مذكرات الشاعر أحمد الصافي النجفي

المقدّمة

لئن كان هذا الكتاب حواراً فإنه حوار طرشان لاجرم وهذا في المبدأ ناهيك بأن الحوار يكون في العادة بين شخصَين يعرض أحدهما رأياً ويذبّ عنه فيتصدّى له الآخر فيفنّد حججه بعقل ورويّة وتدبّر حتى يفحمه أو يسلّم بما قاله محاوره إن لم تستقم له الحجة ولا قام له برهان.
على أن ما بين يدينا ليس حواراً بل إنما  هو نصّ اجترح فيه الكاتب شخصاً يقول له ما يختصر رأي الآخر وهو رأي المسلمين بعامّة ثم يردّ عليه والغريب أن الهاشمي وهو من سلالة يفترض أنها عيبة اللغة ومهبط الوحي ومختلف الملائكة لا تختلف لغته ولا يتميّز نطقه عن الكندي بكثير أو قليل، غير أن الهاشمي يمتاز عن الكندي بتهذيب أكبر فلا يرغي ولا يزبد ولا يعلن كراهية ولا يفتري.
والهاشمي وهو على ما جاء في المقدمة “رجل من أجلّة الهاشميين من بني العبّاس، قريب القرابة من الخليفة، معروف بالنسك والورع والتمسّك بدين الإسلام وشدّة الإغراق فيه والقيام بفرائضه وسننه، مشهور بذلك عند العامّة والخاصّة “لا يبدو أنه يعرف عن الإسلام أكثر ما يعرفه الأكّار في ضيعتي. وهذا غريب وعجيب من رجل قريب من الخليفة ويرتبط نسبه بالنبيّ ويقرأ في كتب الآخرين ويهبّ لمنافحتهم وتكذيب معتقداتهم والأخذ بيدهم إلى الجادّة.
أمّا الجادّة فحدّث ولا حرج فهي  تفضي إلى حان وخمّارة لا إلى حالة من السلام والسكينة والطمأنينة بحضرة من خلق الخلق وأعطاهم من روحه وعقله ونوره ولئن صحّ الترغيب بالماء والخضراء والوجه الحسن في الزمان السابق فإن ذلك لا يجزئ أحداً في زمان كانت فيه الأمبراطوريّة الإسلاميّة في أوجها واللذّة متيسّرة لكل طالب وبأيسر السبل. الهاشمي شخصيّة مختلقة وقلّة بضاعته من العلم بالإسلام سببها الخبث وليس الجهل، فالكندي وهو عندي إسم مختلق أيضاً تقف خلفه شخصيّة لاهوتيّة على قدر واسع من الدربة والمعرفة والمران قدّم الإسلام فولكلوراً وليس ديناً. هذا ولم يخل الأمر من دسّ واختلاق هنا وهناك كالحديث المنسوب إلى عمر بن الخطاب والذي لم أعثر لا أنا ولا المحقق عثر على أصل له في أيّة مظنة والذي يوصي المسلم ببيع جاره النبطي إن هو احتاج أي المسلم مالاً. إن هذا افتئات وقذف غير مبرّر بحق عمر ولا سيما وأنه هو الذي أراد أن يحدّ أحد الصحابة في ذنب ارتكبه بحق عبد نبطي، فضلاً عن الحدّ الذي فرضه على ابن عمرو بن العاص الذي أقدم على ضرب مصري، وفضلاً عن حكاية جبلة بن الأيهم وردّته لأن عمرا أبى إلاّ أن يساوي الملك بالسوقة. والحديث ليس من عندي بل مبسوط بسنده في أكثر من مجموع. وإلى هذا فثمّة حديث يقول بأن عليّاً نهى أمرءاً عن تلاوة آية المتعة وأن عائشة زوج النبي تصدّت له، وفي هذا الحديث تطفيف وسوء  كيل وجهل مركب، فالمعروف والعام أن الشيعة هم مَن يقول بالمتعة وأن عمرا هو من حرمها هي ومتعة الحجّ. هذا ولم يبلغني ولا أعلم أن عائشة كانت من المناديات بالمتعة أو المحرّضات عليها.
أما محمد والكاتب الكندي يقول إنه يكره حتى التلفّظ باسمه فمفتئت عليه إلى قدر يسيء حتى أكثر الناس قبولاً بالنقد ومسايرة للعقل، فمحمد في النصّ قاطع طريق وشهواني ومختلق ويكذّب حتى على الله فالقرآن كتابه هو إلى آخر السكباج.
أنا أقبل النقد ولكن لا أقبل القذف والشتيمة فالنقد عمل عقلي يجلي رؤيتنا ونظرتنا إلى العالم ويعزّز فهمنا لوجودنا الإنساني، ولكن الشتيمة لا تؤدّي إلاّ إلى الإحن والكراهية فالدم لا محالة وتاريج الزجليات الدينيّة أكانت مسيحيّة إسلاميّة أم يهوديّة مسيحيّة أم إسلاميّة إسلاميّة حافل بالضحايا والكوارث.
يستشهد الكاتب بآيات يستخرجها من سياقها ويقدّمها دليلاً وأقول إن ما من كتاب لا يمكن إخراج بعض عباراته من سياقها وتقديمها دليلاً، وفي هذا إجحاف كبير بحق العقل وبحق الفهم الإنساني. فالسيّد المسيح الذي جاء ليفرّق بين الأب وابنه وجاء بالسيف وما كان ليطرح خبزه للكلاب الضالّة هو عينه السيّد المسيح الكلي المحبّة والرحمة والتعاطف والتسامح. وإخراج الكلام من سياقه ليس إلاّ تزويراً للتاريخ وتزويراً للدين. ولا أقول شيئاً عن العهد القديم، فالإمكانيات متوفرة بحيث لن يعدم المرء في كل يوم أحداً ينعي على التوراة ميلها للعنف والعنصريّة وما شاكل ذلك من قديم التسميات ومحدثها.
أنا هنا لست بصدد الدفاع عن الإسلام ولا عن نبيّه فهي مسألة أعافها وأكرهها منذ زمان بعيد، فأنا مع النقد التاريخي والموضوعي ومع مقارنة الأديان ومع حرّية البحث والاعتقاد. ولكنني ازدري وأبغض كل إسفاف في التعاطي مع معتقدات الأمم ومقدّساتها. وبصرف النظر عن المسيح وموسى ومحمد ومكانتهم فإنني لا أجد مانعاً ولا حائلاً يحول دوني أو دون سواي من البحث والتمعّن في ما قالوا وما فعلوا وأثر ما قالوا وما فعلوا، فالعصمة عندي مصطلح وافد والقرآن يكرّر ويؤكّد على بشريّة الرسول وآدميّته، وهو بهذا يفتح المجال واسعاً أمام العقل الإنساني ناهيك بأن النبيّ نفسه كان يعرف حدوده، وهذا واضح في قضيّة تأبير النخل وفي قضيّة الخندق حين أشار على مناصريه بأمر فسأله سلمان أهو رأي رأى أم وحي أوحِي فقال إنه رأيه وحسب، فأشار عليه سلمان بالخندق، فأخذ بما أشار به. والبقيّة معروفة وإلى وهذاك فإن في حديث إنما أنا رجل من قريش أمي امرأة كانت تأكل القديد وفي حديث موت ابنه إبراهيم ما يكفي لِمَن لا يعرف.
أمّا مسألة العنف والتدمير فإن بوسع مَن شاءَ العودة إلى وصاياه حين كان يسيّر السرايا فيأمرهم أن لا يتعرّضوا لشجرة أو دابّة أو ما شاكل ويقول إنهم سيجدون رهباناً في صوامعهم فعليهم أن يذروهم وما هم فيه.
وأمّا مسألة النساء فمحمد رجل كباقي الرجال وكان يهوى النساء وقد صرّح بذلك مراراً وأفرط الصحابة والتابعون بإحسان في الخوض في أدق التفاصيل الحميمة لهذه المسألة، الأمر الذي أمقته حقاً وأراه  ينمّ عن حالة مرضية راسخة، بيد أنني لا أعلم أن محمداً قد أكره أحداً أو اغتصب أحداً من النساء وكان لِمَن رأت نفسها مغتصبة مقهورة أن تنال منه بأيسر سبيل، وما خبر الشاة المسمومة عن أحد ببعيد، وفي حديث أسماء بنت النعمان الكنديّة الذي يرجع إليه الكتاب مراراً ما ينفي عن الرجل صفة الإكراه. فهي حين قالت له ما قالته لم يزد على أن طلّقها دون الدخول بها وردّها إلى أهلها والخبر موجود ومن طرق عدّة وبأسانيد مختلفة .
وأما معجزات محمد فإنني أرى أنها كتبت بآخرة مع ما كتب من إسرائيليات. وهنا أوافق الكاتب تقريره عن دور وهب وكعب وابن سلام السامّ الأمر الذي انتبه له رجال الإسلام ولكن بعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسر كما يقال.
إن لكل نبي أو مرسل ما يشبه عقب آخيل يصيب منه المتجنّي مقتلاً.والكاهن الذي تقمّص الإثنين معاً الهاشمي والكندي يسقي المسلمين من كأس لطالما سقت منه اليهود النصرانيّة وأفرطت حتى نالت من قدسيّة السيّدة العذراء، ولا أراني بحاجة إلى تكرار ذلك الهول من البذاءة والسفه في حق السيّدة وابنها وهو روح الله وكلمته.
إن عندي الكثير مِمّا أقوله في الشريعة الإسلاميّة وإنها في بعض مواضيعها ومطالبها تحتاج إلى نسخ وأخذ بأسباب التطوّر والتبدّل الذي جرى منذ الرسالة وحتى اليوم، وعندي ما أقوله في سلوك الكثير من رجالات الإسلام ولكن بعيداً عن الإسفاف والبذاءة، ومع ملاحظة الزمان والمكان، لا تبريراً ولكن محاولة للفهم. ومعلوم أن التاريخ نصاً ليس إلاّ أداة نستعين بها ونتوكّأ عليها لفهم ما كان وما يكون. وهكذا تكون القراءة وهكذا يكون بناء العالم وهكذا يكون تطهير العرق البشري.
أنا أمقت هذا الكتاب إنساناً وما يثير حفيظتي فيه ليس كَوني وُلدت لأبوَين مسلمَين بل لأنه يهين عقلي ويهين المسيح الذي أوصى بالإحسان للمسيء وبمباركة مَن يلعنك ولم يوصِ قطّ بلعن أحد بَـلْـهَ مَن قال إنك أكثر مودّة وأقرب رحما غير أنني لا أحول دون نشر هذا الكتاب لأنني أرجو أن يفتح بصر وبصيرة البعض  فيراجع المسلم المؤمن مسلّماته وينظر المسيحي فيه فيرى كيف أن الكره يتجنّى ويفتئت حتى على الله.

                          الزرارية في الثالث من أيلول 2009
                                    سحبان أحمد مروه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *