غلاف ومقدّمة كتاب “المسيحية والإسلام بين الأمس واليوم”/تأليف لويس صليبا
المؤلّف/Auteur: أ. د. م. لويس صليبا Lwiis Saliba
مستهند وأستاذ محاضر ومدير أبحاث في علوم الأديان والدراسات الإسلامية
عنوان الكتاب: المسيحية والإسلام بين الأمس واليوم
بحث في تطوّر العلاقات بينهما: من يوحنا الدمشقي إلى وثيقة الأخوّة
Titre: Les Relations Islamo-Chrétiennes entre hier et aujourd’hui
صورة الغلاف: الخوري فرنسيس صليبا وعن يمينه الشيخ أحمد حمّود (أنظر حكايتهما ص38-41)
عدد الصفحات: 555ص
سنة النشر: طبعة أولى 2022، طبعة ثانية 2025.
الناشر: دار ومكتبة بيبليون
طريق الفرير، حي مار بطرس، شارع 55، مبنى 53، جبيل/بيبلوس-لبنان
ت: 09540256، 03847633، ف: 09546736
Byblion1@gmail.com www.DarByblion.com
2025©-جميع الحقوق محفوظة، يُمنع تصوير هذا الكتاب، كما يُمنع وضعه للتحميل على الإنترنت تحت طائلة الملاحقة القانونية.
ديباجة الكتاب
مدخل إلى بحوثه وطروحاته
سِفرٌ كبيتٍ بمنازل كثيرة
هو سِفرٌ يضمّ بين دفّتيه عدداً من الدراسات والمباحث والحوارات والمقالات ومراجعات الكتب التي يجمعها موضوع عامّ واحد: المسيحية والإسلام، والعلاقات ما بينهما في السابق واليوم. وبعض هذه البحوث نُشر في دوريّات أشير إليها في موضعه، وبعضه الآخر لم يسبق أن نشر. ويبقى الأهمّ أنّها في مواضيعها وطروحاتها تتكامل وإن كان كلّ منها مستقلّاً عن الآخر. وهكذا فهذا المصنّف بيتٌ بمنازل كثيرة وغرفٍ متعدّدة متنوّعة على شاكلة لبنان ومجتمعه التعدّدي.
وفي التالي عرضٌ موجزٌ لأبرز مضامينه:
والباب الأوّل (ب1): يتناول كنيسة لبنان لا سيما في علاقاتها بالإسلام. وتحتلّ وثيقة الأخوّة الإنسانية التي وقّعها البابا فرنسيس وشيخ الأزهر في الإمارات شباط 2019 مكاناً بارزاً في هذا الباب.
فالفصل الأوّل منه (ب1/ف1): وثيقة الأخوّة الإنسانية يقدّم تحليلاً وتقييماً لنصّها وطروحاتها وُضع بمناسبة تكريم المؤلّف، كاتب هذه السطور، وتسليمه نسخة من هذه الوثيقة صادرة عن موقّعيها. وفي كلمته هذه يلقي نظرة على أمسه وماضيه الحواري، فيذكر عمّه النائب البطريركي والواعظ الخوري فرنسيس صليبا وصداقته التاريخية مع إمام جبيل الشيخ أحمد حمّود، ويستعبر ويدعو للتأمّل في بعض ما أُثر عنهما، لا سيما عندما حلّ الشيخ حمّود محلّ الخوري فرنسيس في إلقاء عظة الأحد عبر أثير الإذاعة اللبنانية.
ويؤكّد المؤلّف أن وثيقة الأخوّة محور مفصلي في تاريخ العلاقات المسيحية الإسلامية، لا سيما وأنّها وسمت الحوار القديم المتجدّد بين الفريقَين بطابع إنساني شامل.
والفصل الثاني (ب1/ف2): زيارة البابا فرنسيس إلى الإمارات من منظور لبناني، يقرأ في هذه الزيارة تراجعاً واضحاً لموقع لبنان ودوره في محيطه، كنموذج ومثال للعيش المشترك المسيحي الإسلامي. لماذا لم تعد لموطن الأرز الأولويّة في استراتيجية الفاتيكان؟! لا شكّ بأن كنيسة لبنان تتحمّل قسطاً وافراً من المسؤولية عن هذا التراجع.
الفصل الثالث والأخير (ب1/ف3): تجّار الهيكل ومحرُقة المدارس المسيحية نصّ مقابلة أجرتها إذاعة لبنانية في أستراليا مع المؤلّف إثر إحراق المواطن اللبناني جورج زريق نفسه بباحة مدرسة ابنه. فيقرأ هذا الحدث من باب مدى تعبيره عن الأوضاع المهترئة التي تعيشها وتعاني منها كنيسة لبنان. وقد نسيت أو تناست وصيّة السيّد: {لا تعبدوا ربّين: الله والمال} (متى6/24). فضاعت ولا تزال بين خدمة سيّدين متناقضين، وافتقرت، منذ زمن، إلى مجّانية العطاء التي دعا إليها معلّمها، وصارت بالحري كنيسة شاول، ويلزمها الكثير من الجهد والتطهّر كي تعود كنيسة بولس.
إنّها السيمونية أي المتاجرة بالمقدّسات، علّة عانت منها الكنيسة منذ بداياتها، وتفاقمت في العصور الوسطى، وقد تفشّت عدواها على كلّ المستويات اليوم. فهل لنا من بطرس آخر يقول لسيمون الساحر: {إلى جهنّم أنت ومالك، لأنّك ظننت أنّك بالمال تحصل على هبة الله. لا حصّة لك في عملنا ولا نصيب، لأنّ قلبك عند الله غير سليم} (أعمال الرسل8/20-21). وهو ما يقوله البابا فرنسيس لكثيرين ويكرّره، وليت في كنيسة لبنان من يسمع!
الباب الثاني (ب2): حوارات في العلاقات المسيحية الإسلامية، يضمّ مجموعة من المقابلات التلفزيونية مع المؤلّف في هذا المجال.
والفصل الأوّل (ب2/ف1): الإسلام والمسيحية من الجدل إلى الحوار، مقابلة، أو بالأحرى النصّ الكامل لمقابلة، أجرتها قناة الحرّة مع المؤلّف، تناول فيها تاريخ الحوار المسيحي الإسلامي منذ يوحنا الدمشقي إلى أيّامنا مروراً بتوما الأكويني وغيره من معلّمي الكنيسة. وهو يرى أن الجدل مهما كان حامياً فهو مرحلة تمهيدية للحوار. والتفاعل الوثيق بين لاهوتيّي الفريقَين والذي بدأ منذ العصر الأموي مع يوحنّا الدمشقي أدّى من ناحية إلى نشوء فرقة المعتزلة ذات الأثر الحاسم في علم الكلام وعقيدة خلق القرآن، ومن ناحية أخرى إلى ظهور عقيدة القرآن كلمة الله غير المخلوق والتي صيغت على مثال عقيدة المسيحيين في المسيح كلمة الله غير المخلوق.
