الوصايا العشر لضبط الانفعالات/محاضرة لويس صليبا على Zoom الأربعاء، 12 شباط 2025
في المحاضرة السابقة (22 /1 /2025) قدّمنا عرضاً عامّاً للانفعالات السلبية كالخوف والغضب والزعل وغيرها، وأشرنا إلى تأثيراتها المؤذية والسيئة على الصحّة النفسية والجسدية، وعرضنا لأبرز أسباب تفاقم هذه الانفعالات، وخروجها بالتالي عن دائرة السيطرة، وخلصنا إلى أنّه رغم الطابع الغريزي لانفعالات الإنسان بمجملها، فهو يبقى قادراً على ضبطها والتحكّم بها وإدارتها بما فيه الخير والمنفعة له وللآخرين في آن. ولا يغربنّ عن بالنا هنا أن أمراضنا الجسدية برمّتها سببها الضغوطات والتنشنّجات Stress، أي أنها ناتجة في الحقيقة والواقع عن انفعالات لا نحسن ضبطها ومعالجتها. فالسرطان نفسه يمكن أن ينتج عن زعلٍ مفرط ومكبوت، كما تؤكّد بعض الأبحاث. والزعل يسبّب مرض السكّري أيضاً. وهنا يظهر جليّاً أهمّية التعامل مع انفعالاتنا والسيطرة عليها، فهي مسألة تجنّبنا معظم الأمراض إن لم يكن كلّها.
وفي هذه المحاضرة سنعرض لنصائح عملية وتطبيقية لضبط هذه الانفعالات وقد لخّصناها في وصايا عشر استخلصناها من تعاليم اليوغا والتصوّف المقارن وعلم النفس الروحي.
1-عُدّ للعشرة
الوصية الأولى لضبط الانفعالات المخلتفة هي العدّ، فقبل أن تغضب أو تبكي أو تزعل حاول أن تَعُدّ. وهي في الحقيقة نصيحة شعبية مألوفة إذ يُقال لمن أوشك على أن يحتدّ ويغضب: عدّ للعشرة. فهذا العدّ يمنحه فسحة زمنية تتيح غالباً لغضبه أن يهدأ ويستعيد بالتالي هدوءه وحالته الطبيعية. ولا يغربنّ عن بالنا هنا أن الغضب، وكما ذكرنا في المحاضرة السابقة “جنون مؤقّت” كما يقول العديد من علماء النفس، أفلا يستحقّ تجنّب نوبة من الجنون منّا أن نتروّى ونعدّ إلى العشرة؟! ولنتذكّر هنا المثل العربي القائل: في التروّي السلامة، وفي العجلة الندامة، فلا نستعجلنّ بتاتاً أي دخولٍ في حالةِ غضب أو قلقٍ، تحرق أعصابنا، وتحجب عنّا الرؤية الواضحة والمتّزنة للأمور.
2-خذ نفساً عميقاً
وهي الأخرى نصيحة شعبية متواترة، إذ يقال للمنفعل خذ نفَساً. فالنفَس العميق وكذلك مراقبة النفَس والتنفّس لها مفعول مسكّن للفكر وللبدن. لذا، وببساطةوكما تعلّم اليوغا، فعندما ترغب بأن تتحكّم بانفعالاتك مارس تمارين التنفّس البسيطة وراقب نفسَك: زفير عميقٌ أتبعه بشهيق عميق تخرج معه التشنّجات وستجد أن مزاجك تغيّر وصرتَ أكثر ميلاً للهدوء. وتنصح اليوغا أيضاً بحبس النفَس بعد الزفير، فمن شأنه تبطئة وتيرة نبضات القلب والتخفيف في إفراز الأدرينالين وتنشيط الجهاز ما بعد السمبتاوي، وبالتالي تهدئة الفكر والبدن في آن وتحاشي سورة غضب أو تفاقم الخوف أو أي انفعالٍ سلبي آخر.
3-مارِس الرياضة
من الأمور التي تحافظ على الصحة النفسية وتجعل الإنسان قادرًا على التحكّم بانفعالاته ممارسة الرياضة البدنية أو اليوغا من وضعيات وغيرها. ومن الرياضات المفيدة في هذا المجال السباحة أو الجري أو ركوب الدراجة الهوائية، أو المشي للمتقدّمين في السنّ. فالتمارين الرياضية تساعد على إشغال الذهن وتخفّف تلقائياً من حدّة الانفعالات. وهذا شأن اليوغا البدنية Hatha Yoga أيضاً فهي تعزّز ليونة الجسم وتسكّنه كما تهدّئ الفكر.
فعلى كلّ امرئ أن يختار النشاط الرياضي الذي يناسبه ويتلاءم مع عمره وبنيته الجسدية وصحّته.
