مقدمة كتاب “في تاريخ لبنان المعاصر وكتابة تاريخه/تأليف لويس صليبا
المؤلّف/Auteur: أ. د. م. لويس صليبا Lwiis Saliba
مستهند وأستاذ محاضر ومدير أبحاث في علوم الأديان والدراسات الإسلامية وتاريخ لبنان
السلسلة: من سايكس بيكو إلى لبنان الكبير3
عنوان الكتاب:في تاريخ لبنان المعاصر وكتابة تاريخه: 1900-1975
Titre: De l’histoire du Liban Contemporain 1900-1975 et de l’historiographie du Liban
عدد الصفحات: 370ص
سنة النشر : طبعة أولى: 2025.
الناشر: دار ومكتبة بيبليون
طريق الفرير، حي مار بطرس، شارع 55، مبنى 53، جبيل/بيبلوس-لبنان
ت: 09540256، 03847633، ف: 09546736
Byblion1@gmail.com www.DarByblion.com
2025©-جميع الحقوق محفوظة، يُمنع تصوير هذا الكتاب، كما يُمنع وضعه للتحميل على الإنترنت تحت طائلة الملاحقة القانونية.
إهداء
إلى الصديق الحبيب العميد المتقاعد فارس حنّا
قائد وحدة الخدمات الاجتماعية في قوى الأمن الداخلي (2016-2019)
هذا بعضٌ من جنىً ممّا رعيت في مجلّة الأمن فأنت الأحقّ بأن يُرفع إليك
QJCSTB
ديباجة الكتاب
مدخل إلى بحوثه وبنيته وطروحاته
إنه الكتاب الثالث من سلسلة “من سايكس بيكو إلى لبنان الكبير”. فإلى جانب الحلقات الـ46 المتتالية التي نُشرت شهريّاً على مدى نحو أربع سنوات (حزيران2020-أذار2024) في مجلّة الأمن/بيروت عمد المؤلّف، كاتب هذه السطور، إلى رفد دراسته الموسّعة هذه بسلسلة مراجعات وقراءات نقدية لمصنّفات تاريخية حديثة أرّخت للحقبة إيّاها، أي لبنان منذ ما قبل الحرب الكونية 1914-1918، وحتى بدايات حقبة إعلان الكيان في 1 أيلول 1920.
وهذا السِفر في أبوابه الثاني والثالث والرابع والخامس (ب2، ب3، ب4، وب5) يجمع المقالات والدراسات التي نُشرت في الموضوع، وقد أشير في بداية كلّ منها إلى أين ومتى صدرت. وممّا يجدرُ ذكره في هذا المجال أن المؤلّف لم يكن انتقائياً في خياراته، وهو لم يقصِ من البحث والاهتمام أيّ مصنّفٍ درس هذه الحقبة وكان له إليه وصول، وقد سعى جاهداً أن يكون محايداً في عرضه منصفاً في أحكامه.
أما الباب الأوّل، فقد مُهّد له بمدخل يروي ويعرض ما يلزم لإيضاح ظروف بحوثه ومواضيعها، ولكن، ومنعاً لأي التباس، يحسن أن يُجمل الكلام في ذلك في هذه المقدّمة العامّة للكتاب.
