كيف نضبط انفعالاتنا/محاضرة لويس صليبا على Zoom، الأربعاء 22 كانون الثاني 2025
السؤال البديهي والأوّل الذي طُرح منذ فجر الزمن ولا يزال يُطرح اليوم هو: هل يستطيعُ الإنسان ضبط انفعالاته والسيطرة عليها والتحكّم بها؟، لا سيما وأن بعض الباحثين اعتبر انفعالات المرء مرادفاً للغرائز التي فُطر عليها!
وقد تعدّدت الأجوبة، واختلفت إلى حدّ التناقض، بعض علماء النفس أكّد استحالة تحكّم المرء بانفعالاته، لا سيما وأن أكثرها مصدره لاوعيه، أو بتعبير أكثر حداثة فالانفعالات بمعظمها وأكثرها تأثيراً وخطورة مصدرها دماغ الزواحف الذي ورثه الإنسان العاقل Homo Sapiens من أسلافه، من هنا وقعها الحاسم على سلوكه وتصرّفاته، ممّا يصعب تخطّيه وقد يستحيل.
بيد أن هناك الكثير من الأسباب التي تجعل الإنسان يرغب في التحكّم بانفعالاته المختلفة، أكانت الغضب أم الزعل أو الاستياء والسخط ([1])أو الحزن، أو الخوف أو غيرها.
ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة هنا عند الزعل وهو تعبير فصيح يكثُر استخدامه عند العامّة بمعنى الحزن والغضب والاستياء والسُخط والنقمة والغيظ والحُنق والتبرّم Ressentiment. زَعِلَ: تألّم واستاء وغضب فهو زعلان أي المفرط في الزعل والمستاء والغاضب. وتُعيد العامّة أسباب العديد من الأمراض المزمنة كالسكّري والضغط إلى الزعل. ولعلّهم ليسوا بمخطئين في ذلك. فالحكيمة مآ أنندا مايي كانت تعتبر الزعل بمثابة سمٍّ زعاف يفتك بجسم المرء وبالنفس. تقول ناصحة محذّرة: “كلّ مرّة تشعرون فيها بالاستياء أو بأنكم انجرحتم، أبصقوا هذا الشعور كما لو أنّه سمٌّ قاتل”. (صليبا، لويس، الصمت في الهندوسية، ص83).
وممّا لا شكّ فيه أن ضبط هذه الانفعالات يتطلّب الكثير من الجهد، بيد أنّه ليس بالأمر المستحيل. والجواب المباشر والذي تقدّمه اليوغا وعلم النفس الروحي إيجابي: نعم بمقدور الإنسان أن يضبط انفعالاته ويسيطر عليها، وإن احتاج ذلك جهداً مستمرّاً وعناية متواصلة. وهذا ما شدّد عليه بالحري المغبوط غوتاما بوذا، فهو مثلاً عندما سُئل عن معيارٍ يتيح لنا معرفة إذا ما كنّا بالفعل نتطوّر روحياً أم لا، أجاب ببساطة ووضوح: “نعرف أنّنا نتطوّر روحيّاً عندما يخفّ عندنا الغضب والجشع والجهل”.
بيد أن عملية التحكّم بالانفعالات تتطلّب مقدرة كبيرة على ضبط النفس وكبح جماحها، ومن خلال ضبط هذه الانفعالات والسيطرة عليها يمكن للإنسان أن يعاين عن كثب تأثير ذلك على حياته. وفي ذلك تقول الحكيمة تنزين بالمو Tenzin Palmo في مقابلة لنا معها: “نستطيع بلا ريب استبدال الانفعالات السلبية بانفعالات إيجابية، وهذا أمرٌ مؤكّد. ولا يكون ذلك عن طريق قمع هذه الانفعالات السلبية، ولا عن طريق التظاهر بأنّنا لا نشعر بالجشع أو بالغضب. علينا أن ندرك أنّه عندما تظهر عندنا انفعالات سلبية، فعندها يكون لدينا الخيار بتغذيتها أو بتحويلها. ونحن غالباً ما ندع الانفعالات تجتاحنا فنغرق فيها قبل أن نعي ما يحدث. بيد أنّنا نستطيع إن ننظر إلى هذه الانفعالات ونتركها تمضي. ولدينا الخيار. ولذلك فنحن نتعلّم كيف نروّض العقل ونحوّله. وفي نهاية المطاف نحوّل العقل التقليدي ونتخطّاه”.
ومن ناحية أخرى يرى علماء النفس عموماً أن الإنسان مكوَّن من مشاعر وسلوكيات وأفكار تحدّد شخصيّته، ومن خصائص الصحّة النفسية أن يتمكّن الإنسان من إدارة هذه المشاعر وتنظيمها، وأن يكون لديه استقرار انفعالي ومقدرة على التحكّم بانفعالات الحزن والفرح وغيرها.
وبالطبع فهذه المهمّة تحتاج إلى تدريب وتعلّم، فانفعالاتنا هي بمجملها مسألة غريزية لا يمكن أن نمنعها أو نقمعها، وقد تكون ردود الأفعال الأوّلية خارجة عن سيطرتنا. ولكن لا بدّ أن نعي بداية أن قمع الانفعالات سيفضي حتماً إلى تفاقمها. فالخطوة الأولى في الطريق الصحيح تكمن أن نقبل أنفسنا على ما نحن عليه، وذلك بنيّة العمل على التغيير الذي يتطلّب صبراً ومراساً وطول أناة. وفي ذلك يقول غوتاما بوذا: “الصبر مسلكٌ صعبٌ للغاية. بيد أن الصبور هو الذي يضمن النصر النهائي” (صليبا، لويس، هكذا علم بوذا 24/4).
