الحوار المسيحي – الامامي متى ولماذا ؟

د. لويس صليبا
أستاذ وباحث في الدراسات الإسلامية والأديان والمقارنة – باريس

الحوار المسيحي – الامامي متى ولماذا ؟

أيها السادة:
طالما قلت وكرّرت في العديد مما كتبت أن الحوار المسيحي – الإمامي لم يبدأ بعد. ومن شأنه متى بدأ أن يقطع أشواطاً بعيدة، وبفترة زمنية قصيرة، وذلك لما بين الجانبين من قواسم مشتركة ووجوه شبه. وهذا الحوار، إذا بدأ، فهو لن يقطع الطريق على الحوار المسيحي – الإسلامي كما قد يظن البعض، ولن يعرقله، بل سيعينه ويعطيه دفعة إلى الأمام.
الحوار المسيحي-الإسلامي المتعثر
لن يعرقل الحوار الإسلامي – المسيحي فهو أساساً معرقل.  يقول أحمد السمّاك أمين عام اللجنة الوطنية للحوار المسيحي – الإسلامي- لبنان «لقد تعثرت كل محاولات الحوار المسيحي – الإسلامي التي جرت في السابق، سواء بين الإسلام والفاتيكان، أو بين الإسلام والأرثوذكسية، أو بين الإسلام والكنائس الإنجيلية. وربما يعود أحد أهم أسباب هذا التعثر إلى خلل في معادلة الحوار نفسها»( ).
ويحاول د. أحميدة النيفر الباحث والأستاذ في المعهد الأعلى لأصول الدين في جامعة الزيتونة تونس أن يشخّص أسباب هذا التعثر، فيروي وهو عضو جمعية الحوار المسيحي – الإسلامي، وقد شارك ورافق الكثير من مؤتمرات الحوار:«الطرف المسلم كان من الزاهدين في الحوار وفيما يمثله من فرصة لتجاوز انسداد الفكر الديني الذي استحكمت عراه في عالم المسلمين والمتصل خاصة بمنهجية قراءة النصّ القرآني»( ).
ويمضي د. النيفر في روايته وتحليله، فيستغرب أن يكون الطرف الأكثر حاجة إلى الحوار، هو الأقلّ حماساً له يقول:«مفارقة الحوار تكمن في أن الطرف المسلم هو من جهة الأقل انخراطاً فيه مع أنه موضوعياً الطرف الأكثر حاجة إليه وإلى المكاسب الدينية والفكرية المتوقعة منه»( ).
وفي بحث كتبناه مؤخراً تحت عنوان “المسيحيّون ومعضلة التسميات: كتابيون أم مشركون وكفّار” توقّفنا عند مسألة هي من أبرز معوقات الحوار. وقد بقيت عالقة رغم ألوف لقاءات الحوار المسيحي – الإسلامي منذ منتصف القرن العشرين. من تحاور؟ وما هو موقف محاورك منك؟ أو بالأحرى ماذا يعتبرك؟ هل أنت كتابي؟ أم مشرك أو كافر؟ أم الثلاثة معاً. فغالباً ما تطلق النعوت الثلاثة هذه على المسيحيين من دون تمييز.
وبالمقابل نجد أن الكنيسة قد بذلت جهوداً حثيثة في هذا المجال وتجاوزت نهائياً، وإلى غير رجعة، نعوتاً وأسماء كانت تطلق في السابق على المسلمين. وهذا ما توقفنا عنده مطوّلاً في كتابنا رسالة الأكويني في الردّ على المسلمين،ومما قلناه فيه «إن نعوت غير المؤمنين، ولحميين قد تخطّاها عصرنا الحاضر، وأصبحت جزءاً من ماضٍٍ بعيد.
فالكنيسة الكاثوليكية في أيامنا هذه، تدعو المسلمين مؤمنين وإن كانوا لا يؤمنون بكل ما يؤمن به المسيحيّون. وقد كرّس المجمع الفاتيكاني الثاني هذه التسمية وهذا التقارب.
جاء في مقرّرات هذا المجمع (دستور في الكرامة الإنسانية عدد 4) إن الكنيسة تظهر احتراماً كبيراً للمسلمين الذين يعبدون الهج الواحد،الحيّ الأبدي الرحيم القدير خالق السماء والأرض والذي يخاطب الناس»( ).
