هذا السِفر بمواضيعه ومحاوره المتعدّدة هو بمثابة سيرة ذاتيّة فكريّة لكاتبه. فقد ضمّ محاضرات وخطب ومقالات وكلمات فـي مواضيع شتى، ولكنها فـي أية حال لا تخرج عن المحاور الأساسيّة فـي أبحاثي فـي الأديان المقارنة والتصوّف واليوغا.
كل ما كتبته حتى اليوم يدور فـي فلك الأديان وتفاعلها بل وتداخلها: الإسلام والهندوسيّة والبوذيّة واليهوديّة والمسيحيّة، أو يتمحوَر حول اليوغا والأيورڤيدا (الطب الهندي) والتصوّف بمختلف تيّاراته وتقاليده، أكان ما كتب دراسة، تحقيقاً لنص، أم ترجمة لآخر أم إبداعاً أدبياً وشعرياً فهو لا يخرج عن الأطر والمواضيع المشار إليها. وكل حرف وكلمة وجملة يحرّكها ذاك التفتيش الدؤوب والمستمرّ عن الحقيقة، ومن دون هذا الجهد الصادق والمتواصل تغدو الحياة عبثاً لا طائل تحته. حقيقة هي أساساً وبداية فـي الداخل ومن هنا الاهتمام القديم المتجدّد باليوغا والتصوّف والأيورڤيدا فهي طرق لمعرفة الذات. وحقيقة الداخل هذه عبّر عنها الحُكماء والسالكون العارفون والمستنيرون بطرق شتى متقاربة حيناً ومتباعدة حتى التناقض أحياناً، ومن هنا الاهتمام بالأديان الخمسة الكُبرى وما جاءت به من تعاليم وما اشتقّ عنها كذلك من فرق وطوائف وبدع حتى. وهذه الأطر والفضاءات تكاد بسعتها وشموليّتها تحوي مختلف المعارف البشريّة، فالعلم بكلام مختصر مفيد علم المطلق وعلم النسبي. وكلاهما فـي داخل الإنسان بجسده وروحه. علم المادّة وما وراء المادّة. ويكاد هذا التعبير الأخير يختصر معارف الإنسان رغم ما فيها من تشعّب واتّساع لا محدود. العلم علمان، يقول الحديث الشريف، علم الأبدان وعلم الأديان، والأبدان هي الأجسام بالمعنى الواسع أي المادّة.
وحكاية هذا الكتاب جمعاً وإعداداً بسيطة، فقد انبثقت فكرته من حادثة وقعت لي منذ أيام: كنت أنقّب فـي أوراقي، فإذا بي أمام نصّ محاضرة أدب التنفس أدب الحياة. وكان قد سبق لي أن افتقدتها مراراً لحاجة أو مرجع فلم أجدها، فخلت أنها ضاعت مع ما ضاع لي من أبحاث وأوراق. وطبيعي أن أفرح وأُسَرّ بهذه اللُّقية أو الاكتشاف غير المنتظر.
حبور يذكّر بفرحة الأب بعودة الابن الشاطر. أَوَلَيْسَت الكتب والمقالات فِلَذُ أكبادنا وقلوبنا وعقولنا كما الأبناء؟! كلها فلذ بعضها يمشي على الأرض وبعضها يسير فـي الفكر أو يحلّق ويطير.
وهذا الاكتشاف شجّعني على المضي فـي البحث عن مواضيع ومحاضرات أخرى. فتجمّع لدي كمّاً من الأبحاث والمقالات من أزمنة وأمكنة شتّى. فوجدت من الحِكمة أن أجمع شتاتها بين دفّتي كتاب، مخافة أن تعود فتضيع ثانية وتختفي إلى الأبد.
وما تجمّع هو بمثابة سيرة ذاتيّة فكريّة لي، قلت. إذ يضمّ محاضرات وخطب ومقالات وكلمات تعود إلى مختلف مراحل العمر والبحث. فأقدمها يعود إلى زمن الصِبا العام 1976 وزمن الحرب اللبنانية المقيتة. وقد لا تكون له تلك القيمة الأدبيّة أو العلمية التي تجعله مستحقاً للنشر. لكن يكفي أن يكون مؤشّراً إلى تطوّر أسلوب الكاتب وتغيّر مواضيع بحثه ومنهجه ومقاربته ليكتسب بذاك الفعل مبرّراً لحضوره فـي سِفرنا هذا. علماً أنني لو شئت أن أنشر كل ما وقع فـي يدي من كتابات زمن الصِبا والشباب لأحوَجَني الأمر إلى مؤلّف خاص. لكنني لم أرَ فيها ما يستحق هذا العناء. فاكتفيت بأن اخترت بضعة نماذج وأدرجتها فـي الملحق الأول من هذا الكتاب لتكون شاهداً على فِكر الكاتب وأسلوبه وتطوّرهما.
وقد راعَيت فـي نشرها مبدأ الحفاظ على شكلها ومضمونها الخام، من دون تغيير أو تصحيح يذكر. فشهادتها تكمن فـي عفويتها وبساطتها قلباً وقالباً. تلك حال مقالات مثل رسالة ولد إلى وليد المغارة (1976)، ورسالة إلى الأوّل من نيسان (1982). الأولى من عهد الإيمان العفوي البريء، والثانية تعكس زمن الشكوك والقلق ووضع الموروث الديني والفكري موضع تساؤل وارتياب، وما اختياري لهذَين النصَّين إلاّ لقدرتهما التمثيليّة هذه. وفـي هذه الإشارة ما يكفي تقديماً لهما.
وثمّة مقالة عزيزة عليّ، تـنقّبت( ) مشقّات جمّة للحصول على نصّها. إنها “وقفة ملحد فـي عيد الموارنة” شباط 1982 وتعود إلى السنة الأولى من الدراسة الجامعيّة. يومها كنت أمرّ بفترة تساؤلات وشكوك مضنية أشهرت فيها إلحادي كما يشهر معتـنقو الأديان إيمانهم ويعتزون به. ولم يكُن يسهل على ملحد العيش فـي بلد صغير تقاسمته الطوائف وتـناتشته، فغدا لكل منها منطقة أشبه بالكانتون. المقالة هذه نشرت فـي المجلة الصادرة عن طلاب كلية الإعلام والتوثيق الفرع الثاني فـي الجامعة اللبنانية. ولم يكُن نشرها بالأمر اليسير،فلم يكن يسمح للملحدين برفع الصوت فـي ذاك الزمن. لذا أدخلت على المقالة تعديلات عديدة فـي الشكل فغدت حواراً مع ملحد. ولكن أيهما ينقل رأي الكاتب: الملحد أم الذي يحاوره؟! المقالة هذه شاهد على تطوّر فكري عند الكاتب، وأهمّيتها تكمن فـي ذلك. ولست لأخجل من مرحلة إلحاد عَبَرَتْ أو عبرتُ بها فقد كانت أساساً ومدخلاً لانفتاح على الظاهرة الدينيّة والروحيّة فـي مختلف الثقافات والحضارات من دون استـثـناء.
وقد لا يسهل حتى على الملحد التخلّص من موروثه الديني، فمقولة وقفة ملحد الأساسية شاهد ومثل على ذلك. فهو يعلن «لولا مارون والموارنة لكان المدّ الصحراوي قد طغى على الشرق كلّه»، أليس هذا الموقف تلخيص وتكثيف لموروث ديني وفكري؟! ليس من اليسير فصل الموقف المذكور عن هذا الموروث، ولكن أين كاتب اليوم من وقفة الشباب وحماسته هذه؟! فـي الصيغة المذكورة الكثير من الجرأة، ومضمونها يبقى مثار جدل ونقاش، ولو أردت أن أبدي فيها رأياً وموقفاً لطال بي المقام، فنحن هنا بصدد مدخل تعريفي وليس الخوض فـي الدقائق والتفاصيل. وأكتفي بالإشارة إلى أن موقف ملحدنا من الغزو الإسلامي ليس بالجديد ولا الوحيد، فقد شهد الفِكر الإسلامي، ومن داخل حضارة الإسلام وثقافته مواقف أكثر شجباً وانتقاداً. ومَن لا يعرف ما قاله فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة أبو العلاء المعرّي (673 – 1057م) فـي هذه المسألة:
إن الشرائع ألقت بيننا إحناً
وأورثتنا أفانين العداوات
وهل أبيحت نساء الروم عن عرض
للعرب إلاّ بأحكام النبوات( )
وأبو العلاء فـي بيتَيه هذَين يصيب جوهر الموضوع الذي يطرحه كتابنا هذا: الأديان بوجهها ودورها السلبي: أي المولّد الدائم والمستمرّ للعداوات والحروب. ورهين المحبسين يتوقف، على طريقته، عند النموذج الإبراهيمي/النبوي للأديان وما كان له من أثر فـي ظاهرة العنف( ).
وماذا عن بقية ما حوى الملحق الأوّل من مقالات ونصوص؟ فمنها خطاب فـي حفلة تخرُّج فـي الشهادات الجامعيّة والمعرفة)، اخترته، على ما فيه من أسماء ومناسبات خاصة لأنه يمثل حقبة من تدرّجي الجامعي والمدرسي.
أمّا مرثية “من المنفى إلى تراب الوطن” فوقفة وجدانيّة أمام رحيل عظيم من رجالات بلادي. وإني وإن كنت أتحاشى الكتابة فـي السياسة لألف سبب وسبب فلا أحجم عن إعطاء كل ذي حق حقه إذا وجب ذلك. علماً أن المقطوعة موضوع الحديث وجدانيّة وطنيّة أكثر ممّا هي سياسيّة. وقد خطّيتها عفو الخاطر فـي الطائرة بعد أن شهدت على طريق المطار مراسم عودة زعيم وطني من المنفى محمّلاً فـي نعش.
ومشروع ميثاق جمعية النباتيين فـي لبنان كان قد طلب إليّ إعداده ليكون مسودّة دستور هذه الجمعيّة التي تعثر ميلادها وظهورها، فبقيت هذه الوثيقة شاهدة على مراحل التحضير للتأسيس.
وحكاية امرأة جاوزت أعوامها المائة هي حكاية جدّتي والعبرة التي تعلّمتُها من سنيّها الطويلة، أطال الله بعمرها، وقد كُتبت أثناء التحضير للاحتفال ببلوغها قرناً كاملاً من العمر.
لا بدّ أن نلحظ هنا أمراً يبدو بديهياً، فالترتيب المعتمد فـي تنظيم المقالات والفصول وتتابعها ترتيب زمني عكسي أي من الأقرب زمناً إلى الأبعد، فغالباً ما تعمّدنا وفـي مختلف الملاحق والفصول والأبواب أن نبدأ بالأحدث فالأقدم. لماذا؟ قد يكون مردّ ذلك إلى أن الأقرب زمناً هو الأقرب إلى الاهتمامات الآنيّة والحاليّة، أو أنه الأقرب إلى حيازة رضى الكاتب، وهو بالتالي الأكثر تمثيلاً لمنهجه وذهنيّته فـي مقاربة المواضيع والإشكاليات. وطبيعي أن تكون هذه المنهجيّة قد تغيّرت وتطوّرت مع الزمن وتراكم الخبرات والتمرّس فـي الكتابة والتعبير عن الآراء. قد يكون ذلك هو السبب، أو ربما كان لهذا الترتيب الزمني المعكوس أسباب أخرى، أياً يكُن، فقد حسن لنا ونحن ننظّم مواد هذا السِفر أن نتدرّج من الأقرب إلى الأبعد، وحرصنا فـي مطلع كل بحث أو محاضرة على ذكر تاريخ التأليف لما له من أهمّية ودلالة على المضمون.
وكما ترتيب الأبحاث عكسي ومن الأخير إلى الأوّل، فهكذا سيكون تناولنا لها فـي هذا المدخل من آخر الكتاب إلى بدايته. محاولين أن ننصف القديم فنخصّه بالصدارة فـي هذا المدخل ونرفع عنه بعضاً من إجحاف لحقه بنتيجة حشره فـي آخر الكتاب.
تبقى كلمة أخيرة بشأن الملحق. فَلِمَ جمعت المقالات والرسائل السالفة الذكر فـي ملحق للكتاب، ولم نخصّها بباب من أبوابه يكون كل منها فصلاً فيه؟!! إنها كتابات أولى كما جاء فـي عنوان الملحق المذكور وتـنحصر أهمّيتها، فـي الغالب، بتاريخيّتها وقدرتها التمثيليّة لحقبات ومراحل تطوّر فكر الكاتب واهتماماته، وقد لا يعكس الكثير منها فكره وقناعاته الآنية، من هنا المبادرة إلى إلحاقها بالكتاب، فهي حاضرة فيه ولكنها ليست من صُلبه وجوهر مادّته.
والباب الثالث والأخير من هذا السِفر يتناول محوراً لما يزل فـي صميم اهتماماتي: إنه التصوّف المقارن، ولا سيما التصوّف الإسلامي فـي تأثراته وتفاعله مع تصوّف الأديان الأخرى. والمقالة الثالثة والأخيرة أي الفصل الثالث من الباب الثالث بحث كتبته وأنا طالب يحضّر لنَيل الإجازة الجامعيّة الليسانس. فأهمّيته ليست بما يحمل من جديد بل بما يسلّط من أضواء على المسار الفكري والمنهجي للكاتب وتطوّره شكلاً ومضموناً. الموضوع أو المضمون هو هو. فحتى فـي تعريف موجز للمدينة التي فـيها وُلدت وتَرَعْرَعْت تبقى المسألة الدينيّة والصوفيّة هي الأساس: أثر جبيل فـي الفكر الديني القديم، وتأثيرها المحتمل فـي الأديان الساميّة/الإبراهيميّة اللاحقة وتصوّفها، كانت جبيل مدينة الفينيقيين المقدّسة وعاصمتهم الدينيّة، وكان الكنعانيون يحجّون إليها من مختلف المدن الفينيقيّة ويقدّمون الأضاحي والقرابين فـي هياكلها والمعابد. لا بل كانت تستقبل الحجّاج والتقدمات من أراضي الرافدين ووادي النيل. هذا الجو العابق بالروحانيات والإلهيات ربما افتقده الجبيليون فـي أيامنا، إذ لم يعد لمدينتهم هالة القداسة القديمة تلك. ولكن أثرها لما يزل حاضراً فـي الظاهر حيناً وفـي الباطن أحياناً، وهي لما تزل معنيّة بالمطلق والإلهي، وأرضاً للتعدّدية الفكريّة والدينيّة. وقد جمعت فـي رحابها، وهي المدينة الصغيرة،اللبنانيين بمختلف مذاهبهم وطوائفهم وبقيت محافظة على تعدّديّتها هذه ومصرّة عليها،حتى فـي أحلك أزمنة الحرب والفرز الطائفي، فلم تعرف تهجيراً لأي من فئات أهلها، وإن كان المهجّرون الذين أتوها للاحتماء قد حاولوا عبثاً صبغ طابعها بشيء من مناطقيتهم وطائفيّتهم.
فـي هذا الجوّ السَمِح نشأتُ أرتادُ الكنائس والجوامع وأغرف المعرفة والعرفان من هذه وتلك من دون فرق ولا تفريق. وطبيعي أن يكون لكل ذلك أثر بيّن فـيّ. ولعلّ أبرز معالم ذاك الأثر هذا التوجّه المبكر نحو الاهتمام بالإلهي والروحاني فـي مختلف الأديان والتركيز على ما بين الثقافات والتقاليد الروحيّة والدينية هذه من تفاعل وتمازج، يعود فـي جذوره وأصوله إلى ألوف من السنوات.
هل فـي الإسلام والمسيحيّة مؤثرات فينيقيّة؟! لا يزعم هذا المقال المتواضع أي الفصل 3/باب 3 فصل الخطاب فـي هذه المسألة الشائكة، حسبه أنه يلفت الانتباه إليها.
وموضوع الفصل الثاني من الباب الثالث شغلني فكراً واختباراً لسنوات. إنه الصمت وحضوره فـي التصوّف المقارن للأديان الكُبرى. والمحاضرة مادّة الفصل المذكور كانت أشبه بمخطّط وتصميم أوّلي لسلسلة من الكتب صدر منها خمسة حتى الآن. إنها “سلسلة الصمت فـي التصوّف والأديان المقارنة” وتجمع محاضرتي بين الأسس النظريّة والروحيّة للصمت والاختبار المباشر له. وقد تضمّنت، وبصورة جدّ مكثفة، أبرز الأفكار والمحاور التي توسّعت بعرضها فـي الكتب الخمسة المذكورة. إنها مدخل نظري وعملي إلى عالم الصمت ودعوة إليه،وهي تقدّم نفسها بنفسها فلا حاجة لها إلى مزيد من التمهيد والتعريف.
أما الفصل الأوّل من الباب الثالث فلعلّه أوّل محاولة لي فـي التصوّف المقارن. والمحاضرة/المقالة هذه مخطّط لأطروحة لاحقة موضوعها “أبو يزيد البسطامي” واختباره الروحي. وحكايتي مع أبي يزيد حكاية عُمر أو قسم كبير منه. عشقت هذا الصوفـي مذ عرفته، وكم أطربني سماع شطحاته. قرأته ودرسته أعوماً ولمّا أفـي بعد الموضوع حقّه. البسطامي شخصيّة صوفيّة عالميّة الأبعاد، وهو بتعليمه الصوفـي وما فيه من نقاط تلاقٍ مع التصوّفَين المسيحي والهندوسي قد تخطّى كل انتماء مذهبي أو ديني ضيّق ليغدو منارة تشعّ وتضيء درب السالكين من مختلف الثقافات والديانات. وكل موضوع أو محوَر من مواضيع هذا الفصل: شطح أبي يزيد، علاقته بأمه، معراجه، أثره فـي الصوفيّة، وما يحكى عن تأثراته المسيحيّة والهندوسيّة يصلح أن يكون موضوع أطروحة وكتاب. لذا فالمحاضرة/الفصل 1/باب3 تجمع النقاط/المحاور هذه وتعرض لها بإيجاز لتؤسّس وتمهّد لأبحاث ومطالعات أكثر عمقاً وتفصيلاً.
هل صحيح مثلاً ما نُسب للبسطامي من تأثرات هندوسيّة؟ ليس الموضوع بالمستحدث والجديد. وقد أثاره البيروني (ت 440 ﻫ ) منذ القرن الخامس ﻫ. ولا يستطيع عرضنا الموجز أي الفصل 1/الباب 3 الحكم فـي هذه المسألة/الإشكاليّة. ولكنه على إيجازه يطرح أبرز ما أثير فيها من أفكار ونظريات.
ونصل فـي ترتيبنا العكسي المعتمد إلى الباب الثاني من هذه السيرة الذاتيّة الفكريّة ومحوَر هذا الباب اليوغا بشقّيها العملي والنظري. احتلّت اليوغا ومنذ زمن الصِبا حيّزاً أساسيّاً من اهتماماتي وتنشئتي، تعلّمت أولى طرقها وتقنياتها فـي نيسان من العام 1983. وواظبت على ممارستها منذ ذلك الزمن. اهتممت بها بجانبَيها الفكري/الفلسفي والتطبيقي/العملي. وكانت هي المدخل لي إلى التصوّف الهندي بأزمنته القديمة والمعاصرة. بعدها علّمت اليوغا فـي محترفات فـي باريس ولبنان،كما درّست التصوّف الهندي وأديان الهند فـي عدد من الجامعات. وسافرت إلى الهند مراراً منذ أواخر التسعينات بهدف التعمّق باليوغا والأيورڤيدا (الطب الهندي) وأديان الهند، وأقمت شهوراً طويلة فـي عدد من الأديار (أشرم) فتـتلمذت على نخبة من كبار المعلّمين. كما درّست كأستاذ زائر فـي عدد من جامعات الهند أهمّها جامعة بنارس والجامعة العثمانيّة فـي حيدر أباد. وأبرز مَن التقيت من معلمين وتتلمذت عليه. سوامي شيدانندا، سوامي فيجاينندا وشاندرا سوامي. وإذا كنت خصّيت الأخيرَين كل بفصل فـي كتابَي الصمت فـي الهندوسيّة واليوغا بالإضافة إلى نبذة عن شاندرا سوامي فـي باب 3/فصل 2 من هذا الكتاب، فلا أزال مقصّراً بحق سوامي شيدانندا، وهو واحد من كبار حُكماء الهند فـي القرن العشرين (ت 2008). وكنت أثناء مطالعاتي للعديد من كتبه قد اخترت بعضاً من نصوصه وخواطره وحكمه وترجمتها من الإنكليزيّة إلى العربيّة وطبَعَتها جمعيّة الحياة الروحية Divine life society فـي عدد من الكراريس وزّعت فـي مناسبات شتى لا سيما فـي ذكرى ميلاد هذا المعلّم. وفـي الفصل الرابع/الباب الثاني جمعت هذه النصوص المترجمة مخافة أن تضيع، وعساني أفـي هذا المعلّم لاحقاً بعضاً من دَينه عليّ.
تـنمّ كتابات سوامي شيدانندا عن حسّ مرهف وفهم عميق للنفس البشريّة وألاعيب فكر الإنسان وخدعه. وأكتفي بالقول إن قراءتـنا لخواطر هذا الحكيم من شأنها أن تقدّم لنا مدخلاً لفهم أعمق لذواتـنا.
أما الفصل الثالث من الباب الثاني فمدخل إلى تعليم حكيمة هنديّة معاصرة هي أمّا Amma. وقد أتيحت لي فرصة لقائها مراراً فـي فرنسا. وفـي هذا الفصل أروي بعضاً من اختباري فـي حضرتها وألقي أضواءً على عدد من محاور تعليمها.
والمقالة هذه هي فـي الأصل مداخلة فـي ندوة عن التصوّف الهندي المعاصر عقدت فـي قصر الأونيسكو فـي بيروت، وقد تكون أوّل تعريف بالعربيّة بهذه الحكيمة والمتصوّفة الهنديّة التي تجمع فـي تعليمها بساطة الأم وعمق حنانها ومحبّتها، ولما كانت مقاربتي للتصوّف،أي تصوّف، ترتكز أساساً على منهجيّة مقارنة الأديان، فقد حوى هذا الفصل/المداخلة مقارنة بين تعليم أمّا وتصوّفها والتصوّف المسيحي وتعاليم الإنجيل، وهي مقارنة موجزة وسريعة، وقد تمهّد لمزيد من التوسّع والتعمّق فـي هذا الموضوع.
يبقى أن فـي هذه المقالة نقطة بارزة تربطها بمجمل مواضيع الباب الأوّل من الكتاب، وتخلق لحمة موضوعيّة بين البابَين الأوّل والثاني: إنها مسألة الديانات والعنف. لِمَ كانت الديانات ولمّا تزل مولّداً دائماً للعنف؟! فـي الفصل 3/باب2 جواب تقدّمه أمّا وثقافة الهند/وأديانها بشكل عام عن هذا السؤال: الدين إشارة إلى هدف وليس الهدف، قارب للعبور إلى الضفة الأخرى وليس هذه الضفّة. وسيلة إلى غاية هي الاستنارة والتحقق وليس التحقق. أقوال أمّا وأمثلتها تعبّر عن جوهر التقليد الهندي بمختلف تيّاراته فـي النظرة إلى الدين. فغوتاما بوذا فـي تعليمه عن الأديان يورد الأفكار والأمثلة عينها. وهنا يكمن الفرق كل الفرق فـي النظرة إلى العقيدة بين أديان الهند والديانات الإبراهيمية: العقيدة والفلسفة ليست سوى جانب من الدين. وليست الجانب الأهمّ إنها الوجه الخارجي. أما الروحانية فوجهه الداخلي. العقيدة تفرّق والروحانيّة تجمع. وستستمرّ الأديان مولّدة للعنف والحروب إذا استمرّ معتنقوها على تشبّثهم بالعقيدة على أنّها الحقيقة الأزليّة المطلقة وكل ما سواها بدع وضلال. النموذج السامي الإبراهيمي من الأديان بني على العقيدة، فـي حين لا يرى النمط الهندي من الأديان فـي هذه الأخيرة سوى جانب نظري/فلسفي وظيفته المساعدة على اختبار الحقيقة وعيشها، ولافتة (آرمة) تشير إلى هذه الحقيقة. أَوَليْسَت مسألة التكفير فـي جذور كل عنف وإرهاب إن لم تكُن سببه الوحيد؟
وإذا كان الفصلان الأخيران من الباب الثاني يتناولان اليوغا فـي الجانب الفكري والنظري أي ما يسمّى التصوّف الهندي، فالفصلان الأوّلان يقدّمان اليوغا فـي جانبها العملي والتطبيقي.
الفصل الثاني من الباب الثاني مدخل وتعريف بمحترف تعليم لليوغا. والمحترف هذا هو الإطار الذي من خلاله درّست اليوغا بشقّها العملي سنوات عديدة فـي باريس ولبنان. والمدخل هذا يعرّف بالتقنيات والطرق التي تُعلّم فـي المحترف: مراقبة النَفَس، طرق تنفّس وتركيز، تقنيات تطهير الجسم وتـنظيفه وعدد من طرق التأمّل Meditation وكيفيّة ممارستها.
والفصل المذكور مدخل مفيد إلى ممارسة اليوغا كرياضة فكريّة وجسدية ويصلح تمهيداً لكتاب تطبيقي مزيّن بالصور التوضيحيّة، فيكون الكتاب عندها دليلاً عملياً للممارسة اليوغا والولوج فـي عالمها. وعساني أنجز لاحقاً هذا الدليل الذي عزمت منذ زمن على إخراجه إلى النور، ولم تتح لي الظروف بعد إنجاز هذا العزم. وهكذا فمن شأن الفصل 2/باب 2 أن يقدّم لقارئه فكرةً وافية عن أبرز تقنيات اليوغا وتمارينها العمليّة وفوائد كل ذلك. وهو بالتالي تمهيد موجز يرضي حشريّة الراغب بالتعرّف. أمّا مَن شاء الممارسة فعليه أن يُتبع التمهيد بدليل عملي، أو أن يستعين بخبرة معلّم لليوغا والإفادة منها.
الفصل الأوّل/الباب الثاني يركّز على جانب واحد من تقنيات اليوغا وفوائدها. إنها طرق التنفّس اليوغي. وخلاصته طريقة تنفّس الإنسان مرآة تعكس حالته الصحيّة والفكريّة، أو وفق التعبير المتداول: قل لي كيف تـتـنفّس، أقل لك مَن أنت. فالتـنفّس الصحيح ينعكس صحّة فـي البدن والنفس. ورهان اليوغا على تحسين نوعيّة الحياة يكاد يرتكز غالباً على تغيير نمط التنفّس وتحسينه. وقد أعادت الأبحاث الطبيّة والنفسيّة الحديثة تأكيد ما اكتشفه يوغيو الهند منذ ألوف السنين: للتنفّس قدرة علاجيّة وشفائيّة لا تقدّر بثمن. إنه طريقة تداوٍ طبيعيّة بسيطة ومجّانية تخلو من الآثار الجانبيّة التي تعاني منها العلاجات الحديثة. ويسلّط هذا الفصل الضوء على العديد من الأمراض والمشاكل الصحّية والنفسيّة التي عولجت بالتنفّس اليوغي. وهذا الأخير ليس تقنية معقّدة صعبة، كما قد يتصوّر البعض، وإنما مجموعة من المناهج البسيطة التي ترتكز على مراقبة النَفَس وغير ذلك مِمّا هو مبيّن فـي الفصل المذكور، وهو فـي الأصل محاضرة تعود إلى بدايات تعليمي لليوغا العمليّة فـي لبنان.
ونصل أخيراً إلى الباب الأوّل ومواضيعه هي الأكثر إثارة للجدل، والأقرب إلى اهتمامات المؤلّف الحاليّة فـي آن.
وكم فكّرت وتأمّلت فـي مسألة الديانات الإبراهيميّة والعنف، لا سيما إثر أحداث الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 11/09/2001.
والفصل الرابع/ الباب الأوّل كان المحصّلة الأولى والطازجة لهذا التأمّل، فالفاصل الزمني بينه وبين الأحداث المذكورة لا يتعدّى ثلاثة أسابيع. وجدليّة الديانات الساميّة والعنف مسألة شائكة وعسيرة. فقد رافق نشوء كل ديانة الكثير من العنف. فدعوة موسى واكبها صراع دموي مرير بينه وبين فرعون. وبشارة المسيح أَهْرَقَت دمه على الصليب وأسالت أنهاراً من دماء الشهداء. وكل ديانة ساميّة جديدة تدخل فـي صراع دموي مع سابقتها. إنها حال الإسلام الناشئ فـي حربه الضروس مع اليهود.
وفـي المقابل لا نجد لظاهرة العنف هذه أثراً فـي نشأة ديانات الهند والشرق الأقصى عامة وظهورها.
لِمَ يكتنف العنف دوماً بدايات الديانات الإبراهيميّة؟!
وهل عنف البدايات ظاهرة استثنائية منسية ومعزولة أم هو راسخ فـي الذاكرة الجماعيّة وهي تعيد توليده باستمرار عند كل منعطف أو تحوّل تاريخي؟ وهل العنف، بل الإرهاب، الذي ضرب العالم منذ بداية الألفيّة الثالثة ولا يزال ظاهرة مستحدثة أم حلقة فـي سلسلة؟ كي نفهم ما يحدث الآن، علينا أن نفقه، يلوح لي، ما حصل فـي البدء. وهنا الرهان الصعب الذي يقرب من المحال، فالبدايات غالباً ما يلفّها الغموض والأسرار. ولكن لا مفرّ من مجابهة التحدّي العسير إذا أردنا أن نفهم الحاضر ونسعى إلى تحويل ما يطغى عليه من عنف وإرهاب إلى نقاش فحوار.
بين الديانات الإبراهيميّة/الساميّة الكثير من التداخل والنظرات بل والعقائد المشتركة. ومؤمنو هذه الديانات إخوة وأبناء أب واحد هو إبراهيم، هذا ما يزعمونه ويكرّرون دوماً تأكيده. فلِمَ كل هذا العداء والدماء؟! هل هم فعلاً لا مجازاً الإخوة الأعداء؟!
تحاول محاضرة الفصل 4/باب 1 أن تجلو بعضاً من غموض يكتنف بدايات الديانة الإبراهيميّة الثالثة وما شابها ورافقها من عنف وصراع دموي مع اليهود. وتطرح السؤال: ما سرّ هذا العنف الحالي؟ وهل هو استمرار أو استئناف لعنف البدايات؟ وهل من أمل جدّي بالخروج من حلقة العنف والإرهاب هذه؟! إنها تضع الأسئلة هذه وغيرها على طاولة البحث من دون أن تزعم أنها تقدّم الأجوبة والحلول الشافية الوافية. حسبها أن تكون إسهاماً متواضعاً وتأملاً أوّلياً يسعى إلى فهم ما يحصل. إنها مجموعة أفكار وخواطر متفرّقة تجمعها محاولة تقديم مدخل لفهم الإسلام فـي تفاعله مع الديانات والمذاهب السابقة له الإبراهيميّة/السامية منها ولكن الآرية مثل الزرداشتيّة والمانويّة كذلك. وللقارئ أن يحكم فـي مدى جدوى هذا المدخل.
والفصل الثالث/الباب الأوّل يحوي مقاربة للديانات الإبراهيميّة، ولا سيما الإسلام منها من منظور مختلف، منظور علماني قد يعتبره البعض إلحادياً. والمفكّر الذي يدرسه هذا الفصل كان فـي الأصل شيخاً أزهرياً ثمّ عاد وانتفض على موروثه الديني ليروي محنته مع الدين والنصّ الديني فـي كتاب آثار عاصفة من النقد، لا بل زوبعة. إنه الدكتور محمد عبدالرحمن مرحبا (ت تموز 2006). والدراسة هذه قُدّمت فـي الأصل مداخلة فـي ندوة تكريميّة إحياءً لذكرى هذا المفكّر اللبناني، وسبق أن ظهر جزءاً منها فـي الصحف، كما نشرتُ قسماً كبيراً منه ملحقاً فـي كتاب المعراج من منظور الأديان المقارنة. أما ما فـي الفصل 3/باب 1 من كتابنا فالنصّ الكامل للدراسة. فمداخلتي فـي الندوة المذكورة اقتطع منها القسم الذي يعرض لدراسات مرحبا القرآنية وما وجّهه إلى النص المقدّس من نقود. ولكن لِمَ العودة إلى نشر النص الكامل هنا؟! عمدت إلى نشره انطلاقاً من مبدأَين:
الأوّل مبدأ إسلامي معروف يقول ناقل الكفر ليس كافراً، فأنا لا أعرض أفكار مرحبا ونظرياته فـي كتاب المسلمين المقدّس من باب تبنّيها أو الترويج لها. وإنما من منطلق العرض التقريري المحايد وأخذ العلم.
والمبدأ الثاني: كل عرض لفكر هذا الكاتب يبقى منقوصاً بل مشوّهاً إذا استـثـنى، أو أغفل، هذا المنحى والبعد الأساسي فـي منظومة مرحبا الفلسفيّة.
قاد مرحبا حملة شعواء على الموروث الديني، ليس فـي ثقافته وتقاليده الدينيّة وحسب بل وفـي مجمل التقاليد الدينيّة الإبراهيميّة، واتّسمت حملته بجرأة وجذريّة أنضجتها معاناة طويلة مستمرّة، ومسار شائك متعرّج من الإيمان إلى الشكّ فالرفض.
ولا أخال هذا البحث فـي غير موقعه من السياق العام للباب الأوّل، فهذا الأخير مخصّص للأديان الإبراهيميّة فـي تفاعلها مع بعضها أكان ذلك تأثراً، تمازجاً أم تطاحناً، ومع عبدالرحمن مرحبا نلقى مقاربة مستقلّة لا تؤثر ديناً أو تقليداً على آخر وتقف من الجميع على مسافة واحدة وإن كانت تهاجم الجميع.
وكفانا فـي هذا الشرق إغفالاً بل وتعتيماً على الفِكر الإلحادي بل وحتى على الفكر الحرّ والعلماني. ومرحبا مفكّر علماني حرّ ومستقل أكثر مِمّا هو ملحد. وهل الإيمان بالله والخالق من دون اعتناق دين معيّن والخضوع لأحكامه كفر وإلحاد؟!
ولِمَ يفخر الغرب بمفكرين ملاحدة أمثال نيتشه وماركس وسارتر وغيرهم ونخجل نحن من مفكرين مستقلّين وأحرار أمثال الرازي وابن الراوندي والمعرّي ونجيب محفوظ ومرحبا وغيرهم؟!
قد لا نشاطر مرحبا الكثير من آرائه، بل وقد نـناقضه فـي الكثير أو حتى فـي أغلب ما دعا إليه، ولكننا لا نستحي بفكره ولا نحرمه حق التعبير عنه، وهو اليوم بعد أن غيّبه الموت يبقى شاهداً على ما اعترى الفِكر العربي المعاصر من ضياع وقلق ومخاض عسير بحثاً عن ولادة جديدة.
ومن المنطلق عينه أي ناقل الكفر ليس كافراً، نعرض فـي الفصل الثاني من الباب الأولّ نظرة الغرب المعاصر وموقفه من مسألة حقوق الإنسان فـي الإسلام. كثيرون هم المفكّرون المسلمون المعاصرون الذين أكّدوا ويؤكّدون أن الإسلام رائد فـي مجال حقوق الإنسان واحترامها. فـي حين أن للغرب وجهة نظر مختلفة إن لم تكُن مناقضة. الإسلام من منظور الغرب موضوع فـي قفص الاتهام فيما يخصّ حقوق الإنسان والفصل 2/باب 2 يلعب دور محامي الشيطان، إذا صحّ التعبير، فينقل مجمل ما يوجّه إلى الإسلام من لوم واتّهام فـي هذا المجال، ويضعه على مشرحة النقاش والبحث. ويحصر اهتمامه فـي موضوعَين: حقوق المرأة فـي الإسلام، والإسلام وحرّية المعتقد. والفصل المذكور كان فـي الأساس ورقة عمل قدّمت فـي لقاء نظّمته وحدة البحث فـي الأديان وحقوق الإنسان فـي جامعة أديان ومذاهب فـي قمّ المقدّسة – إيران. وتلا قراءتها نقاش طويل ومتشعّب فـي مخلتف النقاط التي حوتها الورقة. ولكن النقاش المذكور لم يجد، مع الأسف، مِمَن يدوّنه، فلم يبقَ من ذاك الاجتماع الطويل والمثمر سوى هذه الورقة.
والفصل الأوّل من الباب الأوّل يعرض لمفكّر آخر من المفكّرين الأحرار فـي أرض الإسلام ولبحوثه وتـنقيحه للملل الثالث. بعض المؤرّخين والباحثين اتهم ابن كمّونة صاحب التنقيح بالإلحاد. وبعضهم الآخر نسبه إلى التعصّب لليهوديّة دين آبائه وأجداده. فلِمَ كلّ هذا الالتباس؟! لأن ابن كمّونة يرغب فـي بحثه فـي الملل الثلاث أن يقف على مسافة واحدة منها ويوجّه إلى كلّ ملّة مطاعن أهل الملل الأخرى ويبحث فـي المطاعن رادّاً أو متبنياً أو متسائلاً، من دون أن يوآزر ملّة أو يدعمها على حساب أخرى. هذا ما أراده بداية وأعلن عنه فـي مقدّمة كتابه. فهل التزم بمبدأه المعلن هذا؟ يبدو لقارئ التنقيح وللوهلة الأولى أن الكاتب احترم المبدأ المذكور، ومن هنا اعتبار البعض له مفكّراً ملحداً لا يؤمن بأية ملّة من الثلاث. ولكن الفحص القريب والمتأني للتنقيح من شأنه أن يوصل إلى نتيجة أخرى. فخلف العرض المحايد فـي الشكل هذا لم يستطع ابن كمّونة أن يخفي موآزرة أو انحيازاً خفياً إلى دين الآباء والأجداد وعقيدتهم ومفهومهم للنبوّة.
يبقى أن التنقيح فـي زمنه وظروفه كان نقلة نوعيّة فـي أدب الجدل والمحاججة والنقاش بين أهل الديانات الإبراهيميّة الثلاث. فقد أفسح المجال لكل ملّة فـي عرض معتقدها ونقض معتقد الآخرين. فترك لنا أسوداً على أبيض نقوض المسلمين لليهوديّة والمسيحيّة ونقوض هاتَين للإسلام. فكان بذلك نقطة محوريّة فـي تاريخ أدب الجدل والدفاع بين أهل الملل الإبراهيمية الثلاث.
ابن كمّونة فـي القرن السابع ﻫ نقض الملل الثلاث ووجّه إلى كل منها العديد من المطاعن، وهذا ما فعله عبدالرحمن مرحبا السابق الذكر فـي عصرنا، وإن على اختلاف فـي الدوافع والمنطلقات. واللافت أن الكثير من مطاعن مرحبا على كتاب المسلمين المقدّس نجد بذوراً لها فـي ما دوّن ابن كمّونة من مطاعن. فهل عرف مرحبا تنقيح ابن كمّونة وأخذ عنه؟!
لا ندري لهذا السؤال جواباً يحمل اليقين. ولكن تبقى المقارنة بين المفكّرين المعاصر والسابق مثيرة للانتباه، وقد تلقي على الفكر النقدي الديني المعاصر أضواءً توضيحيّة آتية من عمق التاريخ. لم نجازف بمقارنة كهذه فـي هذا السِفر، فحجمه وطبيعته لا يسمحان بذلك، لا سيما وأنه يجمع أبحاثاً سابقة للكاتب وينقلها فـي صيغتها الأصلية. ولكن وضع ابن كمّونة إلى جانب مرحبا وفـي باب واحد من الكتاب يغري بالمقارنة ويغوي. ونترك للقارئ فرصة إجرائها. ومَن يدري؟ فقد نعود إليها فـي يوم من الأيام.
تلك أبرز محاور كتابنا هذا ومواضيعه وفصوله. وقد يجد البعض فيه جمعاً لشتات، أو مسودّات لأبحاث لاحقة أكثر تعمقاً أو تفصيلاً.
إنه مدخل يتوسّط الإطالة والإيجاز إلى عالم كاتب ودنيا مواضيعه واهتماماته، سيرة ذاتيّة فكريّة له كما قلنا، ومَن شاء المزيد كمّا أو نوعاً فعليه بما سبق هذا السِفر من إصدارات المؤلّف،أو… بما سيتلوه… إن سمحت الظروف… ومشيئة القادر .
وعساه لقاءً قريباً.
Q.J.C.S.T.B
د. لويس صليبا
باريس فـي 03/01/2011