والصبر فضيلةٌ امتدحها معظم المرسلين. ففي الإنجيل: {من يصبر إلى المنتهى يخلص} (متى10/22). ولنلحظ هنا مدى التشابه الذي يبلغ حدّ التطابق بين قول المسيح هذا وقول بوذا الآنف الذكر.
وفي القرآن: {إنّما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب} (الزمر 39/10). وأيضاً: {يا أيّها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} (البقرة 2/153).
والصبر على الانفعالات يعني أن لا نيأس من محاولة ضبطها وتكرار هذه المحاولة، بحيث نتمكّن من تنظيمها والتحكّم بها لتظهر على نحوٍ إيجابي، وهذا يتطلّب بالطبع مراساً وممارسة ووعياً ذاتيّاً عالياً جدّداً.
والانفعالات والعواطف كثيراً ما تنتج عن تغيّرات فيزيولوجية وعصبية تتحكّم بفكر المرء وسلوكه. لذا فقد يكون لدى البعض أحياناً انفعالات غير مستقرّة وغير منضبطة.
وهناك الكثير من الأسباب التي تؤدّي إلى هذا الأمر، بدءًا من التغيّرات الهرمونية إلى الإجهاد والاضطرابات العقلية، وفي ما يلي أبرز أسباب عدم الاستقرار الانفعالي أو العاطفي:
1-التغيّرات الهرمونية
السبب الأول للانفعالات والعواطف غير المستقرّة هو التغيّرات الهرمونية، وغالبًا ما تعاني النساء من هذا الأمر في فترة الحمل والحيض وانقطاع الطمث بسبب تغيّر مستويات هرمون الأستروجين المرتبط بالمزاج.
وإلى جانب الاستروجين فهناك هرمونات أخرى تتحكّم بالانفعالات، مثل هرمون الأدرينالين والدوبامين والنورادرينالين والكورتيزول وغيرها وكلّها هرمونات تؤثر على العواطف.
2-قلّة النوم
قلّة النوم تؤدّي إلى الإحساس بالتعب والإرهاق وكذلك بالاكتئاب، وهو ما يجعل الإنسان حسّاسًا وأكثر عرضة للانفعال من الآخرين؛ وذلك لأن قلّة النوم تؤثر على توازن كيمياء المخ التي ترتبط بالمزاج العام والعواطف. وسبق ورأينا أن الأيورفيدا تعتبر النوم واحداً من الأركان الثلاثة للصحّة.
3-الريجيم الغذائي السيء
إن اتّباع نمط غذائي غير صحي، مثل الوجبات السريعة Fast Food والنشويات والمنكهات والأطعمة الغنية بالسكر يؤثر على المشاعر غير المستقرة والعواطف ويجعل الإنسان أكثر مزاجية وانفعالًا. ولنلحظ هنا ما سبق وردّدناه مراراً عن الأثر السلبي لاستهلاك السكّر على الانفعالات وتفاقم السلبي منها.
4-الاضطرابات النفسية
من الأسباب الشائعة لعدم القدرة على التحكّم بالانفعالات والعواطف الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب، والذي يكون فيه الإنسان في حالة حزن شديد أو اضطراب ثنائي القطب وكلّها تجعل الإنسان يمرّ بتقلّبات مزاجية حادة ومفاجئة.
5-الإجهاد والتعب
يمكن للإجهاد أن يؤدّي إلى الانفعال وصعوبة السيطرة على المشاعر القوية كالحزن والغضب،. وسبق وذكرنا نقلاً عن عدد من علماء النفس اعتبارهم الغضب: “جنونٌ مؤقّت”. وللإجهاد أسباب عديدة منها ضغوطات العمل أو الأسرة أو مشكلات اقتصادية وغيرها.
6-أمراض مختلفة
في بعض الحالات قد يعاني الشخص من أمراض صحّية تؤثّر على أحاسيسه وانفعالاته مثل السكتة الدماغية أو الارتجاج أو الخرف، وقد تسبّب بعض الأمراض المزمنة مثل مرض الغدة الدرقية أو السكّري تغيّراً في المزاج وعدم استقرار في المشاعر.
إن الانفعالات أمر طبيعي وغريزي في حياة كل إنسان، فالغضب والحزن والفرح والخوف كلّها تظهر عفواً كردود أفعال على أحداث حياتنا ومستجدّاتها، ولكن قد تكون هذه الانفعالات مفرطة أو تظهر في غير أوقاتها.
أكثرنا يغضب، ولكننا إذا لم نتحكّم بمشاعر الغضب، وهو جنونٌ مؤقّت كما أسلفنا، فيمكن أن يُلحق ذلك بنا أضراراً شتّى، لذا يجب معرفة كيفية ضبط هذه الانفعالات، بحيث توجّه بطرق أكثر إيجابية.
وهذا ما سيكون موضوعنا في المحاضرة التالية، وفيها سنتبسّط في عرض رؤية علم النفس الروحي ونصائحه في هذا المجال من خلال عشر وصايا لضبط الانفعالات استخلصناها من تعاليم اليوغا وكبار حكمائها.
[1] – (صبحي حموي وآخرون، المنجد في اللغة العربية المعاصرة، بيروت، دار المشرق، ط3، 2008، ص614). و (رضا، محمد يوسف، معجم العربية الكلاسيكية والمعاصرة، معجم ألفبائي موسّع، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2006، ص824).