ويقرّ  د. النيفر بأهمية هذا الاعتراف المسيحي بالمسلمين كمؤمنين وأثره الإيجابي على تطوّر الحوار بين الطرفين ومستقبله، يقول: « أهمّ ما يعنيه الحوار بالنسبة إلى الكاثوليك هو الإقرار بشرعية الإيمان والسعي إلى الحقيقة لدى المسلمين. مثل هذا الاعتراف يعدّ أمراً فـي غاية الأهمية من منظور مستقبل الحوار وآفاقه أولاً، ومن زاوية الاعتراف المؤسساتي بالمسلمين ثانياً»( ).
هل من شأن الحوار المسيحي – الإمامي إذا انطلق أن يساهم في حلّ هذه العقدة؟
في البحث الذي أشرت إليه “المسيحيّون ومعضلة التسميات” أقول:«ولكننا إذا رجعنا إلى النصّ القرآني بحرفه وروحه معاً فإننا لا نجده يطلق على النصارى واليهود مباشرة صفة المشركين والكفار، وإنما جاءت هذه النعوت من باب تأويل النصّ وتفسيره، وفي زمن متأخر،ولم يكن ذلك في البدء وفي العصر النبوي، وكأنما ضرورات الصراع مع البيزنطيين وغيرهم ووجوب التشدّد مع أهل الذمة قد انعكست، تشدّداً في تفسير النص المقدّس» وهو ما سأعود إليه لاحقاً.
الحوار يتطلّب تجديداً في الفكر الديني من الآخر عند الطرفين. وقد خطت الكنيسة خطوة في هذا السبيل في المجمع الفاتيكاني الثاني (الستينات من القرن العشرين) وما تلاه. وعندما دعا البابا الطوباوي يوحنا الثالث والعشرون إلى هذا المجمع طرح شعاراً شهيراً له  Aggiornamentoأي عملية تحديث وتجديد وعصرنة والتأويل أو التأوين.
كيف يخاطب الإنجيل المؤمنين الآن؟
ومما لا شك فيه أن إقفال باب الاجتهاد منذ ألف عام والإبقاء على التسميات والمواقف القديمة من الآخر كانت عائقاً مهمّاً بوجه تطوّر الحوار.
وهنا يبرز دور اتباع أهل البيت والسائرين على نهجهم. فالشيعة لم يقفلوا باب الاجتهاد. وفي فقههم ليونة ومقدرة على التكيّف مع العديد من المستجدّات.
وفي الحقيقة فكثيرة هي الأمور المشتركة أو المتشابهة على الأقل بين الإمامية والمسيحية: الشهادة والفداء، العصمة، الإمامة والحبرية، تكريم الأيقونات أو استخدامها على الأقل، مريم وفاطمة عليهما السلام، فاطمة تسمّى عند الشيعة بتول وهو لقب سرياني أعطي تحديداً لمريم.
ولا يتّسع بنا المقام لبحث هذه المفاهيم وما فيها من أمور مشتركة أو متشابهة على الأقل، فكل منها يحتاج ويصلح موضوعاً لبحث مطوّل مقارن.
تبقى معضلة التسميات التي سبقت الإشارة إليها. وفي بحثي المذكور تساءلت كيف يحلّل طعام الكتابيين في النص القرآني وتحلّ نساؤهم للمسلمين ثم يعتبرون مشركين وكفاراً وهؤلاء لا يحلّ طعامُهم ولا نساؤهم! وبحثت في الخلاف بين السنة والشيعة في طهارة الكتابيين ولن أعيد هنا – ما فصّلت الكلام عليه في هذا البحث. وأكتفي بالقول بأنني – عرضت لأحكام نجاسة الكتابيين في المصادر الشيعية القديمة مثل شرائع الإسلام للمحقق الحلّي (ت676ﻫ) وفي المراجع الفقهية الحديثة مثل تحرير الوسيلة للإمام الخميني. وتناولت آراء عدد من المستشرقين في هذه المسألة، وأبرزهم أجناس جولدتسيهر الذي يؤكّد أن التشدّد في الفقه الشيعي وتحريم أطعمة الكتابيين واعتبار لمسهم مصدر نجاسة جاء بتأثير من التقاليد والعقائد الزرادشتية. ثم ختمت بما بعض فقهاء أظهر الشيعة ومراجعهم الحاليين من مرونة في هذا المجال. واجتهادات آية الله محمد حسين فضل الله في طهورية الكتابيين بل وكل إنسان مثال على ذلك.
