عنـوان الكتاب : شربل رفيقنا الصامت
حكاية قداسة عنوانها الصمت
المؤلّف/ المترجم Auteur: د. لويس صليبا Dr. Lwiis T. Saliba
أسـتاذ وباحـث فـي الأديـان المقارنـة/باريـس
Titre : Charbel notre compagnon silencieux
مقدّم الكتاب : الأب جوزف قزّي
أسـتاذ فـي كلّيـة اللاهـوت الحبريـة/الكسليـك
عنوان السلسلة : الصمت في التصوّف والأديان المقارنة 5
عدد الصفحات : 240 ص
سنة النشر : 2009
تنضيد وإخراج داخلي : صونيا سبسبي
التوزيع : المكتبة البولسية
بيروت: 448806/01 – جونية: 911561/09 – زحلة: 812807-08
الناشر : دار ومكتبة بيبليون
طريق المريميين – حي مار بطرس- جبيل/ بيبلوس ، لبنان
Byblion1@gmail.com
2009 – جميع الحقوق محفوظة
مقدمة الأب الدكتور جوزف قزي
أستاذ في كلية اللاهوت الحبرية/جامعة الروح القدس-الكسليك
باحث ومؤلّف في الدراسات الإسلامية والتاريخ الكنسي
صمت شربل
إن حبّ الصمت والعزلة قاد شربل إلى الرهبانية، وليس العكس، يقول مؤلّف الكتاب (ص 51). هذا صحيح. ومبدأ سليم، لأن الصمت، بحدّ ذاته، صفة إنسانيّة راقية، وسلوك اجتماعي سامٍ، وفضيلة مسيحيّة مميّزة. والحياة الرهبانيّة توفّر، أكثر من سواها، الأجواء الملائمة لنموّ هذه الفضيلة وهذا السلوك.
إننا نتساءل دائماً، عندما نغوص في التأمّل في سيرة القدّيسين، وفي تتبّع مراحل حياة طالبي الكمال، ومريدي العيش مع الله والاتحاد به، نتساءل دائماً عمّا إذا كان الصمت، حقاً، أجدى من الكلام في سلوك طريق القداسة، في الوقت الذي عرّفنا اللهُ عن نفسه بأنه ”الكلمة“ الناطقة التي تُعطي الكائنات معانيها.
أما آن لنا أن نفكّر عمّا إذا كانت فضائل الأمس تستطيع أن تبقى فضائل اليوم:
فهل ينذر الراهبُ ”الفقر“، أي أن يعيش فقيراً، محتاجاً، من دون مال، بدل أن ينذر لمساعدة الفقراء، وقد جاء المسيح، في أهمّ ما جاء له، ليساعد المساكين.، ويهتمّ بالمحتاجين.
هل ينذر الراهبُ اليوم حقّاً ”العفّة“، أي قهر رغبات النفس وضبط أميال الجسد، بدل أن يتحمّل مسؤوليات العَيْلة وتربية الأولاد وإعداد أجيال صالحة للبشرية!.
أينذر الراهب اليوم حقاً ”الطاعة“، أي أن يتخلّى عن مشيئته الشخصيّة، ويرهن إرادته بإرادة رئيسه، ولا يقوم بأيّة مبادرة شخصيّة، بدل أن يقتحم الصعاب، ويقوم بالمبادرات، ويقيم المشاريع، ويبني للمجتمع مؤسسات تنمية وترقية، كما فعل ”بونا يعقوب“!.
والشيء نفسه يُقال عن الصمت، هذه الفضيلة التي تعتبرها بعض الرهبانيّات نذراً كسائر النذور. هذا الصمت، هل هو اليوم حقّاً فضيلة إنسانيّة يعمل الراهب لتنميتها والتمسّك بها على أنها تزيده قداسة وتفيده حبّاً لله ولإخوته البشر؟
إن حبّ الحياة الرهبانيّة قاد شربل إلى القداسة، وليس العكس، لأن القداسة إنّما كان باستطاعة شربل أن يحصل عليها في أيّ مكان وفي أيّ حال.. غير أنه شاءها أن تكون كما عاشها: في الدير، في المحبسة، في العمل، في الصمت والصلاة والزهد والتقشُف وقهر النفس.
فمن عزلةٍ تكاد تكون تامّة في حياة خفيّة تكاد تكون منسيّة، تلألأت قداسة شربل، وانتشر إشعاعها، وفاضت محبّته على العالم، حتى أصبح، انطلاقاً من محبسته، أكبر سكّان الأرض فعلاً ومحبّةً وخيراً للعالَم الذي ابتعد عنه ليلقاه في مكان آخر، أي ليجده في أحضان الله مقدّساً.
لقد عرف شربل كيف يتعامل مع ”المطلق“، مع ”الكلمة“، لا مع الكائنات ولا مع كلام البشر. لهذا آثر الخروج من عالم الكلام إلى مَن هو ”الكلمة“، أي إلى مَن هو الذي يُغني عن النسبيّات والكلمات، أي إلى التكرّس التام لله الذي لا يُلهي عنه شيء في الوجود.
فالصمت الذي رصف عليه شربل سائر ما تحلّى به من فضائل ومميّزات هو أساس البنيان، هو ركن قداسته، وقاعدة تكرّسه لله. بهذا استطاع أن يشمل الجميع بمحبّته، لأنه كان صامتاً، لا يميّز أحداً عن أحد، ولا يطرب لمديح مادح، ولا ينفعل لقدح قادح.
هذا الصمت هو الذي ساهم في أن يقدّس شربل نفسه بجدّية، ويقدّس معه إخوته، ومجتمعه، والعالم أجمع، ذلك لأن شربل لم يضيّع وقتاً ذهبياً فيه يمسّ قلب الله، وينهل من ينابيع المحبّة والوجود.
صاحب كتاب ”شربل رفيقنا الصامت“، بل صاحب سلسلة كاملة من كتب في ”الصمت في التصوّف والأديان“ وقد ظهر منها، حتى الآن، خمسة كتب، الدكتور لويس صليبا، عرف أن أساس القداسة في المسيحيّة هو ”الصمت“. أي الانقطاع التامّ عن النسبيّ للولوج في سرّ المطلق.
مَن يريد ألاّ يضيّع وقتاً في حياته القصيرة هذه، عليه أن يذهب مباشرة نحو الهدف، إلى القِمّة، إلى حيث النور والحبّ والجمال والكمال.. هذه لا يصلها أحدٌ وهو يتلهّى بين الكائنات، ويتسلّى في النسبيّات، ويتلاعب في تدبيج الكلمات…
قلّة هم الذين عرفوا تمييز الجوهر من الأعراض، وقلّة أكثر هم الذين يقصدون الهدف الأسمى مباشرة. والدكتور لويس هو من هؤلاء الذين اكتشفوا سرّ القداسة والقدّيسين في المسيحيّة، وعرف أن الحياة الرهبانية برمّتها تختصرها كلمة ”صمت“.
لهذا كان عنوانه المفضّل لأعاظم قدّيسينا اللبنانيّين:”شربل رفيقنا الصامت“. فهو حقّاً ”رفيقنا“، لأننا نستطيع أن نرافقه ونلحقه إلى حيث هو، وهو ”الصامت“، لأنه اختصر حياته مع الله بتخطّي الكلمات والجزئيّات والنسبيّات، والرحيل توّاً إلى الينبوع، إلى المطلق، إلى ”الكلمة“ لا بواسطة ”الكلام“ بل بواسطة ”ترك الكلمات“ أي بواسطة ”الصمت“.
الأب جوزف قزي
كلية اللاهوت الحبرية/جامعة الروح القدس-الكسليك
مدخل إلى أبحاث الكتاب
هذا السِفْر الجديد من سلسلة ”الصمت في التصوّف والأديان“ نفرده لواحد من كبار أبطال الصمت المعاصرين. إنه قدّيس لبنان الراهب/الحبيس شربل مخلوف (1828 – 1898)، وفيه ندرس الاختبار الروحي لقدّيسنا اللبناني والدور/الموقع المحوري للصمت فيه.
وثمّة سؤال بديهي يُطرح هنا، فبعد العرض الموسّع في الجزء الرابع للصمت في المسيحية، ما الذي يضيفه اختبار شربل إلى ذلك؟ وما هو مبرّر عرض سيرة هذا القدّيس من زاوية اختباره للصمت؟ أليس في ذلك عود على بدء؟! ورجوع إلى تقاليد الصمت في كنائس المشرق التي بحثت في ”الصمت في المسيحية“! ولمَ هذا الحجم المكرّس لاختبار شربل، والذي يقارب ما خصّص للصمت في كنائس المشرق برمّته؟! وما الذي يُقال في ناسك عاش بصمت، وعاش الصمت. يقول الأب جوزف قزّي ملخّصاً إشكالية الكتابة عن الحبساء:«إذ شئت أن تكتب سيرة أحد القدّيسين النسّاك، فإنك تعجز أن تكتب ما تملأ به صفحة واحدة من كتاب، حياة النسّاك ولو بلغت خمسين عاماً، هي هي كأنها يوم واحد»( ).
لا شكّ أن للعامل الذاتي دوره في الوقفة الطويلة هذه عند شربل. لم أعرف هذا القدّيس شخصياً بالطبع، ولكنني وُلدتُ وعشتُ في المنطقة التي عاش فيها وقضى كامل حياته الرهبانية أي جبيل. وهذا القرب الجغرافي يسّر لي ارتباطاً روحيّاً عميقاً مع مقام شربل ومطارحه. فمنذ الصِغَر تعوّدت على زيارات شبه دورية لضريحه ومحبسته… وخَبِرت، عن قرب، كم أن حضوره لمّا يزل فاعلاً وبيّناً.
لم تكُن العجائب والكرامات التي اجترحها، على أهميّتها، محوَر اهتمامي وانتباهي. ولكن الجوّ الروحي الذي يفعم زائر المقام كان هو في الغالب موضع هذا الاهتمام. حضور قدسي مهيب يشعر به الإنسان، وقد يصعب عليه التعبير عنه، لاتصاله باختبار داخلي فيما وراء الظاهر والمحسوس. ولم أشكّ يوماً أن لصمت شربل الطويل دوره الحاسم في دوام هذا الحضور واستمراره. وأذكر هنا حِواري مع أستاذي الباحث/المتصوّف روبير كفوري. إذ قلت له يوماً أن منطقتي (قضاء جبيل) ربّما تكون الوحيدة التي لم تكتوي بنار الحرب اللبنانية الطويلة 1975 – 1990. فأجاب، قد يعود الفضل في ذلك إلى صمت شربل. وليس أستاذي كفوري هو الوحيد ممّن يعتقد ذلك. فكثير من أهالي هذه المنطقة شعروا ويشعرون أنهم في حِمى شربل وحمايته. ويصعب بالطبع التأكّد حسّياً من واقعيّة هذا الشعور. فالأمر، إذا صحّ، يتعلّق بظاهرة خفيّة صامتة. ولكنها، في أية حال، مؤشّر لرسوخ صمت شربل واستمرارية حضوره.
لا شكّ أن تفاعلي مع صمت شربل واختباري لحضوره كان عاملاً مشجّعاً للخَوض في بِحار صمت هذا الوليّ واختباره الروحي. فقد أتاح لي شعوراً محبّباً ومريحاً بأنني أدرس ظاهرة روحية من الداخل، دراسة ليست بِبَعيدة عن ذات الباحث، ولا هي جافة. وإن لم تجافي الموضوعية.
ولكن العامل الذاتي هذا، لم يكُن هو الحاسم في اختيار الموضوع. فشربل، لقربه الزمني والمكاني منّا، تتيح لنا معرفة الكثير من تفاصيل حياته، ما لا يتيحه نقص الوثائق والمعلومات بشأن سِيَر آباء البرّية، أو فقدانها، وضياع الكثير منها بمرور الزمن.
ولنوضح هذه النقطة نظراً لأهمّيتها في اختيارنا للموضوع وفي منهجية البحث في آن. لقد تبيّن لنا في الدراسة أن الصمت كاختبار روحي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسائر الفضائل والنذور الرهبانية. ولا يمكن بالتالي البحث فيه بمعزل عنها. لا بل يمكننا أن نفهم النذور الرهبانية كالطاعة والعفّة والفقر كأنواع وعناصر من الصمت النبيل. الطاعة صمت للإرادة الذاتية والعفّة صمت للنظر والشهوة…. إلخ. ولكننا لو أردنا دراسة الصمت من هذا الجانب عند مختلف الآباء والقدّيسين الذين تناولناهم لطال البحث وتشعّب من ناحية، ولأعوَزتنا من ناحية أخرى، تفاصيل وأحداث كثيرة من سِيَرهم نجهلها أو لا نستطيع التدقيق في صحّتها. ومعلوم كم يدخل سِيَر القدّيسين من أخبار وحكايات Hagiographie هي أقرب إلى الأساطير والخيال منها إلى الواقع. أما شربل فقربه الزماني/المكاني يتيح لنا مزيداً من التحقّق والفصل في الكثير مما يروى عنه. لا سيما متى أخذنا الرواية عن شهود عيان رافقوه وعاصروه، ووثّقت شهاداتهم في محاضر لجان دعوى التطويب… الخ.
والحكاية Anecdote كانت في بحثنا موضع اهتمام يسبق ما أوليناه للأقوال والتعاليم. فانتباهنا مركّز بشكل أساسي على الاختبار: اختبار الصمت وعَيشه، لا الدعوة إليه. فأبطال الصمت في المسيحية وغيرها علّموه بالقدوة والاختبار قبل الموعظة. وما تحدّثوا عنه إلا انطلاقاً من خبرتهم الذاتية مع يقينهم ومعرفتهم بعجز الكلام عن نقل كامل أبعاد اختبار كهذا. لذا فقد اجتهدنا، غالباً، في إظهار كيف عاشوا الصمت. وشخصيّة شربل تقدّم لنا مثالاً لافتاً وأصيلاً. فهو لم يكتب، لم يعلّم، لم ينقل حتى اختباره، لقد صمت وكفى.. عاش اختباره الروحي بصمت، واختبر عّيشة الصمت. لم يترك وراءه مؤلّفات أو أعمالاً خيريّة وعمرانية تتحدّث عنه وتذكّر به. لم يترك سوى صمته.«ومعجزته الكبرى تبقى أن صمته أثار كل هذا الكلام»( ) يقول العلاّمة الأب ميشال حايك. ولكن صمت شربل قد يطرح إشكالية أخرى في نطاق البحث. فإذا كان هو قد غرق في صميم السرّ وسكت، فما الذي يستطيع، الآخر قوله عن اختبارٍ صَمَتَ صاحبه عنه؟!
ولكننا إذا دفعنا التساؤل إلى أقصاه قد نصل إلى نتيجة من نوع وما الذي يُقال في اختبار الصمت غير الصمت؟ أكان القائل صاحب الاختبار أم شاهداً عليه. ما يقوله الشهود غالباً هو نتائج الاختبار وانعكاسه على حياة صاحبه وعلى محيطه. ولكنه، في أية حال، يبقى مهماً كمؤشّر على عمق الاختبار وأصالته.
تبقى إشكالية أخرى بشأن أقوال الشهود: ما الذي يؤخذ به؟ ومن أية مصادر؟!
المصادر عن سيرة شربل ليست كثيرة، وإن تعدّدت الكتب التي رَوَت حياته وعجائبه. وتكاد المصادر هذه تنحصر في أربعة، ذُكرت في مكتبة البحث وهي كتب الآباء: ليباوس داغر، أنطونيوس شبلي، منصور عوّاد، وأخيراً حنّا اسكندر. الأوّل هو الوحيد الذي عاصره وعرفه. في حين أن الثاني هو أوّل مَن جمع شهادات عنه ووثّقها بمنهجية المؤرّخ وخبرته. أما الثالث فكان المحامي الكنسي في دعوى التطويب. كتاب داغر غير مخصّص لشربل. ولكن أهميته تعود إلى أنه ظهر في العشرينات من القرن الماضي قبل اشتهار ظاهرة عجائب شربل في الخمسينات. فهو ينقل عنه انطباعاً هو الأقرب إلى زمنه، لا سيما وأنه عرفه شخصياً. وميزة كتاب شبلي أنه ينقل شهادة كلٍّ من المعاصرين بكاملها ودون تجزئة. فالصورة التي رسمها كل شاهد لشربل تظهر فيه واضحة المعالم متكاملة وتمكّن بالتالي من الحكم على أهمّية كل شهادة ومصداقيتها. والخوري منصور عوّاد، بحكم موقعه، يركّز على حيثيات دعوى التطويب. وقد أتاح له هذا الموقع الإطلاع على محاضر جلسات لجنة التطويب وما أدلى معاصرو شربل أمامها من شهادات. وهو وإن لم ينقل هذه الأخيرة بنصوصها الكاملة، مكتفياً باختيار ما يناسب منها موضوعه، فقد أورد الكثير مما لم يرد قبله.
يبقى المصدر الرابع. وهو كتاب الأب حنا اسكندر الصادر عام 2006. وقد بذل هذا الأخير جهداً مشكوراً في تجميع كافة الشهادات التي أُدليت أمام لجنة دعوى التطويب. ولكنه لم ينشرها بنصوصها الكاملة، بحجّة ما فيها من تكرار. بل عمل فيها تقطيعاً وتبويباً بطريقة حاول فيها أن يقصّ سيرة شربل على لسان معاصريه. متناولاً بالأخصّ فضائله الرهبانية: الصمت والطاعة والعفّة والفقر… إلخ. كلٌّ في فصل مستقل. ولسنا هنا بصدد الحكم على طريقة الأب اسكندر ومنهجيته ودقّتها وعلميتها. ما يهمّنا أنه وفّر لنا عن شربل الكثير من الشهادات المعاصرة التي لا نجدها في مصدر آخر، وإن أتت أحياناً مبتورة ومجتزأة.
وقد عدنا في عملنا إلى المصادر الأربعة هذه، من دون أن نهمل الاطلاع على أيّ مرجع آخر تناول سيرة شربل. واجتهدنا في تقديم صورة عن صمت شربل برواية الأقرب والأكثر وثوقاً من معاصريه، علماً أن عملنا ليس توثيقياً ولا متخصّصاً في نقد الروايات. ما يعفي من العودة إلى محاضر الجلسات والشهادات الأصلية.
وقد حَضَرنا في دراستنا لشربل رأي القدّيس إسحق السرياني المذكور في كتاب الصمت في المسيحيّة والقائل لو وضع الصمت في كفّة، وسائر الفضائل في أخرى لرجحت كفّة الصمت. وفهمنا هذه المقولة من زاوية أن سائر الفضائل والنذور أشكال وجوانب من الصمت النبيل، والذي لا يقتصر على الامتناع عن الكلام كما أوضحنا في متن الدراسة. وصمت شربل نخاله أحياناً منظاراً أو مجهراً يتيح لنا رؤية سائر فضائله بطريقة أكثر جلاءً وواقعية في آن.
والجانب المقارن لم يغب في مقاربتنا لشربل ولا لسائر الشخصيات التي ندرس. فربطنا قدّيسنا اللبناني أوّلاً بتراث النسك والصمت المشرقي، لا سيما الماروني منه. ولهذا الأخير ميزات وخصائص ضمن التراث الرهباني في الشرق تناولناها في الفصل الأوّل.
واختبارات المتصوّفة في مختلف الأديان تتشابه، بل وتتلاقى. فهم منارات وحدة وتوحيد بين الثقافات والأديان. يجمعون المتعدّد ويوحّدونه، في حين يعدّد اللاهوتيون وعلماء الكلام الواحد ويفرّقونه. فحيث التقى آباء البرّية، أو آخرون ممّن تناولنا من صوفيي المسيحية، مع غيرهم من السالكين والمتحقّقين أشرنا إلى ذلك وتوقّفنا عنده. ومنهجيتنا المقارنة في البحث في الأديان، سبق وتناولناها في مقدّمات عدد من الكتب وآخرها: ”ديانة السيخ“ بين الإسلام والهندوسية( ) و ”المعراج من منظور الأديان المقارنة“( ) فنحيل إليها تحاشياً للتكرار.
وأخيراً المؤلّفات عن شربل عديدة في المكتبة العربية، وبعضها يأخذ عن بعض، أو حتى يكرّر غالباً. فما الذي يبرّر ظهور سفر جديد في الموضوع عينه؟ وما الذي يحمل من جديد؟
أبرز ما في مصنّفنا، رؤية سيرة شربل وفضائله من منظار واحد وأساسي هو الصمت. ولا نغالي إذا قلنا أن هذه السيرة والفضائل، أو بكلمة هذه الروحانية تتمحور بشكل أساسي حول الصمت بمفهومه الواسع: الصمت النبيل، كما أوضحنا في الدراسة.
هذا أولاً، والميزة الثانية لمؤلَّفنا هو مقاربة شربل من زاوية مقارنة. مثل دراسة روحانية شربل على ضوء تعاليم الشيخ الروحاني يوحنا الدلياتي (القرن السابع). أو وجوه الشبه بين سيرة شربل وسِيَر وتعاليم بعض متصوّفة المسلمين لا سيما منهم أبي يزيد البسطامي (ت 261 ﻫ/874م).
إنه جانب يستحقّ الوقفة والاهتمام. فاختبار الواحد يوحّد بين المختبرين، لا بل يكاد يكون واحداً على اختلاف الأمكنة والأزمنة والأديان إلخ…
مقارنات أخيرة، لا بدّ من الإشارة إليها، إنها بين شربل ومواطنه الطوباوي اللبناني الجديد الأب يعقوب الكبوشي (1875 – 1954). لِمَ المقارنة بين الإثنين؟ أبسبب حدث التطويب الذي ملأ لبنان فرحاً، وزاده قداسة؟! بالطبع لا، وإن كان هذا الحدث قد ذكّرنا بقدّيس لبناني آخر.
في الحقيقة إن المقارنة بين هذَين القدّيسَين اللبنانيَين مغرية ومجدية. وتساهم في فهم روحانية كلٍّ منهما تمايزاً وتشابهاً في آن. كلاهما لبناني. وماروني ومعاصر. ولكن كلاًّ مثّل نموذجاً مختلفاً في القداسة: شربل مثال الحبيس والراهب المتوحّد. وبونا يعقوب مثال الراهب المرسل الخائض في مشاكل مجتمعه بحثاً عن حلول لها.
ومع هذا الاختلاف فالروحانيتان تلتقيان في أمور وتتمايزان في أخرى. وهذان التمايز والالتقاء دليل تعدّدية ووحدة جوهر في آن في التصوّف المسيحي وتعاليم الكنيسة. ولا سيما في المسيحيّة المشرقيّة واللبنانية بشكل أخصّ. ورغم اختلاف حياتهما، يلتقي شربل وبونا يعقوب، كما نرى في الصفحات التالية في نقل رسالة الصمت إلى إنسان اليوم.
وبعد فكتابي هذا عن شربل، كان لي بمثابة نذرٍ لهذا الولي والرفيق الحبيب. وها أنا الآن أفيه.
ويسرّني أن يحمل كتابي الفضّي (الخامس والعشرين) ما هو أثمن من الفضّة. إنه ذهب من صمت شربل.
فها أنا أصرف كلامي والذي في أحسن الحالات لن يعدو كونه من فضّة، أصرفه بذهب صمت شربل. على أمل أن لا أكون الرابح الوحيد من عملية الصرف هذه. بل أن يجني القارئ من صمت شربل ذهباً إبريزاً لحياته… ومماته.
وكفاني كلاماً.. . فإلى صمت شربل.
Q.J.C.S.T.B
السوربون/باريس
في 22/06/2008
يوم تطويب أبونا يعقوب الكبّوشي