نكرز بالمسيح مصلوبًا
المونسنيور بولس الفغالي
أوَّل الكتابات في العهد الجديد هي رسائل بولس. وهي كانت إنجيلاً قبل أن تُكتب الأناجيل الأربعة. تحدَّث الرسول في رو 2: 16 فقال: “حسب إنجيلي بيسوع المسيح”. وحين نعرف أنَّ الإنجيل هو البشرى والبشارة، هي الخبر الطيِّب، كما كانوا يقولون منذ إشعيا النبيّ، نفهم هذا الإنجيل قبل الأناجيل الذي تحدَّث عن الصليب وهو ما رأى الصليب وأحبَّ المصلوب وهو ما رافقه في طرقات الجليل والسامرة واليهوديَّة.
ولماذا تحدَّث الرسول عن الصليب؟ لأنَّ جماعة كورنتوس وجماعاتنا نسيَت موقع الصليب في الحياة المسيحيَّة. أرادوا أن يتفاخروا: هذا مع بولس رجل الحرِّيَّة في المسيح الذي اعتبر أنَّ الختان لا يضيف شيئًا على الإنسان. بالإيمان يأتي اليهوديّ إلى المسيح وبالإيمان يأتي اليونانيّ. فلا واسطة بيننا وبين يسوع، ولا شيء نضيفه على يسوع. الصليب وحده يكفي. وذاك مع بطرس الذي يوفِّق بين اليهوديّ والوثنيّ مع ميل إلى اليهوديّ، احترامًا ليعقوب أخي الربّ، كما فعل في أنطاكية (غل 2: 11). أمّا أبلُّوس الآتي من الإسكندريَّة والمتشبِّع من الكتب المقدَّسة، فتعلَّق به الناس بسبب فصاحته وقوَّة إقناعه وهو الذي تعلَّم في عاصمة الفكر الشرقيّ والآخذة الكثير عن أثينة، مدينة الفلسفة. وبقيت أقلِّيَّة قالت: “أنا مع المسيح”. وهكذا تعلَّقنا بالبشر وتركنا الربَّ فشابهنا الكثيرين بعد كسر الخبز في إنجيل يوحنّا. حتّى التلاميذ أنفسهم سمعوا سؤال يسوع: “ألعلَّكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا؟” (6: 17). تركوه. وما عادوا يمشون معه!
أمّا الرسول فكان واضحًا: “ألعلَّ بولس صُلب لأجلكم، أم باسم بولس اعتمدتم؟” (1 كو 1: 13). هذا هو الأساس. الصليب هو الذي يجمع المؤمنين بالمسيح، اليهود واليونانيِّين.
لماذا يرفض اليهود الصليب؟ لأنَّهم يطلبون الآيات، يطلبون العجائب. هكذا كانوا في زمن يسوع، وهكذا لبثوا في زمن الرسل. فبعد تكثير الأرغفة وإطعام الجمع الغفير، خمسة آلاف، قالوا له: “فأيَّة آية تصنع لنرى ونؤمن بك؟” (يو 2: 31). وعادوا إلى موسى. وهكذا صار يسوع مثل موسى، بل أقلّ من موسى الذي أعطاهم المنّ في البرِّيَّة أربعين سنة. وفي 12: 38 نسمع الكتبة والفرِّيسيِّين يقولون: “يا معلِّم، نريد أن نرى منك آية”. وكان جواب يسوع قاسيًا: “جيل شرِّير وفاسق” (آ39). هذا كان في زمن يسوع، وفي زمن الرسل، بل في أيَّامنا أيضًا حين نرفض أساس إيماننا المسيحيّ، الذي هو الصليب الذي نجعله على صدورنا، في كنائسنا، في بيوتنا ونقبله في حياتنا. لا، لا يمكن أن يُلغى الصليب، مهما جاء معلِّمون وأنبياء وأصحاب بدع يقولون منذ بداية الكنيسة وحتّى أيَّامنا هذه. وفي أيِّ حال، إذا أراد غير المسيحيّ أن يجرحوا واحدًا منّا يدوسون الصليب، أو يطلبون من واحد منّا أن يدوسه أو يهينه بأمور نخجل من ذكرها.