وكان الهدف من هذا العرض المفصّل إظهار مرونة الفقه الشيعي ومطواعيته ومقدرته على التكيّف مع ما يستجدّ من أوضاع. وقد خلصت فيه إلى القول إن الحوار المسيحي – الإمامي حتمية حضارية لا مفرّ منها. فزمن التقوقع والعزلة الذي عاشته جماعات الإمامية وغيرها وبعض طوائف مسيحيي الشرق قد ولّى إلى غير رجعة. وقد آن أوان الدخول في عصر اللقاء… والحوار.
وقائع تاريخية في اللقاء المسيحي – الإمامي
وواقع الأمر أن الحوار واللقاء.. قد بدأ ومنذ القِدم بين المسيحيين والإماميين. وكان لبنان بجباله التي أوَت الأقليات المضطهدة أحد مسارح هذا اللقاء.
يروي الرحّالة العربي الشهير ابن جبير الذي قام برحلة إلى فلسطين ولبنان نحو 578ﻫ/1182م، إبّان الحقبة الصليبية، عن مسيحيي جبل لبنان ما يلي:
«ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا بعض المنقطعين المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله عزّ وجلّ فتجب مشاركتهم (…)وإذا كانت معاملة النصارى لضدّ ملّتهم هذه المعاملة. فما ظنّك بالمسلمين بعضهم مع بعض»( ).
ومثل آخر من كتاب حققتُه ونشرتُه هو مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان لميخائيل بن جرجس مُشاقة (ت1305ﻫ/1887م). يروي هذا الأخير عن أبيه جرجس أنه بنى أول مسجد للشيعة في صور، وقد فاجأ بذلك السلطات العثمانية التي كانت تضيّق على هؤلاء، فاستدعاه الوالي، وسأله عن عمله المستغرب هذا. ولنستمع إليه يسرد الخبر بأسلوبه القريب من العامّية:«ولما تكاثر بها المسيحيون [أي صور]،صار الشروع بعمار كنيسة على اسم القديس توما الرسول. وحيث البلدة لم يكن فيها جامع للمسلمين حيث إسلامها من فرقة الشيعة الذين لا تصحّ الصلاة الاجتماعية عندهم إلاّ في شروط لا توجد في جميع المحلاّت والأوقاف، خلافاً لمذهب السنّيين الذي هو مذهب الدولة مع أكثر رعاياها المسلمين، فاستحسن جرجس مشاقة المذكور أن يبني من ماله جامعاً للمسلمين، وحصل الشروع بعمارته مع عمارة الكنيسة. وعندما بلغ ذلك وزير صيدا استدعى جرجس مشاقة المذكور لعنده وسأله عن ذلك. فأخبره إني رأيت المسلمين الذين يحضروا إلى صور من أصحاب الأشغال أو عابري الطريق أو من الدراويش السيّاح الذين لا يوجد لهم مكان يأويهم، ولا محلّ إجتماع الصلاة، وأن عدم وجود جامع في المدينة هو من الأمور الجالبة المذمّة لأهاليها عند الناس والباري تعالى، لا يسمح بقصور كهذا»( ).
وكانت النتيجة أن سرّ الوالي بهذه البادرة وسمح بإكمال البنيان، لا بل أصرّ على بناء المئذنة من ماله لتكون له شركة في هذا العمل( ).
تلك أمثلة بيّنة وساطعة على اللقاء المسيحي الشيعي ولمقدمات الحوار بين الطرفين في العصور الغابرة.
ماذا عن يومنا الحاضر؟!
أهل البيت في الفكر اللبناني – المسيحي
في الفكر اللبناني المعاصر ظاهرة لم تدرس بعد، ولم تحظَ بما تستحق من عناية، وبحث: إنها كتابات الأدباء اللبنانيين وبحثهم في الإمام عليّ وأهل بيته. فأربعة من الأساطين خلّفوا مساهمات نفيسة في هذا المضمار.
بولس سلامة (1910 – 1979) شاعر ومفكّر لبناني، كتب  أول ملحمة شعرية عربية “عيد الغدير” وكان موضوعها الإمام علي وأهل بيته.
سليمان كتاني المولود في المهجر 29/02/1912. والمتوفي في يوم مولده 29/02/2004 ونسيب الأديب الكبير ميخائيل نعيمة له مجموعة كتب في الرسول وآل بيته عليّ وفاطمة والحسن والحسين وسائر الأئمة عليهم جميعاً السلام.
نصري سلهب (1921 – 2007) سفير لبنان في الجزائر والبرتغال ومالطا ولا سيما في الفاتيكان كتب في خطى محمد وفي خطى الإمام علي.
جورج جرداق وُلد 1933، الشاعر والصحافي إبن مرجعيون في جنوب لبنان، له سلسلة كتب في الإمام علي مفكّراً ورائداً إنسانياً وروحياً عنوانها: الإمام علي صوت العدالة الإنسانية.
فما الذي دفع هؤلاء المفكّرين إلى إنتاج هذا الإرث الثقافي القيّم؟
لقد ربي هؤلاء وربينا نحن على حبّ عليّ وآله وحبّ بيانه وفضائله، يقول جورج جرداق في ذكرياته:«في عمر الثالثة عشر كنت أحفظ غالب نهج البلاغة، فقد جاءني أخي وأنا في نحو العاشرة من العمر وقال لي أدرس هذا الكتاب بصورة خاصّة، واحفظ منه كل ما تستطيع، فإن فيه الخير كل الخير لِمَن يطّلع عليه ويحفظ ما فيه».
وشهادة جورج جرداق هذه تذكّرني بما حصل لي شخصياً في صباي، كنت في مثل سنّه تقريباً عندما جاءني عمّي الخوري فرنسيس صليبا، وهو كاهن ماروني ومدير للدروس العربية، بنهج البلاغة طالبا أن أقرأه وأعيد القراءة ليشرق بياني وأتعلّم العربية من أبرز مصادرها ، وهذا الكاهن المسيحي الذي كان أباً روحياً عشت في كنفه لم يختر لي من الكتب سوى كتاب أمير البيان، وكم كان يردّد على مسمعي«كلامه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق».
هي أمثلة وغيرها كثير، توضح كيف نشأ كثير من مسيحيي لبنان على حبّ علي، ر، والتشرّب من فضائله وبلاغته. ولا عجب في الأمر. يقول بولس سلامة شارحاً هذه الظاهرة «يذكره [أي علي] النصارى في مجالسهم فيتمثلون بحكمه ويخشعون لتقواه ويتمثل به الزهّاد في الصوامع فيزدادون زهداً وقنوتاً. وينظر إليه المفكّر فيستضيء بهذا القطب الوضاء. ويتطلّع إليه الكاتب الألمعي فيأتم ببيانه»( ).
ولا يمكن لأي مسيحي شرقياً كان أم غربياً أن ينظر إلى شخصية الإمام علي وقيَمه وفضائله من دون أن يشعر أنه يشاركه هذه القيم، وأن يتوجّع لألمه. يقول المستشرق  البارون كارّا دوفو:«وعليّ هو ذاك البطل الموجَع المتألم، والفارس الصوفي، والإمام الشهيد ذو الروح العميقة القرار التي يكمن في مطاويها سرّ العذاب الإلهي»( ).
هذا الشبه، بل هذا التقارب حتى التماهي بين القيم المسيحية والفضائل العلوية أدركته ووعته أجيال مسيحية عديدة في لبنان. وهو لوحده يصلح أساساً متيناً لحوار مسيحي إمامي مثمر وبنّاء.
يقول سعيد عقل، الشاعر اللبناني المسيحي المبدع في ذلك:
حبَبْتُ علياً مُذ حببتُ شمائلي