كان الموضوع الأوّل الذي تمحورت حوله الحلقات الـ21 الأولى من سلسلة حلقات “من سايكس بيكو إلى لبنان الكبير” تعريب وعرض ودراسة وتحليل وثائق الدبلوماسي الفرنسي فرنسوا جورج-بيكو المفاوض الفرنسي في مباحثات الاتّفاقية التي حملت اسمه. وبعد نشر هذه الحلقات المتسلسلة بزمن عثر المؤلّف، وفي مصادر أخرى لم تكن يومها بمتناوله، على وثائق جديدة لبيكو من تقارير ورسائل وخطب بعضها يعود إلى الحقبة القصيرة التي أمضاها في بيروت قبل الحرب قنصلاً عامّاً لفرنسا (عام 1914) والبعض الآخر إلى الحقبة الممتدّة بين تعيينه مفوّضاً عامّاً لبلاده في سوريا وفلسطين (نيسان 1918) وإلى ما قبل مجيئه إلى بيروت للممارسة الفعلية لمهامه. ولمّا كانت هذه الوثائق تستكمل البحث الآنف وترفده بالمزيد من المعطيات والأصول كان لا بدّ من تعريبها عن الأصل الفرنسي ونشرها، ثم تحليلها وسبر أغوار مضامينها وما عساها تقدّم للباحثين من عناصر. وكلّها تبيّن أن بيكو لم يكن يعتقد ويعمل إلا لسوريا الكبرى أو سوريا الفدرالية في ظلّ الانتداب الفرنسي، وهو، في أحسن الأحوال، لم يخصّ لبنان سوى باستقلالية إدارية ضمن نظام فدرالي يشمل سوريا برمّتها ومن ضمنها فلسطين إذا أمكن! وهنا، وفي هذه النقطة الأخيرة بالذات وقفت المشاريع البريطانية والمطامع الصهيونية من ورائها سدّاً منيعاً بوجه الرؤى الفرنسية الاستعمارية هذه!
وهذا بمجمله كوّن مادّة الباب الأوّل من هذا المصنّف بفصوله الأربعة. على أمل أن يكون المؤلّف بذلك قد استكمل واستنفد مجموعة الوثائق العائدة إلى هذا الدبلوماسي الذي كان له دور أساسي في هندسة وتقسيم هذه المنطقة في وضعها الراهن. هذا علماً أنّه لم يسبق أن جُمعت وثائقه أو حُلّلت كما يجب ويليق لا بالفرنسية ولا بغيرها.
والباب الخامس يخصّ المؤرّخ اللبناني المميّز كمال الصليبي (1929-2011) بسلسلة دراسات وتحاليل وقراءات نقدية لبحوثه ومساهماته في مجال تاريخ لبنان الحديث والمعاصر. ولماذا الصليبي بالذات وتحديداً؟ ليس بالطبع لأنه نسيب للمؤلّف وبمثابة أستاذٍ ومعلّمٍ له في التاريخ اللبناني، بل بالحري لأن طروحاته في هذا المجال جديرة بالتأمّل والتفكّر والنقاش. كمال الصليبي مدرسة في التفكير بتاريخ لبنان وفي كتابة تاريخه، وله فضلٌ بيّن في جعل تاريخ الوطن الصغير يحظى باهتمام على مستوى دولي واسع وملحوظ.
رأى الصليبي أن المسألة لا تكمن في الاتّفاق على تاريخ لبنان، فأيّ اتّفاق في هذا المجال سيكون بالحري تسوية على الطريقة اللبنانية وستكون هي حتماً على حساب الحقائق، وإغفال الوقائع أو بعضها. واللافت في هذا المجال أن كلّ المحاولات لتوحيد كتاب التاريخ المدرسي في لبنان بعد اتّفاق الطائف باءت كلّها بالفشل حتى الآن. وربّما لأنّها تنقل المشكلة إلى مكانٍ آخر، وحيث لا يجب!!
والمسألة برأي المؤلّف تكمن ليس في الاتّفاق على تاريخ لبنان، بل بالحري في المصالحة مع هذا التاريخ، وهو ما تبسّط في الحديث عنه وشرحه في بحوث آنفة عديدة من بينها مقدّمة مصنّفه المذكور في الهامش.([1])
وهنا تحضر الكاتب كلمات أغنية أنشدها مرسيل خليفة، أو بالحري بعضٌ منها ولعلّها أفلحت في تصويرٍ وإن كاريكاتوري للمشكلة:
يا ها اللبـنان يا لوح الصفّ يا كتاب الخرايط يا دبكة ودفّ
درسنا تواريخ حفظنا تواريخ وإجـا التـاريـخ طـعـمـانـا كــفّ
وهل الصفعة الموجعة هذه أمرٌ آخر غير صفعة الحقائق بوجه ما يلفَّق ويُروى من سيناريوهات تدوِّر الزوايا بل غالباً ما تزوِّر الوقائع أو تحرِّف وتحوِّر؟!
ولا بدّ من كلمة في كرونولوجيا تاريخ لبنان الحديث أو الجدول التأريخي لأبرز الأحداث في لبنان ومحيطه 1516-1975. وسبق أن كانت للمؤلّف محاولة أولى في هذا المجال.([2]) وقد سجّل يومها عَجَبه واستغرابه لخلوّ الدراسات التاريخية اللبنانية والعربية ممّا يعتبره أساسي في كلّ مصنّف تاريخي، في حين لا تخلو أيّة دراسة غربية من كرونولوجيا توضيحية مفصّلة!
وهو في الكرونولوجيا الثانية والراهنة قد عمد إلى توسيع الأولى وتمديدها إلى سنة 1975 (أي عام اشتعال حرب لبنان) والتدقيق في مختلف تواريخها وإضافة الكثير من الأحداث التي رآها مهمّة وضرورية لفهم السياق العام لتاريخ لبنان الحديث والمعاصر، ممّا ضاعف بالنتيجة حجمها وعدد صفحاتها. ولا بدّ له من أن يشير إلى ما وجد من تضاربٍ في ذكر التواريخ بين العديد من المصادر والمراجع. وهو أمرٌ بحدّ ذاته بالغ الدلالة. والمؤلّف، وإن كان قد سعى إلى التدقيق في كلّ ذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فهو لمّا يزل عاجزاً عن أن يضمن الدقّة التي يطمئن إليها اطمئناناً تامّاً في هذا المجال. وهو إذ يعي أن كرونولوجيا كهذه أو جدول تأريخي للأحداث لا يتيح التبسّط في ذكر المراجع والمصادر التي ينقل عنها رفعاً لأيّة مسؤولية قد تُلقى على عاتقه، فقد أفرد لعمله الكرونولوجي هذا لائحة بيبليوغرافية خاصّة وضعها في نهايته، وهو يطمح إلى مزيد من التوسّع والتدقيق في مصنّفاتٍ تالية بل وحتى إلى أن يصل إلى تخصيص مصنّف برمّته يجمع بين كرونولوجيا للأحداث السياسية والاجتماعية في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر وأخرى للأحداث الثقافية من أدبية وفنّية وتشكيلية ومسرحية وغيرها تمتدّ بين بداية تاريخ لبنان الحديث وحتى نهاية الألفية الثانية (عام 2000). وهو مشروعٌ طموحٌ يستغرق الكثير من الوقت ويستنفد الكثير من الجهد، لا سيما وأنّه يتطلّب العودة إلى الكثير من مصادر وأصول على صعيد تاريخ الفنون في لبنان لا تزال المكتبة العربية والعامّة تفتقر إليها.
ولا بدّ في السياق عينه من كلمة توضيحية بشأن إدراج تواريخ سلسلة البطاركة الموارنة في هذه الكرونولوجيا. فهو لا يأتي بتاتاً من باب الخلط بين التاريخَين الديني والسياسي. وإنّما يعود لأمرين مترابطَين:
1-الأوّل صعوبة، بل حتى استحالة، الفصل بين تاريخ لبنان وتاريخ الموارنة، وبالأخصّ تاريخ البطريركية المارونية. فهذه الأخيرة كانت رائدة الساعين وفي طليعة العاملين على بلورة كيانٍ لبناني مستقلّ. وبطاركة عظام أمثال الثلاثي إسطفان الدويهي وبولس مسعد والياس الحويّك خير دليلٍ على ذلك.
2-وثانياً ومن الناحية التقنية التأريخية المحض، فتاريخ البطاركة الموارنة وما دُوّن فيه من تواريخ واضحة وثابتة يلعب في تاريخ لبنان ما لعبته البوذية في تاريخ الهند، إذ منحته إطاراً تأريخيّاً واضحاً وموثّقاً ودقيقاً كان يفتقر إليه في ظلّ إهمال التقليد الهندوي والهندوسي الملحوظ لمسألة التواريخ والتدقيق فيها، وهو ما تبسّط المؤلف في شرحه في دراسة آنفة.([3]) وبالمقارنة فتاريخ البطاركة الموارنة كثيراً ما يمنح التاريخ اللبناني إطاراً ثابتاً وموثّقاً عبر التسلسل التأريخي للبطاركة الموارنة الذين توالوا على الكرسي الإنطاكي أقلّه منذ بداية التاريخ اللبناني الحديث.