فأعلن الرسول: “لأنَّ اليهود يسألون آية، واليونانيِّين يطلبون حكمة. ولكنَّنا نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا. لليهود عثرة ولليونانيِّين جهالة” (1 كو 1: 22-23). أجل، هكذا عثر اليهود وما عرفوا أن يؤمنوا بالمسيح، لأنَّهم رفضوا الأساس وما فهموا شيئًا من الصليب ومن ذاك المعلَّق عليه. أخذوا يهزأون به وكأنَّهم انتصروا عليه، وما علموا أنَّه هو الذي انتصر عليهم، لا بالغضب بل بالرحمة، لا بالعقاب بل بالغفران. فقال قبل أن يسلِّم روحه إلى الله الآب: “يا أبتاه، اغفر لهم، لأنَّهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو 23: 34).
* * *
هم لا يعلمون، هم لا يفهمون. وهكذا التقوا مع اليونانيِّين الذي اعتبروا أنَّهم أسياد الحكمة. فماذا يعطيهم هذا اليهوديّ الذي اسمه بولس. فلا قامته توحي بذلك ولا منظره. بل من هم اليهود لكي يعلِّموا اليونانيِّين الحكمة؟ والرسل الآتون من الجليل، المقاطعة المحتقرة بالنسبة إلى المعلّمين، ماذا يستطيعون أن يعطوا العالم؟
قال الرسول: “إذا كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة، استحسن الله أن يخلِّص المؤمنين بجهالة الكرازة” (1 كو 1: 21). ما معنى هذا الكلام؟ “إذا كان العالم في زمن حكمة الله”، أي يوم كانت حكمة الله مسيطرة… وهناك معنى آخر: “إذا كان العالم بتدبير من حكمة الله”. أي سمح الله بذلك. كلُّها معانٍ رائعة مع هذا الذي نذكر: “العالم، بواسطة الحكمة، لم يعرف الله في حكمة الله”. فحكمة الله نتبيَّنها في الخليقة كما قال الرسول إلى أهل رومة: “إذ معرفة الله ظاهرة فيهم، لأنَّ الله أظهرها لهم، لأنَّ أموره غير المنظورة مدرَكة بالمصنوعات، قدرته السرمديَّة ولاهوته” (1: 19-20). ومعنى هذا: ما يستطيع الإنسان أن يعرفه من الله، واضح، بيِّن. ومن بيَّنه؟ الله نفسه الذي طبع هذه المعرفة في قلوبهم. فإذا انطلقنا من المخلوقات، ممّا صنع الله، كما نقرأ في سفر التكوين، نكتشف كمال الله الذي لا يُرى، ولكنَّنا نراه في مصنوعاته. نكتشف قدرة الله التي هي من الأزل، كما نكتشف لاهوته. والنتيجة: “لا عذر لهم” إذا كانوا جهّالاً.
من جهل الصليب جهل كلَّ شيء عن المسيح. واليونانيُّون الذين يعتبرون نفوسهم حكماء، قال بولس عن حكمتهم: هي جهالة. وإذ اعتبروا أنَّ “الإنجيل” جهالة مع الذين يكرزون به، أراد الربُّ أن يحمل إليهم الخلاص “بجهالة الكرازة”. ويقول أحد المعلِّمين: إن حملتَ الصليب حملك، وإن رفضتَه داسك”. لا يمكن أن نكون حياديِّين بالنسبة إلى الصليب. أو نقبل بالصليب أو نرفضه والرفض يعني الذهاب إلى الهلاك. قال الرسول: “كلمة الصليب عند الهالكين جهالة” (1 كو 1: 18). وهذا ما يقودنا إلى الإنجيل الرابع: “ومع أنَّه صنع أمامهم آيات هذا عددها، لم يؤمنوا به، ليتمَّ قولُ إشعيا النبيّ الذي قال: “يا ربّ، من صدَّق خبرنا؟ (أي ما أخبرنا الناس). ولمن استُعلنت ذراع الربّ؟ (هي قديرة، فاعلة، علنيَّة لا مخفيَّة) لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا. لأنَّ إشعيا قال أيضًا: “قد أعمى عيونهم، وأغلظ قلوبهم لئلاَّ يبصروا بعيونهم، ويشعروا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم” (12: 37-40).
* * *
ذاك كان وضع اليهود في زمن المسيح. جاء نيقوديمس إلى يسوع ليلاً (لم يصل إليه نور المسيح). بدأ فقال: “نحن نعرف”. إذا كنت تعرف فلماذا أتيتَ إلى يسوع. إذا كنتَ ترى في العهد القديم كلَّ الحقيقة، فلماذا تأتي إلى يسوع؟ وإذ كلَّمه يسوع عن الولادة الثانية، ضاع وسأل سؤالاً يمتنع العارف بأمور السماء أن يسأله. لهذا قال له يسوع: “أنت معلِّم ولا تعرف” (3: 1-10) وواصلت الكنيسة كلام يسوع في صيغة المتكلِّم الجمع: “الحقّ الحقّ أقول لك: إنَّنا إنَّما نتكلَّم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا” (آ12). أنتم قائمون على مستوى الأرض، وما دمتم على هذا المستوى لا تستطيعون أن تفهموا. فارتفعوا إذًا إلى مستوى السماء. ولكنَّ هذا الأمر صعب على ملايين الناس في محيطنا الذين يعتبرون أنَّهم يمتلكون كلَّ المعرفة وأنَّ كتبهم تضمُّ كلَّ شيء فلا يحتاجون أن يخرجوا منها ليروا ما حولهم. هم يشبهون الماء الجامد مكانه. فلا يتأخَّر بأن ينتن. وفي النهاية، يصبح التعليم ناشفًا، جافًّا، لا يحرِّك عاطفة الإنسان، فيتلهَّى في أعمال وأعمال لا تحمل له الخلاص. وحتّى على مستوى المجتمع نراه يتقهقر.
أين كان جهل اليهود؟ رفضوا الصليب. فالربُّ قال لهم: “وأنا إذا ما ارتفعت (أو حين أرتفع) أجذبُ إليَّ الجميع” (يو 12: 32). جميع البشر، لا المسيحيُّون فقط وأوضح يوحنّا: “قال هذا مشيرًا إلى أيَّة ميتة كان مزمعًا أن يموت” (آ33). أجل، مات المسيح ودُفن ولكنَّه قام. ذاك ما قالت الكتب التي استشهد بها الرسول (1 كو 15: 3-5). ولكنَّ اليهود رفضوا هذا الكلام. قالوا: “سمعنا من الناموس أنَّ المسيح يبقى إلى الأبد، فكيف تقول أنت إنَّه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان؟ من هو هذا ابن الإنسان؟” (آ34).
تحدَّث يسوع عن ارتفاعه على الصليب، وعن ارتفاعه في المجد. ومن يرفع يسوع على الصليب؟ اليهود. إذ قال لهم يسوع: “متى رفعتُم ابن الإنسان، فحينئذٍ تفهمون أنِّي أنا هو” (يو 8: 28). أي أنِّي أنا يهوه، أنا الربّ. أنا الحاضر الذي يحمل الخلاص إلى البشريَّة جمعاء.
“المسيح لا يموت”. ذاك تصوُّر شعبيّ ينطلق، خطأ، من إش 9: 6 (“وُلد لنا ولد… ويُدعى أبًا أبديًّا) ومن مز 110: 4 (“أنت كاهن إلى الأبد”) ومن دا 11: 14 (“سلطانه سلطانٌ أبديّ ومُلكه لا يزول). لا شكّ في أنَّ سلطان الربِّ يسوع يدوم إلى الأبد، ولكن قبل ذلك يجب أن يمرَّ في ذلِّ الصليب. كما قال إش 53: 4-5: “لكنَّ أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مضروبًا من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا”. هذا الكلام ردَّده متّى (8: 17) وبطرس في رسالته الأولى (1 بط 2: 24). أمّا مز 22 فبدا وكأنَّه يصوِّر آلام يسوع قبل العهد الجديد بمئات السنين. في آ2: “إلهي إلهي لماذا تركتني”. ردَّد متَّى (27-46) ومرقس (15: 34). هذه الآية في اللغة الأراميَّة. وفي آ6: “اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي اقترعوا”. ردَّد هذا الكلام يوحنّا (19: 24) ومتّى (27: 55). وهناك الهزء بيسوع (آ7) والعطش في آ16: “ثقبوا يديَّ ورجليّ”. وفي آ17: “أحصي كلَّ عظامي”.
* * *
ومع ذلك جاء من يُنكر الصليب. فردَّ عليهم برنابا في رسالته التي هي مقال لاهوتيّ تريد أن تقود المؤمنين إلى المعرفة الكاملة. يتكلَّم الكاتب عن الفداء الذي تمَّ بموت يسوع المسيح على الصليب. الشريعة القديمة لم تكن معدَّة لليهود. “تقبَّلها موسى ولكنَّ اليهود لم يكونوا أهلاً لها” كانت معدَّة للمسيحيِّين منذ البداية: “اعرف كيف حصل أن نكون نحن تسلَّمنا العهد! نال موسى لقب خادع، ولكنَّ الربَّ نفسه أعطانا إيَّاها كما إلى الشعب الوارث، بعد أن تألَّم من أجلنا” (ف 14، مقطع 4).
أمّا باسيليد الذي عاش في زمن الإمبراطورين أدريان وأنطونين التقيّ (120-145) فكتب إنجيلاً بقي منه تقطاع. ماذا يقول؟ الآب اللامولود واللامسمَّى رأى أنَّ الأمم سوف تدمَّر أرسل “عقله” (في اليونانيَّة )، بكره، وهو من يُدعى المسيح، لكي ينجِّي أولئك الذين يؤمنون به، من سلطان الذين صنعوا العالم (أي الملائكة). عندئذ ظهر على الأرض بشكل إنسان على هذه الأمم القديرة وأجرى المعجزات. لهذا، لم يحتمل الموت هو نفسه، بل سمعان وهو قيريني (أصله من ليبيا الحاليَّة) أجبروه فحمل صليبه مكانه. وسمعان هذا تحوَّل بواسطة “العقل” بحيث حسبوه يسوع، فصُلب جهلاً وخطأ، أمّا يسوع فاتَّخذ شكل سمعان ووقف هناك يهزأ به. فبما أنَّه قوَّة لا جسديَّة و”عقل” الآب اللامولود، فقد تحوَّل كما شاء. وهكذا صعد لدى الذي أرسله، وهزئ بهم لأنَّهم ما استطاعوا أن يمسكوه ولأنَّه كان لامنظور من الجميع. والذين يعرفون هذه الأمور، تحرَّروا من الرئاسات التي كوَّنت العالم. إذًا، ينبغي أن لا نعترف بذاك الذي صُلب، بل بذاك الذي أتى في شكل إنسان، الذي ظُنَّ أنَّه صُلب، الذي كان يُدعى يسوع وأُرسل من لدن الآب لكي بهذا “التدبير” يستطيع أن يدمِّر عمل الذين صنعوا العالم.
ما أقرب هذا النصّ من “إنجيل برنابا” الذي دعا نفسه “الإنجيل الحقيقيّ” واعتبر الأناجيل الأربعة مزيَّفة. ربط هذا الراهب الذي ترك الرهبنة ومرق على الدين كتابه بشخص برنابا، رفيق بولس الرسول في سفرته الأولى قبل أن يغيب في جزيرة قبرص. وقال إنَّ “برنابا” هو أقرب شخص بين الاثني عشر مع أنَّه لم يعرف المسيح ولم يره، وهو اللاويّ الآتي من قبرس. أمّا هذا الإنجيل الكاذب فما جعل “سمعان” يموت، بل يهوذا. وها نحن نقرأ في 216:
“وكان يهوذا أوَّل الهاجمين على الغرفة (هل من غرفة في بستان الزيتون؟) التي خُطف منها يسوع والتي نام فيها الأحد عشر. عندئذٍ صنع الإله العجيب صنعًا عجيبًا: صار يهوذا شبيهًا بيسوع بلغته ووجهه بحيث ظننَّا أنَّه يسوع. أمّا يهوذا فأيقظنا وسأل: “أين المعلِّم؟” فأجبنا مدهوشين: “أنت، يا ربّ، معلِّمنا، هل نسيتنا؟” ولكنَّه قال مبتسمًا: “هل جُننتم؟ أنا يهوذا الإسخريوطيّ”. وإذ كان يتكلَّم دخلت الفرقة ووضعت يديها عليه، لأنَّه كان شبيهًا بيسوع في كلِّ شيء”.
