مقدمة وغلاف كتاب “الوصايا الصوفية العشر”/ تأليف لويس صليبا
المؤلّف/Auteur: أ. د. م. لويس صليبا Lwiis Saliba
مستهند وأستاذ محاضر ومدير أبحاث في علوم الأديان والدراسات الإسلامية
عنوان الكتاب: الوصايا الصوفية العشر
دراسة مقارنة لأدب الحياة في التصوّف الإسلامي والهندي والمسيحي
Titre: les Dix Commandements Soufis
الغلاف: مولانا جلال الدين الرومي ومعلّمه شمس تبريز
عدد الصفحات: 300ص
سنة النشر: طبعة ثانية 2024، طبعة أولى 2021
الناشر: دار ومكتبة بيبليون
طريق الفرير، حي مار بطرس، شارع 55، مبنى 53، جبيل/بيبلوس-لبنان
ت: 09540256، 03847633، ف: 09546736
Byblion1@gmail.com www.DarByblion.com
2024©جميع الحقوق محفوظة، يمنع تصوير هذا الكتاب، كما يمنع وضعه للتحميل على الإنترنت تحت طائلة الملاحقة القانونية.
ديباجة الكتاب
مدخل إلى بحوثه وطروحاته
المتصوّفون عاشوا الاختبارات عينها
عودة إلى أجواء التصوّف الإسلامي بعد غيبة قصريّة. وهل ينسى مؤلّف هذا المصنّف، وكاتب هذه السطور، أن بداياته الجامعية والأكاديمية انطلقت منه؟ ويا طيبها بداية.
هي ظروف الحياة، وضرورات العمل، ومتطلّبات البحث قد تُبعد أحياناً، ولكن لا بدّ من العودة، والمرور أيضاً وأيضاً بنقطة البداية. وصحبة أولياء أمثال أبي يزيد البسطامي والنفّري ومولانا جلال الدين الرومي وغيرهم مصدرٌ هي للغبطة، وسلام القلب.
وبحوث هذا الكتاب وفصوله هي في الأساس مجموعة محاضرات للمؤلّف أُلقيت في دروسٍ عن اليوغا والتأمّل شارك فيها مع البروفسور جاك فينيو Jacques Vigne في فترة آب-تشرين الثاني 2020، دروس عن بعد، وعبر Zoom كما جرت العادة زمن الحجر، وزمن جائحة كورونا التي لمّا يزل العالم يتخبّط في مصائبها وبلاياها.
وهدف الكاتب الأوّل والأساسي كان أن يمدّ جسراً بين التصوّف الإسلامي وشقيقَيه التصوّفَين المسيحي والهندي (أو اليوغا). فكما تقول وتردّد العالِمة والمتصوّفة المستشرقة إيفا دو فيتراي-ميوريفيتش (5/11/1909-24/7/1999) Meyerovitch: “اقرأوا المتصوّفة، وسترون أنّهم في العمق، وفيما هو أبعد من المؤسّسات والتقاليد المختلفة التي ينتمون إليها، فقد عاشوا الاختبارات عينها”([1])
وتضيف: “إذا كان اللاهوتيّون يقسّمون، فالمتصوّفة يوحّدون الناس من كلّ التقاليد، وعلى مستوى معيّن من الكائن فكلّ المؤمنين يعيشون الاختبار عينه” Ibid, p9
واستكمالاً لهدف هذه الدروس خطر له أن يكرّر محاولة له في اليوغا عرفت نجاحاً واهتماماً، وذلك حين لخّص مبادئها وتعاليمها في وصايا عشر استخلصها من مأثورات ونصوص يوغية عديدة([2]). فسعى، بطريقة مماثلة، إلى أن يلخّص تعاليم التصوّف الإسلامي ومبادئه ومفاهيمه في عشر وصايا مُستخلصة، هي الأخرى، من نصوصه وكتابات كبار أوليائه ومؤلّفيه ومعلّميه. ولا داعي هنا للتبسّط في عرض وشرح ما فعل ومنهجيّته في ذلك، فكلّه مذكور واستوفي تفسيره وتوضيحه في مدخل الباب الأوّل من هذا الكتاب.
الوصايا ملخّص للتعاليم الصوفية
أما لماذا تلخيص أبرز تعاليم التصوّف في وصايا، فلأهمّية هذه الأخيرة في الطريق الصوفي والنقل الشفوي أو المدوّن لهذه التعاليم. وفي ذلك يقول الإمام المتصوّف عبدالوهّاب الشعراني (ت973ه): “ومن أخلاقهم [الصوفية] كثرة الوصايا من بعضهم لبعض، وقبولهم المواعظ، وشكرهم الواعظ، وعدم رؤية أحدهم في نفسه أنّه قام بواجب حقّ من نصحه، ولو أحسن إليه مدى الدهر، وذلك لأن الأمور الأخروية لا تقابَل بالأعراض الدنيويّة”([3])
وعرفت الوصايا، ولا تزال، في التصوّف المسيحي الأهمّية عينها. والقاعدة العامّة التي تناقلها الرهبان ولا يزالون تقول: “فرح التلميذ أن يعمل بوصيّة معلّمه”([4])
وهذا المصنّف شاءه كاتبه مقدّمة وتمهيداً لبحوث في التصوّف المقارن أكثر توسّعاً وتعمّقاً وتفصيلاً، فتوقّف وقفاتٍ تقصر وتطول ليترجم لكبار المتصوّفين وصغارهم، فيعرّف القارئ عليهم مآثر وآثار، ما يغنيه عن تعريفات لاحقة، في بحوث تغوص في المزيد من المقولات والتعاليم.
ماذا الآن عن فصول هذا الكتاب وما تضمّ من مباحث وأفكار؟
الباب الأول مخصّص للوصايا الصوفية العشر. ويُستهَلّ بتمهيد هو في الحقيقة مدخلٌ ضروري لهذه الوصايا. وقد حوى عدداً من التعريفات الأساسية التي تساعد في فهم مغزى هذا العمل وأبعاده: ما هي الوصية بمفهومَيها: الصوفي والديني عموماً، والقانوني؟ وما هي الوصايا العشر، ولماذا العدد عشرة تحديداً؟ وهو كما تبيَّن للباحث يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأصابع اليدَين العشرة، وكانت أداة الإنسان الأولى والأساسية للعدّ والحساب. لذا فالوصايا العشر لا تنحصر في البيبليا وحدها، ففي البوذية كذلك عشر وصايا لبوذا سبق للمؤلّف أن تناولها بالعرض والبحث.([5])
ويقف هذا التمهيد وقفة تفكّر وتبصّر عند مصادر الوصايا الصوفية العشر، وأبرزها ما نُسب إلى لقمان الحكيم في الجاهلية وفي القرآن من وصايا. فمن هي هذه الشخصيّة الغامضة؟ وما علاقتها بأحيقار الحكيم البابلي الذي تنقل التوراة عدداً من حِكَمه في سفر طوبيّا؟
ولماذا اعتُبرت وصايا لقمان خلاصة تعاليم الأنبياء؟ ولماذا اهتمّ الصوفية بها، وتناقلوها شفويّاً وتدويناً؟ فعلى الإجابة عن هذه الإشكاليّات وغيرها يتمحور مدخل الباب الأوّل. وينتهي بعرضٍ لنصّ الوصايا الصوفية العشر التي استخلصها المؤلّف من مجمل التعاليم الصوفيّة.
أمّا فصول الباب الأوّل، فقد خُصّص كلٌّ منها لوصيّة بحيث تتطابق أرقام الفصول وأرقام الوصايا.
الفصل الأوّل ب1/ف1 للوصية الأولى: احفظ قلبك في الصلاة. القلب جوهر روح الإنسان في المفهوم الصوفي. وهو بطبيعته متقلّب، ومن هنا اسمه. فكيف يمكن حفظه في الصلاة والتأمّل عموماً؟
الأمر يتطلّب مراناً طويلاً، وصبراً جميلاً وانتظاماً في الممارسة. ولا يفلح مع التشتّت المقاومة والرفض: لا نقاوم الخواطر والأفكار، ولكنّنا بالمقابل لا ننجرف معها. ومزاج الإنسان صورة عن تقلّب قلبه، فعليه أن يرضى بتقلّبات مزاجه خطوة أولى وضرورية نحو تثبيته.
والفصل الثاني ب1/ف2 يتناول الوصيّة الثانية: احفظ لسانك بين الناس. واستقامة اللسان من خصال الإيمان، وقد كرّس القرآن في عرضه لقصة العذراء مريم قاعدة “الصمت عبادة”. فالعابد يُعرف بصمته، ودفء لسانه إن تكلّم. ومن عرف الله كَلّ لسانه يقول الجنيد.
والفصل الثالث ب1/ف3 يدرس الوصيّة الثالثة: احفظ عينك عند جارك. وقاعدة غضّ النظر القرآنيّة معروفة، ولها ما يوازيها في التقليدَين المسيحي والهندوي. ففي الإنجيل {سراج جسدك هو عينك}. أمّا الهندوسية والبوذيّة فتدعوان إلى برمجةٍ واعية للنظر، كأن ينظر المرء إلى المرأة كابنة أو أخت أو أمّ تبعاً لسنّها.
والفصل الرابع ب1/ف4 يبحث في الوصية الرابعة:احفظ فمك على الطعام المؤمن يأكل من معى واحد، والكافر من سبعة أمعاء يقول الحديث الشريف. وطالما كان الجوع أداة العبادة عند الصوفيّة. فهمّ بطني جعلني عبيطاً يقول أحد مشايخهم. أما اليوغا فتقارب المسألة هذه من زاوية صحّية وطاقيّة. فنحن نأكل الطعام، بيد أنّه يأكلنا: يأكل جسمنا ويستهلك طاقته، فعمليّة الهضم تتطلّب الكثير من الحرارة لاتمامها، لذا فالطعام الذي نتناوله هو في الوقت عينه ما أُكل، وما أَكل حياتنا. وتبقى أهمّية تخيّر الأطعمة أساسيّة، فالمرء ما يفكّر وما يأكل تقول اليوغا.
والفصل الخامس ب1/ف5 يحلّل الوصية الخامسة: احفظ فرجك. وهو يركّز على الترابط بين الشهوتَين: شهوة الفم وشهوة الفرج. والشراهية أمّ الزنى يقول آباء الكنيسة، أمّا الصوفية فنادوا دوماً بما أسماه الغزالي كسر الشهوتَين. في حين علّمت اليوغا كيفيّة تحويل الطاقة الجنسية إلى طاقة روحية، وذلك عوض هدرها في ممارسات غالباً ما لا تطفئ الشهوات، بل بالحريّ تزيد من استعارها.
والفصل السادس ب1/ف6 يتوقّف عند الوصية السادسة: اذكر الله، ووقفته من أطول وقفات هذه الدراسة. فالوصية هذه هي لبّ الممارسات الصوفيّة وركنها: الذكر الذي به تطمئنّ القلوب كما تقول الآية القرآنية وتؤكّد (الرعد/28).
وللذكر عند الصوفيّة آداب وقواعد عديدة يتناولها هذا الفصل بالشرح والتحليل استناداً إلى الإمام عبدالوهّاب الشعراني وابن عربي وغيرهما. ويركّز هذا الأخير على أنّه ما عُبد غير الله في كلّ معبود، ومعادلته هذه استعادها الكثير من الصوفيّة بعده، كابن الفارض وعبدالكريم الجيلي، وابن عطاء الله السكندري وغيرهم. في حين يؤكّد أبو الهدى الصيّادي أن المرء لو اعتقد بحجر لنفعه، وهو بذلك يستعيد المثل العربي القديم: “آمن بالحجر تبرأ”. أما الاسم الإلهي فيوصي أكثر الصوفية بكتمه، وهو ما يعبّر عنه نزار قبّاني في قصيدته “لا تسألوني ما اسمه حبيبي” التي يقدّم هذا الفصل تأويلاً صوفيّاً لها. ويبقى أن الذكر الصوفي والتأمّل اليوغي اسمان لمسمّى واحد. وهو طريق الاختبار الروحيّ الأسمى بامتياز.
والفصل السابع ب1/ف7 يتبصّر في الوصية السابعة: اذكر الموت. “اذكروا هادم اللذات” يقول الحديث الشريف. ويقول حديث آخر طالما تناقله الصوفية وردّدوه: “موتوا قبل أن تموتوا”. وفي اليوغا يسمّى الاستغراق أي الاختبار التجاوزي الأسمى سمادهي والموت السمادهي الأكبر أو مهاسمادهي. ويقول أفلاطون: “ليست الفلسفة سوى ممارسة الموت في الحياة”. وتركّز اليوغا على أن أدب الحياة الأساسي هو أدب الوفاة أي الاستعداد الدائم والمتواصل للموت. ففي حياة المرء يقينان: الآن ولحظة الوفاة. وهذا ما علّمه الصوفية وعاشوه، فالصوفي ابن وقته، أي يعيش لحظته الراهنة متجرّداً من الماضي، ومن المستقبل في آن. أما خوف الموت، وهو في أساس كلّ خوف، فواجَهه الصوفية بالربط المستمرّ بين لحظتَين وآنين: الآن وآن الرحيل. وأكثر الصوفيين كاليوغيين عرفوا ساعة وفاتهم، وكانوا لها على أتمّ الاستعداد.
والفصل الثامن ب1/ف8 يتفكّر في الوصية الثامنة: اذكر فضل غيرك عليك. وأكثر الناس جاحدون، وتقول آية الذكر الحكيم: {وقليلٌ من عبادي الشكور} (لقمان/14). في حين يؤكّد الحديث الشريف أن أَشكرَ الناس لله أشكرهم للناس. وآداب الشكر في الصوفية مَعلَم بارز من أدب حياتهم وأخلاقهم. فبالشكر تدوم النعم كما قيل.
والفصل التاسع ب1/ف9 يفتّش عن مغزى الوصية التاسعة ودلالاتها: انسَ إحسانك إلى غيرك. وفي القرآن وصية ذهبية في هذا الصدد: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ} (البقرة/264).
وطالما عرّف الصوفية الفتوّة بأن لا ترى لنفسك فضلاً على غيرك. والقاعدة الإنجيلية في هذا الصدد تكمن في العطاء المجّاني: {مجّاناً أخذتم، مجّاناً أعطوا} (متى10/8)، أما الكيتا (17/20) فتشدّد على وجوب العطاء بدون توقّع بدل.
والفصل العاشر والأخير ب1/ف10 يتقصّى معاني الوصية العاشرة والأخيرة: انسَ إساءة غيرك إليك. والإسلام دين الصفح والسماح، والمسيحية ديانة المغفرة. والمثل العربي يقول: “ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء”، وفي الأبانا التي علّمها يسوع: {اغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أساء إلينا} (متى6/12).
ويأتي الباب الثاني: اليوغا والثقافة الهندية في العالم العربي بمثابة دعامة وتكملة للباب الأوّل ومقاربته المقارِنة بين تقاليد روحية ثلاثة: إسلامية ومسيحية وهندية.
والفصل الأول ب2/ف1: ظاهرة التهنود في الأوساط الثقافية، مقابلة مع المؤلّف نشرتها مجلّة الشراع، وتتناول مسألة اليوغا وأسباب انتشارها في المجتمعات العربية المعاصرة، ودوافع الإنسان المعاصر للتطلّع صوب الهند، وما تحمله له ثقافتها وتقاليدها من حلول محتملة لأزماته.
والفصل الثاني ب2/ف2: اليوغا في المجتمعات العربية، مقابلة ثانية مع المؤلّف تدور في أجواء المقابلة الأولى، بيد أنّها تعمّق الغوص لتسبر أغوار الأثر الهندي في مجالات عديدة مثل: اللاعنف على الصعيدَين الاجتماعي والديني. والقاعدة اليوغية في هذا المجال تقول وتؤكّد: “الديانة الحقيقية هي اللاعنف”. ويتناول هذا الفصل أبرز معالم الأثر الهندوي في الفكر اللبناني: مثلّث جبران ونعيمه وجنبلاط، وغيرهم من أسماء لامعة في هذا المجال. كما يسلّط أضواءً على المساهمات الهندية في العلوم المعاصرة كالطبّ الفيدي والهندسة الفيدية وغيرها، ليختم بنظرة بانورامية على أنماط التأمّل المعروفة اليوم في مختلف التقاليد وكلّها لها جذور عميقة في اليوغا.
والفصل الثالث والأخير من الكتاب، ب2/ف3: وهو مسك الختام، ففيه يتناول المؤلّف تعليم معلّمه سوامي فيجاينندا، وذكرياته عنه. وما كان يقوله له عن اليوغا وعن المعلّم، مثل: “اليوغا ليست عبادة معلّم“، وإنّه لمن الأسهل أن يكون المرء معلّماً من أن يكون تلميذاً. وكذلك ما قاله عن لبنان والعالم العربي وحاجتهما إلى روحانية عابرة للأديان.
منهجية المؤلّف في تدوين المراجع
وتبقى كلمة لا بدّ منها في منهجيّة المؤلّف في تدوين المصادر والمراجع، وهو منذ سنواتٍ يتّجه نحو تكييف المنهجية المعتمدة في معظم الدراسات العربية مع بعض الضرورات التقنية في الإخراج الداخلي لا سيما عبر نظام Word. وطالما شكا الكاتب ولا يزال من إثقال الهوامش بالإشارات المتكرّرة إلى مرجعٍ واحد يتكرّر في الصفحة عينها، وهذا ما حدا به إلى الإقلاع غالباً عن ذكر مرجعٍ سابق في الهامش، وإيراده بالأحرى بين هلالين في المتن. والجدير بالذكر، في هذا الصدد، أن بعض الدراسات العربية الحديثة شرعت منذ فترة في اعتماد المنهجية الأميركية المستحدثة في تدوين المراجع. وتشرح “كرونوس”، وهي مجلّة دراسات تاريخية تصدرها جامعة البلمند/لبنان، هذه الطريقة التي اعتمدتها في مختلف أبحاثها كالتالي: “الإرجاعات البيبليوغرافية توضع في متن النصّ لا في هامشه في أسفل الصفحة، وطبقاً للمثل التالي:
(Dupont 1995: 5)([6])، أي: (شهرة المؤلف سنة النشر: رقم الصفحة). أما اللائحة البيبليوغرافية الكاملة، أو مكتبة البحث، فترد في آخر الدراسة وفقاً للنموذج التالي: المؤلف، سنة النشر، مكان أو مدينة النشر، الناشر. (كرونوس، م. ن)
ولنا على هذه المنجهية ملاحظات عديدة يأتي في طليعتها أنّنا في حالةٍ كهذه نكتفي بأن نستورد منهجية غربية وغريبة على علّاتها، فهي قد تناسب البلاد التي وضعت فيها، من دون أن تكون مناسبة حتماً للبحوث العربية. فسنة النشر ليست عاملاً حاسماً في تمييز مرجع ولا سيما مصدرٍ عربي عن آخر، فكثيرة هي المراجع والمصادر العربية التي تخلو من ذكر سنة النشر، وكثيرة هي دور النشر العربية التي تتقصّد عمداً إغفال سنة النشر لأن أكثر معارض الكتب العربية ترفض عرض كتاب يتجاوز سنّه عدداً معيّناً من السنوات (ست سنوات غالباً)، فيكون الحلّ التجاري إغفال سنة النشر تحاشياً لرفض الكتاب. أو لغير ذلك من الأسباب، لا سيما وأن قوانين النشر في أكثر البلاد العربية لا تلزم الناشر بالتصريح الواضح عن تاريخ إصدار الكتاب، كما هي الحال في الغرب. فأيّة فائدة عندها من ذكر مصدر ما كما يلي: (الثعلبي د. ت: 312)، (كرونوس، م. س، ع29، ص143).
وسنة النشر غير ذات فائدة حاسمة بالنسبة إلى المصادر العربية وكتب التراث فالأهمّ في هذه الحالة سنة وفاة المؤلّف. ونأخذ من دراسة د. مروان أبي فاضل مثلاً معبّراً آخر: (الفغالي 2003: 20) (كرونوس، ع29، ص127)، ولمؤلف هذا المرجع الأب بولس الفغالي عشرات الكتب الصادرة سنة 2003، فأيّها المقصود؟ يستحيل أن نعرف ذلك من دون العودة إلى لائحة المراجع والمصادر في آخر الدراسة!!
وتلافياً لكلّ هذه الهنّات وغيرها، اعتمد مؤلّف هذا الكتاب منهجيّة كُيّفت مع وضع المراجع والمصادر العربية. وتقضي بذكر أي مرجع أو مصدر يرد للمرّة الأولى كاملاً في الهامش في أسفل صفحة المتن. وابتداءً من المرّة الثانية التي يذكر فيها هذا المرجع عينه فهو يوضع، أسوة بالطريقة الأميركية، في المتن وبين هلالين، ولكن وفق الطريقة التالية: (شهرة المؤلّف، م. س، ص…) وإذا ورد في الدراسة كتب عديدة للمؤلّف عينه، فعندها تُذكر الكلمة الأولى من عنوان الكتاب منعاً للالتباس نحو: (صليبا، موسوعة، م. س، ص…).
ومن حسنات هذه الطريقة المكيَّفة أنها لا تُثقل الهوامش في أسفل الصفحات، فتُترك هذه الأخيرة عندها للتراجم وسائر الحواشي التفسيرية.
شانكارا فسّر الكيتا كما فسّر ابن عربي القرآن
وبعد، فهي محاولة تظهّر نقاط التلاقي وأوجه الشبه ووحدة الاختبار في تقاليد صوفية ثلاثة. وليس الكاتب بمبتدعٍ في هذا المجال، إذ سبق للعديد من الباحثين أن ركّزوا على المشتركات ونقاط الالتقاء بين متصوّفي الإسلام والهندوسية والمسيحية كذلك. يقول محمّد إقبال (1877-1938) مثلاً: “هناك تشابه عجيب في تاريخ الفكر الهندي والإسلامي يظهر في بحث مسألة “الذات”. فالفكرة التي فسّر بها شانكارا كتاب الكيتا، هي الفكرة التي فسّر بها محيي الدين بن عربي القرآن، حتى جعل ابن عربي مسألة وحدة الوجود عنصراً هامّاً في الفكر الإسلامي اصطبغ به كلّ شعراء العجم في القرن السادس الهجري، وحين خاطب فلاسفة الهند العقل في إثبات وحدة الوجود وتوكيدها، خاطب شعراء الفرس القلب وكانوا أشدّ أثراً وأعنف خطراً”([7])
ولا نيّة للمؤلّف هنا في التبسّط بشرح مقولة إقبال هذه ولا بمناقشتها. وإنما يكتفي بالإشارة إلى قوله إن الفكرة التي فسّر بها شانكارا الكيتا هي عينها التي فسّر ابن عربي بها القرآن. فهي لوحدها دليل على هذا القرب بين اليوغا والتصوّف الإسلامي.
دور الصوفية في نقل التراث الهندي إلى الغرب
ولعب الصوفيّة دور الوسيط في نقل الثقافة الهندوية، والتراث السنكريتي واليوغي إلى الغرب، تماماً كما لعبت الأندلس الدور عينه في نقل الفلسفة والعلوم اليونانية إلى أوروبا في العصور الوسيطة. يقول الفيلسوف الإسلامي سيّد حسين نصر (1933-…) مركّزاً على هذا الدور وأهمّيته: “إن ترجمة الآثار الهندوسية إلى الفارسية خلال الحقبة المغولية حدثٌ ذو مغزى روحيّ عميق. بيد أن أهمّيته القصوى لم تكشف بعد، لا سيما عند المسلمين من غير الهنود والفرس. وكانت الشخصية الأساسية في حركة الترجمة هذه الأمير دارا شوكو الذي تولّى ترجمة الكيتا واليوغا فازيشتا وأبرز أناشيد الأوبانيشاد. وعن هذه الترجمة الفارسية نقل Anquetil Duperson هذه المؤلّفات إلى اللاتينية. وهذه الترجمة اللاتينية كان لها أثر حاسم في عددٍ من الفلاسفة الأوروبيين في القرن التاسع عشر مثل شيلنغ. وكان الشاعر المتصوّف وليم بلايك يملك نسخة من هذه الترجمة”([8])
ونصر محقّ تماماً في قوله إن دور الوسيط الذي لعبه الأمير دارا شوكو وسائر المتصوّفة الفرس في نقل التراث الروحي الهندي إلى الغرب الأوروبي، لمّا يزل مجهولاً، وهو يحتاج إلى الكثير من الأبحاث لتسليط الضوء عليه، وهو لوحده مؤشّر مهمّ على عمق التفاعل والتثاقف بين التصوّفَين الإسلامي والهندي، أو اليوغا. ولا يغربنّ عن بالنا هنا أن التصوّف الهندي واليوغا مجرّد مرادفَين، وفي ذلك تقول الكيتا: {ما يدعى زهداً هو اليوغا، ولا يصير يوغيّاً من لم يزهد في ما يثير الشهوة} (الكيتا6/2) Lacombe, op. cit, 67
إيّاكم والغلو في الدين
وكان صوفيّة الإسلام ولا يزالون روّاد التقارب مع مؤمني التقاليد الدينية الأخرى. يرفعون في الدين راية الأخذ بروحه وجوهره، ويَحْذرون دوماً، ويُحذّرون من آفة التطرّف والغلو في الدين التي اجتاحت ولا تزال المجتمعات الإسلامية مؤخّراً مع تنظيمات السلفية الجهادية وغيرها. وشعارهم قول الرسول في حديث شريف: “إيّاكم والغلوّ في الدين، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”([9])
ونقل أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء (1/215)، تفسير بعض الصوفية لهذا الحديث، وممّا جاء فيه: “ما ندب الله العباد إلى شيء إلا اعترض فيه إبليس بأمرَين بأيّهما ظفر، إمّا غلواً فيه، وإمّا تقصيراً عنه”
ويؤكّد العديد من الباحثين ما أسلفنا من أن الصوفية كانوا ولا يزالون روّاد انفتاح الإسلام على سائر الأديان، وفي ذلك يقول سيّد حسين نصر: “وفي ما يتعلّق بالإسلام، فإن المفتاح الضروري الذي يفتح الباب نحو لقاء حقيقي مع الديانات الأخرى قد قدّمه التصوّف. ويعود إلى مسلمي عصرنا أن يستخدموا هذا المفتاح، وأن يطبّقوا المبادئ الموضوعة على الظروف الخاصّة السائدة اليوم في العالم الإسلامي” Nasr, op. cit, p215
ويضيف نصر مركّزاً على أهمّية دور الصوفيّة في تأسيس علم مقارنة الأديان في الإسلام، فيقول: “أدّى التصوّف خدمة جلّى للإسلام، بإيضاحه مسألة الأديان المقارنة” Nasr, op. cit, p47
وهكذا فبين الإفراط في الدين والتفريط فيه تبقى الفطنة ولا سيما المعرفة أو ما يعرف في الإسلام التفقّه في الدين هي الفيصل.
وفي الكيتا (4/36): {ستعبر كلّ شرّ في قارب المعرفة وإن كنتَ أخطأ الخطأة} Lacombe, op. cit, p57. وفيها أيضاً: {أجل ما من شيء في هذا العالم يطهّر كالمعرفة} (كيتا4/38).
وحسب هذا السِفر أنّه كان أداة لكاتبه، وطريقاً كي ينمّي معرفته للذات وللآخر، وللمطلق. فعساه يكون لقارئه دليلاً إلى الطريق عينه.
QJCSTB
باريس في 1/12/2020
[1] -Vitray-Meyerovitch, Eva de, Islam l’autre visage, Paris, Albin Michel, 1995, 155.
[2] -صليبا، د. لويس، حوار الهندوسية والإسلام والمسيحية جنبلاط اليوغي وعلاقته بنعيمه والحايك، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2020، ب1/ف13: وصايا اليوغا العشر، ص193-201.
[3] -الشعراني، الإمام القطب أبو المواهب عبدالوهّاب بن أحمدبن علي (ت973)، تنبيه المغترّين أواخر القرن العاشر على ما خالفوا فيه سلفهم الطاهر، عناية الشيخ عبدالوارث محمد علي، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1998، ص113-114.
[4] -صليبا، لويس، ثوّار من الجيش الأسود، رهبان لبنانيّون مشوا عكس السير، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2021، ب1/ف2.
[5] -صليبا، د. لويس، المسيحية بين البوذية والإسلام مشتركات ومفترقات، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2018، ب1/ف2، وصايا بوذا العشر للملوك، ص49-51.
[6] -كرونوس مجلّة دراسات تاريخية تصدرها جامعة البلمند، ع3، 2000، الغلاف الخلفي.
[7] -محمود، عبدالقادر، الفلسفة الصوفية في الإسلام مصادرها ونظريّاتها ومكانها من الدين والحياة، القاهرة، دار الفكر العربي، ط1، 1966، ص659، نقلاً عن أسرار إثبات الذات ورموز نفي الذات لمحمد إقبال.
[8] -Nasr, Seyyed Hossein, Essais sur le Soufisme, traduit par Jean Herbert, Paris, Albin Michel, 1980, p155.
[9] -أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده، ح1/215، والنسائي في سننه، ح268، وابن ماجة في سننه، ح3029، وصحّحه الألباني.