وختاماً فكيانٌ أنشئ أو حتى فُبرك في أيلول 1920 بهذا الخليط العجيب وغير المتجانس، بل وحتى المتنافر من المكوّنات! هو بالحري كيانٌ ممنوعٌ من الحياة وممنوعٌ من الممات في آن! فكلّما بلغ مرحلة الخطر المميت ولفَظِ الأنفاس الأخيرة، أُدخل على عجلٍ إلى غرفة العناية الفائقة، وأُنعش طبّياً أو بالحري اصطناعياً بمختلف الوسائل ليستمرّ حيّاً، ولكن على شفير الهاوية!
فهل هو “الرجل المريض” كما الدولة العثمانية في الحقبة الأخيرة من تاريخها، وقد مُنعت يومها من الموت لمجرّد اختلاف المتوارثين أو بالأحرى الطامعين في نهش إرثها وتقاسمه؟!
وإذا كان الجواب نفياً مبرماً فلماذا يبقى عددٌ من الفرقاء الفاعلين وحتى يومنا هذا أو أقلّه الأمس القريب يجادل في مسألة ما يسمّيه “نهائية الكيان اللبناني” أو لانهائيّته؟!
ويبقى أن ليس من وظيفة المؤرّخ ولا من مهمّته توقّع الآتي، وإن كان من حقّه استشرافه، والتحذير من مغبّةٍ وتداعياتٍ تبقى جاثمةً في الأفق!
أياً يكن فالإسراف في التشاؤم وتوقّع السيّئ والأسوأ أمرٌ غير محمود شأنه شأن الإسراف في التفاؤل الذي غالباً ما يُفضي إلى الانخداع. ومن يقبع في زاويته الصغيرة والمعزولة ينتظر الفشل أو يتوقّعه فلن يلقى سواه!
ولعلّ من المفيد أن يُذكر أن هذا المصنّف برمّته وهذه الكلمة التقديمية قد أعدّت كلّها تحت وقع أسراب طائرات مسيَّرة وأخرى مسيِّرة تقذف الوطن الصغير حمماً مدمِّرة تبيد الحجر والشجر… والبشر. إنّه مشهدٌ مروّع ترتجف له الأبدان وتقطر المآقي وتضطرب الأذهان ويبدو بنو موطن الأرز فيه أو أكثرهم غير مؤهّلين للإفادة ممّا أُرّخ له في هذا الكتاب، وسائر مصنّفات هذه السلسلة، من تجارب ومِحَن من أجل يومهم والغد! فعلى من تقرأ إذن مزاميرك يا داود؟!
{فذكّر إنّما أنتَ مذكّر لستَ عليهم بمسيطر} (الغاشية/21-22) تقول آيةُ الذكر الحكيم. فإذا كانت هذه حال المرسلين والنبيّين والمختارين، فكم بالحري هي حال المؤرّخين والمؤلّفين والباحثين؟ حسبهم أن يذكّروا، فهذا دورهم، بل واجبهم، ومتى فعلوا فـ {ثم الله شهيدٌ على ما يفعلون} (يونس/46).
QJCSTB
جبيل في 21/10/2024
[1] -صليبا، أ. د. لويس، لبنان الكبير: المخاض العسير: شهداء لبنان في الحرب العظمى ودورهم في نشأة الكيان، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2020، فق: المصالة مع تاريخنا، ص13-14.
[2] -صليبا، لويس، لمحات من تاريخ لبنان الحديث 1850-1950، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2022، كرونولوجيا تاريخ لبنان الحديث: جدول تأريخي لأبرز الأحداث في لبنان ومحيطه 1516-1950، ص389-430.
[3] -صليبا، لويس، مدخل إلى البوذية: تاريخها وتعاليمها وتأثيرها في المسيحية وأرض الإسلام، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيليون، ط1، 2024، ب1/ف2: بوذا أكثر مؤسّسي الأديان تاريخية، ص18-20، وب2/ف2: نقوش أشوكا وأهمّيتها التاريخية، ص66-69.