ونقرأ في ف 217: “فقبض الجنود على يهوذا وكبَّلوه وهم يهزأون به لأنَّه أنكر (فقال إنَّه ليس المسيح). فقالوا له وهم يسخرون منه: “لا تخف، يا ربّ، لأنَّنا جئنا لنجعلك ملك إسرائيل. كبَّلناك لأنَّنا نعرف أنَّك ترفض”.
ويتواصل خبر الآلام في هذا المناخ. “وأخذوه (يهوذا) إلى جبل الجلجلة حيث يعلِّقون المجرمين. صلبوه هناك عريانًا ليكون الهزء به أعظم. وما كان يهوذا يفعل شيئًا سوى أن يصرخ: “إلهي، لماذا تركتني؟ فالمجرم هرب وأنا قُتلت خطأ” (ف 218). ويواصل الراوي كلامه: “أقول الحقَّ: صوته، شخصه، كلُّ هذا كان شبيهًا بيسوع إلى درجة جعلت التلاميذ والمؤمنين يظنُّون كلَّ الظنِّ أنَّه يسوع.
بعد وقت، ظهر يسوع لأمِّه والتلاميذ وقال: “لا تخافوا، أنا يسوع. لا تبكوا، أنا حيٌّ لا ميت”. ولمّا رأوا يسوع لبثوا طويلاً كمن فقد رشده، لأنَّهم اعتقدوا بدون شكّ أنَّه مات” (ف 219). ويتواصل الكلام في ف 220:
فأجاب يسوع أمَّه وهو يقبِّلها: “صدِّقيني، يا أمِّي، الحقَّ أقول لك: أنا أبدًا ما مُتُّ. فالله حفظني إلى اقتراب نهاية العالم…
“حينئذٍ روى الملائكة الأربعة لمريم أنَّ الله أرسل في طلب يسوع، وحوَّل يهوذا لكي ينال العقاب… أمّا أنا فكنتُ بريئًا. ولكن بما أنَّ الناس دعوني الله وابن الله، أراد الله أن لا يهزأ بي الأبالسة في يوم الدينونة (فسمح) بأن يهزأ بي البشر وفي العالم بموت يهوذا وجعلهم يعتقدون كلُّهم أنِّي أنا الذي مُتُّ على الصليب…”.
شكرًا ليهوذا الذي مات من أجل البشر وخلَّصهم! وشكرًا لهذا الراهب الذي أفاق من ضلاله وترك مسيحيَّته ودوَّن كتابه في القرن السادس عشر، في اللغة الإيطاليَّة. أمّا حقيقة الصلب فلن تُعرَف قبل القرن السابع، لاسيَّما وأنَّ الأناجيل محرَّفة بعد أن ضاع الإنجيل الأساسيّ الذي كان مدوَّنًا في الأراميَّة.
الأناجيل كُتبت للمسيحيِّين، للمؤمنين، وهم الذين ميَّزوا الحقيقة من الكذب. ولكنَّ الربَّ وعدنا بأن يكون الزؤان موجودًا على الدوام بين القمح (مت 13). أناجيلنا أربعة منذ البداية، وقد كُتبت في أربعة أماكن ترمز إلى أربعة أقطار العالم إلى حيث وصل الإنجيل يومًا ولا يزال يتابع جريَه، كما قال الرسول إلى أهل تسالونيكي.
* * *
أطلنا الحديث حين ذكرنا إنجيل برنابا، الذي نقلناه إلى العربيَّة في هذه السنة ونشرناه في سلسلة “على هامش الكتاب”، نشر “الرابطة الكتابيَّة”. هكذا يُرفَض الصلب بكلِّ بساطة، منذ القرن الثاني للمسيحيَّة، كما يُرفَض أن يكون يسوع ابن الله. فهو إنسان من الناس! هو نبيٌّ من الأنبياء مع الذين سبقوه والذين لحقوه، تجاه ما يقول بطرس بعد العنصرة: “ليس بأحدٍ غيره الخلاص. لأنَّ ليس اسمٌ آخر تحت السماء، أعطيَ بين الناس، به ينبغي أن نخلص” (أع 4: 12). أجل، اسم يسوع وحده يحمل الخلاص. وقال الرسول إلى أهل كولوسّي: “هو صورة الله. فيه خُلق الكلّ (بمن فيهم الأنبياء والرسل)، ما في السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى. الكلُّ به وله خُلق” (1: 15-16).
ذاك ما يقوله بولس الرسول. إلاَّ إذا طردناه من الكتب المقدَّسة وأخذنا من النصوص ما نشاء من أجل فكرة مسبقة. في أيِّ حال، يقول بولس أيضًا عن اثنين ضالَّين اللذين كلمتهم كالآكلة (السرطان)، اللذين زاغا عن الحقّ” (2 تم 2: 17).
كانت انطلاقتنا من الصليب وها هي تعود إلى الصليب. فإذا كانت “كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، فهي عندنا نحن المخلَّصين قوَّة الله” (1 كو 1: 18).
رفض الغلاطيُّون (حول أنقرة في تركيّا الحاليَّة) الصليب وعادوا إلى العالم اليهوديّ، فدعاهم الرسول “أغبياء” مالوا عن الحقّ (3: 1) “أمام أعينكم رُسم يسوع المسيح بينكم مصلوبًا”. وبيَّن لهم بولس أنَّه ينال الاضطهاد لأنَّه ينادي بالصليب، فقال لهم: “وأمّا أنا، أيُّها الإخوة، فإن كنتُ بعد أكرز بالختان (يعني أكرز بالشريعة اليهوديَّة بحيث أرفض الصليب كما يُرفض حتّى اليوم) فلماذا أُضطهد بعد؟ إذًا عثرة الصليب قد بطلت” (5: 11). هذا يعني أنَّه إن كان الصليب يسبِّب العثار لليهود، فلأنَّه يدمِّر الافتخار الذي به يفتخرون بالشريعة. فكيف ينتظرون الخلاص من مصلوب تريهم إيَّاه الشريعة على أنَّه ملعون (3: 13)؟ ثمَّ إنَّ الكرازة بالصليب تلحق الضرر بطمأنينتهم على المستوى البشريّ. فالخبرة بيَّنت أنَّ الإيمان بالمسيح يجتذب على المؤمنين اضطهاد العالم (6: 12).
ولكنَّ شيئًا لا يمنع بولس من إعلان الصليب وإعلان تعلُّقه المصلوب. فقال: “وأمّا من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلاَّ بصليب ربِّنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالم لي وأنا للعالم” (آ14). ماذا يعني هذا؟ إنَّ المسيح، بصليبه، أدخل البشر في الخليقة الجديدة (آ15). وإذ عارض بولس الخليقة الجديدة بالعالم القديم بيَّن مرَّة أخيرة للغلاطيِّين ما يفصله فصلاً جذريًّا من خصومه. هؤلاء هم من العالم القديم (شأنهم شأن الذين يرفضون الصليب). وإذ يكرزون الختان (مثل اليهود) يجعلون نفوسهم بمأمن من الاضطهاد ويفتخرون بنجاح دعوتهم. أمّا بولس فلا يفرح ولا يتَّكل إلاَّ على صليب المسيح الذي وحده يحرِّره. فماذا ننتظر نحن الطالبين الحرِّيَّة والخلاص؟ وحده صليب المسيح المرفوع في كلِّ مكان هو سندنا وفرحنا وأملنا.
(النشرة، أيلول 2012)