والفصل الثاني (ب2/ف2): الإسلام والمسيحية والعنف. مقابلة أجرتها قناة الميادين مع المؤلّف، وتخلّلها الكثير من الأخذ والردّ في الموضوع.
انطلق الكاتب من مقولة له تؤكّد أن تأسيس الدين وبناءه على عقيدة هو بحدّ ذاته مولّد دائم ومستمرّ للعنف. فالعقيدة بعرفه تعبير نسبي عن حقيقة مطلقة، بيد أن أكثر الناس يعتبرها الفيصل بين الحقّ والباطل، والقاسم القاصم والحدّ الفاصل بين مؤمن وكافر. وليس المؤلّف الوحيد ممّن قال بذلك، فللمفكّر المغربي عبدالإله بلقزيز طرحٌ مشابه يقول: “وهكذا كان العنف في تاريخ الإسلام، كما في تاريخ الأديان كافّة متلازماً مع أزعومة امتلاك الحقيقة والحقّ في سدانة المقدّس، وهذا بالذات ما فتح الباب أمام ما سمّيناه الكهنتة: أي التنزّل منزلة الوسيط الناطق باسم الدين، والممثّل الحصري له” (بلقزيز، الديني والدنيوي، م. س، ص12).
ولمّا كانت الفسحة الزمنية التي أتيحت للمؤلّف على قناة الميادين غير كافية بتاتاً للتعبير عن رأيه، والردّ على ما ووجهت به طروحاته من نقاش، فقد ألحق الحوار بتعقيبٍ شرحَ وأبان فيه ما أعوزه توضيحه آنذاك، فميّز بين العنف الغريزي والعنف الديني استناداً إلى أبرز المكتشفات العلمية السيكولوجية والبيولوجية في هذا المجال. وفنّد بعض الأطروحات الزاعمة أن الأندلس فردوس تعايش ديني مفقود. وتوقّف عند الحروب الصليبية وما يثار دوماً بشأنها حتى صارت شمّاعة جاهزة لتبرير العنف الإسلاموي الذي تمارسه جماعات السلفية الجهادية الراهنة وغيرها، أو أقلّه إيجاد أسبابٍ تخفيفيّة له. ليختم بأنّ أحقادنا المستمرّة على المستعمِر هي في الحقيقة والواقع أسوأ مستعمِر لنا!
والفصل الثالث (ب2/ف3): عقيدة المخلّص في الأديان مقابلة ثالثة مع المؤلّف أُجريت على قناة المنار اللبنانية. وفيها شرَحَ نقاط اللقاء بين المسيحية والإمامية بشأن ظهور المخلّص (المسيح أو المهدي) في آخر الأزمنة، وسلّط الضوء على الأصول الزرادشتية لهذه العقيدة، ليختم بأنّ المهدي عنوان لقاء مسيحي إمامي، ومن المهمّ تفعيل نقطة اللقاء هذه في سبيل حوارٍ مثمر وفهمٍ معمّقٍ كلّ للآخر.
والباب الثالث (ب3): أطروحات في التفاعل المسيحي-الإسلامي، هو بمجمله قراءة نقدية لعدد من الأطروحات والمباحث الأكاديمية في مجال العلاقات بين التقليدَين.
والفصل الأوّل(ب3/ف1): أطروحة المباني الفقهية في الأديان الإبراهيمية، إنه نصّ البحث/المداخلة الذي ألقاه المؤلّف في جلسة مناقشة أطروحة دكتوراه بهذا العنوان أشرف هو عليها، وأعدّها الطالب الشيخ علي سميسم. وكانت المناقشة هذه جلسة حوار مسيحي إسلامي حقيقية، كما ذُكر وأوضح في ذلك الفصل. أمّا أبرز ما ركّز عليه بحث المؤلّف فهو أن قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد ليست مجرّد قاعدة في أصول الفقه الإسلامي وحسب، بل هي ناموس طبيعي وكوني شأنها شأن قانون الأنتروبي في الفيزياء وغيره. كما شدّد الكاتب على حاجة العالم العربي الملحّة إلى تطوير علوم الأديان والأديان المقارنة والخروج من طور المفاضلة للولوج في عصر المقاربة التي تقف على مسافة واحدة من الأديان وتتحاشى أيّ انحيازٍ مسبق.
والفصل الثاني (ب3/ف2): أطروحة وحدانية الله بين التأنّس والتنزيه، هو الآخر نصّ مداخلة المؤلّف في جلسة مناقشة أطروحة دكتوراه أشرف عليها وأعدّتها الطالبة كارولين ديب. وفيها يتبسّط الباحث في تناول الأثر الوطيد للتفاعل العميق بين مفكّري العصر العبّاسي المسيحيين والمسلمين وانعكاساته على العقيدتَين المسيحية والإسلامية. ففي البسملة المسيحية أثران واضحان لهذا التفاعل (الآب، والإله الواحد)، وفي عقيدة القرآن كلمة الله وغير المخلوق الأشعرية أثر كذلك، وكلّ ذلك مشروح بالتفصيل الضروري في الفصل المذكور. وتبقى فروقات أساسية في مصطلحات تُحسب عادة أنّها مرادفات، كمثل وحدانية وتوحيد، وثالوث وتثليث، وتأنّس وتجسّد. فعليها يجب تطبيق قاعدة “الفروق ومنع الترادف” والتي نادى بها المتصوّف الحكيم الترمذي (ت320هـ) في كتابه المعروف بهذا العنوان.
وخلاصة الفصل أن مفكّري العصر العبّاسي هم عن حقّ وجدارة واضعو أسس الحوار المسيحي الإسلامي، وحتى يومنا هذا لم يتخطَّ هذا الحوار بعد ما أرسوا من قواعد، وقدّموا من طروحات.
والفصل الثالث (ب3/ف3): المفكّر المغربي عبدالإله بلقزيز وطروحاته في الحوار. فهذا المفكّر الرزين والرصين غزير الإنتاج، وعديدة هي مؤلّفاته التي تمتُّ إلى الحوار بين الإسلام والمسيحية وبين الشرق والغرب بصلة وشيجة. ولُحمة هذا الفصل وسداه ستّ مقالات أو بالحري مراجعات لستة كتبٍ له.
والأوّل هو آخر ما أصدر: ما قبل الاستشراق، وفيه يؤكّد أن أسباب الصراع بين الغرب والشرق الإسلامي سياسية وليست دينية.
والثاني، ولعلّه أبرز ما كتب: الديني والدنيوي: نقد الوساطة والكهنتة، ويبيّن فيه أن الحركات الإسلامية تجسيد معاصر للكهنوت، ويُظهر بالحجّة والدليل أنّه لا يمكن فهم الإسلام بمعزل عن الأديان المقارنة، وهو طرحٌ أكاديمي، واقعي وموضوعي في آن.
والثالث: من الإصلاح إلى النهضة يرفع شعار: نعم للحداثة، ولا للقطيعة مع التراث في آن، ويصل في طرحه الجريء إلى حدّ اعتبار التيّار العلماني هو الحداثة. ويدرس الكاتب اللبناني أحمد فارس الشدياق نموذجاً حداثيّاً مميّزاً.
والرابع: نقد التراث، يعتبر هذا النقد جزءاً من فاعليّات الحداثة، ويتبسّط في عرض تجربة عبدالرحمن بدوي (1917-2002) وتفنيدها وذكر ما لها وما عليها بأسلوب تقريري هادئ.
والخامس: في الدولة: الأصول الفلسفية، يستعيد مقولة عدد من أساطين الفكر السياسي القائلة إن الدولة أعظم اختراع إنساني، ويتناول مفهوم الدولة في الفكر الإسلامي، ويفنّد الطروحات القائلة إن البيعة نمط من العقد الاجتماعي.
والسادس: الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، يتناول مفهوم الدولة في مختلف تيّارات هذا الفكر: الشيعية والأصولية وغيرها.
والباب الرابع (ب4): قراءة نقدية لمؤلّفات في الحوار المسيحي الإسلامي، هو بمجمله مجموعة مراجعات لمصنّفات في هذا المجال نُشرت في دوريّات لبنانية أشير إليها في مكانها، وقد قُسّمت تبعاً لموضوعاتها إلى خمسة فصول.
الفصل الأوّل (ب4/ف1): لبنان أرض لقاء المسيحية والإسلام.
والمراجعة الأولى لكتاب ضمّ مختارات من مؤلّفات أحد أبرز الوجوه الحوارية في لبنان، إنّه الأب يواكيم مبارك، وعنوان كتابه: حول لبنان وفلسطين والحوار المسيحي الإسلامي، وفيه يعتبر أن لبنان تجسيدٌ عملي لهذا الحوار، ويشير إلى دور الموارنة الفاعل في تعديل نظرة الغرب إلى الإسلام، ويرى أن السلام بين المسيحية والإسلام هو بالحري سلامٌ عالمي، ومن هنا أهمّيته وضرورة العمل الملحّ والدؤوب في سبيل ترسيخه وإنجاحه.
والكتاب الثاني يدرس سوسيولوجيا الحضارة الكنعانية-الفينيقية، ويُظهر من خلال الاكتشافات الأركيولوجية وغيرها أن الزواج الأحادي كان ركن المجتمع الفينيقي، وأن الفيانقة كانوا روّاد التوفيق بين الأديان.
ومن الكتب التي يدرسها هذا الفصل: دور السنّة في لبنان بعد اتّفاق الطائف. للباحثة دة غريس الياس. وفيه تبيّن أن النظام اللبناني بُني على توافق غير مستقرّ، وأنّه كي يبقى ويستمرّ فلا بدّ أن تكون الأولوية التي يُعمَل لها هي حقّ الحرّية للجميع، لا حقّ الأقوى.
والفصل الثاني (ب4/ف2): مؤتمرات في الحوار وعلوم الأديان، يعرض لمؤلّفات جماعية ضمّت أعمال وبحوث عدد من الندوات والمؤتمرات.
والكتاب الأوّل: في إصلاح المجال الديني، وفيه أن الإصلاح الحقيقي هو إصلاح النظرة إلى الآخر، وأنّ الكهانة أمرٌ واقع في مختلف الأديان، وإغفال هذه الحقيقة إعاقة فعلية لأيّ إصلاح.
أمّا مؤتمر لماذا الحرب فممّا جاء فيه أن الثقافة أنجع وسيلة لمكافحة الحروب، وهذا ما أكّده فرويد مراراً، وأن أشوكا الأمبراطور الهندي البوذي كان أوّل مؤسّس لدولة علمانية.
ومؤتمر حال تدريس الفلسفة في العالم العربي، استهلّ بحوثه بقولة أبي حيّان التوحيدي: “لا سبيل إلى غسل الشريعة إلا بالفلسفة”، وأتبعها بمقولةٍ لأرسطو تبيّن أهمّية الفلسفة ودراستها وتدريسها: “المنطق مدخلٌ لجميع العلوم”
والفصل الثالث: (ب4/ف3): اليهودية وعلاقتها بالإسلام يقرأ عدداً من المؤلّفات في هذا المجال.
وأوّلها مصنّف غدا كلاسيكيّاً ومرجعاً أساسيّاً في موضوعه، ألا وهو تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام لإسرائيل ولفنسون، فيرى أنّه يُظهر أسلوباً تقريريّاً، ويُبطن أهدافاً مبيّتة، ويجتهد أنْ يبيّن أنّ العلاقات العربية اليهودية كانت في الغالب سمناً على عسل، والحرب لم تكن بينهما سوى شواذ عن هذه القاعدة، ويشير إلى انتقائية ولفنسون في تعامله مع المصادر.
والكتاب الثاني: التوراة السامرية، ويشير هذا الفصل إلى أن التوراتَين العبرية والسامرية في الأصل واحد، بيد أن السامريين لم يحجموا، وخلافاً للعبرانيين، عن أن يصحّحوا النصّ ويوضحوه.
ومن أبرز ما يعرض له هذا الفصل تلمود اليهودية المعاصرة، وهو بالحري إنجيل الصهيونية الحاوي خلاصة عقائدها، فمن شاء أن يعرف كيف ولماذا ولدت دولة إسرائيل فعليه بهذا الكتاب.
والفصل الرابع (ب4/ف4): الطوائف المسيحية والحوار، يدرس كتباً عديدة، أوّلها: الصادق في خدمة الحقائق، للأباتي عمانوئيل عبيد وموضوعه الخلافات العقائدية والتاريخية بين الكنيستَين الكاثوليكية والأرثوذكسية، ويتضمّن شهادة البيبليا والآباء الشرقيين والليتورجيا في هذا الصدد.
أمّا الأدلّة الغرّاء على سموّ شأن مريم العذراء للمعلّم ظاهر خيرالله صليبا، فيتناول الخلاف العقائدي بين الأرثوذكس والبروتستانت، وكيف تتباين نظرة كلّ منهما إلى تاريخ الكنيسة ودور العذراء الخلاصي وغير ذلك من المواضيع الخلافية.
وجذور الأعياد المارونية للخوري إيلي العلم يلحظ أن العيد تذكارٌ لحدث وتأوين له في آن، وأنّ لا أحد يعرف بالتحديد تاريخ ميلاد المسيح.
الفصل الخامس والأخير من هذا الباب (ب4/ف5): التصوّف الإسلامي والمسيحية، يحلّل عدداً من المصنّفات ولا سيما الأطروحات في الموضوع.
وأوّلها صورة المسيح في التراث الصوفي الإسلامي للباحثة التونسية د. ساره الجويني حفيز، وهي تؤكّد أن كلّ حوارٍ لا يقوم على الخلاف حوارٌ يخشى الحقيقة، وأن العلاقة الإسلامية المسيحية في مجال التصوّف هي نسيج مجتمعنا، وأن عزل الظاهرة الإسلامية عن التراث السابق لها خطأ، وأن المسيح يمثّل النموذج الأمثل للكائن النفيس في التصوّف.
أما د. سعاد الحكيم فسعت في كتابها المرأة والتصوّف والحياة إلى الكتابة في التصوّف عن تجربة ذوقيّة، وحلّلت القراءة الصوفية التأوينية للقرآن، لا سيما عند ابن عربي، وأعلنت في مجال دراساتها الأكبريّة: “لم أختر ابن عربي بل هو الذي اختارني”
وفي كتابها القلق الوجودي في شعر ميشال الحايك درست د. ناتالي الخوري غَريب نفائس الحايك الشعرية فتبيّن لها أنه شاعر أبدع فلسفة جمالية خاصّة للقلق الروحاني، وتبسّطت في عرض ما يحكي الشاعر عن غربة روحية هبطت بعد الخطيئة الأولى.
وكتاب أخلاق كونيّة لثقافات متعدّدة يؤكّد فيه مؤلّفاه الباحثان الإيطاليّان بوري ومارشليوني أنّه لا يمكن فهم أيّ دين بمعزل عن مقارنته بغيره، وأن الأديان الإبراهيمية ذات تاريخ متميّز بتداخل الألوهية في شؤون البشر، والعلاقات بين هذه الأديان تكاملية، بيد أنّها في الوقت عينه تنافسية.
والباب الخامس: علوم الأديان والحوار، لعلّه مقاربة غير مألوفة، فهو بمجمله سيرة ذاتيّة فكرية للمؤلّف، إذ جمع في هذا الباب جملة مقالات له عن كتبه. وهذا بحدّ ذاته نمطٌ من الكتابة غير معهود. فأن يقوم مؤلّف بالكتابة عن مصنّفاته، وأن يعمد بنفسه إلى تقييمها، وبالقلم إيّاه الذي دُبّجت فيه، فهو أمر غير متداول. وهذا ما جعله يمتنع عن توقيع المقالات الأولى المنشورة وذلك خشية أن يوصم بقولة المثل العربي: “ومادح نفسه يقرئك السلام”. بيد أنّه عاد وتخطّى تخوّفه هذا وتوجّسه، ورأى فيه تخفّياً ليس ببريء، ولا مبرّر له. فما المانع أن يكتب مؤلّفٌ عن كتابٍ له، ويبيّن نقاط القوّة فيه، ومحاور الضعف أيضاً؟!
وهي في الحقيقة تجربة جديدة خاضها، وعلّمته الكثير. فليس من السهل أن يكون المرء ممثّلاً على الحلبة ومشاهداً في آن acteur et spectateur أن يلعب الدور، وأن يراقب في الوقت عينه نفسه وهو يقوم به. وكانت تجربة مُثرية إذ أتاحت له أن يجري قراءة نقدية ومتأنّية لما سبق له أن كتب، وأن يراقب عن كثب تطوّر فنّ الكتابة عنده، وتدرّجه في أنماط المقاربة، وتغيّر المنهجيّات المعتمدة، وتحوّلات الأسلوب تبعاً للموضوع المطروق، أو لزمن الكتابة، ولكلّ مقام مقال كما يقال.
وحسبه ما قال وأوضح هنا في هذا الصدد، فللقارئ أن يحكم له أم عليه، وبالتالي على مدى نجاح هذه التجربة وجدواها وجديدها. وهو في هذا الباب الخامس من هذا الكتاب لم يورد من مقالاته عن كتبه إلا ما يتعلّق مباشرة بالحوار المسيحي الإسلامي وبعلوم الأديان ولا سيما الإبراهيمية منها.
والفصل الأوّل (ب5/ف1): مساهمات في الأديان المقارنة يفتتَح بمراجعة لكتاب هو من أكثر مؤلّفات الباحث رواجاً: زرادشت وأثره في الأديان الخمسة الكبرى. ويُظهر أن السبي البابلي هو الطريق الذي سلكته المفاهيم الزرادشتية مثل الفردوس والجحيم والشيطان والانتظار المسيحياني إلى البيبليا، ومنها إلى المسيحيّة فالإسلام. وقد نقل زرادشت وحوّل مفهوم الاستبصار الداخلي في ريك فيدا إلى وحي خارجي كان حجر الزاوية في الأديان النبوية التوحيدية الثلاثة. ولم يقتصر الأثر الزرادشتي عليها وحسب، إذ زرع في البوذيّة أيضاً انتظاراً مسيحانيّاً تجسّد في البوذا الآتي: مايتريا، في حين كان الأثر البوذي في التصوّف الإسلامي واضحاً وما سيرة إبراهيم بن أدهم وكتاب بدّ العارف لابن سبعين سوى بعضٍ من تجلّياته. وخلاصة هذه الدراسة المستفيضة أن كلّ الأديان وأتباعها كانوا محكومين بالتفاعل والحوار وسيبقون كذلك إلى ما شاء الله، فهي سنّة طبيعية في الأديان والثقافات والمجتمعات البشرية.
والكتاب الثاني المعراج من منظور الأديان المقارنة يؤكّد في مدخله أن علم مقارنة الأديان ليس مفاضلة بينها، ولا هو نُصرة لأحدها، أو لأيّ منها، على آخر، وفي خاتمته ما يُظهر أن أخذ اللاحق من الأديان عن السابق حقيقة علمية لا مشاحّة فيها. وأن روايات المعراج بتعدّدها واختلافها تعكس التنوّع الثقافي الغنيّ في الإسلام.
أما سِفر المسيحية بين البوذية والإسلام، فيركّز على التضادّ بين صورَتي أشوكا الأمبراطور الهندي التي جعلت منه البوذيّة ملكاً مسالماً يحجم عن شنّ أي حرب ويعمل على ترسيخ السلم الأهلي في مملكته ومع جيرانه، وقسطنطين الأمبراطور الروماني الذي جعل من المسيحية، وخلافاً لتعاليم مؤسّسها، ديانة محارِبة. ومرسوم التسامح الذي أصدره أشوكا نمطٌ رائد ومبكر من العلمانية
وكتاب الماسونية وأثرها في الأديان الإبراهيمية هو في الحقيقة الدراسة العربية الأولى في الماسونولوجيا أو علم الماسونية. يبحث في هذه الظاهرة اللافتة في علوم الأديان بحياد، ويسعى إلى تبيان ما لها وما عليها، ويكشف أسرار العداء الماسوني-الكاثوليكي المستفحل وما آل إليه راهناً، كما أنّه يحلّل نصّ بروتوكولات حكماء صهيون ويبيّن زيفها.
وكتاب تنقيح الأبحاث للملل الثلاث لابن كمّونة الذي حقّقه المؤلّف وحلّله ودرسه في أطروحة أكاديمية له نصّ رائد من بواكير المصنّفات في الأديان المقارنة، سعى إلى نقل الصراع الديني من الشارع إلى مجالس الفكر، والتزم احترام مقدّسات الآخر، من غير أن يعني ذلك مسايرته في مقاربتها وتفنيدها، فكانت لهجته رزينة تخفّف من حدّة الطعون، لكن دون أن تغيّر في مضمونها.
وحوار الهندوسية والإسلام والمسيحية يروي السيرة الفكرية والروحية لمفكّر لبناني بارز هو كمال جنبلاط وقد عُرف باليوغا وعُرفت به، وكَوّن مع صديقَيه ميخائيل نعيمه وميشال الحايك مثلّثاً فكريّاً عرفانيّاً خاض تجربة حوارٍ استثنائي شملت تقاليد روحيّة ثلاثة.
وما هذا سوى جزءٍ ممّا حوى هذا الفصل من مراجعات.
والفصل الثاني (ب5/ف2): مساهمات في الحوار المسيحي الإسلامي، ضمّ جملة مصنّفات للمؤلّف في هذا الحقل.
وأوّلها الإسلام في مرآة الاستشراق المسيحي: عملٌ موسوعي حوى نصوصاً في الإسلام لعدد من المستشرقين الفرنسيين من مدرسة لويس ماسينيون. ولا يكتفي هذا المصنّف بترجمتها، بل يدرسها دراسة نقدية، ويحلّل ويفنّد طروحاتها. ونظرة الآخر قد تحمل جديداً إلى أهل البيت، فهو يبصر بعين فاحصة ناقدة تلحظ تفاصيل قد لا تستوقف الرائي من الداخل. وهؤلاء المستشرقون درسوا الإسلام بنفَسٍ حواري، بيد أن العقل العربي بالمقابل اعتاد على الجدل أكثر من الحوار، ولمّا يزل يؤثر الأوّل على الثاني. ولا بدّ من العمل مجدّداً على الذات للانخراط في مدرسة الحوار
والكتاب الثاني: ثوّار من الجيش الأسود، من أواخر مصنّفات المؤلّف. وفيه يعرض سيَر وآراء آباء ثلاثة جمعتهم رؤيا مشتركة خلاصتها أن الأمور في كنيسة لبنان لا تسير على ما يرام، وكانوا له بمثابة معلّمين. أمبروسيوس الحاج داعية اللاعنف وصاحب السيرة التي تفوح قداسة، ولويس خليفة رائد التأوين في كنيسة لبنان، وجوزف قزّي المتبحّر في الإسلاميّات.
أما من تاريخ الفلسفة المسيحية في أرض الإسلام فيؤرّخ لفلسفة مسيحية مشرقية لم تُدرَس بعد. ألا وهي التوماوية. والأسماء عديدة ومن لبنان ومصر والعراق أمثال إسحق بن جبير مترجم الخلاصة اللاهوتية للقدّيس توما بنصّها الكامل. والأب بطرس نصري الموصلاوي شارح هذه الخلاصة، والمطران أبي كرم مترجم الخلاصة ضدّ الأمم، ويوسف كرم اللبناني الماروني ومؤرّخ الفلسفة الشهير الذي عاش في مصر.
وأسفار الأسرار كتاب في تاريخ كنيسة المشرق، أي الكنيسة النسطورية وتاريخها وعقائدها حقّقه المؤلّف ومهّد له بدراسة ضافية تناول فيها عهود أهل الذمّة في الإسلام، ولا سيما ما عُرف ب”الشروط العمرية”، فبيّن بالدراسة الفيلولوجية والإسنادية والتاريخية لهذا النصّ الذي كان الحجّة في إذلال النصارى في الدول الإسلامية المتعاقبة أنّه مجرّد نصّ مزيّف وُضع، على الأرجح، في عهد الخليفة المتوكّل أحد أبرز مضطّهدي أهل الكتاب والفِرق الإسلامية غير السنّية، ونُسب زوراً إلى الخليفة الفاروق عمر بن الخطّاب وهو منه براء.
ومعراج محمّد المخطوطة الأندلسية الضائعة، يعيد تعريب نصٍّ تراثي نُقل إلى اللاتينية وفُقد أصله العربي. ويدرسه دراسة حوارية ليسبر، من خلاله، أغوار وخلفيّات النظرة الغربية القروسطية إلى الإسلام. فيرى أن المفاضلة التي دأب عليها أوروبيو القرون الوسطى بين رجلَين مؤسّسين وسيرتَين كانت في أساس سوء الفهم المتمادي للإسلام طيلة قرون. والمفاضلة هذه بين مؤسّسَين، هي بالمفهوم الأكاديمي المعاصر خطأ منهجي، إذ يجب دراسة كلّ تقليد من الداخل بغية فهمه واستيعابه، وتحاشي المفاضلة بينه وبين تقليد الدارس. فلكلٍّ قيَمه المرتبطة بزمنه والمكان.
الفصل الثالث من الباب الخامس (ب5/ف3): في التصوّف المقارن. يدرس آثار المؤلّف في هذا المجال.
وآخر ما صدر له كتاب: الوصايا الصوفية العشر، وفيه يختصر التعاليم الصوفية الإسلامية في عشر وصايا مستقاة من أبرز المصادر. والوصايا مَعلَمٌ للسلوك. بيد أنّه لا يكتفي بشرحها وتحليلها، بل يقارنها بمثيلات لها في التصوّف الهندي أو اليوغا والنسك المسيحي. ويرسم بالتالي لوحة متكاملة للتصوّف الإسلامي فيتبوّأ موقعه الذي يستحقّ بين التقاليد الصوفية الأخرى، وتظهر للعيان في آن أصالته، وكذلك تفاعله العميق مع مثيلاته من التقاليد.
وللمؤلّف أعمال شعرية صوفية يسلّط عليها الضوء في هذا الفصل، وهي كلّها لا تُقتصر على النصّ الشعري وحسب، بل تحوي إلى ذلك مختارات صوفية من أبرز المصادر، ودراسات تتفاوت مواضيعها، بيد أنّها بمجملها تتوسّط الإيجاز المخلّ، والإسهاب المملّ.
ديوان أشارات شطحات ورحيل يدرس ظاهرة الشطح عند صوفية الإسلام ولا سيما البسطامي والحلّاج، ويقدّم محاولات معاصرة في الشطح، وقصائده عموماً تعبير عن حالة شطّاحة، واستحضارها من ثمّ. وهكذا تغدو الجولة في هذا الديوان سياحة صوفيّة بامتياز.
مقامات الصمت، “نصوص ليست من المألوف بشيء” قال عنها مقدّم الديوان المستشرق بيير لوري. أما المؤلّف فيؤكّد بدوره أن أصدق الشعر ما انبثق من الصمت، وعبّر عن شيء من ذاك المذاق.
وديوان مرآة القلب، يظهر الشعر فيه وسيطاً للكشف نجرؤ فيه على ما نسعى لإخفائه، على حدّ قول مقدّمه البروفسور جاد حاتم. أما المؤلّف/الشاعر فيرى أنّه سيرة له في العشق ببعدَيه الإلهي والبشري. فكم من مرّة لحظ نفسه مشلّعاً بين رغبة الجسد وصبوة الروح. وهكذا فبين الطهر والعهر مقامٌ لعلّه مقامه، بيد أنّه في النهاية ليس سوى محطّة، فالمسيرة متواصلة، والهدف بعيد، والسالك مصرّ على المضي.
وسائحٌ على ضفاف الذات آخر ما نُشر للمؤلّف من دواوين. فلِمَ يبقى السائح/الشاعر على ضفافِ ذاته؟ وهل يُمضي العمر بأسره على هذه الضفاف؟! اليوم حول الهيكلِ طفنا، فمتى ندخل قدس الأقداس؟! يتساءل في خاتمة أحدى قصائده في تورية وغمزة أخرى تجمع بين العشق البشريّ والحسّي والإلهي.
والفصل الرابع من الباب الخامس (ب5/ف4): في المسيحيّة وتصوّفها. للباحث مجموعة مؤلّفات في الدراسات المسيحية وهي بمجملها لا تخرج عن السياق العام لآثاره والمرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنهج الحواري والمقارِن.
الصمت في المسيحية كتابٌ يسير بالحري في الاتّجاه المعاكس للمسار الحضاري الراهن المجبول بالصخب، والذي لا يكلّ عن تشتيت انتباه الكائن البشري ولا يملّ. أي أنّه عمليّاً يشلطه من جذوره المشلّشة في الصمت. والصمت في المسيحية يعيد إلى زمن البدايات، إذ زرع يسوع صمته في كلّ زمان ومكان، فأنبت غائصين في محيط الصمت في البرّية وفي الأديار وحتى وسط المدن التي تعجّ بالضجيج، ونازارينا حبيسة روما مثل نموذجي على ذلك.
واليوغا في المسيحية جديد في موضوعه، ويُظهر أن ما يُحكى عن اليوغا من مزاعم ليس سوى مسعى للانطوائية. وهو يسلّط أضواء كاشفة على العديد من النقاط المشتركة بين اليوغا وتعليم القدّيسة تريزا الأفيلية. ويحذّر من أن التقوى، لا سيما تلك التي لا تصحبها سوى معرفة مجتزأة ومبتسرة قد تنقلب تعصّباً مميتاً. فيصحّ عندها في الغيور قول بولس الرسول في اليهود وفي نفسه قبل اهتدائه: {وإنّي لأشهدُ لهم أنّهم ذوو غيرة لله، ولكنها غيرة على غير معرفة. فقد جهلوا بِرّ الله وحاولوا أن يقيموا برّهم هم} (الرسالة إلى أهل روما 10/2-3). في حين أن المتبحّر في علوم الأديان تتّسع آفاقه لكلّ الروحانيّات دون أن يستثني واحدة منها.
والمؤلّف متخصّص في لاهوت القدّيس توما الأكويني وفلسفته، وله فيه ستّة كتب، وأمضى في صحبته ردحاً طويلاً من الزمن. ومن بين هذه المصنّفات هكذا علّم توما الأكويني. وفيه عمد إلى التتلمذ على معلّم معلّمي الكنيسة سعياً إلى فهمه وتدبّره. وتوقّف عند عددٍ من وصاياه، ومنها: تعلّمتُ بالصلاة أكثر ممّا تعلّمت بالدراسة، وأحبِب حجرتك كثيراً إذا ما أردتَ أن يدخلوك أقبية الخمر، وإيّاك وكثرة الإلفة مع أحد، فهي تقود إلى الانسلاخ عن الدراسة. والكتاب يقدّم نصوصاً أصيلة للأكويني تعرَّب للمرّة الأولى، ويقف أمامها مستبصراً محلّلاً.
والفصل الخامس من الباب الخامس (ب5/ف5): لبنان والعلاقات المسيحية الإسلامية، وللمؤلّف في تاريخ لبنان والمشرق جملة مصنّفات يعرض لأكثرها في هذا الفصل.
حوار الأديان في لبنان، وفيه يحاور عدداً من المفكّرين اللبنانيين ورجال الدين من مختلف الطوائف والتيّارات، ويعرض لفكر آخرين ممّن غيّبهم الموت، وكان لطروحاتهم وقعٌ حواري فاعل. غريغوار حدّاد أو المطران الأحمر، كما عُرف، شدّد دوماً على أن عدالة الله تتطلّب أن يكون لكلّ مجموعة بشرية أنبياؤها، فلا يصحّ أن يكون للمسيحية والإسلام واليهودية أنبياء وتحرم من هؤلاء شعوب الشرق الأقصى كالهند والصين.
ورأى الشيخ الدكتور محمد النقّري أنّه لا بدّ من إعادة صياغة الفقه ليتلاءم وحاجات العصر ومستجدّاته، في حين أكّد الشيخ عبدالرحمن الحلو أن ابن تيميّة فقيه مأزوم والسلفيّون بمجمله واقعون في قبضته. وتطول الوقفة أمام ما في هذا الكتاب من طروحات حوارية قيّمة، ولا يتّسع المجال حتى لذكر أبرزها.
والكتاب الثاني الدولة الإسلامية من منظور مسيحي، يحلّل الظروف التاريخية التي أدّت إلى إعلان ملكية فيصل أذار 1920 ونشوء لبنان الكبير في 1 أيلول 1920، ويروي تفاصيل السباق المحتدم بين البطريرك الحويّك والأمير فيصل للوصول كلّ إلى هدفه، ويختصر مجازاً مشهد قيام الكيان في أيلول 1920 بأن عريساً مارونيّاً خطف عروساً سنّية وتزوّجها، وحَسِب الناسُ يومها أنّه مجرّد زواجٍ مدني لا بدّ أن يتبعه انفصال، ولكن تبيّن مع الزمن أنّه كان زواجاً مارونيّاً لا يعرف الطلاق ولا الفراق.
ولمحات من تاريخ لبنان الحديث يشدّد على أن سقوط التجربة اللبنانية، إن حصل، فسيكون ضربة موجعة للإسلام المعاصر، لأنّه سيقدّم عندها دليلاً على أن هذا الأخير لا يُحسن العيش مع الآخر المختلف على قدم المساواة، وتحت سقف دولة واحدة تؤمّن الحقوق والحرّيات عينها للجميع.
وزجل لبنان: تاريخ وأعلام وآثار، وقد يسأل سائل وهل لكتاب موضوعه الشعر العامّي موقع في كتاب يحكي عن العلاقات المسيحيّة الإسلامية؟!
والجواب البديهي أن الزجل اللبناني، ولا سيما في جانبه المنبري، كان حقّاً طاولة لقاء وحوارٍ أثمر أكثر من طاولات رجال السياسة والدين وحواراتهم. وهو إلى ذلك سمة من أبرز ميّزات الشخصية اللبنانية وأدبٌ راقٍ وذو أثرٍ شعبي بيّن.
والفصل السادس والأخير من الباب الخامس والأخير (ب5/ف6): اليهوديّة بين المسيحية والإسلام يضمّ مراجعات لمصنّفات قاربت اليهودية بنفَسٍ حواري تفهّمي ينبذ آفة معاداة الساميّة التي تسود معظم المؤلّفات العربية في هذا المجال.
الصمت في اليهوديّة يظهّر تيّاراً في اليهودية ناقضاً للتيّار الموسوي الساعي إلى أرض الميعاد. إنه التيّار الإيليائي الذي سار في الاتّجاه المعاكس. وفي القرآن تتماهى شخصية النبي الياس مع الخضر معلّم موسى وإنّه لأمرٌ عميق الدلالات.
وكتاب كعب الأحبار يدرس الأثر اليهودي في الحديث النبوي وفي التفسير، أو ما يعرف بالإسرائيليّات، ويحلّل منهجيّة الباحثين الإسرائيليين الملتبسة في دراسة التراث الإسلامي ومقاربته.
أما القرابين البشرية في اليهوديّة القديمة فيميط اللثام عن مسألة كثُر فيها الجدل. ويُظهر أن الذبائح البشرية، وخلافاً للنصّ التوراتي المحرِّم، كانت جزءاً من الطقوس اليهودية القديمة، وهي طقوس مارسها الكنعانيّون والعبرانيّون وعرب الجزيرة وغيرهم على السواء.
ذاك عرضٌ موجز لأبرز مباحث هذا السفر وطروحاته.
الإسلام والمسيحية ضروريّان لسلام العالم
وتبقى كلمة تساق في مجال العلاقات المسيحية الإسلامية. وهنا يحلو للمؤلّف أن يردّد مع الأب يواكيم مبارك([1]) ما قاله في الستّينات: “إنّنا في استمرار حاجةٍ كمسيحيين إلى الخروج من أورشليم والاستقرار في أنطاكيا. وإنّنا بحاجة كمسلمين إلى مغادرة مكّة لتجديد الهجرة إلى المدينة. وهذا بالضبط ما نفعله عندما نتواعد نحن مسيحيين ومسلمين من كلّ ملّة على التلاقي في لبنان فنقرّ إذّاك بأن مصيرنا ليس في الانغلاق، بل بانفتاح بعضنا على بعض” (مبارك، حول لبنان، م. س، ص188).
وهذه الهجرة المشتركة أنجز اللبنانيّون نذراً منها، في سبيل التلاقي، وأحجموا عن المضيّ قدماً في المشروع الحضاري الرائد هذا. لكن لا خيار سوى متابعة هذه المسيرة، ليس لأجل سلم أهلي في ما بينهم وحسب، بل مساهمة في سلمٍ عالميّ راسخ في عصر العولمة وتفاقم الإسلاموفوبيا. وهذا ما استشرفه مبارك منذ ستّينات القرن الماضي إذ قال: “بإمكان إرادة للسلم مشتركة بين المسيحيين والمسلمين فرض السلام في العالم قاطبة (…) إن المسيحية والإسلام ضروريّان إذن بعضهما لبعض، لأنّهما ضروريّان لسلام العالم واتّحاده” (مبارك، م. س، ص185).
دور الموارنة في تغيير نظرة الغرب إلى الإسلام
أجل ففي زمن الإسلاموفوبيا فلمسيحيي لبنان دورٌ حيويّ يلعبونه، ولمسلميه كذلك. وسبق للمسيحيين أن تولّوا القيام به. وإليه يشير مبارك: “باعتراف المستشرقين أنفسهم، أمثال مالفيزي وليفي ديللافيدا ونورمان دانيال يعود الفضل إلى الموارنة في وضع حدّ للشتائم والأقوال المستهجنة التي كانت تتلفّظ بها أوروبا بصدد الإسلام، ويظهر هذا مع أوّل ترجمة جدّية للقرآن في العصور الحديثة قام بها ماراتشي الذي كان يتعلّم السريانية والعربية على يديّ راهب ماروني في روما” (مبارك، م. س، ص47).
والنموذج اللبناني، إذا نجح واستمرّ، سيكون بحدّ ذاته تكذيباً لمزاعم الإسلاموفوبيين، بيد أن فشله سيكون بالمقابل مصداقاً لها. أمّا دور مسيحيي لبنان في إظهار الوجه الحضاري المنفتح للإسلام فيبقى ضروريّاً، لأنّه سيكون عندها شهادة ممهورة بالتجربة.
العربية هي الحوار بمعناه الجوهري
ويبقى أن ما يجمع اللبنانيين يفوق ما يمايز ويعدّد ويشتّت. وأوّله اللغة، فهي وسيلة تفاعلٍ بل وحوارٍ وانصهارٍ: “إن حقل اللغة العربية ليس بأرفع حقلٍ للحوار الإسلامي المسيحي فحسب، بل هو الحوار نفسه بمعناه الجوهري. فاللغة العربية هي الوسيلة الممتازة للمسيحيين والمسلمين لا ليتفاهموا بها فحسب، بل لينصهروا ويتداخلوا في خضمّها”. (مبارك، م. س، ص178).
وهل من أمرٍ أجدى وأبهى، من أن هذه الكلمات، ورغم أنّها تسطّر في بلدة عالية نائية من جبل لبنان، فبمقدور أيّ امرئ في أقصى المغرب العربي أن يقرأها ويعي مراميها، ناهيك بسائر الناطقين بالضاد من المحيط إلى الخليج!
أجل إنّ أداة التواصل المباشر هذه مع ملايين البشر لا بدّ من أن يعي اللبنانيّون أيضاً وأيضاً أهمّيتها ودورها في اللُحمة الوطنية.
ضرورة التمييز بين الديني والدنيوي
كما لا بدّ لهم من مواصلة العمل، وبمزيد من الجدّ والجهد على تطويرٍ للعقليّات والذهنيّات التي بُرمجت تواتراً وتوارثاً على التقوقع في الأُطر والانتماءات الطائفية والمذهبية الضيّقة. فلا مفرّ، لمواصلة العيش معاً، من العمل على ترسيخ الفكر الذي يفصل بين الديني والدنيوي، والكفّ عن الخلط بين المجالين. “رأس قضايا الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان وهدفه الأكبر أن نتوصّل على مستوى الفكر إلى التمييز تمييزاً أكثر عدالة بين الروحاني والزمني” (مبارك، م. س، ص167).
وهذه العقلية التي تقسّم الناس وتفرّقهم بحسب طوائفهم وانتماءاتهم الدينية راسخة هي عند اللبنانيين وسائر العرب، بل ومتوارثة أباً عن جَدّ. وسبق للأديب اللبناني النهضوي أحمد فارس الشدياق (1804-1887) أن لحظها وندّد بها، واعتبرها أحد أسباب تخلّف المجتمعات العربية، وتقدّم المجتمعات الغربية التي تجاوزتها منذ أزمنة، فقال عن أهل أوروبا مقارنة بالمسلمين والعرب: “هم لا يسألون أحداً عن معتقده ومذهبه. وعندنا متى تعرّف أحدٌ بذي مقامٍ فأوّل ما يشنّف سمعه به من مسائل قوله له: من أيّ ملّة أنت؟ فإذا لم يكن المسؤول على ملّة السائل سقط من عينه الشريفة” (بلقزيز، من الإصلاح، م. س، ص126، نقلاً عن الساق على الساق، ص231).
والدرب طويلة وشاقّة، بيد أنّها تبقى الخيار الحضاريّ الأجدى!
الدين بالأحرى في تاريخه لا في نصوصه
وكلمة أخيرة ترفع الالتباس في ما أثير من نقاشِ في بعض فصول هذا المصنّف (ولا سيما في ب2/ف2) من وجوب التمييز بين إسلام النصّ والإسلام التاريخي (ومسيحيّة الإنجيل والمسيحية التاريخيّة كذلك). وكثيراً ما يخطر لقارئ النصوص المقدّسة المثل العربي القائل: “اقرأ تفرح، جرّب تحزن”.
أجل، فكلّ الأديان دعت إلى محاسن الأخلاق والفضائل، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر. و”إنّما يُبنى الدين على الأخلاق، ولا تبنى الأخلاق على الدين” تقول القاعدة الفلسفية في علم الأخلاق Ethique. والمؤلّف يميل بالأحرى إلى اعتبار أن الدين في التاريخ لا في النصّ فقط، ودراسته يجب أن تتركّز أساساً في تاريخه ومدى انطباق نصوصه على واقعه التاريخي، فهذا الأخير هو المحكّ والفيصل في مقاربته مقاربة موضوعية وغير منحازة. وهو في ذلك يوافق المفكّر المغربي عبدالإله بلقزيز قوله: “ما من دينٍ يقبع على الورق، ولا تكون له حياةٌ في بشرٍ يحملونه ويتناقلون شرائعه وقيَمه من جيلٍ إلى جيل” (بلقزيز، الديني، م. س، ص42).
وشتّان غالباً بين النصّ والتاريخ والواقع: “ترتفع المفارقة متى أدركنا أن الدين في التاريخ في المجتمعات، غير الدين في النصوص” (بلقزيز، الديني، م. س، ص47).
حسبُ العالم العربي إشادةً بنصوصه
وحسب العالم العربي إشادةً بنصوصه وتغاضياً عمّا في تاريخه من عنفٍ وإرهابٍ وترهيبٍ فكريّ، وكلّ ذلك بذريعة أنّها مجرّد شواذ وممارسات قامت بها أقلّية لا تمثّل الدين وما فيه من سماحة وحميد الأخلاق. فهذه تعابير غدت بالأحرى لغة خشبية غير مقنِعة ولا مجدية. إذ “يفرض النظر إلى الظاهرة الدينيّة بما هي ظاهرة تاريخيّة يحتاج فهمها إلى مقاربة تاريخيّة تنظر إليها في سيرورتها الواقعية، لا في انبنائها النصّي فحسب” (بلقزيز، الديني، م. س، ص11).
الكلّ محكوم بناموس التأثّر والتأثير
ومن جهةٍ أخرى، فلا مناص من المقاربة المقارِنة في دراسة أيّ دينٍ، فالكلّ خضع لناموس التفاعل والأخذ والعطاء، والكلّ محكوماً كان ولا يزال بقانون التأثّر بمحيطه والتأثير فيه. إنّها قاعدة طبيعية لم يشذّ عنها أيّ فكرٍ ولا أيّة منظومةٍ دينية. والكاتب يوافق الباحثة التونسية دة ساره الجويني حفيز في قولها: “وأغلب الدراسات تخطئ لما تهدف إلى عزل الظاهرة الإسلامية عن التراث السابق لها كالتراث اليوناني والروماني”. (الجويني، صورة المسيح، م. س، ص10). وكذلك المفكّر بلقزيز في مقولته: “ليس من سبيلٍ إلى فهم تراث الإسلام بعزله عن محيط المؤثّرات الخارجية. بما في ذلك تراث الفكر الديني الذي يُنظر إليه عادة على أنّه إسلاميٌّ خالص. وهذا ما دعوناه بالحاجة إلى القراءة التاريخيّة النقديّة لذلك التراث” (بلقزيز، الديني، م. س، ص155-156).
قراءة مجهرية لا تُحجم عن النقد الذاتي
ولا تخرجُ بحوث هذا الكتاب بمجملها عن دائرة القراءة التاريخية النقديّة لتراث التفاعل والنقاش والجدل بين الإسلام والمسيحية. قراءة مجهرية لا تُحجم عن النقد الذاتي، وما قيل في كنيسة لبنان مثلٌ بيّنٌ على ذلك، وتجرؤ بالتالي على وضع الإصبع على كثير من الجروح النازفة. وقراءةٌ كان في رأس همّها واهتمامها ودأبها تحفيز العمل على وجوب إنضاج ظروف لقاء مثمرٍ وبنّاء في سبيل عيشٍ مشترك يسوده الفهم المتبادل ووعي المشتركات والمفترقات في آن، والقبول بالتنوّع والتعدّد مصدر غنى. وبلورة إرادةٍ مشتركة لسلمٍ أهلي راسخ من شأنه أن يعمّ شيئاً فشيئاً الوطن الصغير، ويُعمَّم بالتالي على محيطه العربي والمشرقي، وما هو أبعد من هذا المحيط.
- J. C. S. T. B
اللقلوق/جبيل في 19/8/2021
[1] -الأب يواكيم مبارك (1924-1995)، في كتاب المؤلف (كعب الأحبار، م. س، ص104-106)، تعريف موجز به.