له اللغتانِ: القولُ يشمخُ والعضبُ( )
وإن كنا قد ذكرنا أربعة مفكرين مسيحيين مِمِّن خصّ عليّاً وآل البيت بأبحاث وكتب مستقلّة. فقد مهّد لهؤلاء أعلام الأدب اللبناني وقممه. ونكتفي هنا بذكر أمثلة من شوامخ هذا الأدب شبلي الشميّل، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة وسعيد عقل.
شبلي الشميّل، (1850 – 1917) طبيب مسيحي لبناني. اشتهر بالفكر الحرّ، وبنشر نظرية داروين في النشوء والارتقاء، وبنقد الظلم الاجتماعي، وإلى هذه الميزة الأخيرة يعود حبّه للإمام عليّ، ص، يقول الشميّل: «الضمير العملاق الإمام عليّ بن أبي طالب عظيم العظماء، نسخة مفردة، لم يرَ الشرق ولا الغرب نسخة طبق الأصل عنها لا قديماً ولا حديثاً».
ويقول عبقري الأدب اللبناني المفكّر المهجري جبران خليل جبران(1883 – 1931):«عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلّية وجاورها وسامرها، وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من ذي قبل. فتاهوا بين مناهج بلاغته وظلمات ماضيهم. فمَن أُعجب بها كان إعجاباً موثوقاً بالفطرة، ومَن خاصمه كان من أبناء الجاهلية»( ).
يلفتنا هذا التقسيم الواضح عند جبران بين المؤمنين بعلي مَن هم على الفطرة، والإسلام دين الفطرة يقول الحديث الشريف، وبين أخصامه ومعادييه الذين عادوا إلى الجاهلية، وهذا تحديداً ما قاله الإمام ، ر، متحسّراً آسفاً أيام الفتنة:«ألا إن بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الهه نبيّكم»( ).
لقد أيقن أمير المؤمنين يومها أنه قد تبدّد كل ما بناه المسلمون الأوّلون وذهب كل ما سعى الإسلام لإقراره في العرب وغيرهم. وعاد الإسلام وقد صار قناعاً ممزّقاً لم يبقَ منه إلا رسومه. أما الجوهر فقد دفن مع مَن مات من المسلمين الأوّلين.
ويلخّص لنا جبران مأساة الإمام هذه بتعابير عَلَوية تجمع الأسى إلى درر البلاغة، فيقول:«مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته، مات والصلاة بين شفتيه، مات وفي قلبه الشوق إلى ربّه. ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجواهر والحصى».
ويستدرك جبران فيتخيّل الإمام راضياً مبتسماً آملاً قبل أن يرحل:«مات قبل أن يُبلغ العالم رسالته كاملة وافية. غير أنني أتمثله مبتسماً قبل أن يغمض عينيه عن هذه الأرض، مات شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم وإلى قوم ليسوا بقومهم. وفي زمن ليس بزمنهم. ولكن لربّك شأن في ذلك وهو أعلم».
يلمّح جبران هنا إلى الشبه بين شهادة علي ورسالة المسيح وفدائه، وهو شبه وعاه الكثير من مسيحيي المشرق وتحدّثوا عنه، لا بل خبروه وعاشوه أحياناً. ولا شك أنه كان عاملاً مهمّاً من عوامل القرب بينهم وبين شيعة علي وأهل البيت.
وكان جبران يجلّ الإمام علي ويعظمه ويكرّر اسمه في مجالسه الخاصة والعامة وفي خلواته. يقول ميخائيل نعيمة رفيق دربه في ذلك:«أذكر أن جبران كان يجلّ الإمام كثيراً ويكاد يضعه في مرتبة واحدة مع النبي»( ).
وللإمام أثر بيّن في أدب جبران العالمي، وهو موضوع يتطلّب بحثاً منفرداً. أكتفي هنا بلمعة واحدة. لجبران قول مشهور في كتاب النبي:«أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة، لكم أن تمنحوهم محبتكم لا أفكاركم لأن لهم أفكارهم.. ونفوسهم تسكن بيت المستقبل. والحياة لا ترجع إلى الوراء( ) وفي قوله هذا يبدو جبران متأثراً بوصية الإمام الشهيرة: لا تخلّقوا أولادكم بأخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم».
ويعتبر ميخائيل نعيمة (1889 – 1988) وهو واحد من شوامخ الفكر والأدب اللبناني، أن الإمام كان منتصراً بالنهاية، يقول:«إلا أننا ما استسلمنا يوماً للقنوط، ولن نستسلم، فالنصر لنا بشهادة الذين انتصروا منّا. وابن أبي طالب منهم» ( ).
ويبيّن نعيمة أن الإمام إرث عالمي شامل لا يُحصر بمكان ولا دين ولا زمان:«عظيم من عظماء البشرية أنبتته أرض عربية، ولكنها ما استأثرت به، وفجّر ينابيع مواهبه الإسلام، ولكنه ما كان للإسلام وحده»( ).
والإمام علي، يقول نعيمة، ليس مجرّد عظيم من العظماء بل هو عظيم العظام:«هناك عظام يثيرون إعجابك لا أكثر. وعظام يثيرون إعجابك وإجلالك. أما الذين يستأثرون بمحبّتك فوق استئثارهم بإعجابك وإجلالك فأولئك هم العظام العظام. فهم لا يقولون عكس ما يفعلون، ولا يفعلون نقيض ما يقولون. فحياتهم صورة صادقة لما تبوح به ألسنتهم وتذيعه أقلامهم. وأنت لا تحبّهم إلاّ لأن كل ما يصدر عنهم مفعم بالمحبة لك. وعلي بن أبي طالب واحد من أولئك العظام العظام» صدق الإمام علي وهذا التماهي بين ما يقوله ويفعله واحد من أبرز عناصر السحر في شخصيته.
ويؤكّد نعيمة أن كل إنسان يستوحي من سيرة الإمام نهجاً للفضائل والإيمان والبلاغة يقول:«بطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه وعمق إنسانيته، وحرارة إيمانه، وسموّ وعيه ونصرته للمحروم والمظلوم من الظالم والحارم. وتعبّده للحق أينما تجلّى له الحق، وهذه البطولات ومهما تقادم بها العهد لا تزال مقلعاً غنيّاً نعود إليه اليوم وفي كل يوم كلّما اشتدّ بنا الوجد إلى بناء حياة صالحة فاضلة»( ).
ويرى نعيمة أن الإمام علي تميّز عن كل العرب بصفاء بصيرته وهي ميزة كبار الحكماء، وكذلك بالقدرة على التعبير البليغ المعجز عن صفاء البصيرة هذا:«ليس بين العرب من صفت بصيرته صفاء بصيرة الإمام علي. ولا مَن أوتي المقدرة في اقتناص الصور التي انعكست على بصيرته وعرضها في إطار من الروعة هو السحر الحلال. وحتى سجعه وهو كثير، يسطو عليك بألوانه وموسيقاه»( ).
إنها شهادة كاتب مبدع ومفكّر بلغ حدود العالمية.
ويوقّع نعيمة اللوحة التي رسمها للإمام مسيرة ومناقب بجملة ختامية تؤكد أن عليّاً أعظم رجل عربي بعد النبي» ( ).
ويعيد نعيمة التأكيد على حكمه هذا في رسالة له، فيقول:«تسألني رأيي في الإمام، إنه من بعد النبي سيّد العرب على الإطلاق بلاغة وحكمة وتفهّماً للدين وتحمّساً للحق، وتسامياً عن الدنايا»( ).
وسعيد عقل شاعر لبناني من فطاحل الشعراء نعيّد له هذه السنة عيد مولده المئة أطال الله  بعمره. يقول في الإمام عليّ في قصيدة عصماء:
كلامي على ربّ الكلام هوى صعبُ
    
    تهيّبتُ إلا أنني السيف لم ينبُ

حببت علياً مذ حببت شمائلي
    
    له اللغتان: القولُ يشمخ والعضبُ

بهذاك يعليها بهذا يزيدُها
    
    أيكبو؟ ولكن الأصائلَ لا تكبو

كأشرف مَن قاسى وأسمح مَن سخى،
    
    تقولُ على رملِ البوادي له حدبُ

بلاغته الليلاء أسُّ أريكة
    
    فكيف إذا أبلى الذي وثبُه الوثبُ

وهل يا ترى؟ هل قادرٌ خنجرٌ على
    
    حبيبِ فرندٍ؟ بكّني وابكِ يا حبُّ

تخيّلتهم يوم الغدير وقد سما
    
    سماوبُّهم بلِّغ  فمزّقت الحجْبُ

فقال ألا مَن كنتُ مولاهُ فليكنْ
    
    وأكملها، يا طيبَ ما اكتمل الدربُ

وكانت إمامات وكانت مطارحٌ
    
    محطُّ نزول الله أو يقربُ القرب

ففي كل أرضٍ بعدُ بيتٌ مطيّبٌ
    
    على اسم الأولى في الكُتْبِ ليس لهم شطبُ

ومَن لا يحبّ البيتَ سيف عليّه
    
    جميلٌ، وذاك النهجُ كوثرُهُ عذبُ

كلامٌ كما الأربابُ في طَيلسانها
    
    ألا فَلْتداوُلهُ وترتعشِ الكُتبُ( )

سعيد عقل 1974 ص 80 – 84
«إذا كان التشيّع حبّاً لعليّ وأهل البيت المطيّبين الأكرمين وثورة على الظلم وتوجّعاً لماحلّ بالحسين وما نزل بأولاده من النكبات في مطاوي التاريخ فإنني شيعي» يقول بولس سلامه( ).
وبعد … فلو شئنا أن نستزيد من هذه التحيّات العطرة بل والصلوات على عليّ وأبنائه وسائر أهل بيته لطال بنا المقام إلى ما لا نهاية، حسبنا منها أنها دليل يقطع الشك باليقي على أن الحوار المسيحي-الإمامي قد أُعدّ له منذ قرون، لا بل قد باشره مفكّرون وجهابذة من مسيحيي لبنان منذ زمن.
فهل ردّت هذه التحية بمثلها؟
علينا جميعاً أن نعدّ أنفسنا لهذا اللقاء والحوار الحتميّ الآتي وأن ندخل في الحوار بنيّة فهم الآخر لا إفحامه ولا حتى على الأقل إقناعه. فإما أن ندخل معاً في الحوار أو نخرج معاً من التاريخ.
ينقل المؤرّخون عن قائد جيش المماليك المهزوم أنه قال للسلطان العثماني سليم بعد معركة القاهرة: لقد انتصرتَ علينا بالمدافع، ولو حاربناك بها لتغلّبنا عليك، ولكننا نستعملُ السيوف على سنة نبيّنا محمد( ) والسلف الصالح.
هذا الفكر الرجعي هو تحديداً ما نواجه معاً في هذا الشرق.
ولا يغربنّ عن بالنا هنا أن الخليفة العباسي المتوكل (232 – 247ﮬ/847 – 861) الذي هدم قبر الحسين في كربلاء وسخر من الإمام علي واضطهد شيعته هو نفسه مَن أنزل بالمسيحيين صنوف الاضطهاد ووضع الشروط العمرية لتضييق الخناق عليهم، كما بيّنا في دراسة لنا( ) وغالباً ما كان الاضطهاد يلحق بالفريقين معاً.
أيها السادة:
في هذا الحرم القدسي حيث يعبق أريج شهادة الحسين وحيث اجتث الرأس المقدس كما قَطع الملك الباغي رأس يوحنا السابق (النبي يحيى). في هذا الحرم أشعر وتحسّون أن شهادة الأنبياء ودماء الأئمة والأولياء تهتف إلينا أن نكون واحداً بوجه الظالمين… هم هم أنفسهم في زمن يحيى وعيسى والحسين وفي يومنا هذا.
 والسلام عليك يا سيد الشهداء
وعلى كل مَن سار على درب شهادتك

شاهد أيضاً

Notes from a videoconference by Lwiis Saliba on Zoom, May 2024, about Alzheimer’s and its prevention.

Notes from a videoconference by Lwiis Saliba on Zoom, May 2024, about Alzheimer’s and its …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *