مقدمة وغلاف كتاب “أضواء على الفن التشكيلي في لبنان” /تأليف لويس صليبا

مقدمة وغلاف كتاب “أضواء على الفن التشكيلي في لبنان” /تأليف لويس صليبا

المؤلّف/Auteur: أ. د. م. لويس صليبا Lwiis Saliba

مستهند وأستاذ محاضر ومدير أبحاث في علوم الأديان والدراسات الإسلامية

عنوان الكتاب: أضواء على الفنّ التشكيلي في لبنان:مبدعون وروائع وأشعار لا تموت

Title:Creators in painting, sculpture & literature from Lebanon

عدد الصفحات: 280ص

الغلاف الأمامي: نساء الضيعة يصنعن خبز الصاج/ لوحة جوزيف مطر.

الغلاف الخلفي: مينا جبيل بريشة بيار شديد

سنة النشر: طبعة أولى 2022

الناشر:            دار  ومكتبة بيبليون

طريق الفرير، حي مار بطرس، شارع 55، مبنى 53، جبيل/بيبلوس-لبنان

ت: 09540256،        03847633،     ف: 09546736

Byblion1@gmail.com            www.DarByblion.com

2022©-جميع الحقوق محفوظة، يُمنع تصوير هذا الكتاب، كما يُمنع وضعه للتحميل على الإنترنت تحت طائلة الملاحقة القانونية.

 

ديباجة الكتاب

مدخل إلى بحوثه وطروحاته

الفنّ التشكيلي اللبناني يحتاج المزيد من الدراسة

الرسم والنحت فنّان عريقا القدم في لبنان ومتجذّران في تراثه العتيق والحديث غذّتهما بدائع الكثيرين وعلى مرّ العصور، منذ أيّام الفيانقة وإلى زمننا الحاضر. ورغم غزارة التراث اللبناني وغناه وتنوّعه في هذين المجالَين، فلم يقيّض له بعد من يوليه ما يستحقّ من عناية، ويؤرّخ ويرسم مساراته، ويميّز ما تخلّله من مراحل تطوّر وذرواتٍ وقمم ووهاد منذ القدم وصولاً إلى أيّامنا. وهذا لا يعني أن المكتبة العربية واللبنانية خالية من مؤلّفاتٍ وكتبٍ مزدانة بالصور Beaux Livres تعرض لإبداعات رسّامين ونحّاتين لبنانيين. بيد أنّها لمّا تزل تفتقر إلى أعمال مألفة Oeuvres de Synthèse في هذين المضمارَين. ولا يطمح هذا المصنّف إلى أن يسدّ هذه الثغرة، لا سيما وأنّ ذلك يتطلّب جهداً جماعياً ومتواصلاً يستغرق سنواتٍ طوال. حسبه الإضاءة على بعض الإبداعات والمبدعين في هذا المجال.

ولا بدّ للمؤلّف، كاتب هذه السطور، من أن يُقرّ أن طموحه في البدء كان أوسع بكثير ممّا يقدّم في هذا السفر. لا سيما بعد أن افتتح زاوية “مبدعون من لبنان” في مجلّة الأمن الصادرة في بيروت. ونشر في هذه الزاوية حوارات عديدة مع عددٍ من الفنّانين التشكيليين، وكذلك دراسات عمّن غيّبهم الموت منهم. لكن جاءت جائحة كورونا ومعها زمن الحجر المنزلي، وقبلها مباشرة انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 وتداعياتها، فهذه كلّها أطاحت بهذه الزاوية وهي لمّا تزل في البدايات، ومعها مشروعه الطموح في التأريخ للفنّ التشكيلي في لبنان، ولم يتبقَّ منه سوى هذه الحوارات والدراسات. فكان لا بدّ له من أن يضمّها بين دفّتي كتاب صوناً لها من الضياع، وما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه يقول المثل العربي.

وما يحويه هذا المصنّف في أبوابه وفصوله من دراسات وسيَر وحوارات كانت في الأساس جزءاً من كتاب سابق للمؤلف عزم أن يتناول فيه المسرح والفنون التشكيلية في لبنان([1]) في آن. بيد أنه انتهى إلى فصلها عن دراسات المسرح تحاشياً لتضخّم حجم ذاك الكتاب أولاً، ولأنها وحدة تأليفية في موضوعها من شأنها أن تكون مستقلّة تالياً. وهذ الاستقلالية الطارئة التي كسبتها هذه البحوث كانت حافزاً لكاتبها لردفها بإضافات وزيادات ووقفات جديدة ومستحدثة ضاعفت من حجمها.

حُسنُ السؤال نصف العلم

وما قاله عن المسرح اللبناني المعاصر وروّاده في مقدّمة الكتاب الآنف الذكر، من شأنه أن يُعمَّم على الرسم والنحت. فهذا السفر يحاور عدداً من الفنّانين التشكيليين اللبنانيين، ويدرس بعضاً آخر من الراحلين. وقد آلَ على نفسه أن لا تكون أسئلته نمطية من النوع الذي يمكن أن يُطرح على أيّ فنّانٍ دون تمييز بين زيدٍ وعمرو من أهل هذا الفن. بل كانت أسئلته مستخلَصَة من كتاباتٍ وأحاديث لكلّ فنّان، وتتناول جوانب معيّنة من نتاجه وخاصّة به. وهو الذي كان دوماً ولا يزال يتمثّل بالحديث الشريف القائل: “حُسن السؤال نصف العلم”([2])

قوّة الإنسان في طرح الأسئلة

فالسؤال طريق العلم الأوّل، وما من معرفة ولا علم غير مسبوقٍ بأسئلة. وقد اعتاد كاتب هذه السطور، مع إشرافه منذ زمن على أطروحات الدكتوراه في علوم الأديان والإنسان عموماً، على استخراج الإشكاليّات من مختلف المواضيع الفكرية التي تطرح عليه، وعلى مساعدة طلّابه على استخراجها وطرحها. فنجاح أيّ أطروحةٍ جامعية يكمن أساساً في جودة وأهمّية وعمق ما تطرح من إشكاليّات! وما السؤال سوى نمطٍ أوّل من الإشكالية. والأسئلة والإشكاليّات لا تنتهي، والمؤلّف يوافق أستاذه أيام الجامعة الشاعر أدونيس في قوله: “أنا مع الأسئلة. والإنسان قوّته الكبرى ليست في تقديم الجواب لأن الجواب سهل ولكن قيمته الكبرى هي في طرح الأسئلة، وهذا ما يميّز الإنسان عن الحيوان. فالحيوان لا يطرح أي سؤال بل يعيش، والإنسان هو طارح الأسئلة”([3])

“اطرح الأسئلة، إنها قوّتك الوحيدة” قالها أحد كبار الفلاسفة لتلميذه (صليبا، لويس، حوار الأديان، م. س، ص5). وطرح الأسئلة كان دوماً دأب كاتب هذه السطور، ولا يزال!

مصنّف يحمل جديداً مقروناً بما سبق ونُشر

والدخول في عالم كلّ فنّان وفضائه الخاص الحافل بإبداعاته لطرح الأسئلة عليه بالتالي تطلّب جهداً وزمناً لقراءة ما كتب وصرّح، ومتابعة نتاجه ومقاربته بعين نقدية ودودة. ومن الفنّانين التشكيليين، وهو ما سيلاحظه القارئ في عددٍ من الحوارات، من هم على درجةٍ عالية من الثقافة والتحصيل الأكاديمي أو الذاتي. تسأله في الفنّ ورسومه ولوحاته، فيجيبك طارحاً فلسفة خاصّة في الحياة والوجود مستعيناً بالفكر والشعر والموسيقى وغير ذلك من علوم وفنون. وهذا بحدّ ذاته غنى وتعبير عن آفاقٍ واسعة في الرؤيا. ومن هنا كانت للمؤلّف متعة وغبطة في إعادة قراءة حوارات هذا السفر وهو يعدّها للنشر بين دفتي كتاب. فكان وكأنّه يطالعها لأوّل مرّة، ففيها دوماً جديدٌ ما ينكشف مع كلّ تمعّن في القراءة والتأمل. ما استتبع تعقيبات وتعليقات وملاحظات جديدة لم يسبق نشرها. وبذلك فهذا المصنّف المقدّم للقارئ اليوم يحمل في طيّاته الكثير من الجديد مرفقاً ببعض ما سبق ونشر في مجلّات وأعدادٍ أشير إليها في مواضعها.

ماذا الآن في تفاصيل ما يحوي هذا السفر عن الفنّ التشكيلي في لبنان وعن عددٍ من شعرائه وأدبائه؟

الباب الأول “أضواء على الفن التشكيلي في لبنان” يدرس بعضاً من المبدعين الراحلين في هذا المجال، و يحاور بعضاً آخر من الأحياء.

والفصل الأوّل (ب1/ف1): “جوزف مطر فنّان يختصر حكاية وطن” يحاور هذا الرسّام/الشاعر ويروي سيرته الفنّية، ويورد ثبتاً مفصّلاً مؤرّخاً لمعارضه الفنّية في لبنان والخارج. ورؤيا مطر للفنّ المقدّس جديرة بالتأمّل. فإبداعه في هذا المجال ذو نفَسٍ مميّز موسومٍ بالحداثة، من دون قطيعة كاملة مع الكلاسيكية. ويتوقّف هذا الفصل عند ميزة في مطر جديرة بالتأمّل فهو رسّام وشاعر في آن، وله قصائد عديدة بالفرنسية، فيسأله عن هذا الجانب من إبداعه وتأثيره على فنّه عموماً.

ورغم إيمانه العميق، والتزامه المسيحي الذي طبع الكثير من أعماله يعلن جوزف مطر بجرأة وصدقٍ: “الفنّ عملٌ إنساني لا دخل لله فيه”. ومع اهتماماته ورؤاه الروحية والفكرية التي تطال الكون بأسره، يبقى لبنان في صُلب وجدان مطر الفنّان ومحور إبداعه. وجوزف مطر بعلاقاته وتتلمُذه على كبارٍ في الفنّ التشكيلي اللبناني أمثال عمر الأنسي، وجورج قرم ورشيد وهبي غدا مَعْلماً يربط أمس الرسم في لبنان بيومه وغده. ويتوقّف ب1/ف1 عند علاقته بالأنسي محلّلا دلالاتها وأبعادها نموذجاً للصلة البنّاءة التي يمكن، بل يستحسن، أن تجمع بين فنّانَين: ناشئ وعتيق.

والفصل الثاني (ب1/ف2) يحاور فنّاناً أصيلاً آخر هو بيار شديد. إبداعه متعدّد الآفاق جمع بين التجريد والكلاسيكية والعري والفنّ المقدّس، وبرع كذلك في البورتريه! أهي محاولة لجمع الشتاء والصيف على سطحٍ واحدٍ قام بها هذا المبدع الجبيلي؟! إنه فنّان في حال تغيّر وتطوّر دائم، ما طرق مجالاً في الرسم إلا وأبدع فيه، ليبلور بالنتيجة أسلوبه الخاص، والذي كان خُلاصة مراحل دائرية وأفقية/عمودية وتجريدية وغيرها مرّ بها، وكلّ مرحلة تركت أثراً ما في إبداعه. وتبقى الإشكالية الكبرى في تجربة شديد الفنّية محاولته الدؤوبة للجمع بين الكلاسيكية والتجريد. أهي نمطٌ آخر من جمع المتناقضات في تجربة فنّية واحدة؟! يصرّ بيار شديد على إمكانية هذا الجمع، وقد توقّف عددٌ من النقّاد الفنيين في لبنان والخارج عند هذه الظاهرة المميّزة في تجربته الفنّية، وهذا الفصل يحاور شديد في هذه المسألة وينقل بعضاً من تقييمات النقّاد في هذا المجال.

ولبيار شديد تجربة رائدة في الفنّ المقدّس لا سيما وأنّه اشتهر بالأيقونة التي رسمها للقديسة رفقا، وقد اختيرت من بين عشراتٍ غيرها لتكون أيقونة إعلان قداستها. لذا يتوقّف هذا الفصل محاوراً شديد في مفهومه وتجربته في الفنّ المقدّس، ويسأله رأيه في فن الأيقونة البيزنطي وغير ذلك.

وللمؤلّف بعضٌ من ذكرياتٍ عن هذا الفنّان تعود إلى زمن الصبا، رواها في هذا الفصل، وختمه بتقييم عامّ لآراء بيار شديد وطروحاته في الفن.

والفصل الثالث (ب1/ف3) يدرس نحّاتاً راحلاً عرفه المؤلف عن كثب. إنّه مروان صالح شاعر الخشب: عمرٌ قصيرٌ عاشه خُتم بموتٍ طويل أشبه بدرب جلجلة. ورغم مشواره القصير ترك مروان صالح منحوتات خشبية تحكي عن معاناة نحّاتٍ شاعر جبراني الهوى، وتلميذ للمسرحي جلال خوري، ومرافق دائم له. ويروي المؤلّف ذكرياته عن هذا المبدع، ويتوقّف عند الأثر الذي تركه فيه. ويدرس بعضاً من ميّزات نحته، فيرى فيه عازفاً على الزيتون، الخشب الذي عشق وأبدع في حواره معه، وابن شاعرٍ زجّال فاته الإبداع في الشعر، فعوّض عن ذلك باستنطاق الخشب، وجعله يعبّر عن بعض ما يختلجه من رؤى ومشاعر. ولا يفوت ب1/ف3 أن يتمعّن في تأثّرات هذا النحّات بمشايخ النحت اللبناني، ولا سيما عميده وشيخ النحّاتين اللبنانيين والعرب يوسف الحويّك، وكذلك كبير النحّاتين اللبنانيين في النصف الثاني من القرن العشرين: ميشال بصبوص وشقيقه يوسف وغيرهم. ومروان صالح شُهبُ لمع في سماء الفنّ التشكيلي في لبنان وما لبث أن انطفأ برحيله الباكر. بيد أنّه ترك بصماتٍ في هذا المجال يصعب أن تُمحى. وإحياءً لذكرى هذا النحّات الصديق الودود قام المؤلّف بجولةٍ على ما كُتب عنه في المجلّات والمصنّفات، ونقل أبرز ما قيل في النحت المرواني وناقش بعضه استكمالاً للبحث، وكي يضع بمتناول القارئ والباحث ملفّاً متكاملاً عن هذا النحّات المميّز وأبداعاته المشرورة هنا وهناك وهنالك.

والفصل الرابع (ب1/ف4): يحاور الرسّام والمهندس والممثّل بول سليمان. فنّان أنزل الرسم إلى الشارع، ووضعه بمتناول جميع الناس. عرض في الطرقات: في ميناء جبيل والمنطقة الأثرية في ما أسماه جدار الفنّ، وعلى طرقات بلدته عمشيت، وكان ظاهرة في معارضه الشعبية وفي لوحاته. ويحكي بول سليمان أيضاً عن تجربته على المسرح مع الرحابنة، وكذلك عن أدوارٍ لعبها على الشاشتَين الكبيرة والصغيرة، واستوقفت المشاهدين، وتركت فيهم أثراً بيّناً. ويستذكر المؤلّف بعض حواراته مع هذا الفنّان لا سيما في ما يسمّيه الزمن الجوّاني، والتأمل الدائم والمستمرّ وغير ذلك من المواضيع، ليخلص إلى تقييم موجز لتجربته التشكيلية والتمثيلية المميّزة.

والفصل الخامس (ب1/ف5): “الرسّامة روزين ديب” يحاور هذه المرأة الفنّانة والشاعرة ومهندسة الديكور. ويبقى للمرأة في رسم العري النسائي خصوصيّة لا نجدها عند الرجل. ويسعى ب1/ف5 إلى أن يفكّك عناصر هذه الخصوصية ويحلّلها ويبيّن ميّزاتها من خلال تجربة هذه الرسّامة الفنيّة. إنه العري المروحَن ما نراه في لوحات روزين وهو جديرٌ بالتأمّل. ويتوقّف هذا الفصل عند ما تسمّيه روزين لغة الجسد، وهي برأيها أكثر عفوية وصدقاً من تعابير الوجه. فالمرء قادر على أن يلعب ويغيّر في تعابير وجهه بحيث يخدع أو يضلّل الناظر إليه. بيد أنّه يعجز غالباً عن أن يبدّل في تعابير جسده، ليوهم بالتالي الناظر إليه أنّه هادئ ومطمئن في الوقت الذي يكون فيه بالأحرى قلقاً أو متوجّساً فأحاسيس الجسد وتعبيره عنها تفضح المرء، وتظهره على حقيقته لمن يعرف أن يراقبها ويتقن تفكيك معطياتها ودلالاتها.

ولروزين ديب تجربة شعرية تضاف إلى التجربة الفنّية وتستكملها. لذا يحاورها المؤلّف عمّا يجمع ويميّز بين الرسم والشعر من منظورها. ويلقي الحوار والنقاش مع روزين ديب نظرة بانورامية على المشهد التشكيلي اللبناني الراهن وأبرز روّاده وميّزاته.

والباب الثاني والأخير (ب2): “أدباء وشعراء من لبنان“، يختم هذا المصنَّف بنفحة أدبية شعرية لا تبتعد عن أجواء الفن التشكيلي والصورة المبدعة. فما تجمّع للمؤلّف من دراسات وحوارات في الشعر والأدب اللبناني عموماً لا يكوّن مادّة كافية كي تُخَصّ بمصنّف مستقلّ، لا سيما وأنّه جمع دراساته وحواراته في الزجل والشعر باللغة اللبنانية المحكية في كتاب سبق أن أصدره.([4])

والبداية مع المرأة وموقعها ومساهمتها في الأدب اللبناني (ب2/ف1). فيستعرض هذا الفصل أبرز الأديبات من مي زيادة وزينب فوّاز صاحبة الرواية العربية الأولى وعفيفة كرم الروائية المهجرية، إلى إملي نصرالله وحنان الشيخ وهدى بركات وغيرهن. فيرى أن المجال الأدبي الذي أبدعت فيه المرأة خصوصاً ونافست الرجل وتفوّقت أحياناً عليه هو الرواية. ويخصّ الروائية الجريئة ليلى البعلبكي بلفتة ووقفة، لا سيما وأنّها حوكمت على جرأة أفكارها ورواياتها. وتبقى محاكمتها مؤشّر للنزعة الذكورية التي لمّا تزل حاضرة، بل ومتحكّمة. ولا ينسى هذا الفصل أن يتطرّق إلى دور المرأة في المسرح اللبناني، وذلك استكمالاً للبحث الذي كان مدار كتاب المؤلّف المخصّص للمسرح والآنف الذكر (صليبا، لويس، المسرح المعاصر في لبنان، م. س).

والفصل الثاني (ب2/ف2) يدرسُ أديباً وصحفيّاً وناشراً لم يلقَ ما يستحقّ من اهتمام. إنّه فؤاد حبيش مؤسّس مجلّة الجندي اللبناني ودار المكشوف. والمدافع الشرس عن الأدب اللبناني الحديث وناشر نفائسه. والأديب الظريف الذي أمتع قرّاءه وأضحكهم. وتناول بجرأة مواضيع كانت تُعتبر من المحرّمات كالجنس والعري وغيرها. وحبيش أديب ظريف ضاحكٌ مضحك، ويتوقّف ب2/ف2 عند هذه الميزة في أدبه وسيرته، ليعود ويخصّ تراث الفكاهة والضحك في لبنان وعند العرب بدراسة يختم بها الكتاب.

والفصل الثالث (ب2/ف3): يدرس شاعراً قُدّت أبياته من صخور ضيعته. نعيم يزبك شاعر كلاسيكي وناقد، كان له على المؤلّف فضل المعلّم على التلميذ. لذا فهو في هذا الفصل يسترجع ذكرياته المدرسية وما بعد المدرسة عنه. ونعيم يزبك كان مع زميله أديب صعيبي شاعر المباسطات، وهو نوع من الشعر الفكه والظريف الذي يستوقف كلّ قارئ بطرافته، فيورد المؤلف ما حُفظ لنعيم يزبك في هذا المجال ويتوقّف عنده، لا سيما وأنّه يولي أدب الظُرف والفكاهة عناية خاصّة في هذا المصنّف. كما يدرس ويحلّل بعضاً ممّا لم ينشر بعد من قصائد يزبك، ويتوقّف عند عشقه للأرض وكيف تجلّى في حياته وفي شعره. نعيم يزبك معلّمٌ لا ينتسى، وشاعرٌ من الطراز العمودي الكلاسيكي جمع بين المتانة والطرافة وعبق الطيّون وأريج الرياحين في أبياته.

ولمّا كان للفكاهة والظرف في هذا المصنّف مقام ونصيب وافر، كما ذُكر، ارتأى المؤلّف أن يكون مسك ختامه أي ب2/ف4 بحثٌ في الضحك والفكاهة وروّادهما في التراث اللبناني العربي. وهي دراسة قُدّمت في سلسلة من المحاضرات على Zoom في زمن الكورونا والحجر الذي لمّا يزل مستمرّاً حتى تاريخه. وللضحك والظرف تراث عريق على الصعيدَين العربي واللبناني. ويعود الكاتب إلى جذوره الدينية والروحيّة مع ما أُثر في الإسلام عن الرسول وفي المسيحية عن حواريي المسيح. ليصل إلى الزمن المعاصر مع أدباء ضاحكين وداعين إلى الضحك. مارون عبّود قسّيس الضحك الذي أمتع الناس بقصصه عن القرية اللبنانية وما فيها من مفارقات وخفّة دمٍ وروح. وأنيس فريحة جامع الأمثال والتراث القروي اللبناني والعالِم في أنتروبولوجيا الضحك وفي تأثيراته الفيزيولوجية والصحّية الإيجابية. ويختم هذا الفصل بذكرياتٍ لبنانية للكاتب ضاحكة مضحكة كنموذجٍ للتأثير الفاعل للضحك. وآخر ما يُعرض: يوغا الضحك وما تعلّمه من تمارين أثبتت فاعليّتها في هذا المجال.

ويسهل على القارئ أن يلحظ أن المؤلّف حفظ للمرأة اللبنانية المبدعة، وعن سابقِ تصوّرٍ وتصميم وكما في سائر مؤلّفاته، “الكوتا النسائية” في المجالات التي درسها في كتابه.

 

منهجية ذكر المراجع

ولا بأس من وقفة وملحوظة أو بالحري بتذكير بالمنهجية التي يعتمدها المؤلّف في تدوين المصادر والمراجع وذكرها. وهو ما سبق له أن تبسّط في عرضه في مصنّف آنف.([5])

وهي منهجية قادته إليها ضرورات طباعة البحث، ودمج فيها بين منهجية شيكاغو الأمريكية الحديثة في ذكر المراجع والمنهجيّة الكلاسيكية التي لمّا تزل مستخدمة في أكثر البحوث العربية. وخلاصة الكلام فيها: يُذكر المرجع الذي يرد للمرّة الأولى في البحث بكامل عناصره في الهامش. أمّا في المرّات التالية فيُكتفى بذكره في المتن بين هلالين وكما يلي: (المؤلّف، م. س، ص…). وإذا ذُكر للمؤلّف عينه أكثر من مرجع، فعندها تذكر الكلمة الأولى من عنوان الكتاب تمييزاً بين مرجع وآخر مثل: (صليبا، الوصايا، م. س، ص10).

الجوامع والفوارق بين الرسم الشعر

ولا بدّ من وقفة موجزة عند إشكالية يطرحها هذا المصنّف بجمعه بين الرسم والشعر. وهي مسألة تناولها عددٌ من الفنّانين في حوار المؤلّف معهم، أو في معرض دراسته لنتاجهم: جوزيف مطر الرسّام والشاعر، مروان صالح شاعر الخشب، وروزين ديب الرسّامة والشاعرة، وغيرهم. وهل ينسى اللبناني في هذا الصدد نابغة الأدب والفنّ في لبنان جبران خليل جبران الذي صوّر بريشته كما رسم بكلماته وأبدع في المجالَين؟!

مسألة عمرها من عمر الرسم والشعر، أو يكاد يكون كذلك. فمنذ زمن الفيلسوف الإغريقي سيمونديس الكيوسي (نحو 556-468 ق م) طُرحت، وبإلحاح أمام الرسّامين والشعراء، المعادلة التالية: “الشعر رسمٌ ناطق، والرسم أو فنّ التصوير شعرٌ صامت”([6])

وجمع أرسطو في كتابه فنّ الشعر بين الشعر والرسم، فأكّد أن: “الشعر والرسم نوعان من أنواع فنّ المحاكاة، قد يتمايزان في المادّة التي يحاكيانها، فأحدهما يتوسّل باللون والظلّ، والآخر يتوسّل بالكلمة. لكنّهما يتّفقان في طبيعة المحاكاة، وطريقتها في التشكيل وتأثيرها على النفس” (عبيد، م. س، ص11).

ولم يبتعد ابن سينا عن المقولة الأرسطية هذه، بل نهج نهجها مؤكّداً أن: “الشاعر يجري مجرى المصوّر فكلّ منهما محاكٍ” (عبيد، م. س، ص15). في حين بقي الجاحظ في جوّها إذ رأى أن: “الشعر ضرب من النسيج وجنسٌ من التصوير” (عبيد، م. س، ص13).

ويردّد اليابانيّون في هذا الصدد مثلاً يقول: “القصيدة ليست سوى صورةٍ أضيف إليها الصوت، والصورة ليست سوى قصيدةٍ بلا صوت” (عبيد، م س، ص23).

فالجمع بين الفنّين: الشعر والرسم قديمٌ هو إذاً، وتقليد راسخ عند الشعوب والمفكّرين من عرب وغيرهم. والتجربة الفنّية للرسّامين، والشعرية للشعراء تنحو نحو تثبيت هذه المقولة القديمة وتأكيدها. وما جاء على لسان عددٍ من الفنّانين ممّن حاورهم المؤلّف في هذا الكتاب يصبّ بدوره في هذا الاتّجاه: الشعر رسمٌ بالكلمات طبقاً للتعبير النزاري المعاصر([7]) والرسم شعرٌ صامت.

الفنّ التشكيلي اللبناني جانب مهمّ من الشخصية الأساسية

وتبقى كلمة عامّة في الفنّ التشكيلي وأهمّيته على الصعيد اللبناني، وكذلك أهمّية المساهمة اللبنانية في هذا المجال. فمن سطحية الاعتقاد أن الفن كعملية إبداعية لا يصنع التاريخ، بل يكتفي غالباً بأن يتفرّج عليه. والمقاربة الرائجة والعامّة للتاريخ على أنّه تاريخ سياسي بل وحتّى تاريخ صراعات وحروب تبقى مبتسرة ومبتورة.