4-مارس تمارين التمدّد والاسترخاء
الاسترخاء ترياق مجرَّب وفعّال لكلّ تشنّج وتوتّر. وتنصح اليوغا بتحسّس كلّ انفعال في بدننا، فهو يتجسّد عموماً توتّراً في منطقة أو عضوٍ ما، وهنا نرخي هذا العضو عوض أن نتركه مشدوداً بفعل التوتّر والانفعال ممّا يجعل هذا الأخير يهدأ ويستكين. والاسترخاء، على بساطته، هو في الحقيقة دواء للقلق ومن شأنه أن يجتثّه من جذوره.
5-وجّه انتباهك إلى أمور أخرى
للانتباه أثرٌ حاسم في ضبط الانفعالات وملاشاة ما هو سلبي منها. فعندما يعصف بك انفعال قويّ ما كالخوف أو الغضب وجّه انتباهك نحو أمور أخرى تستسيغها وتحبّها كالقراءة أو ممارسة هواية مفضّلة أو اللعب مع ولدٍ لك، أو الاهتمام بحيوانٍ أليف، أو غير ذلك ممّا تحبّ أن تقوم به عادة. فأيّ من هذه النشاطات من شأنه أن يعينك على تهدئة نفسك والسيطرة على انفعالك.
6-تحدّث إلى نفسك.
إذا كنت غاضبًا مثلًا يمكنك السيطرة على مشاعر الغضب بمحاولة تهدئة نفسك بصوت عالٍ، مثلًا قل لنفسك “كل شيء سيكون على ما يرام”، أو “استرخِ” أو أي عبارة يمكنها أن تساعدك على تهدئة هذه المشاعر والتحكّم بها. وممّا ينصحك به علماء النفس أيضاً التحدّث داخلياً إلى عضلاتك وأعضائك وتوجيه الأوامر الذهنية البسيطة لها بأن تسترخي، وبمجرّد أن تسترخي عضلاتك فسيهدأ انفعالك تدريجيّاً. وعند الخوف مثلاً يمكنك أن تحاور نفسك داخليّاً أو بصوتٍ مسموع، إن إحببت، عن أسباب خوفك وكيفية ملاشاته، وكلّها استراتيجيّات فعّالة لضبط الانفعالات. وهذا ما تنصح به مثلاً الحكيمة تنزين بالمو: أن نحاور خوفنا، بل وأيضاً أن نعانقه ونحتضنه لا أن نتبرّم به ونرفضه ونقمعه، فمعانقة الخوف تخفّف تلقائياً من حدّته. في حين أن قمعه وإن حجبه مؤقّتاً سيقوّيه ويزيد من خطورته.
7-تجنّب الثرثرة والإكثار من الأحاديث
الصمت والتأمّل خير ترياق للانفعالات السلبية. فالغضب مثلاً يؤجّجه الكلام وقد يسبّب نوبة منه، في حين أن الحديث يفاقم حالات البكاء والحزن وينكأ الجراح. فعندما تعاني من انفعالات سلبية أطرِق قليلاً وتأمّل حالك بصمت، فمن شأن ذلك أن يساعدك على تهدئة انفعالك وضبطه. وبالمقابل فكلّ حالة غضب أو غيظٍ أو استياء تسبّب هيجاناً للأفكار، وإذا عبّرنا بالكلام عمّا يخطر لنا من أفكارٍ غاضبة، فنحن بذلك نزيد من حدّتها وندخل بالتالي في حلقة مفرغة يصعب الخروج منها: الغضبّ يهيّج الأفكار، والكلمات تزيد من هيجان الفكر، وهكذا دواليك لندخل في حالة من الجنون المؤقّت.
8-عبّر عن أفكارك ومشاعرك على الورق
الكتابة علاجٌ ذاتي مجرَّب ومضمون النتائج في حالة الانفعالات. وهي من الطرق الفعّالة لتهدئة المشاعر والسيطرة عليها، كما أنها قد تمنحك منظورًا جديدًا لمقاربة انفعالاتك وطريقة التعامل معها. وهي كذلك وسيلة ناجعة لتهدئة القلق وتسكين الاكتئاب.
والكتابة الإبداعية عن التجارب الخاصة مفرحةً كانت أم مؤلمة لها آثار إيجابية على صحّة المرء العقلية والجسدية على حدّ سواء. هذا ما تؤكّده دراسةٌ جديدة، ألقت الضوء على قوة العلاج الإبداعي في حياة الإنسان وفاعليّته. وذكرت هذه الدراسة أن الكتابة التعبيرية عن تجارب الحياة تُعدّ “طريقة مفيدة طبيعية وفعالة ولادوائية لتحسين القدرة على مقاومة الصدمات، فضلاً عن تحسين الرفاهية النفسية”، وأن هذا النوع من الكتابة يوّلد آثاراً إيجابية فيما يخصّ الصحّتين البدنية والنفسية، وكذلك تعزيز التنمية الشخصية، وتوطيد الانتماء للمجتمع.
وشارَكَ في هذه الدراسىة عشرون عضواً من مجموعة للكتابة الجماعية تحت اسم “الحياة الجماعية الصحيحة”، وأجرى معهم طلبة الطب مجموعة من المقابلات، في إطار مشروع للعلوم الإنسانية الطبية لجامعة كيب تاون في جنوب إفريقيا، ونُشرت الخلاصات في مجلة BMJ للعلوم الإنسانية الطبية.
وأوصت الدراسة باستخدام الكتابة التعبيرية، خصوصاً في البلدان التي عانت في ماضيها القريب صدامات وتّوترات كبيرة أثّرت على الصحّة العامة كما هي حال جنوب إفريقيا، وأوصى القائمون بأن تكون هذه الكتابة مستمرّة لأجل المزيد من الآثار الإيجابية.
وذكرت المجموعة أنها تعمل على تعزيز الإبداع باعتباره أداة لمعالجة تجارب الفرد، ونظّمت دورات للكتابة، وكان الهدف منها “تعزيز الإبداع كأداة تعليمية من أجل التغيير، حيث يمكن أن تتحوّل الروايات السلبية والعالقة في الأذهان إلى قصص مكتوبة تدعم وتخلق الروابط والتعاطف”.
واعتمد المنظّمون على خلق مساحات آمنة للمشاركين لأجل التعبير عن تجاربهم وما يجب مشاركته مع الآخرين ضمن الدورات ذاتها، حيث يستمع لهم بقية المشاركين، وكثيراً ما اكُتشف وجود تجارب متشابهة، وهذا من شأنه أن يعزّز الانتماء والتضامن داخل المجتمع الواحد.
وسبق لدراسات أخرى أن ذكرت أن الكتابة الإبداعية يمكن أن تدعم الصحة النفسية، وتعزّز احترام الذات، وتحسّن التركيز، والتعبير عن المشاعر، والذاكرة، وغير ذلك من الآثار الإيجابية. وفي الأمثال الفرنسية المتداولة:
Tu n’as pas écrit? donc tu n’as pas appris
أنت لم تكتب؟، إذن فأنت لم تتعلّم. وينطبق هذا المثل الفرنسي أيضاً على الانفعالات، فالكتابة تسكّن الفكر، وتعلّمنا كيف نهدّئ هيجان انفعالاتنا، وتساعدنا في العودة إلى الداخل ومحاورة الذات، وتعيننا بالتالي على ضبط انفعالاتنا ولجم انفلاتها.
9-استشر من تثق به
مشورة الآخرين من شأنها أن تحمل إليك ما يهدّئ ثورة أفكارك وهيجان فكرك. لا سيما إذا كان هذا الآخر صديقاً صادقاً وهادئاً، أو حكيماً راشداً ومن الصنف الذي ترتاح إليه نفسك. وفي الأمثال الشعبية: “النصيحة الجيّدة خيرُ هدية”، وفي الأمثال العربية القديمة: “النصيحة بجمل”. وفي الأمثال اللبنانية: “اللي ما عندو كبير يشتري [أو يستشير] كبير، أي من لا يجد بقربه راشداً وحكيماً، فليسشتر حكيماً وإن كلّفه ذلك أن يدفع ثمن النصيحة.
لذا إسعَ دوماً أن تجد صديقاً تثق به ويمكنك أن تُشركه بمشاعرك وتبوح له بهواجسك وبعضٍ من خفاياك.
10-إقرأ نصوصاً روحية وحكميّة
لا شكّ أن اعتماد كتاب مخدّة حكمي تعود إليه باستمرار وتستوحي منه في مسارك وحياتك أمرٌ من شأنه أن يريح اضطرابك ويعزّز سلام الفكر. قد يكون هذا السِفر كتابك المقدّس الذي ألفته منذ الصغر كالبيبليا أو القرآن أو الكيتا أو غير ذلك من الكتب الحكمية. فلكلٍ منا كتابه، وكلّنا أهل كتاب: نرتّل هذا، أو نرنّم ذاك، أو نستفتي ذلك، وكلّها أمور تَبْسط القلب وتشرح الصدر. وينصح حكماء اليوغا ومشايخ الصوفية تلامذتهم بقراءة يومية للنصوص الحكمية، فهي خير معلّم للمرء وهادٍ له في المسالك الوعرة والظروف الصعبة.
والخلاصة، فانفعالات المرء صديق له قد ينقلب عدوّاً ووحشاً شرساً ومفترساً، أو هي عدوّ بمقدور المرء بضبطها أن يحوّلها إلى صديق دائم وحليف. وعليه أن يختار.
«»«»«»«»«»([1])
[1] –