدينية و إلى مقلده من أجل أن يأخذ الفتوى منه و أما ما طرحته فهو ليس فتوى في هذه المسألة , بل هو محاولة فلسفة للحكم و التعرف على بعض أسراره و فوائده و الدفاع عن شبهة واردة على الحكم و التشريع حيث ان هناك سؤالا , وهو :
لماذا التشريع الإسلامي يجيز لكم الأخذ ولا يجيز لكم العطاء ؟ فأنتم لكم أن تتزوجوا من أهل الكتاب و ليس لأهل الكتاب أن يتزوجوا منكم ؛ و في جوابي على هذا السؤال في المحاضرة تحدثت عن شرح وجهة نظر المنع والعطاء و يتولد من وجهة النظر هذه مسألة ينبغي أن يبحث عنها فقهيا و علميا على مستوى الإستدلال الفقهي و لدى المرجعية الدينية .
و حاصل ما ذكرته في الإجابة على هذا السؤال حسبما أفهمه من روح النصوص الدينية أن التشريع الإسلامي لا يخطط لحدوث العلاقة الزوجية فقط , بل يهتم إضافة إلى ذلك بتوفير المناخ الملائم لإستمرارالعلاقة الزوجية و إستقرارها و لأجل تحقيق هذه الغاية , إشترط الإسلام جملة من الأمور لتحقيق الزواج الناجح و المستقر ,فليس المهم أن يحدث الزواج اليوم ونصل إلى الطلاق غدا . و من جملة الشروط لإيجاد علاقة زوجية مستقرة التوافق في الدين و العقيدة و الإسلام عندما يمنع المرأة المسلمة من التزويج بالمشرك أو غيره من أهل الكتاب ليس لوجود نقص في بشرية هذا الإنسان و لا لوجود نقص في إنسانيته و لا في المعدات المادية للعلاقة الزوجية , لأن العلاقة الزوجية تختلف عن الجنسية , فإن الأولى أعمّ و أ شمل من الثانية حيث لا تحتاج العلاقة الجنسية إلاّ إلى ذكر وأنثى بينما العلاقة الزوجية تحتاج إضافة إلى ذلك إلى العناصر التي توفّر المناخ الطبيعي و الملائم لإيجاد الأسرة و العائلة التي تشكل المدرسة الإجتماعية الأولى ولا يكون الدخول إلى هذه المدرسة بشكل عشوائي و غير مدروس ,لأنّ ذلك ينعكس سلباً على العلاقة الزوجية و يهدمها و هذا يخالف الهدف من وجودها.
و عندما يسمح الإسلام بزواج المسلم من المرأة المسيحية واليهودية فلأن التوافق في الدين و العقيدة موجود بينهما بالشكل الذي لا يسمح بنشوء مشكلة من هذه الناحية لأن الزوج إذا كان مسلماً فهو لا يكون مسلماً إلا إذا كان يحترم معتقد و دين المرأة المسيحية لأنّ إسلامه يدعوه إلى التصديق بالشرائع السابقة على الإسلام و احترامها و بما أن زوجته المسيحية قد رضيت به زوجاً , فستبادله نفس الإحترام لعقيدته وفاقاً لموقفه و قضاءً لعلاقة الزوجية بينهما، وعندئذ لن توجد مشكلة بينهما على مستوى الدين و العقيدة .و أما إذا إنعكس الأمر و كان الرجل مسيحيا و المرأة مسلمة ؛فإذا كان الرجل المسيحي يرفض معتقد المرأة المسلمة و لا يحترمه فإن هذا الرفض يشكل مناخاً لحدوث الإختلافات و المشاكل بينهما و ليس إختلافاً عابراً حتى يكون بالإمكان علاجه , بل هو منشأ لإختلاف مستمر يهدد الحياة الزوجية بالزوال و الأسرة بالتفكك ؛ وعدم البناء أصلاً أفضل من إيجاد البناء المعرض لخطر الإنهدام . و لذلك فإن الإسلام عندما يمنع من العلاقة الزوجية بين المرأة المسلمة و الرجل المسيحي , ليس من باب عدم الإحترام و لا من باب وجود عيب أو نقص في إنسانيته لأن الله يقول (وكرمنا بني آدم ) بلا فرق بين بني البشر على إختلاف عروقهم و إنتماءاتهم الدينية ولكن هذا المنع من حدوث العلاقة الزوجية لأن عناصر الأستقرار لهذه العلاقة غير متوفره نتيجة الرفض لدين الشريك الآخر ومعتقده.
و من هنا ينشأ سؤال و هو أن المسيحي من أهل الكتاب إذا لم يكن رافضا لدين المرأة المسلمه و معتقدها لأنه ليس كل مسيحي رافضا للاسلام كدين سماوي كما نفهم ذلك على ضوء آيات من القرآن الكريم منها قوله تعالى( و إن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله و ما أنزل إليكم و ما أنزل إليهم خاشعين لله و لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم) و قوله تعالى ( و لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون ) فإذا كان الرجل المسيحي من هؤلاء الذين يحترمون دين و عقيدة المرأة المسلمه فحينئذ لن توجد مشكلة على مستوى الدين و العقيدة بينهما لأنها كمسلمة تحترم الشريعة المسيحية لأن ذلك من لوازم إسلامها و الرجل المسيحي قد فرضناه ليس رافضاللإسلام كدين سماوي فيحترمه كما يحترم المسيحية كدين له و بهذا تكون عوامل الفرقة و الخلاف بينهما من ناحية الدين و العقيدة قد أزيلت . و هذه المسألة تبقى في إطار وجهة النظر التي تحتاج الى بحث و درس و جواب من المرجعية الدينية العليا خصوصا و أن القرآن الكريم و هو المصدر التشريعي الأول من مصادر الأحكام الشرعية لم يتعرض الى منع صريح لقيام هذه العلاقة بين المرأة المسلمة والرجل المسيحي الذي يقبل الإسلام دينا سماويا و يحترمه كما يقبل بقية الأديان و يحترمها ، هذا مضافاً إلى وجود نصوص تحدثت عن وجود هذه العلاقة الزوجية في المدينة المنورة قبل نزول آية النهي عن الزواج من المشركين والمشركات. و هذه المسألة تبقى في ساحة مراجع الدين و الفتوى على بساط البحث و الإستدلال..
مجلة جسور الأسترالية/١٩٩٥/
العلامة السيد علي الأمين