والفنّ في لبنان ما كان يوماً مجرّد حدثٍ ثانوي في وجدان اللبناني وعيشه اليومي، بل هو جزء أساسي لا يتجزّأ من شخصيّته الأساسية. ولا يملك المؤلّف سوى أن يوافق بعض الباحثين الرزينين في الفنّ التشكيلي اللبناني تساؤلهم التأكيدي: “هل نستطيع أن نتصوّر وطناً كلبنان دونما تجلّيات تصويرية أولى تلعب كامل دورها الإبداعي في تطوير الحياة المدنية، والتجلّيات الروحانية لإنسانٍ يعيش تجربة العلاقة الجمالية المتحوّلة في كلّ بقعةٍ أو فصلٍ من فصول حياته على أديم البقعة اللبنانية”([8])

أجل لا يمكن أن يُفهم التطوّر العام الذي شهده المجتمع اللبناني في الزمن المعاصر بمعزل عن نموّ الفنّ فيه وتطوّره في مختلف الاتّجاهات، وانفتاحه على مختلف التيّارات الفنّية الحديثة في العالم، وتفاعله العميق معها.

فالفنّ التشكيلي مَعلَمٌ أساسي من معالِم الشخصية اللبنانية العامّة، وما يقدّمه هذا السفر ليس سوى تحيّة لجملةٍ من العاملين والمبدعين في هذا المجال تؤكّد أن اللبناني لم يترك مجالاً في دنيا الإبداع إلا وكان له فيه مساهمة قيّمة ونصيب.

QJCSTB

جبيل في 28/1/2022

[1] -صدر هذا الكتاب بعنوان: صليبا، لويس، المسرح المعاصر في لبنان: فنّانون ومؤلّفون وآثار، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2022، 280ص.

[2] -صليبا، د. لويس، حوار الأديان في لبنان: المسيحية والإسلام تاريخاً ومستقبلاً ومعتقدات وعلاقات في الفكر اللبناني المعاصر، مفكّرون لبنانيّون يحلّلون ماضي العلاقات المسيحية الإسلامية وحاضرها ويستشرفون مستقبلها، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2020، ص4. والحديث الشريف {حُسن السؤال نصف العلم} أخرجه الطبراني عن ابن عمر في الأوسط، والبيهقي في الشعَب، والعجلوني في كشف الخفاء وقال عنه حديث حسن بشواهده.

[3] -أدونيس، قبل أن تكون الديانات الآلهة كانت تحارب ثم صار الإنسان محارباً عنها، مقابلة في مجلة الحوار المتمدّن، ع3181، 10 تشرين الثاني، 2010، حاوره اسماعيل مروة.

[4] -صليبا، لويس، زجل لبنان: تاريخ وأعلام وآثار، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2021، 436ص.

[5] -صليبا، لويس، الوصايا الصوفية العشر: أدب الحياة في التصوّف الإسلامي مقارنة بالتصوّفَين الهندي والمسيحي، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2021، فق: منهجية المؤلّف في تدوين المراجع، ص15-17.

[6] -عبيد، كلود، جمالية الصورة في جدلية العلاقة بين الفنّ التشكيلي والشعر، بيروت، مؤسّسة مجد، ط1، 2010، ص11.

[7] -قصيدة “الرسم بالكلمات” من ديوان قصائد لنزار قبّاني، وختامها البيت التالي:

كلّ الدروبِ أمامنا مسدودة       وخلاصنا في الرسمِ بالكلماتِ

[8] -أبو رزق، جوزف، وبركات صالح، والقيسي عمران، الفنّ التشكيلي في لبنان، تونس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون، ط1، 2004، ص3.

شاهد أيضاً

분노 폭발을 다스리기 위한 연습과 실용적인 팁 / 2025년 4월 16일 수요일, 루이스 살리바 Zoom 강연

분노 폭발을 다스리기 위한 연습과 실용적인 팁 / 2025년 4월 16일 수요일, 루이스 살리바 Zoom …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *